1- النهاية
اسْتلَّهُ الضابط الأمريكي من تحت إبطه عنوة، ونهره بأوداج منفوخة غضباً وهو يصرخ فيه:
- It's shameful to rob the dead his personal items
(من المعيب أن تسلب الموتى أشياءهم). ثم أمر المترجم أن ينقل كلامه إلى الجندي العربي، وأخرج جامعة بلاستيكية من عِبّه، وراح يكتّف معصمي السارق للخلف وهو يرطن بكلمات بدت سخيفة لعقل المعتقل:
- يطلب منك السكوت، ويقول ليحتفظ بتبرير سلوكه أمام (اللجنة العسكرية التأديبية التابعة لقوات التحالف الدولية)[1].
هبّت ريح مفتولة راحت تلاعب غيمة سوداء، غطت المشهد من غربه، ثم ما برحت أن إلتفَّت ثانية لتغطي المكان كله، وكأن الشرق يسربل فيها، ويلمَّها كلما تَطشَّرَتْ غيومها، تخرج مثل العواميد من الأرض، وكلما ضربتها الريح عالياً توسَّعت دائرتها، لتكون غيمة تتهدَّل أطرافها شيئاً فشيئا، وتحجب الأفق كله.
2- شرفات عالية
أُزيحَت الستائر جانباً وخرج المقيمون بحذر متّكئين على أسيجةِ الشرفات للعمارات العالية، واشرأبَّت رؤوس القصار منهم تراقب، متذبذبة بين أعيُن الطوال منهم وبين أسطح البنايات حولهم، علّهم يستشفون ما يجري في أسفل العمارات، وعمّت السكينة خلف زجاج النوافذ في بنك الكويت المركزي، فيما اسْوَدَّ فضاء الشوارع المحصورة بين البنايات بدخان الدبابات، وصوت محركاتها الذي يعلو كلما تقدمت داخل الشوارع العريضة باتجاه وسط الكويت العاصمة، وصفر جندي من فوق دبابة صائحاً على فتاتين فلبينيتين تقفان وراء سياج شرفة أحد العمارات:
- (شلونهم الحلوين؟).
لاذت الفتاتان خلف النافذة وأسدلتا ستارتها خائفتين، ورددت الشوارع صدى صوت يقول:
-تحرك، تحرك...لا تتوقف أبو خليل.
هدر صوت محركات الدبابات ثانية، وحجبت سحابة الدخان السوداء منظر الآليات تتقدم في عمق المدينة، وبعضها ينحرف على الشوارع الفرعية، وثمة أصوات رصاص تسمع هنا وهناك، لتوشح طمأنينة الناس برعب الحرب وأزيز رصاصها، وارتفع خيط دخان اسطواني من غرب المدينة، فيما راحت طائرات الهليكوبتر تحوم تباعاً في السماء، وتنقض هابطة للأسفل قرب أسطح البنايات العالية، مثل طير جارح رصدت عيناه حركة أسفله، وهوى فارداً جناحيه يرفان على شبح طريدته في الأسفل، ثم ما تبرح الطائرات أن ترتفع شاهقة إلى الأعلى لتبقى دائرة حول المكان قليلاً، قبل أن تجنح على الجانب لتختفي، مخلفة ضوضاء تتلاشى وراءها شيئاً فشيئا.
مرقت مسرعة سيارة جيب عسكرية رسم على بابها الخلفي من الجهتين صورة طائر عقابٍ يشهر مخالب رجليه أمام من يراه، وبدا ريش فخذه الممدودة للأمام، منفوشا كأن ريحاً تهب عليه وتطيره على جانبيه معقوفاً نحو جذوره، وشوهدت عبارة خُطَّت تحت العقاب تقول (يا حوم اتبع لو جرينا)[2] بلون أسود وبفرشة عريضة بيد خطاط ماهر.
كانت حركة المرور تبدو غير منتظمة وسط إشارات تعمل بانتظام، دون أثر يذكر لشرطة المرور عند تقاطعات الشوارع، وغدا وجود تلك الإشارات غير متوافق مع حركة العربات والآليات العسكرية التي لا يقيم سائقوها وزناً لخط السير واتجاهه، وصَبغَ لونها إسفلت الطرقات بلون مثل لون الرمال لمدرعات وعربات تجر مدافعها خلفها متثاقلة، وسط دهشة عيون راكبيها ودورانها على الجانبين، كتائهٍ يبحث عن ملاذ له، وبان أثر سرفات الدبابات واضحاً خلفها، بخطوط مستقيمة حفرت على سواد الشوارع بفعل الآليات التي تسير عليه.
تَحسَّر جندي هازاً رأسه ندما أن وحدته العسكرية ستخلف خيراً مبذولاً لكل من هبّ ودبّ، دون رقيب عليه ولا حامٍ له، لتتوغل في عمق صحراء مدينة الوفرة، كما سمع من الضباط، ممسكة ساتر صدها هناك، بين كثبان رمل يتغير شكلها مع أخف ريح تهب عليها، وجثمت قرب بنك الكويت المركزي سيارات سوداء، خط على لوحاتها بلون أخضر عبارة (ديوان رئاسة الجمهورية).
- العزلة
طيّب.. كثيرا ما سألت نفسي قبل ما ستسألين نفسك: لمَ تعيد ألم القصة وتحييه؟ ألمْ تعش دقائق التفاصيل كلها؟ لكني سرعان ما كنت أرد على تساؤلاتي، بعكس ما تدعيه العجائز دوماً من أن بالإعادة إفادة، إن خلق الألم وجعله يُبعث من ركام الذكريات، إحياء لكينونة الإنسان في داخلي، فإن تحس أنك تعيش لوحدك ، وسط مجتمع فوضوي، صاخب، لهو الجنون بعينه!، وخلق العالم الافتراضي في هذه الحالة، مثل أن تحس بالانتعاش وأنت تسبح وسط بحيرة تحميها عفاريت الجن، والأمر ذاته ينسحب على قراءتك لما تحويه أوراقي هذه، فهي رغم أنها إحياء لكينونة ما جرى لكِ معي، هي في خطورتها مثل لعب فتاة مراهقة بأعواد كبريت، وسط كومة قطن نثرتها يد ندّاف لا يتقن صنعته، أقول قولي هذا محذراً لك، رغم قناعتي أن إيصال أوراقي وما تحويه، فعل مستحيل بحالتيه، فمن الصعب بعد الذي جرى لكلينا وعناد والدك، أن تستلميها مني شخصياً، ثم إن جرأة ما فعلته، وسأفعله، سيجعل أمر أن يورط أحدهم نفسه ويوصلها لك، أمراً مشكوكاً فيه، وفي هذه الحالة، ستطرف العينان وسط سهل شهرزور لخديك، وتتماوج خضرة بؤبؤيك، ويخالطهما تقطيبة حقل الحنطة في حاجبيك، وقبل أن ينثر شلال عينيك مياهه، ربما سيقول لي لسان حالك وأصبع يدك يحك أرنبة أنفك المُحْمَر غيظاً:
- اترك يدي، وسر بجنونك لوحدك.
لكن لو ذكرتك بعهد قطعناه على أنفسنا، ونحن في آخر يوم لنا مع الدراسة الجامعية، ربما ستجدين لي العذر في كل ما سأحكيه لكِ، فالعهد بيننا لم يكن محض عاطفة فراق ألمَّت بنا، بل كان فعلاً سبقه إصرار من كلينا، أن نتهيأ للأصعب ونحارب حتى آخر جندي برقعة شطرنجنا، تلك التي عجنّا بيادقها بأيدينا سوية، ونثرنا دمعنا لتلميع ما خربته أظافرنا المرتعدة خوفاً من عجينتها الطرية تلك، لاسيما في المرحلتين الثالثة والرابعة.
