الركض (لنركض) – رواية للكاتب الفرنسي جان أشنوز (175 صفحة)
النسخة العبرية ترجمة: شيرا حيفر - اصدار سيمطأوت (شتاء 2012)
"الركض" (او"لنركض") رواية الكاتب الفرنسي جان أشنوز تأسر القارئ بأجوائها واسلوبها وسردها الخفيف الممتع، وحقائق الواقع في أنظمة دول المجموعة الاشتراكية، او الديمقراطيات الاشتراكية، كما تجلى ذلك في تشيكوسلوفاكيا، حيث تدور احداث الرواية، وبطلها التشيكي "اميل زيتوفق" وهو أحد ابطال الجري (الركض) في العالم، بل البطل الذي لم يولد منافس له، حاز على العديد من الميداليات الذهبية في كل السباقات الطويلة وصار اسطورة رياضية في حياته.
ليس صدفة هذا الدمج بين بطل يركض كل الوقت، وواقع يغرق في متاهات غيبية. حتى القارئ تصيبه حمى الركض مع اميل، فيسرع في قراءة صفحات الرواية صفحة وراء أخرى، مشدوها بالأحداث التي يسردها الكاتب، وقدرته على الدمج بين ما يبدو سيرة ذاتية لبطل عالمي هو الأسرع على الإطلاق الذي عرفته مباريات الركض الدولية، وبين واقع اجتماعي وسياسي لا يحترم حقوق الانسان، ويزداد خمولا وتعثرا وتراجعا في كل الحقوق الأولية لمواطن في مجتمع حديث، تحت غطاء أنظمة تدعي الثورية والاشتراكية والحرية وفرضت على مواطنيها سياسة قمعية وإرهاب اجتماعي وعمليات تطهير للحزب والدولة بحجج تعيد للذاكرة محاكم التفتيش من القرون الوسطى. مجتمع يمارس قيود ورقابة على حرية الرأي والتعددية السياسية والفكرية. نظام يعاقب المواطنين إذا عبروا عن مشاعر الألم والفاقة. كله يجري تحت ستار فكر ماركسي لا شيء من الماركسية فيه، ولا يخجل أكثر الأنظمة ديكتاتورية وقمعا في العالم.
الرواية لا تسير على النمط التقليدي، وانا ككاتب قصصي وروائي وصاحب رأي نقدي، له اطلاع واسع على النصوص الروائية العربية والأجنبية، فاجأني النص بتركيبته غير العادية، لا عقدة يمكن تعريفها في النص. هي سيرة حياة بطل رياضي، وبنفس الوقت قصة من واقع نظام مارس صنوف القمع والرقابة على التفكير.
يبدو لي ان صيغة الركض جاءت تعبيرا عن الاندفاع الإنساني المتواصل الى خارج الواقع الذي لا بشارة فيه، ولا أمل فيه، ولا حقوق انسانية فيه، ولا حق للتفكير فيه، بل تكرير ما يقوله قادة أشباه آلهة، حسب مسطرة الأحزاب الشيوعية الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي في مرحلة ستالين وما بعد ستالين. أنظمة لم ترث من مفاهيم الاشتراكية والديمقراطية والحرية وحقوق الانسان ومن عبقرية ماركس وفلسفته، إلا قمع الشعب وتدجينه وتحويل المواطنين إلى أرقام بلا هوية شخصية بلا رأي شخصي، بلا أحلام شخصية، نسخة واحدة طبق الأصل لتفكير القادة اشباه الآلهة للحزب والدولة الاشتراكية. مهمة المواطنين المصادقة على اقوال الزعيم العبقرية حتى لو كانت الغباء متجسما بأبشع صوره وأكثره تفاهة.
اقول ذلك كانسان بدأ حياته شيوعيا، ودرس الفلسفة الماركسية في أهم معهد سوفييتي لتأهيل قادة شيوعيين. وكنت طالبا متميزا ما دمت أكرر ما نلقن به من تفسيرات، وعندما بدأت أفكر بطريقة مستقلة، وهو ما تؤهلنا له دراسة الفلسفة، وخاصة الفلسفة الماركسية، بدأت مرحلة التعامل معي كشيوعي متمرّد، وبدأ ابتعادي التدريجي عن التنظيم ومؤسساته. وليس عن الفكر وجذوره الانسانية.
