يصور الكاتب الفلسطيني جنازة صديق في مراسيم ما قبل الدفن، ملقياً الضوء على ما يشغل الأحياء في تلك اللحظات التي تكون مناسبة للاجتماع والتعبير عن المشاعر أو الادعاء بها، فتبين القصة بلاهة البشر وحيرتهم أمام فعل جلل حيرّ البشر منذ فجر الوجود.

جنــــــازة

نبيل عودة

 

لأول مرة لا نختلف على ان صيف هذه السنة كان صعباً، ولأول مرة نتبادل في سرنا ان المرحوم اختار توقيتاً سيئاً لجنازته، وسيجعلنا نتذكر يوم موته أكثر من كل ايام حياته.

قلت لصديقي الجالس قربي، لا أدري كيف ستتدبر النساء امرهن في هذا الحر وداخل غرفة تكاد تكون مسدودة عن الهواء من كل الاتجاهات، ونحن نكاد نموت اختناقاً من غرفة تهويتها أفضل. قال انه لا خوف على النساء. سيتدبرن أفضل منا. قلت في نفسي هل هي عودة لاختلاف الآراء، ام هو موقف من المرأة؟! وأضفت بسخرية همساً ان الدموع ستختلط بالعرق، ولن نعرف من منهن أكثر حزناً.

نجحت بالحصول على ابتسامة عريضة استطالت حتى كادت تقيم خطاً واصلاً بين اذنيه. امتدت الابتسامة لوقت اطول مما هو مسموح به في وضع الحزن المفروض ان نظهره في وداع صديقنا المتوفى. الاطالة بالابتسامة لا تليق بالمناسبة ولا تليق بنا. زجرته بنظرة معبرة فضم شفتيه الى بعضهما، مستعيناً بكف يده، وكأنه يحاول ان يمنع امراً ما من الانفلات. ربما ضحكة، "سيسوّد وجهنا!!" تمتمت هارباً من الموقف وكأني اؤكد لنفسي:

- صديقنا المرحوم كان طيباً..

كانت محاولة لجر الحديث لما هو لائق، بعد ان كاد صديقي الجالس قربي يفضحنا. فالمرحوم صديقنا منذ وقت طويل، ولا يختلف عنا ولا نختلف عنه. له حالاته ولنا حالاتنا. إيجابياتنا وسلبياتنا تختلط أحيانا حتى يصعب فرزها عن بعض. الطيبة والسوء تندمجان. همومنا أكبر من ان نفرز بين الخصال الطيبة والخصال السيئة. كل شيء في حياتنا متداخل. احياناً هناك فائدة بل ضرورة لكي تكون سيئاً، رغم جيلنا المتقدم، عشنا حياتنا بكل لحظاتها، فهل نستطيع ان نواصل ما كنا به بعد فقدان ضلعنا الثالث ..؟!

- طيبته هي التي جمعت بيننا هذا العمر الطويل، لم نفقد مجرد صديق.. نفقد أنفسنا ايضا.

نظرت الى صديقي، فرأيته يهز رأسه علامة الموافقة. مرة اخرى يتفق معي .. او ربما يعارضني بأسلوب لم اعهده من قبل. قال:

- الطيبة تبدو سلبية اذا اكتفينا بها لوصف ما كان عليه صديقنا المرحوم بالفعل.

هل يزايد علي أم يسخر مني؟! ام لعله يقصد مدح طيبته الذاتية ايضاً؟ سايرته صاغراً:

- الكلمات تعجز عن التعبير، للأسف اننا فقدناه.

- خسارتنا كبيرة.

نظرت اليه، فبادلني نظرة بنظرة وتمتم بحزن ظاهر:

- ليرحمه الله ..

همست في اذنه:

- وليرحمنا معه في هذا الفران الملتهب..

قال وهو يدفعني خلسة بكوعه:

- هذا الاختناق من الحر الملعون يصعب علينا حتى الحديث عن المرحوم.