أتذكرين يا وشم أضلعي كيف كنا ننحت البيادق واحداً تلو الآخر، بتصميم أهوج لا يعرف المستحيل عندما نفكر فيه سوية للعبتنا؟، وقد تزمين الآن شفتيك، وغمازتي خدَّيْك تتقعر كثيراً، وأنتِ تصرين على أسنانك لتوافقيني على إعادة قراءة الألم ثانية عليك!. ويجب التكرار مرة أخرى أن لا تغتاظي مني كثيراً، وأنتِ تقرئين ما خطَّهُ قلمي كيف يقسو على الشخوص الذين سببوا محنتنا؟، فأنا منذ أن وَطِئَتْ قدماي هذه الأرض الغريبة، أردت أن أصنع لكِ خيالاً يرافقني أينما حللت وأينما رحلت، ففي زمن الرعب يصعب على الإنسان أن يتماسك نظيفا، وهو يعيش وسط جائعين تحولوا لوحوش كاسرة، مستعدة لأن تأكل جنسها إنْ عارض وحشيتها، وأنا بعد مضي أسبوع من تواجدي بينهم، وانعزالي عنهم، مللت وحدتي، وسئِمت أن أجبر نفسي على نزع اجتماعية حوانيتي الناطقة، فطفقت أخلق أيامنا التي عشناها سوية مرة ثانية، لأجد أقرب إنسان لي، أثق فيه، أحاوره بصحوتي، وأناجيه بأحلامي، فنبشت ماضيِّ، وماضي أهلي وعشيرتي، ثم عرجت على محيط معارفي فوجدت السلة قد فرغت من ثمار لا تفوح إلّا بالعطونة، وكان الكوم فيها يلمع من جوانبه، وبخار النتانة يفور من تحته، مثل مرجل كاد الماء ينشف فيه فراحت عوالقه تتحمص في قعره، وتنز روائحها مختلطة مع بعضها، ثم تلفَّتُّ يميناً وشمالاً، وما وجدت أحسن من خيال عاش معي المرحلة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة بدراستي الجامعية، ثم سنتين أخريين منذ أن افترقنا لآخر مرة، نعم ما وجدت أحسن من شبح صورتك، أحاوره، وأناجيه، لكني سأقف من بعض فصول حكايتنا كأني شخص يقف على القرب منها، سأجعلها رقعة شطرنج تلعب أطرافها، وأنا أقف بعيدا عنها لأشاهد الجولة كيف ستنتهي؟ ولصالح من؟ لكنّ وقوفي لن يكون سلبياً، ففي ثناياه ستجدين أن دواخلي تهمس بالعواطف كلها، فقد أشك مرة، وفي أخرى أتعاطف، وفي الثالثة قد أغضب، وربما أترك الساحة قليلاً لأنزوي باكيا بحزن شديد، لكني قطعاً سأبقى ضمن إطار الصورة، فلكي ننفض التراب عن الحزن في صورنا، علينا أن نواجه الإطار من أمامه مباشرة، ولا نكمم أنوفنا من غبار ترابها، مادام ضجيج أقدامنا هو من غطى الصور بذلك التراب، فتعالي لنرتقي الشرفات العالية وننظف الصورة من أعلاها، تعالي نزيح غبارها إلى أسفل إطارها دون أن ندوسه بأقدامنا ثانية، فإنْ أردنا أن نجعل الصورة تلمع مجدداً علينا أن نراقبها من زاوية غير الزاوية التي رسمتها فرشة الفنان منها..
- الرعب
تزاحمت سيارات المواطنين الكويتيين، غاصة بعوائلها النازحة عن أزيز الرصاص وصوت الطائرات، وكانت بعض العربات قد ركبتها عوائل صغيرة لا يكفي عدد أفرادها لملء مقاعدها، فكومت بفراغ المقاعد الشاغرة حاجيات خف وزنها وغلا ثمنها، منتظرة دورها بالنسق أمام نقطة تفتيش عسكرية نُصِبَتْ على طريق دولي يؤدي اتجاهه الآخر للمملكة العربية السعودية، وصدح صوت حماسي على البُعدِ يتغنى أن تراب الأرض سيكون كافوراً يطهر جسد من سيلعلع مخزن رصاص بندقيته عند ساترها الأول، دفاعاً عنها.
وبرق لون قطعة القماش لمثلث أحمر على السواعد تحت أكتاف جنود نقطة التفتيش وضباطها، ولمعت أحذيتهم الحمراء يركلون فيها حاجيات الناس، بعد أن تفترشها العوائل قرب عجلات السيارات التي تقلهم، لتفتيشها والعبث فيها كيفما اتفق، وأُستُبيحَ مشهد الممنوع من المسموح فيه لرغبات من يفتش، ومن يُصادَر منه الممنوع أكثر مما يترك له المسموح فيه، اصْفَرَّ وجهه، يُكابد إخفاء رغبة في الاعتراض على سلب حاجياته أمام ماسورات البنادق الموجهة لصدره، وقد أصبح ما سلب منه هو آخر ذكراه بدار تركها خلفه، مشرعة الأبواب، باحتمال أن لا يجد محتوياتها كما تركها، قبل أن يغادرها مجبراً.
وأمسك نائبُ ضابطٍ كيساً أبيض فارغاً، وراح يعبئ فيه ما يزيحه الضابط بقدمه من حاجيات الناس، بفرح يحاول أن يظهره في تكشيرة أسنان صفراء يرغب أن يراها الضابط واضحة على محياه، وقَيَّدَ مجموعة جنود رجلا متوسط العمر بعد أن تَعسُّر عليه إبراز مستمسك رسمي يثبت فيه أنه ليس عسكرياً، أو أحد رجالات الدولة التي أصبحت قبل يومين من ذلك الصباح المحافظة التاسعة عشر.
5- تماثل
امتزجت له جفلة الناس ورعبهم عند نقطة التفتيش، كأنها اليوم الآتي عندما قابل أخاها وأسر بحبه لها، وهو لا ينوي بها شرّاً، بقدر ما يريد أن يجعلها شريكاً لما تبقى من حياته. وكان أخوها مأخوذاً بوجهتين حينها، أو هكذا خاله، فهو من جهة أولى شاب ولد في عصر تحرر البنوة من سطوة الأب الشرطي على سلوك أولاده، وكذلك هو الشاب الذي ولد في عصر الاختلاط بين الجنسين في الجامعات، وأنهى دراسة جامعية لأربع سنين جعلته يشاهد بأم عينيه كيف أن مقاعد الدراسة تمنح طلبتها من الجنسين فسحة الاقتراب من بعضهما، وكثيراً ما حكى له الأصدقاء عن صبابة العشق والتوله بزميلاتهم، وكان غالباً ما يشارك بعضهم فرحة نجاح مشاوير تلك العلاقات، وتكللها بفرحة خطوبة هذا الزميل أو ذاك، والتي كثيراً ما كان يدعى هو أو أبوه لتشريف الخاطب في لمَّة أكابر القوم، لطلب يد الزميلة للزميل من ذويها، وهو من جهة ثانية كان يعامله معاملة ابن الإقطاعي لابن فلاح ينحدر من أصلاب كانت تعمل تحت سياط أجداده، لكنّ عقولاً عسكرية أطاحت بسطوتهم، وجعلت فنجان القهوة يمر من يمين الجالسين، وإن كان ذلك الجالس أصغر القوم شأناً، وهي كانت قبل ذاك الفجر التموزي لا يتذوقها فم ما لم يتذوقها الشيخ (محفوظ المضيف)، ويهز الرأس استحساناً لمن رن الهاون، وعتّق سائل القهوة في دلتها !، كما كان يترشح له عن والد البنت والولد، الذي يتمنى أن يغدو عمًا له مادام سيقترن بابنته.