أعترف ان هذا الجانب في الرواية شدني من أعماقي للسرد المدهش للكاتب، وهو يكشف بطريقة ذكية وسريعة وساخرة أساليب التعامل في دول النظام الاشتراكي مع بطل اكسبهم مكانة هامة في الساحة الرياضية العالمية.
مقدمة الرواية تدفع القارئ الى حالة من الدهشة، مع دخول الألمان النازيين الى تشيكوسلوفاكيا. "دخلوا وجلسوا"، لم تكن حربا ولا مقاومة، هكذا جرى احتلال موطن إميل الشاب ابن السابعة عشر الذي اضطر قبل الاحتلال إلى ترك دراسته والعمل في مصنع لمساعدة أهله. ورد فعله على الاحتلال كان ابتسامته التي تظهر أسنانه الكبيرة.
لا يمكن معالجة السرد هنا بالأسلوب الكلاسيكي. لا فكرة قصصية، لا عقدة في المفهوم الكلاسيكي للنص الروائي، لا بداية ونهاية تقليدية، بل حياة إنسان غير عادي في ظل واقع مليء بالانقلابات السياسية والعسكرية في اوروبا عشية الحرب وما بعد الحرب المنهكة والمدمرة. رواية تسرد بسرعة ركض اميل، التحولات التاريخية بعد الحرب، في دولة اسمها تشيكوسلوفاكيا، ولكنها نموذج لمجموعة دول شكلت ما يعرف بالديمقراطيات الشعبية، وافتقدت للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية ولحرية المواطن، ولحق اختيار نظامه.
الرواية تخلط بفنية فائقة بين السيرة الذاتية، وبين واقع تشيكوسلوفاكيا بدءا من احتلال النازيين وصولا الى تحريرها بدخول الجيش الأحمر، وتحولها الى نظام شيوعي تابع للاتحاد السوفييتي ورقابته. وصولا الى "ربيع تشيكوسلوفاكيا" في فترة الكسندر دوبتشك، الذي أغضب السوفييت فقاموا مع "حلفائهم" من الدول الاشتراكية، بعملية غزو واحتلال تشيكوسلوفاكيا من جديد لإسقاط نظام دوبتشيك المتحرر أكثر مما يسمح به الأخ الكبير في موسكو.
اميل كان لا يتوقف عن الركض. في كل الظروف وفي كل الحالات ظل يركض، ليس من أجل الميداليات فقط وليس من أجل الألقاب، انما أيضا من أجل هنائه الشخصي. وهو الذي بدأ حياته عاملا في مصنع لا يحب الرياضة، بل ويعتقد انها استهلاك لا مبرر له للأحذية. وشارك بأول سباق ركض رغما عن انفه، وكان في الطليعة، ثم شارك بأمر الاحتلال النازي بسباق آخر، وكان الأول بين الراكضين، وبعدها لم يستطع ان يتوقف عن الركض. صار يركض بالمباريات ويفوز ويركض يوميا لهنائه الشخصي... نحن نقرأ وهو يركض، نحن نصطدم بالعقليات السائدة في وطنه وهو يركض، نحن نعيش واقع احتلال وطنه وهو يركض، نعيش تحرير وطنه من النازيين وهو يركض، نعيش تحويلها الى ديمقراطية شعبية ثم اشتراكية ديمقراطية، ولا شيء من الديمقراطية الفعلية وهو يركض. النص يركض بسهولة تشبه سرعة ركض أميل، الأحداث تركض لتلحق بسرعة اميل، أسرع راكض عرفه عالم الرياضة.
اميل، الذي رقي بفضل منجزاته الرياضية الى كولونيل في الجيش، أيد ربيع براغ، ورفضه الاحتلال السوفييتي لوطنه، وعوقب بقسوة.
