رحم الله المحب، لقد كان معنى هلاميا حل في جسد بشري، معنى يرفض أن يتكشف، هانت به الدنيا وافتقدت المادة والزمان والمكان عنده كل حضور، واختُزِل الوجود في كلمة واحدة: لا إله إلا الله، يهتز من قدسها رأسه وترفرف بها روحه، كذلك كان، ولله في خلقه شؤون. هكذا ختم السارد الحكاية، ثم عاد إلى البداية يخبرني بالتفاصيل، قال:
كان رجلا يلبس جلابيب كثيرة، تظهر التحتيات من الفوقية عبر الشروخ التي تغزو كل جلابة، ربعة يميل إلى القصر، ممتلئ الجسم، خفيف اللحية ، لكن الزغب القصير يغطي وجهه أسود قاتما إلا زغبات بيضاء معدودة متناثرة هنا وهناك في ذقن طمست ملامحه شفتان غليظتان مفترتان دائما، آدم البشرة ، واسع العينين، شديد سوادهما ، وفي بياضهما بعض احمرار، يضع فوق رأسه طربوشين من صوف أو ثلاث أو أربع، رقيق بعضها وبعضها غليظ خشن ، تتداخل فيها الألوان الداكنة بالفاتحة بشكل مبهج ، يحمل في قب جبته الفوقية زاد يومه، ليس سوى خبز أو فواكه أو تين مجفف ، تتكئ يمناه على عصا غليظة، وأحيانا يمسك معها إناء من الألمنيوم صغيرا له فتحة واسعة أعلاه وسدادة على قدرها ويد يحمل منها، وفي الإناء حليب طازج، ويحمل بيسراه عودا من خشب أو قصب تعلوه في كل مرة راية بلون أبيض أو أسود، وكان الناس يتوجسون إن رأوه يرفع علما أسود، لم يكن له من الدنيا شيء، لم أره ينطق بلغة أهل الدنيا، هي كلمة واحدة فحسب : لا إله إلا الله، كلمة واحدة في الغالب ، لا يتعداها إلا لماما وفي الضرورة القصوى، يذرع الأرض مشيا ، يظهر مرة في مكان ما ثم يختفي، كان الناس يدعونه المحب، وكان يقبل منهم ذلك فلا يبدي انزعاجا، وكان بعضهم يدعوه الشوق فلا يرضى وتبدو عليه أمارات الكراهة. قيل إن بعض الحجاج ممن يعرفونه رأوه بمكة يطوف بجلابيبه، ولم تكن له بطاقة تعريف ولا جواز سفر، لست أدري قد يكون الأمر من تخيلات أحدهم. لم أره يوما يصلي في المسجد، أو بالأحرى كنت أنا من لا يدخل المسجد إلا قليلا. زعم بعضهم، وهم بدون شك لا يدرون ما يقولون أو لعل لهم فهم آخر، أنه يصلي بين السماء والأرض.. لا يمكن أن تتهمه بشيء؛ لأنه بكل بساطة لا شيء يربطه بالدنيا، ولا حتى الكلام. لم يؤذ ذبابة، ولا يستقر في مكان حتى تكون عنه فكرة ما، يحرك رأسه يمنة ويسرة وهو يذكر الله، وكأنما رأسه يئن من ثقل الذكر، لا يفتر عن الذكر أبدا كأنما هو آلة ذكر لا ينضب وقودها. يراه الناس ويمسكون به ويحبون أن يستضيفوه، فقلما يقبل. لا يرى إلا مبتسما ابتسامة عريضة غامضة كأنما يرى شيئا جليلا أمامه لا يبرح ناظره، وفي الحالة التي تغادر الابتسامة وجهه لن يلحظ أحد ذلك؛ لأنه ساعتها يكون مسرع الخطى، يمشي بعيدا عن الناس مدمدما يشك بعصاه الغليظة الأرض كأنما يفر من قرية يوشك أن يحل بها عذاب الله، وكان الذين يعرفونه ويعرفون بركته إذا رأوه على تلك الحال يسألون الله السلامة ويحتاطون لأنفسهم من المعاصي.. ويزداد الأمر جدا إذا رفع الراية السوداء، ونادرا ما كان يفعل. كان من نسل أحمد ابن عجيبة، الرجل الصالح الفقيه المفسر المتصوف، تلميذ العربي الدرقاوي أحمد الذي سكن فترة مدشر الزميج ، لم أسأل إن كان من زوجته الزميجية أو الحسانية، والغالب أنه من الأولى، لأن أهل حسانة معروفون بخشونة الطباع .. وليس الأمر مهما ولا يتم بالضرورة بالشكل الذي أتصوره.