كان والدها يتباهى بين أقرانه، رغم أنه أصغر ورثة المشيخة بين أولاد عمومته، لكنه أكبر الأولاد من صلب أبيه، وتلك معضلة جعلت أفراد العشيرة يأنفون أن يقودهم صغيرها، لكنها أضفت عليه ظلالها وهو صاحب الحظوة عند والده، ومن أنهى تعليمه الجامعي دون تأخر، فيما تلكأ معظم أفراد العشيرة الآخرين وفيهم من فشل فيها عند سنوات دراسته الأولى، وذلك التفوق جعل والد الفتاة يتباهى على الأقران ويعدُّ هذا الأمر امتيازاً له، ونقل له معارف والد حبيبته أن أباها طالما كان يُصَرِّحُ بصوت عالٍ بين أفراد أسرته، ربما ليرسخ المفهوم في عقولهم ، أو ليُسمِع الجيران بأن الأقدار حبته، وأن مشيئة الحكمة والعقل اقتضت أن يخلف مكان والده في قيادة العشيرة، ومع التجريد له على أرض الواقع من قبل أفراد العشيرة، وزحف هذا التجريد ليشمل أفراداً مقربين له برابطة الدم الأسرية، انتابه شعوران، فهو من جهة يعدّ نفسه الوارث الشرعي لمكانة والده الاجتماعية، وصاحب الامتياز بإنهاء دراسته ليصبح مديراً إداريا بأحد الدوائر المصرفية، في ظل والد كان يغدق عليه ويرعاه، عكس كثير من آباء أبناء العشيرة الذين كانوا يسهل عليهم وهب أرواح أولادهم، على أن يخرجوا خمسة دنانير من جيوبهم إن اقتضت دراسة أولادهم صرفها!، ومن جهة أخرى تراه الناس أنه غير مؤهل للقيادة، اجتمعت هذه العوامل لتنتج منه شخصا منطوياً على ذاته، يرى وضعه أعلى شأناً من أن يحطه بمصاحبة من هم دون المنزلة التي كان يتمتع فيها والده، وحتى لا يتنازل ويسير خلف من يرى أن الأولى به أن يسير وراءه هو وليس العكس، كان لا يُعْلِمُ أحداً بمناسبة خطوبة، أو زواج، أو تعزية يُدعى لها، حتى وإنْ علم أن آخرين سيكونون مدعوين مثله، فكل سنوات الدراسة والاختلاط بتلك الزمالات في شبابه ما أنسته، مكانة يتعالى فيها على الآخرين رغم علمه أن ذائقة الأفراد في الاستقلال، وان رؤية الزعامة في زمن سلطة والده، ما عادت تفيد في زمن أولاده هو، بعد أن تساوى غني الناس وفقيرهم في توفير فرصة إكمال أولاد الطرفين لدراستهم الجامعية، وكانت المكابرة في سلوكه تدفع أفراد أسرته، وهم أقرب الناس لفهمه للابتسام ساخرين منه دون أن يظهروا ذلك له، وهم يروه يسكب سيلاً من الشتائم على أصحاب الشهادات الجامعية، التي جعلت ابن الفلاح في أرض أجداده، وابن من كان يحيك عباءة والده، يصبحون أطباء ويضطره ألم الأسنان اللعين لأن يسلم لهم حنكه، وآباؤهم وأجدادهم كانوا طيلة حياتهم يتمنون أن يلثموا أطراف لحى أجداده!.
وظهر له أن أخاها عندما التقاه كان يلبس مثله لباس العصر، لكنه يعيش بعقلية والده، فأخوها صحيح كان قد استمع له يقص حكاية حبه لأخته، ورغبته للتقدم لها وخطبتها، وكان لايني عن هزُّ رأسه بين لحظة وأخرى، غير أنه أوجز جوابه على كل الشرح ببضع كلمات ذكرته بما كان يسمع عن عقلية هذه الأسرة، التي شاءت الأقدار أن يعشق ابنتها الوحيدة:
- أعرف أنك تحبها، وأعرف أنها تحبك، لكني أريد منك أن تنسى هذا الأمر، ولا تسألني عن السبب، أنا وافقت على أن ألتقيك ليس لأجل أن أستمع إليك، بل لأقول لكَ: ابتعد عنها.
شَعَر أن رعب هذه اللحظة على استلاب حرية خيارها للحياة التي ترغب أن ترسمها مع شريك حياتها، الرعب الذي اجتاح قسمات وجهها في اليوم التالي لاتقائهما في أحد أروقة الكلية، كان يشبه الرعب المرتسم على وجوه الكويتيين عند كل نقطة تفتيش تستلبهم حاجياتهم، وتبعثر كل الذكريات التي تختزنها صررهم، رغم بساطة ما تحتويه.
6- أسواق مقفلة
توقفت سيارة عسكرية حوضية قرب أحد الأسواق المقفلة، وتقافز جنود من حوضها سريعاً، فيما ترجل ضابط برتبة نقيب من مقصورة سائقها، يمشي وئيداً قربها، ويده لا تنفك تشدَّ نطاق بذلته الزيتونية، وباليد الأخرى يعدل قراب مسدسه جنب خاصرته، وراح الجنود يعالجون قفل باب السوق لفتحه، فيما أشار لهم الضابط أن يبتعدوا جانباً، وأخرج مسدسه مطلقاً منه رصاصات على القفل كمحاولة لكسره، ثم لما يأس من فشل المحاولة، دار على عقبيه متوجهاً لأقرب ثكنة عسكرية، ليرجع سريعاً وثمة دبابة تسير خلفه، تعقبها غيمة بيضاء تنفثها شيخوخة محركها النائح.
ترجل أحد أعداد الدبابة وأخرج سلسلة حديدية ربط طرفاً منها في هيكل الدبابة، وجر الطرف الآخر بصعوبة لمتانة حديده وضخامة حجمه، ثم أدار الطرف من وراء القفل وأخرجه للأمام عاقفاً نهايته حول أحد زوايا لحام القفل.
بكى محرك الدبابة بدموع بخار أبيض كثيف، وتوترت السلسلة الحديدية بشدة كأنها خيط صنارة صيد أثقله حجم سمكة تجر فيه نحو قاع النهر، وتقافز الجنود من قرب السلسلة خوف أن تنكسر أحد حلقاتها ويضرب طرفها على جانبها، فتطوح مهشمة كل من يقف في طريق التوائها، وتكور هيكل باب السوق مخلوعا من طرفيه، فتهدلت جبهته العالية، وانجرَّت قاعدته مخلوعة من فواصلها، كأنه فطيسة تجرها عربة لتبعد رائحتها النتنة عن أنوف من تجمهر قربها.
تطاير الغبار عالياً، وانقشع رويداً رويدا مخلفاً وراءه دهليزاً أرضياً لعمارة شاهقة، بدا مظلماً، يردد صدى أصوات الجنود، وأراد سائق الدبابة أن يبتعد راجعاً لمكانه الذي جاء من عنده، لكن الضابط رجع له راكضاً يأمره أن يدخل بدبابته داخل دهليز العمارة المظلم.