قلت لنفسي ان عقلنا ذاب ولم نعد نعرف هل نتنفس هواء نظيفاً ام نستنشق ثاني اكسيد الكربون الذي تطلقه انفاسنا في اجواء هذه الغرفة/الفران، والذي يزيدها سوءاً تعبيق دخان السجائر في سقفها، ملوثاً هواءها، دون ان يجد له مخرجاً الا بالعودة مرة اخرى لرئاتنا وكأنها مصفاة دخان.

لعنت الساعة التي قبلت فيها بالجلوس داخل الغرفة، بدل الانزواء في ساحة البيت الاكثر تهوية، رغم ان الشمس تضربها معظم ساعات النهار. حرارة الشمس اهون من جو الغرفة. على الاقل الهواء نظيف من دخان السجائر والتنفس أسهل.

- الله يرحمه.. لم اصدق انه مات .. هل يموت الطيبون امثاله؟!

التفت الى مصدر الصوت، وزجرت ابتسامة كادت تفضحني. كان المرحوم يقول عن "صاحب الصوت" انه بصعوبة يرد عليه السلام، ولكنه على ثقة اذا حدث وان مات قبله، سيكون اكثر المعبرين عن لوعتهم بفقدانه، ولن يتردد ان يتبوأ مركز الصدارة في الجنازة، والوجبة عن روحه، وأيام التعازي .. وها هي نبوءته تتحقق .. شعرت بسخرية عميقة تجتاحني وتكاد تطلق لساني بما لا يليق بجو العزاء، وتابع "صاحب الصوت" مظهراً لوعته وأساه وحيرته:

- فقط امس رأيته.. وقفنا نتحدث بضع دقائق ..

همس لي صديقي ان هذا الحديث كذب، وانه بصعوبة كان يبادله السلام ..

قاطعته:

-معلوماتك موثوقة بشهادتي.. لم تجدد لي شيئاً، صديقنا المرحوم كما تعلم، غائب عن الوعي منذ اكثر من أسبوعين .. منذ ادخل المستشفى، ويبدو ان صاحبنا هذا لم يسمع بتلك التفاصيل، اصبر وسيتغير الامس الى فترة ملائمة لرقود صاحبنا في المستشفى، قال لي همساً:

-ابن الـ ...

وعلقت الكلمة بين أسنانه. هامسته:

- إنس، اعبر الى غيرها.

- لم يتعرف عليه في حياته ويريد ان يتزعم في جنازته؟!

- صاحبنا المرحوم كان يعرف ذلك..

- لله في خلقه شؤون.

همس قريب للمرحوم في أذني، بعد ان سمع بعض همساتنا:

- هذا ابن عمنا، لا ينفع الا في الجنازات.. نكاد لا نراه الا في جنازاتنا. مهمته ان يقبرنا. عندما يفتح فمه لا يعرف ما يقول. تعودنا عليه .. مصيبتنا به اكبر من مصيبتنا بالمتوفى .. يدعي ما ليس فيه.

- معلوم... كان المرحوم يتطير منه ولا يتحمل مجالسته.

- ما باليد حيلة، نرجو ان يلهمه ربنا الصمت... على الاقل حتى يمر العزاء!

عاد "صاحب الصوت" يزأر:

- سبحان الذي يغير ولا يتغير.

يبدو كتلميذ نشيط، مستعد لإلقاء درسه الذي حفظه غيباً. وها هو يحرك يديه بالطول والعرض، ويجمع نفسه داخل المقعد الوثير، ويتنحنح، قلت بصوت مرتفع قاصداً قطع الحديث عليه:

-الحر هذا الصيف غير طبيعي، روحنا في حلقنا.