لا اعتقد ان الكاتب في هذا النص الروائي، يلتزم بسيرة ذاتية فقط، بل يحول السيرة الذاتية الى شاشة يعرض عليها احداث تاريخية واجتماعية وفكرية وحزبية، بسرعة ركض اميل، وأعتقد ان الكاتب وجد بسرعة اميل كل المقومات لصياغة الخلفية التاريخية دون ان يقع بإشكاليات الكتابة التقريرية والسياسية المباشرة، انما بلمحات ذكية تقول أكثر من تقارير تملأ مئات الصفحات عن العقليات التي سادت النظام الاشتراكي وعلى رأسه نظام الأخ الكبير الاتحاد السوفييتي. من هنا رؤيتي ان النص يحمل روايتين في رواية واحدة. حكاية دولة عبر سرد سيرة بطل رياضي هو الأسرع في مجاله في العالم. لعل الكاتب بذلك يطرح رؤية أكثر شمولية تحملها الرواية بين سطورها، بأن اميل هو التعبير في ركضه الدائم، عن الوصول الى التحرر الذي حقا وصلته تشيكوسلوفاكيا أخيرا، بعد سقوط الأخ الكبير في موسكو أيضا. وهو ما يشعرنا بالأسى والغضب على الذين دمروا تجربة انسانية عظيمة كان مقيضا لها ان تبني صرحا انسانيا عادلا هو حلم الانسان منذ فجر الحياة.
الكتاب مليء بلوحات كاريكاتورية عن واقع العالم الاشتراكي، يوردها الكاتب بتلقائية جميلة لا تخدش النص، ولا تبعد القارئ عن متابعة ركض اميل الذي لا يتوقف ويواصل حصد الجوائز في كل سباق يشترك به.
هكذا مثلا نقرأ في النص عن ادعاءات رياضيين بأن لأميل رئات ذات قدرات أكثر من العادية في تخزين الأكسجين وان له قلب أكثر سماكة وقطره أكبر ونبضه أبطأ.ولكن:" لجنة طبية خاصة اجتمعت في براغ من أجل فحص الموضوع، وأسقطت كل الادعاءات وقررت انها باطلة، وان اميل هو رجل عادي في كل شيء، وانه ببساطة شيوعي جيد، وهذا كل شيء".
هناك قول لستالين بأن "الشيوعيين جبلوا من طينة خاصة".. كررناها بغباء حتى الملل.
نعم. ليس صعبا في ايامنا ان نعرف الذين جبلوا من هذه الطينة!!
بعد كل فوز لإميل ببطولة عالمية في الركض يكافأ بترقية في المناصب العسكرية، ولكن بصفته أصبح ضابطا برتبة عالية، تبدأ المشاكل. اصحاب الرتب العسكرية العالية يجتمعون لحلها، ويقررون بأن: "اميل هو إنسان مميز، وأنه نتاج الاشتراكية الحقة، يجب الحفاظ عليه وعدم إرساله كثيرا للخارج حتى لا يتآكل. وسيكون من الخسارة اذا ما قرر في احد مشاويره ان ينتقل، مثل ما فعل آخرين، للجهة الأخرى، لجهة الوسخ الامبريالي والركض وراء الثروة" حسب تعبير الرواية، لذا عندما دعي للمشاركة في سباق 5000 متر في لوس انجلوس دعي لإجراء حديث معه.
"ايها الرفيق"، قالوا له، "اللجنة العسكرية قررت الآن انك لا تستطيع ان تشترك بأي مباراة، دون ان تحصل على اذن مسبق. حسنا قال اميل، هذا لا يغير من الوضع كثيرا. حتى اليوم دائما حصلت على اذن. اه، هذا هو بالضبط ايها الرفيق، يرد عليه اصحاب الصلاحيات، من الآن لا توجد اذون. انتهت الجلسة". واصدرت اللجنة كتابا أعلنت فيه عن: "اتخاذ قرار بعدم الاذن لإميل بالمشاركة في سباق لوس انجلوس"، وتبرره بادعاء: "ان الدعوات الكثيرة جدا لمناسبات تفتقد للأهمية، تبعد إميل من واجباته العسكرية وتحسين نتائجه الرياضية".
الرواية تصف الخوف السائد في المجتمع التشيكي، لدرجة تحول الناس الى غرباء عن بعضهم البعض. حتى غرباء عن افراد عائلاتهم، ورعبهم من الاستماع لراديو أجنبي، بسبب العقوبات الكبيرة. مما رسخ في وعي المواطنين الصمت والتعايش مع هذا الواقع، والمشاركة في مظاهرات تمجيد السلطة وعبادة شخص قائد الحزب (وقتها) جوتفولد. وخيار آخر الانضمام للحزب الذي ازداد عدد اعضائه خلال عدة أشهر بأكثر من مليون عضو جديد وأيضا أميل كان منهم.