تكسرت بلاطات المرمر تحت ثقل الدبابة، مطحونة لفتات مثل رمل أبيض، وبعضه نثره دوران السرفة على محورها، وهي تتقدم داخل العمارة بعد أن خفض سائقها فوهتها النارية قدر ما يستطيع، فيما راح يدير جزءها العلوي بفوهته جانبياً ليدفع الأبواب داخل محلاتها، وتناثر زجاج الواجهات لدكاكين الصّياغة والمجوهرات، واستغل الجنود غفلة الضابط عنهم داخل الدكان فراحوا يجمعون سريعاً كل قطعة ذهب تناثرت مع زجاج الواجهات، وخرج الضابط بعد دقائق يمشي وئيداً مطمئناً، مثلما دخل أول مرة، يحمل في يده كيس نفايات برتقالياً استقرت بإحدى زاويتيه الخلفيتين كومة ذهب ثقبت قطعة منها نايلون الكيس، وراحت تعطي بريقاً تحت انعكاس أشعة الشمس عليها في باب العمارة، وثمة خشخشة تصدرها الكومة في الكيس، إذ تضرب ركبة الضابط من جانب جسمه.
7- نار في هشيم
وقف ينظر بلاطات المرمر تتكسر تحت ثقل سرفة الدبابة، ونثار فتاتها يتطاير مثلما تطايرت حكايتهما حتى وصلت سمع أمها وأخيها، ولم يكن في بداية الأمر قد وصل الخبر لأبيها، فقد نقلت لها زميلتها أن بنتاً أخرى كانت تعيش معه قصة حب من طرف واحد، وتحلم فيه فارساً لأحلامها، غير أن قصص العشق بين طلبة الجامعات وطالباتها لا تستمر بِصَمْتها طويلاً، فدائماً ما يكون هناك بلبل يقف على القرب من كل اثنين يقفان سوية، يجذبه همسهما فيحط قربهما، كأن صوتيهما زقزقة أنثاه، والبلبل ذاك ليس له بعدها من صنعة غير أن ينشد لحن صباحه، بحكاية من كان حظهما أن يحط قربهما!.
زحفت الغيرة لكيان تلك الزميلة وعششت داخل روحها، واكتفت في الأيام الأولى بتطيير نظرة شزراء كلما مرت قربهما، قطعت بعدها سلامها عليه، الذي كانت مداومة عليه كل صباح، مثل مدمن يأخذ جرعته في ميعادها، وتأصلت الغيرة بداخلها لتغدو سلوكاً عدائياً بثته بتوعد أحمق، رمته عليها ذات يوم وهي تمر قربها، لكنها غلفته برمزية إخلاقية لا تخفى على بنت تعيش فورة الشباب مثلها.
حينها قالت لها باستهزاء:
- أتدري أمك بما تفعلينه؟!.
ولم تنس أن ترمي لها تهديدها المبطن:
- يا الله كم اشتقت لأمك!....سأمر عليها هذا اليوم.
وهو اليوم ينتابه يقين أن ما فعلته البنت، التي أرادت أن تستولي على قلبه عنوة، جعلهما في اليوم الآخر يشعران سوية أن ثمة من يحاول أن يبعثر لحظات سعادتهما، مثل بعثرة سرفة الدبابة الآن لبلاطات المرمر وهي تنثرها فتاتاً مطحوناً على جانبيها.
8- غرفة الأخشاب
بدا الحي السكني الذي تلفه السكينة صامتاً، وليشاهد على امتداد البصر في الشارع الذي لا يتوسطه غير أكياس النايلون تلعب فيها الريح وتطيرها ذات الشمال مرة وأخرى ذات الجنوب، وراحت قطة جائعة تنبش في كومة أزبال يربض قربها كلب أسود، كلما تقربت القطة منه نبح عليها بشكل ممطوط يجعل صوته يخفت فيما تبقى تكشيرته مرتسمة على بوزه، وخيط لعاب يسيل متقطعاً كلما زاغت عيناه على الجانب الذي تتقرب منه القطة لكومة النفايات، لكنه ولّى هارباً مع اشتغال محرك السيارة العسكرية وتداني عجلاتها شيئاً فشيئا منه، وبقيت القطة تنبش غير ملتفتة للأجسام البشرية التي راحت تتقافز من حوض السيارة العسكرية، وتدفع باباً بدا بناء الدار خلفه حديثاً، ولون شرفاته يلمع مغرياً لهم أن في داخله أشياء قد تفيدهم.
توقف جندي عند الباب الخارجي لردهة البيت الداخلية، وتدافعت أكتاف الجنود الآخرين تتزاحم على فتحة مدخل البيت، يتقدمهم ضابط برتبة نقيب، ورددت جدران البيت أصداء ضحكاتهم من داخله، فبدوا للجندي الواقف عند الباب كأنهم وجدوا أشياء أفرحتهم، فأحنى الجندي جذعه جانباً ومد رأسه يتلصص لداخل البيت، علّه يعرف أسباب ضحكهم، لكنه سمع جندياً يعرفه يصرح لمن معه بصوت أحسه جذلاً وهو يقول:
- سأعزم كل من يكون موعد إجازته مع إجازتي، فوالدتي أكملت كل مستلزمات عرسي وما بقي لي غير هذه الغرفة... كما تروها لم تمسها يد بعد.
لكن الجندي عند الباب لم يعرف تفاصيل الأمر مثلما يعرفه من هم في داخل البيت، غير أن أذنيه التقطتا صوتاً من الداخل يأمره:
- ارم لأجل العريس.
فألقم بندقيته عتادها، وجعل فوهتها تصرخ في الحي لتمزّق سكينته وصمته.
9- سرير النوم
مع كل صرخة فرح يطلقها جندي على لقيا يستولي عليها، كانت روحه تنخسف مثل انخساف سطح بئر ارتوازي أكَلَ خرطوم المياه جوانبه على بعد عشرة أمتار في باطنه ، وما عاد الفراغ يتحمل ثقل طبقة الأرض فوقه، فقد تعلم من فعل تكرار صرخات الفرح عند الجنود، أن وراء كل صرخة فرح يطلقها أحدهم هنالك ألم يسحقه هو، وهوة يُدفع لها ليتدحرج مرتداً لساعات مضت وطوتها ذاكرته، وذلك هو ما حدث عندما صرخ الجندي يقول:
- سأعزم كل من يكون موعد إجازته مع إجازتي، فوالدتي....
تزاحم مع من يتزاحم على باب الغرفة، وواجهته صور من يقف قربه مكشرة عن أسنانها بمرآة الزينة في غرفة العروس، وتميَّز شكل وجهه المكفهرّ بين الوجوه حوله، فأصطنع ابتسامة هزيلة رسمها على محياه، بعد أن لاحظ ضابطاً يقف خلفه، ويحاول أن يشق الصف ليدخل غرفة العروس ويتأملها جيداً، فيما خبت علامات السرور على وجه الجندي الذي عزم الجنود على حفلة عرسه، وهو يدقق في دهشة عيون الضابط تراقب أخشاب الغرفة، وتهيأ له أن في المُحْتَفِل رغبة لأن يصمت كل صوت يمتدح جودة صناعتها، أو يخبر عن منشأ صناعتها خوفاً من أن تلفت انتباه الضابط أكثر فيستأثر بها لنفسه، لكن جندياً أزاح أحد قطع الأخشاب جانباً وصاح كأنه اكتشف أثراً يبحث عنه الجميع منذ زمن طويل:
- MADE IN ITALI
فرد الضابط مطبطباً على أكتاف الجندي المحتفل:
- وهذه غرفة من صنع إيطالي، تستحق مني أن أباركك عليها بيومين مساعدة على إجازتك لتتمم عرسك مرتاحاً فيها.