تأفف الجميع بموافقة تامة. ولم تخل تأففاتهم من تعليقات ومشاكل شخصية مع الحر، حتى يبدو ان الحر يختارهم بشكل شخصي. دفعت صديقي بفخذه، ليساهم بقطع الحديث عن "صاحب الصوت" حتى لا يقتلنا بوعظته في هذا الجو القائظ والملوث بالدخان، فهم قصدي وانطلق لسانه بحدة ظاهرة مصوبا عينيه على صاحب الصوت:

- الصمت اسلم الامور في هذا الحر.. الصمت رحمة في هذا الجو الخانق، ما قولك يا ابن عم المرحوم؟!

وصلت الرسالة!! ربما فيها شيء من الوقاحة؟ زأر "صاحب الصوت" بشيء من الضيق وعدم القبول:

- الموت حق يا اخوان... لا مفر من هذا الحق، والانسان يا اخواني....

قاطعه صديقي تلقائياً، دون ان يشعر انه يتجاوز اللياقة المفروض ان يلتزم بها في مناسبة كهذه. لكن يبدو احيانا ان للياقه معاييرها المختلفة. اضاف صديقي :

- كنت وصديقي (واشار الي) والمرحوم لا نفترق عن بعض، ورغم رقوده في المستشفى غائباً عن الوعي لمدة اسبوعين.. الا ان موته صدمنا.

فهل سيصر "صاحب الصوت" الان انه التقى صاحبنا المتوفي أمس؟! يبدو ان الرسالة وصلت فآثر صاحب الصوت الصمت حتى يجد منفذاً جديداً ..

قلت لنفسي ما بالي انشغل به، وهل هذا يغير من الحال؟! ولكن يبدو ان الحر بدأ يفرض تأثيره ويغلب سلبياتنا على ايجابياتنا. بصراحة طلعت روحنا. وقلت لنفسي: غريب امر الانسان، ماذا يكسب من الادعاء الكاذب والكلمات التي لا رصيد لها؟ هل يقدم او يؤخر ما قد وقع؟! هل يغير حالة المرحوم ويجعله صاحب عمر أطول؟! وهل يظن انه بكلماته الفارغة يحقق مهمة العزاء، فيطيب خاطر اهل الفقيد؟ قلت لنفسي ايضا: ربما يظن حضرته ان لولاه لما كانت الجنازة، ولما كان الحزن، وربما ما كان الموت. فالموت حق على من مات. اما الاحياء فلا يريدون الموت .. لا يريدون هذا الحق .. حتى حضرته لا يظهر ان الموت حق من حقوقه. ربما هناك ضرورة لتشريع هذا الحق في القانون ليقتنع البشر انه لا مفر منه. وسنحصل بلا شك على مساواة، بل وتفضيل ملحوظ. تفضيل في الموت وليس بمصروفاته. من المضحك ان الميت اليهودي يكلف الدولة أكثر من الميت العربي. ربما يعدلون الامر لتشجيع الموت عندنا، يجعلونه منطقة تطوير (أ) اسوة بالمناطق اليهودية فتتحقق بعض المساواة من حيث لا ندري، تطوير لليهود وموت للعرب.

تأففت من بطء مرور الوقت، وتيقنت ان هذه حال الجميع يستعجلون الوقت لإنهاء مهمتهم والتفرغ لشؤونهم الاخرى. تواصل صمت صديقي اثناء دخول مؤاجرين جدد، لعلي أرحب بهم وأكرمهم بمكاني؟ الدخان الكثيف يكاد يطرحني ارضاً. دوخة شديدة ووجع رأس حاد يعترياني. ما اللذة في تنفيخ سيجارة في هذا الحر وفي هذه الغرفة العابقة بالأنفاس والناس والدخان؟

احياناً تشدني افكاري لأمور لم افكر بها من قبل، ولو حاولت التقدير، لما رأيت اليوم امكانية ان يتداولها فكري. ربما هذا هو جزء من تخلفنا؟ هل يفترض ان تكون للتقدم مقاييس اقتصادية شكلية كالملابس والبيوت والسيارات؟ وبتجاهل مطلق لما يسببه هذا العشق للسيجارة والاصرار على تدخينها في مكان معزول عن الهواء؟ لماذا الاخر غير موجود؟ لو كنت مدخناً هل كنت أفعل نفس الشيء؟! هل اتهم السيجارة بتخلفنا وعاداتنا السيئة؟

استفاق صديقي من صمته وهمس بأذني:

- ما بال بغلتك سارحة؟!