هذه ملامح سريعة اخترتها بالصدفة، والكتاب مليء بمثلها، عن واقع الصحافة مثلا التي تزور اقوال اميل ايضا وتسبب له مشاكل مع دول اجنبية. حتى الحصول على اذن من صحفي أجنبي لمقابلة بطل رياضي عالمي هو الأسرع مثل اميل، يمر بتفاصيل مضحكة في دوائر السلطة التشيكية، من تعبئة طلبات عديدة والانتقال من مكتب الى مكتب، وأخيرا بعد الوصول الى اميل يجده "نائما" ولا تجري المقابلة، عمليا ممنوع اجراء اللقاء. وهناك مساعدة بيتية في بيت اميل، هي في الواقع عميلة للمخابرات التشيكية، تبلغ المخابرات بكل ما يجري. الى جانب ان مشاركاته في المباريات خارج وطنه تجري بمشاركة حراس لا يفارقون اميل.
اميل يعاقب لتأييده ربيع براغ. يطرد من الجيش ويرسل لعمل صعب في مناجم اليورانيوم. الى هناك يرسل من يعاقب بالخروج عن فكر الحزب ومن يجري تطهير الحزب والدولة منهم إذا لم يعلقوا على المشانق.
مناجم اليورانيوم هي منطقة ملوثة بذرات وغبار اليورانيوم. ثم ينقل اميل للعمل كزبال في براغ. شهرته بين المواطنين كبيرة، كانوا يحيونه ولا يدعونه يحمل نفاياتهم بل يوصولونها بأنفسهم لسيارات جمع النفايات مما أقلق السلطة فأرسلته الى بلدة صغيرة اولا، ثم الى عمل في الحفريات، وتنتهي الرواية بشكل ساخر جدا ومأساوي جدا، بدعوة اميل الى التوقيع على اعترافات ب "أخطائه في الماضي" عندما أيد القوى المعارضة للثورة والاصلاحيين البرجوازيين (أي ربيع براغ) وانه: "أخطأ بتأييده لهذا الوسخ الرجعي، وانه راض تماما عن الوضع العام الراهن. وراض عن حياته الشخصية. وانه يصادق بانه رغم الدعايات لم يعمل في حياته كجامع نفايات ولم يسق حفاره، وانه أبدا لم يطارد، وحتى لم يفصل من الجيش، وانه لا يحتاج اموال التقاعد التي يستحقها ككولونيل في الاحتياط. وعمليا يتلقى اجرة تكفيه وتزيد في اعمال الحفريات. وان هذه الوظيفة فتحت له عالم جديد ومثير".
ووقع على الوثيقة.
هل يملك حق الرفض؟
ثم وقع على انتقاد ذاتي لنفسه كما اراد رجال النظام الاشتراكي الديمقراطي.
لا مفر له إذا اراد الهدوء والتخلص من العقوبات والاذلال.
وبعد فترة يسامحونه، ويوظف في براغ في مركز المعلومات الرياضية.
"حسنا" قال اميل الطيب "عامل ارشيف، كما يبدو لا استحق اكثر من ذلك".
هكذا تنتهي هذه الدراما الشخصية والفكرية المثيرة، تاركة في الصدر الما على مصير الانسان في نظام من المفترض انه جاء لرفع قيمة الانسان وتطوير معرفته، وإطلاق وعيه وابداعه في جميع مرافق الحياة.
اشنوز جعل للنص وظيفة تعبيرية اوسع وأشمل من سيرة ذاتية لبطل غير عادي، ويخلق عبر سرد بسيط نبضا سريعا لسرده مثل ركض اميل. أشنوز يخلق دهشة روائية غير عادية عبر كل صفحات الكتاب رغم الأسلوب غير التقليدي للنص، الذي يقدم نمطا روائيا جديدا. ويبدو ان اشنوز يرى بمعاناة الركض الجانب الثاني لمعاناة الانسان في مجتمع لا يحترم الانسان حتى لو كان بطلا يجلب الفخر لدولته. الركض هو محاولة للخروج من مساحة محددة بالزمان والمكان. لم أجد سيرة ذاتية حسب المفاهيم التي نعرفها عن السير الذاتية. بل وجدت حياة كاملة تحيط بإنسان طيب مبتسم دائما، في واقع بالغ العنف والقيود والقمع، لعل ركضه هو التعبير عن التفاؤل بالوصول الى الهدف الأسمى لحياة الإنسان.
nabiloudeh@gmail.com