سمع جندي خارج الغرفة مباركة الضابط للجندي الذي سيتزوج، فصاح آمراً أحدهم كان يقف في باب الدار من الخارج:
- ارم لأجل العريس.
ألقمت بندقية عتادها وراح صداها تردده جدران البيت كأنه صوت يتردد صداه في واد ضيق، ولعلع أزيز الرصاص يشق سكوناً أطبق على نفسه، فانسلَّ من الغرفة بعد أن لاحت منه نظرة على سرير النوم وأحسّ كأنه وجه العروس تضحك ليلة عرسها، وفي ركن قصي من البيت انخسفت فيه الذاكرة ليوم كان فيه يتمشى معها بين أروقة الكلية، وراقب كيف كانت ساهية عنه، كأن في بالها شيئاً يشغلها.
كانا في تلك الحادثة في مرحلتهما الرابعة، وعادة ما كانت احتفالات الطلبة بحفلة تخرجهم في ذلك الوقت تجري عقب الامتحانات النهائية، وفي الفترة المحصورة بين نهاية الامتحانات والفترة التي تعقبها ويكون فيها الطلبة بحالة ترقب لما ستؤول له نتائجهم، وخمَّن أن سبب اختيار الطلبة من الجنسين لموعد إقامة حفلة التخرج في هذا الوقت بالذات، هو ربما لشعور داخلي جعل من فَعَلها أول مرة وأقام في كليته هذا الحفل، لتزجية وقت الانتظار بسرعة وتسريب حالة التوجس التي يعيشها الطلبة، ومرارة الخوف من النتيجة السلبية لتعب آخر مرحلة دراسية يعيشوها في حياتهم الجامعية!.
اصطحبها ليسأل قسم التسجيل في كليته عن موعد إعلان نتائج الامتحانات، ثم تركها تقف في الممر ودس جسمه بين الطلبة المتجمهرين لقضاء أشغالهم على شباك قسم التسجيل، وغاب بينهم لدقائق ثم رجع لها وفيه خيبة احْمرَّ لها وجهه خوفاً من فترة أخرى سيضطر لأن ينتظر فيها ثانية موعد إعلان النتائج، في تلك اللحظة تلبستها موجة فرح وأحد زملائها يسرّ لها بأن موعد حفلة تخرجها ستكون في اليوم التالي، وراحت تفكِّر كيف أنها انتظرتها مع باقي زملائها طويلاً، يرمون فيها طاقيات الرأس لبدلة حفلة التخرج على ومضات فلاشات كاميرات أفلام التحميض، وكاميرات الكوداك الفورية، لكن فرحتها سرعان ما خبت عندما أعلمها بعدم رغبته لأن تشارك زملاءها الاحتفال، فاربد وجهها، وغابت الابتسامة منه لثلاثة أيام متتالية، أصاب علاقتهما خلالها فتور عبَّرت عنه بصمت تلوذ به كلما إلتقاها، لكنها فوجئت به في اليوم الثالث وهو يسحبها لحديقة في كلية غير كليتيهما، ليكونا بعيدين عن العيون المراقبة لهما، وسط ممانعة منها على مطاوعته، لتفاجأ بمجموعة من أصدقائه وصديقاتها بعضهم يمسك باقات ورد تعددت ألوان أزهارها الطبيعية، وألعاب مخروطية بمجرد أن تطوى على محورها تنثر نثار زينة لمّاع، جعلهما بريقه كأنهما عروسان في ليلة زفافهما. كان أصدقاؤهما يفترشون زرع الحديقة المخملي، وثمة شموع مشتعلة غرستها يد مجتهد منهم على محيط طبق كعكة، وشرائط ملونة تزيّن الأشجار حولهما، وأيدي زميلاتها المقربات تدفعها لتقف بالقرب منه، ووجهها يتلون خجلاً مثل تلون أزهار باقة الورد التي قُدِّمت لها فمسكتها كالعروس لتغطي فيها صدرها، وخرج وجهها المدور وشفتاها المكتنزتان كأنهما وردتان في تلك الباقة، وزادتهما بهاءً مشعاً ومضات فلاش كاميرة، راح يصورهما بها صديق مقرب له.
بعد تفرق صحبهما، سألها رأيها عن حفلته فطقطقت أصابعها بين يديها، ولاح له أن دمعة صغيرة ترقرقت تحت جفونها، خاف أنْ تكون انزعاجاً منها لحفلته، لكنه كان يراقبها وهي تقف قربه بعد أخذ الصور لهما، كأن فيها هاجس يريد أن يقول لصاحباتها( هذا من أحببته يا مسكيناتّ!)، فردت عليه جذلة:
- أتعرف...عندما رفضت اشتراكي بالحفلة الجماعية... حنقت عليك كثيراً في نفسي، أحسست وقتها كأن غيرتك عليَّ تخنقني، بل إنني أحسست كأن أصابع يديك تطبق على رقبتي من الأمام، لتشابك أصابع يدي أهلي وهي تضغط خلف رقبتي لتركعني ذليلة عند أقدام عشيرتهم.
ضحك ملء شدقيه بصوت عال وفيه رغبة لأن يحضنها ويلتف دائراً بجسمها، لكنه عدل عن فكرته وقال:
- صدقيني ما منعتك إلّا لرغبتي أن نأخذ صورة تخرجك سوية..ثم... تلك صورة ستبقى عندي ولن تريها إلّا معلَّقة في غرفتنا سوية...هكذا....
استعان بيديه شارحاً لها وأكمل:
- سرير نومنا نضعه هنا، كأنه...كأنه فم يضحك فرحاً ليقبلنا، أو....أو هو مثل حضن يفتح ذراعيه ليحتوينا..و.. وصورة تخرجك هناك على الحائط أمامنا ليلاً ونهاراً.
وعندما دفعته موجة الجنود التي هرعت لتشاهد تلك الغرفة، أحس كأن سرير النوم يضحك في غرفة العروسين، فاتحاً ذراعيه بانتظار عودتهما ليحتضنهما سوية، مثلما رسم لها ذلك اليوم كيف أنَّ سرير النوم في غرفتهما سيضحك ليحتضنهما سوية
10-البرج
ارتفع البرج شاهقاً في سماء نهاية صيف مدينة الكويت، ولمع فوقه بياض سيارة السوبر لموديل السنة القادمة الذي سيدخل البلاد.
فقال الضابط يسأل جنوده:
- من منكم له القدرة على أن ينزل لي تلك السوبر من فوق البرج؟
قال نائب ضابط يرافقه:
- أنا يا سيدي.
سأله الضابط غير مصدق:
- قل غيرها يا رجل!..كيف؟
فشرح نائب الضابط موضحاً له:
- لي يا سيدي صديقٌ يمتلك كراج غسل وتشحيم يعمل على الهايدروليك، ودائماً ما أساعده في عمله إثناء تمتعي بالإجازة الدورية....أعتقد عمل هذا البرج مثل عمل كراج صديقي.
فأمره الضابط:
- جرب ...لن نخسر شيئاً.