- لم اعد استطيع احتمال هذا الجو الخانق.

- عشان المرحوم كل شيء يهون..

- انت تعرف حساسيتي للدخان. يفقدني وعيي.

- اهدا واصبر.

هل يسخر مني؟!

كالمستفز انتصبت واقفاً ومعتذراً:

- المعذرة، سأجلس في الساحة، اكاد اختنق من الدخان.

لم يعن الامر احداً كما يبدو. شعرت بنظراتهم الباردة في ظهري وانا اتسلل للخارج لاقطاً انفاسي بصعوبة، واخذت لي مقعداً في الظل شاعراً بتحرري من هم غير قليل. وقلت لنفسي ما دامت هذه الحال فمشوارنا طويل. بعد قليل وجدت صديقي يسحب كرسياً ويلتصق بي.

- افترض اني مت.. ستلحقني؟!

- كل يموت على ذوقه.. ولكن اياك ان تفعلها بالصيف.

كدت ابتسم رغم عصبيتي الظاهرة، وتابع:

- ظننتك ستقول شيئاً يطيب خاطر اهله؟

- ما عساي اقول ؟.. كنا ثلاثة لا نفترق فبقينا اثنين، للأسف لا أستطيع ان افكر بشيء. هذا الجو يرهقني، ولكن لماذا لم تتشاطر انت؟!

- ما يرعبني هو هذا الاستقبال البارد للموت حقاً يعز علينا فقدانه ولكني اشارك بجنازته وكأنه واجب، وليس كصاحب ثكل صاحبه.

- ربما نحن في مرحلة ما بعد المشاعر، ما بعد العواطف؟

- ابداً هكذا الحياة، مهما كان الموت صعباً.. تبقى الحياة أقوى. الخاسر هو الميت فقط!!

نظر الى ساعته ليخبرني:

- بقيت امامنا ساعة

- هل تستعجل التخلص منه؟

- ابداً، ولكه اختار الموت في يوم قائظ، وهذا سبب ضيقنا .

- هل ستحاسبه؟

تجاهلني وقال:

- أفكر فينا، اقول لنفسي هذه بداية نهايتنا.

- اتركنا من تشاؤمك ام ستبدأ وعظة انت الاخر؟

واضفت:

- جئت استريح من الجو الخانق. فلا تلاحقني بهم فوق همي. ومواعظ لم اعد اقوى على سماعها.

- لا اشعر بحزنك لرحيل صاحبنا ..؟

- هل تريدني ان اقف ماعطاً شعري..؟

- توقعت كلمة مناسبة..

- قلت لك كنا ثلاثة وبقينا اثنين.. ومن الاثنين سيبقى واحد ..

- أنا ام أنت؟!

- هل تظنني اتنازل بسهولة؟

قادنا حديثنا بعيداً عن اجواء الجنازة احياناً بمتعة نحاول اخفاءها واحياناً بعصبية. فلم ننتبه لأنفسنا الا والرجال يدخلون لحمل النعش في طريقه الاخيرة. فسارعنا نشارك بحمل نعش صديقنا، وللحظات كادت الدموع تفر من مقلتي.

سرت وراء النعش بخاطر مكسور، شاعراً ان جزءاً مني قد انتهى، ولم استطع ان افهم معنى هذا الشعور الذي اعتراني بلا مقدمات، وتابعت سيري وراء النعش انا وصديقي وعشرات الافكار التي لا رابط بينها.

 

nabiloudeh@gmail.com