كان يسمى محمدا، فإذا ناداه الناس باسمه قالوا سيدي محمد المحب، دعوه محبا لأنه انفصل نهائيا عن العالم الدنيوي وتدثر بالحب الإلهي وتسربل بالذكر، لا دقيقة ولا ثانية ولا جزء من ثانية يمر من دون ذكر الله، لا كلاما آخر غير ذلك. ابن عجيبة هذا لم أر أعجب منه، ومن آل بنعجيبة من لا يعجب الناس لتدنسهم بالدنيا، عالم قدسي مبارك يمشي على قدمين، ذو أطمار لا يأبه له، لعل ما يمكن أن تنتفع به منه أن تدرك أن ثمة حياة بأبعاد أخرى ليست لكل الناس. جاء به الوالد رحمه الله إلى بيتنا المتواضع، فجلس هنيهة قصيرة يرتعش رأسه وفمه يقطر ذكرا لله، وأخرج، فيما أذكر، من قب جلابته برتقالة دحرجها إلينا، كان هم الوالد رحمه الله، وكان في حب الصالحين يغالي أحيانا، وكنت فيما بعد أجادله في ذلك وأغلظ، فيلوذ بالصمت ويحذرني من التعرض لهم بما قد يؤذيني، كان همه رحمه الله أن يسأله عن رأيه فينا، نحن كمشة الأطفال الصغار، فلم ينطق إلا بكلمة واحدة رددها مرتين أو ثلاث: شوي.. شوي.. ولا تزال لفظته إلى اليوم توجعني، إذ كنت كلما تنكبت الطريق.. تذكرت لفظته، وخشيت أن يكون صادقا.. فأعود إليها وكلي رغبة ورجاء أن أتحدى نبوءته.. كنت يومها طفلا قد بدأ يعي الكلام، وكان الوالد يتمنى أن ننال من بركة دعاء المحب، لكنه انصرف من غير أن يدعو لنا بشيء، ومنح الوالدة بعض القطع النقدية الصفراء، ثم نزع طربوشا من رأسه ونظر إلينا واحدا واحدا، ثم وضعه على رأس أخي الذي ولد بعدي، ونزع طربوشا آخر ونظر من جديد ووضعه على رأس نفس الولد، وفعل ذلك بالطربوش الثالث.. كذلك فعل، لا أذكر جيدا إن كان ثمة رابع.. لعلها ثلاثة طرابيش لا غير، ثم أعاد طرابيشه إلى رأسه وانصرف. شيعه الوالد إلى الباب، وأعادت إليه الوالدة عملته الصفراء، ولا تزال تقول إلى اليوم أن ذلك كان خطأ فادحا منها، فلعل تلك العملة كانت ستكون البركة التي خلفها بالبيت، لم تدرك ذلك إلا بعد أن اختفى. أما الوالد فقد قال عن الولد المطربش بطرابيش المحب: صافي خلاه..، أي أصابه بالخلا، وهو بالدارجة المغربية فقدان التوفيق بشكل ما، ولكن الظاهر أنه كان يُترِّس عن بعض توفيقه لكثرة ما أصابه من انعدام التوفيق فيما استقبل من أعوامه.
وطوحت بي الأيام داخل المغرب وخارجه، وما عدت عرفت له خبرا أو سمعت عنه أثرا، وفي إحدى المرات التي كنت أعود فيها إلى طنجة سألت عن المحب، فقيل لي، ولست أذكر القائل، إنه منذ زمن ليس باليسير أتى أحد أولاد بنعجيبة، كان موظفا في إدارة الحسبة، وكانت له سيارة، فطلب منه أن يقله إلى الزميج ليزور أمه، ولعلها المرة الأولى والأخيرة التي يعبر فيها عن نفسه ويطلب من أحد شيئا، فرح صاحب العربة فرحا كثيرا لاصطفائه إياه لهذه المهمة، وحمله على الفور في سيارته إلى مقصده.. ويقال إنه سلم على أمه واستأذنها في الرحيل، أو بالأحرى أخبرها أنه على سفر، هكذا أخبرني الرواة حتى أكون محايدا قال السارد، ثم دخل غرفة وتوسد يمناه، ونام نومته النهائية التي حملته إلى عالم الألطاف الإلهية الرحيبة، هكذا تروى الحكاية، والعهدة على رواة لم أعد أتذكر منهم أحد.. قلت للسارد إنني لست مهتما بالتوثيق، ولم أكن كذلك، إنما أنا كاتب قصة وطالب أدب، قال لي: ما كان من تشابه بين شخوص القصة وأشخاص في الواقع فليس من قبيل الصدفة.. إنه سرد للحقيقة من زاوية نظر سارد غير عليم ولكنه حتما بريء.. وما دخلك أنت؟ ولم الأسئلة؟
طنجة 20 يناير 2019