تشاغل الضابط يتطاول بالنظر عاليا نحو قمة البرج، وسلب لبه خيال أن يكون وراء مقود سيارة السوبر أثناء نزوله لبلدته إنْ استُأنِفَت الإجازات، وصار التمتع فيها مسموحاً به، لكن رجوع النائب ضابط إليه ليخبره أن التيار الكهربائي مقطوع عن لوحة التحكم في البرج، أخرجه من أحلام قيادته للسوبر.
11-شموخ
رغم الدموع التي بانت تترقرق في مقلتيها، وبعض نشيج يأخذ شكل شهيق تكتمه بمنديل تضعه على أنفها إن عاجلها الشعور فيه، لكنها بدت في اليوم الثالث لوشاية البنت عليها عند أمها، أكثر إصراراً على التمسك به، وامتلأت تحدياً وهي تسر له:
- إنْ أصرَّت أمي على تهديدها وأخبرت والدي، سأواجههم، وسأعترف لهم قبل أن يحاولوا إجباري على ذلك...
وضمت أصابعها إلّا السبابة على راحة يدها، وأشارت كأنها تخاطب شبح البنت يقف قربها:
- أما هذه، فبيننا الأيام.
حاول أن يثبط قليلاً من غضبها ويُحجّم عزمها عن الإتيان بفعل قد يُحسب في آخر الأمر تهوراً يضر بعلاقة الأسرة معها، وكان أكثر ما يخاف منه أن يلجأ والدها لمنعها من إكمال سنتها الدراسية، تبعا لما استطاع أن يجمعه عن عقليته العشائرية، وعدم تأثره بأية وساطة تحاول أن ترجعه عن قرار سبق أن اتخذه بالضد مع طرف آخر.
رفع عينيه شاهقاً فيهما إلى نهاية برج الكويت حيث ترتفع السيارة، وراودته ابتسامة تكشَّرت لها أسنانه، ورجع بذكراه لست سنوات خلت، فتجسدت له بفعل تحديها لأهلها وتمسكها لهذا اليوم في الوفاء له، كأنها تقف شامخة عصية عن التنازل عما تعهدت فيه، مثل استحالة نزول سيارة السوبر من فوق برج المعرض في مدينة الكويت.
12- الهاوية
في فوضى التهور يصبح عشق الممنوع رسالة يهوى الإنسان ممارستها بصورة تغدو فطرية لأول وهلة كلما مر عليها الوقت، ومع زيادة غيّه فيها تتشرب أفعاله كلها، وبعضهم يتمادى في التباهي بفعلها، فينظر بشذوذ مَنْ يخالفه إتيانها، حتى تغدو قاعدة يسير عليها الجميع إنْ باركتها السلطة.
كان يزداد شحوباً وتعتصره آلام الرغبة بمساعدة أهل هذي البلاد، لكنه كان يفكر بعواقب فعله غير المجدي، ويعرف أن عقوبته وعقوبة أهله عندها ستكون التغييب وسط زمن لا يسأل فيه الجار عن جاره وهو يرى جزمة العسكر وأعقاب البنادق تدوسه دون رحمة، وكثيراً ما فكر بالهروب للجهة الأخرى، لكنه فكر بنهايته وسط التيه بين كثبان رملية قد تبتلعه المتحركة منها، قبل أن يصل لينفذ بجلده، وتراءت له عند هذا الاحتمال سيارات الرفاق الحزبيين تتقاطر ملتفة حول دارهم، وزمجرت سرفة البلدوزر تَصِرُّ على فواصلها، لتنبه جمهرة رجالات السلطة أن يفسحوا لها مجالاً، حتى تباشر جرفها للدار.
كان يشاهد غالبية الجنود يأتون فرحين، بما طالته أيديهم من ممتلكات الناس في غزواتهم كل مساء، مثل فرح الأطفال بحاجيات العيد، وكان يرى عوز أهالي الجنود يضحك من بين أيدي أولادهم، لكنه في المقابل كان يراقب كيف يتحول الإنسان من بشريته إلى حيوانية الغابة بشكل سريع، فإن يحتضن أحدهم جهاز لمراقبة دقات قلوب المرضى في المستشفيات ويعده تلفازاً، ثم عندما يخبره بحقيقة عمل الجهاز، وأنه لا يستقبل صوراً بصرية وإن عمله ينحصر، وبمعونة أجهزة أخرى تربط على جسم المريض، بإرسال بيانات إحصائية ومخططات بيانية لضربات القلب، ولحظتها يقوم هذا الحاضن برفع الجهاز إلى أعلى رأسه، فتتشكل في فكره رؤيا أنه سيصرخ منتفضا على غبائه، لكنه يفاجئه برميه على أقرب سرير نوم، ليتشظى الجهاز قطعاً صغيرة مثل أية خردة يريد الإنسان التخلص منها!، فإن مثل هذا الفعل ينحدر بإنسانية الفاعل من رقي العقل البشري إلى ضعة الفعل الحيواني وتهوره في أحداث الفوضى، وهو يقطع ورود الغابة وأزهارها بحثاً عن نباتات تملأ جوفه، وتسكت صرخة الجوع في معدته! كان يرى هذا الفعل مرة مثل إصرار الأطفال على ذويهم أن يقتنوا لهم الحاجيات كل عيد، وقبل أن ينصرم اليوم الأول لهم، يكسروها بأيديهم وهم فرحون بفعلهم، ومرة يراه مثل فعل أخوتها وهم يمنعوه من مقابلتها، رغم علمهم أن تلاقيهما سيؤدي لأن يحصلوا لأختهم في نهاية المشوار على شريك سيعزّ قدرها ويرفع شأنها، أكثر ممن سيُجهزونه هم عريساً لها، لا يرى فيها غير عربة ستوصله لجاه والدها وثروته من أراضي أجدادها!.
وكان هو وسط لجة الفوضى تلك، وفي الفعلين على حد سواء، لا يرى الطرفين، (وهو لا يملك إلّا أن يراهم هكذا): كائنات بشرية سلبت منها إنسانيتها تحت ضغط الحاجة، والعوز، والإحساس بالدونية والنقص، وهذه الحيوات لها فعلها بإحداث التغييرات، لكنها تغييرات تسير بمجتمعاتها نحو الهاوية.
13- الإذاعة المتنقلة
ركّز نظره في بُعْدِ ظلام الليل الدامس، على أفق طويل لا يقطع نظر المشاهد أي جسم كبير لالتقاء السماء بالأرض فيه، لكن الأذن كانت تلتقط حفيف الزواحف الصغيرة التي يُسمع صوت صريرها واضحاً جداً، في تلك الليلة التي غاب قمرها سريعاً.
راودته خيالات أجسام تزحف نحوه كأنها كائنات خرافية لم ير مثلها سابقاً، وتجسدت لأشكال ديناصورية تفتح أفواهها، واللعاب يسل من فُكُوكها خيوطاً طويلة لزجة، وأحسّ برجليه كأنهما تتزحلقان وسط بركة من تلك اللزوجة، خلفها أحد الديناصورات وراءه، بعد أن توقف قربه لحظات ولفّ الهواء حوله برائحة فيها نتانة تخرج مع فحيح أنفاسه، فراودته غربة اقشعرَّ لها بدنه، وغابت عن سمعه أصوات الجنود الساهرين يتسامرون في ثقوب شُقَّت بجوف الأرض حوله، وموِّهت بإسدال كيس لونه يشابه لون رمال الصحراء، على شقوق أبواب ملاجئ كأنها جحور الفئران، وفكر في الهرب إلى الخلف لينجو من أزمته الاخلاقية بين أن يكون مغتصباً لأرض غيره، وبين أن لا يقبل هذا الفعل على أرض بلاده لو استبيحت، كما يشارك في استباحة الأرض التي يقف عليها في ظلام الليل، متنكباً بندقية صدئة، قيل له إنها ستصد أعداء الوطن، لكنه فكر بأصحاب البدلات الزيتونية وأقلامهم التي لا تستكين في جيوبهم ويهدأ تقطير حبرها، أن لم تسجل كل واردة وشاردة عن أيام الناس هناك، وما يفعلوه في حياتهم الخاصة قبل العامة، فحَضَن البندقية خائفاً، وأفزعه صوت ارتطامها بجيب قمصلته العسكرية بعد أن ضرب طرفها راديو الترانسستور الصغير، الذي تعود أن لا يفارقه لحظة واحدة منذ أن زُجَّ بهذا الموقف المحيّر!.
مدّ يده للجيب وأخرج الراديو علّه يعثر على إذاعة تزف له خبر وساطة دولية، تقنع الرعونة أن تخرج من ورطتها، وتتراجع عن فعلها الذي أقدمت عليه ونفذته، فوضع السماعة البيضاء في إذنه محاولاً أن يطمرها في ثقب قناتها السمعية، خوفاً من أن يسمع من يمرّ قربه صوت إحدى الإذاعات ويتهمه بالإنصات للمحطات المعادية.
توقف إبهام يده عن تحريك مؤشر الموجة، عند صوت بدا له كأنه يخرج من أجهزة إرسال إذاعية تحملها آلية تتنقل فيها من مكان لآخر، وراح الصوت يتضح قليلا ويغيب كثيراً، لكنه ميّز فيه نشيدا يتغنى بالكويت وحبها، ورن صوت المنشد يقول بلغة فصيحة وسط تصفيق جوقة مرادفة لغنائه:
(كلما زادت المحن
حولها أو قسى الزمن
أصبح الناس كلهم كلمة في فم الوطن)
لكن الصوت غاب مع بداية تهليل جوقة الإنشاد باسم الجلالة، ثم ما لبث أن عاد على صوت فتاة تنشد بصوت رفيع:
(الكويت بلادنا الكويت
أرواحنا سورها أرواحنا سورها
الكويت بلادنا الكويت)
وهللت جوقة الإنشاد ثم ضاع الصوت ثانية، فأخرج دبوساً وخط برأسه على استقامة مؤشر الموجة في واجهة الراديو، ليحتفظ بمكان الإذاعة، عسى أن تحيطه في أخبارها اللاحقة بخبره المنشود ذاك، لكنه عندما انتهى المنشد لتأكيد:
(أرواحنا الثمن و المجد للوطن
الكويت الكويت بلادنا الكويت)
تأكد له بما لا يقبل الشك أن هذا النشيد رسالة يراد منها نهضة الهمم، وأن هنالك من يقاوم، أو أن هناك نية لتشكيل خلايا مقاومة تعرف أزقة شوارع بلداتها، وستفعل شيئاً قد لا تستطيع السلطة إخفاءه، وربما ستعترف بوجوده بعد أن يصبح حقيقة على أرض الواقع، وغط في حلم تخيل أشكال أوْلئك المقاومين، وسَحْنات وجوههم الصارمة غضباً على ضياع بلادهم.
ومع توالي بث النشيد، وضياع الصوت في موجة تشويش تُضَيِّع قسماً منه، ما تلبث أن تتلافاها أجهزة البث الإذاعي، ليصدح الصوت مرة أخرى كأنه على بعد خطوات قليلة منه، وغدا خفضه لصوت المذياع كلما صدح النشيد عالياً، يتخيله مثل خفض صوتيهما بعد الوشاية، كلما مرت بقربهما إحدى الطالبات، خائفين أن يعلو الصوت، وتسرق الآذان شيئاً منه يكون مناسبة لأن تتكرر الوشاية مرة أخرى، ويقع المحظور ثورة من أبيها، تفقدها مقعدها الدراسي.
14- الحَمّام
دفعته أكتاف الجنود وأرجلهم تبعثر محتويات المزرعة، وتشاغل هو في تقليب اللُّعَبِ قرب مرجوحة أطفال، وضعت في ملحق مثل مخزن قرب الدار الملحقة في مزرعة العوضي، واستحثه أحد الضبّاط أن يشارك الجنود إخراج محتويات الدار، فاضطر للدخول معهم لكنه انتحى زاوية في البيت وراح يقلب ألبوم صور بانت فيه صورة لرجل يقف قرب طارق عزيز وزير خارجية العراق، لكنه انتهى من تقليب كل صور الألبوم سريعاً، وأصبح موقفه محرجاً بين أن يمد يده ويأخذ شيئاً، أو أن يُوْجِد حجة يتغيب فيها حتى ينتهي البقية من(غزوتهم) كما كانوا يدعونها.
دلف ناحية المطبخ وتشاغل بفتح الثلاجة، وراح يقشر أصبع موز على مهل وتروٍ، لكنه أحسّ أن وقت غزوتهم يمر بطيئاً، فيما وقت تشاغله يمر بسرعة البرق، لكن فكرة لمعت بذهنه، تخيل كيف سيتشاغل فيها دون أن يحاسبه أحد من ضباط وحدته، فمرق سريعا ناحية الحمام واتكأ بعجيزته على حافة الحوض وراح يفتح أزرار قميصه ببطء، كأنه يفتح أزرار قميص امرأة تلمع عيناها رغبة فيه، وغطس بالماء مادا رجليه على طولهما داخل الحوض، مرخيا أعصابه قبالة مرآة علقت على الجدار، كانت أسفل حاشيتها العريضة تتبعثر ثلاثة أقراط ذهبية لامعة على ضوء الشمس المنعكس من نافذة الحمام الجانبية، وأحسّ أن بريق الأقراط يغازل عوزه وفقر حاله، مثل امرأة ثلاثينية مجربة تغازل مراهقاً غراً، طائرة في خياله على بساط أنوثتها السحري!، لكنه غض الطرف، وتجسدت أمام عينيه حواجز كثيرة منعته من الاقتراب، فتخلص من هواجس مقارناته سريعاً، مديراً ظهره كأنه يرغب أن يستر عورة داخلية ستبان واضحة على قسمات وجهه، لو أداره ناحية الأقراط الثلاثة!.
لم يخالجه الذنب وهو يسبح في الحوض مثلما خالجه وهو يمد يده ليأخذ إصبع الموز من داخل الثلاجة، لكن طرقاً خفيفاً على باب الحَمّام أحسّ فيه أن أحدهم يستعجله الخروج، جعل شعور الذنب يراوده إن خرج وضغطت عليه العيون المراقبة لسلوك الجنود، لكن الباب فُتِحَتْ ودخل منه سائق عسكري برتبة عريف قائلاً:
- الرجال لا تخجل من بعضها إن غسلوا أجسامهم سوية؟
فأُخِذَ على أمره ورد قائلاً:
- لا طبعا، ثم إني كما ترى أغطس بلباسي الداخلي..افعل مثل فعلي؟
ودون أن يجيبه أدار العريف السائق جهته نحو زاوية المنزع قرب المرآة، وقبل أن يفتح أزرار قميصه راحت أصابعه تلعب بأقراط الذهب الثلاثة.
مد يده أمام عيني صاحبه الغاطس وقال:
- أهذه من غزوتك؟
ردّ متلعثماً، لا يدري ما يقول:
- أنا...أ...لا لا.
فأجاب السائق العريف فرحاً:
- إذاً فهذه الأقراط سأضيفها لما حصلت عليه أنا، مادمت قد عثرت عليهن قبل أن تراهن أنت.
ودون شعور منه فرك راحتي يديه سوية في الماء كأنه ينظفهما، قبل أن يدس صاحبه العريف الأقراط الثلاثة داخل جيب قميصه العسكري، ويرفع رجله إلى داخل حوض الحمام ليتمدد معه.
15- صورتان
تلألأت له صورتان للأقراط الثلاثة داخل الحمام، فهو مرة حسب أنها أقراط تلمع بجيدها، وعندما شاهد عينيه تزوغان عليهن مثل عيني غريب يرقب جيد حبيبته ليشاغلها ويسرقهن منها، أدار ظهره لهن بالحمام، كأنه يمنع الشيطان داخل ذاك الغريب أن يغريه في سرقتهن، وفي مرة أخرى حسب أن الأقراط تمثلن في صورتها متعرية في الحمام، وجسمها البض يتلألأ تحت رشق المياه عليه، فأصر أن يوليهن ظهره عامداً، خشية أن يخجلهن ويخبو بريق لمعانهن.
16- الحصيرة
أُمِرَ سواق الآليات بالتوقف على الطريق العام خارج مدينة الوفرة، وبدا لون إسفلت الشارع ممتداً مثل أفعى بين الكثبان الرملية على جانبيه، فتقاطرت الآليات كأنها لعب صفتها يد طفل بالتعاقب على الطريق، تتقدمها سيارة (الكاز66)[3] للعريف السائق واقفة خلف دبابة تركت وسط الطريق مع سائق راح يعالج عطبها الذي أوقفها، وترجل الجنود مجموعات وأفراداً يتجمهرون لائذين في ظلال العربات.
هبّت ريح جعلت خيط حرارة يلهب وجوههم، فتكوموا يحتمون بعضهم خلف بعض، فيما تمدد العريف السائق وراء العجلات الخلفية لسيارته الكاز 66، تاركاً رأسه يتكأ على إطار العجلة مثل وسادة تحنيه على صدره قليلاً.
ولسبب بدا مجهولاً لجمهرة الجنود زمجرت سرفة الدبابة متراجعة للخلف، كأن أيدي مجموعة منهم تدفع فيها، فأخرج جنديها رأسه من فتحة قمرتها صائحاً بمن حوله أن يتفرقوا بعيداً عن خط تراجعها للخلف، وارتطم حديد السرفة بمقدم سيارة الكاز 66وراحت سكاكين السرفة تأكل المقدمة.
تلوّت قطع المقدمة كأنها أرغفة خبز تقطعها أسنان جائع ليدفعها لسانه وتلوكها فكّاه، قبل أن تفرشها السرفة تحتها، فيما يخال المتجمهرون السيارة تلك كأنها مهزوم غُلب في معركة أُثْخِنَ بجراحها وراح يتراجع للخلف خائفاً أن تزداد الجراح عمقاً وغزارة، وسمع بعض الجنود القريبين منه، عظام القفص الصدري وأطراف العريف السائق الذي ينام غافياً خلف عجلاتها الخلفية، تطقطق كأعواد قصب تدوسها أرجل جاموس هائج، وتناثرت دماء حمراء صبغت الأرض حول جثة السائق قبل أن تطحنها السرفة مع التراب، وتجعل جسد العريف مثل حصيرة على إسفلت شارع مدينة الوفرة الخارجي.
وكان هو ثالث ثلاثة وقفوا على رأس من شاركه قبل ساعة الاغتسال داخل الحمام، ولم يتبق من صاحبه غير جيب قميص مفتوح وقد برزت من خلاله ثلاثة أنصاف دوائر لأقراط ذهبية، طوتها سكينة السرفة.
وقبل أن يضعوا السائق العريف داخل البطانية العسكرية وينقلوه لحوض إحدى السيارات، شاهد أحدهم يمد يده لينتزع الأقراط الثلاثة من بين الحطام المتكسر لأضلع السائق وهو يردد مع زملاء له:
- لا الله إلّا الله.
17- فرحة مجنون
هذه الليلة لم تكن مثل غيرها من الليالي، بعد أن نجوت في نهارها، من لحظة كدت أن أكون فيها حصيراً مفروشاً على طريق الوفرة، فأنا في هذا المساء أتصرف مثل المجنون، فمرة أفرح أني نجوت من فرم جسدي تحت سرفة الدبابة، ومرة أغضب وسط إغراء الصحبة بالنهب مثلهم، وأتمنى لو أن تلك الدبابة كانت قد أخطأت مسارها وانحرفت قليلاً لتفرمني أنا ،فأنجو من هذا الموت البطيء الذي أعيشه، فالتحول من الإنسان في داخلي إلى الوحش الذي يريدون أن أكونه، يُقطِّع داخلي أكثر مما قطعت السرفة جسم ذاك العريف أمام عيني!، ومرة ثالثة يريد جنوني أن يعيش العمر كله، فقبل هذه الليلة انصرمت سبع ليال عجاف، ما أستقر شبح صورتك أمامي، ولا استطعت أن أتملّى وجهك جيداً، فقد كان يترقرق مثل السراب قبالتي، ولا أستبين منه غير ابتسامة حزينة تطفو عليه، وقد يكون ما رأيته في تلك الليالي انعكاساً لإحساس داخلي: أنك تعيشين القهر بعيدا عني، ولا تتعجبي، فتلك صفة أحسب أن كل العشاق يعيشون نرجسيتها مع صور مَنْ يحبوهم وهم بعيدون عنهم، والأمر ربما ينسحب على صورتي عندك، فكلنا نتخيل من نحب يعيش الحزن دوما علينا ونحن فقط من يهرع ليلصق الفرح عنواناً لأيامه.
أما هذه الليلة ، وأنا أتناول عشائي الفقير مع زميل يشاركني موضعي، فقد انتصبتِ لي قبالة فراشي، فتحجرت اللقمة داخل بلعومي وشحت بنظري نحو فراشي، فيما يدي تحتار بين أن أخرج فيها ما تحجر من أكل في فمي، أو أمدها ثانية إلى الماعون أجهز الأخرى لحين انتهائي من مضغ الأولى وبلعها!. وما انتبهت لنفسي وأنا أحدق ناحية الفراش مثل الأبله، ولولا أن زميلي أخرجني مما أنا فيه وهو يقول مبهوتاً:
- يا ربي...ما بك تحدق لزاوية فراشك مثل المجنون !.
ربما لو لم يكلمني زميلي لكنت تكلمت مع خيالك الذي انتصب أمامي مبتسمة فيه بحزن، ولكنت كشفت عشقي أمامه!.
وأنا الساعة أكتب لكِ على ضوء القمر وهو بدرٌ، وكأنه لم يكن في يوم من الأيام بمثل هذا الإشعاع نوراً على الأرض!، وأرجو أن تطمري ابتسامتكِ الخجولة تلك وأنت تتعجبي من غرائبي التي أقصها الساعة عليك، ففي العشق يا سيدتي تذوب المحسوسات، وتتلبس الأشياء أثوابا غير ما عهدنا في لبسها، فقد يتسع بؤبؤا عينيك ليمتصا في الليل ضوء سماوات أخرى ليكون لك نوراً وهاجاً وأنتِ تكتبين لمن تحبيه !، وقد تتحول أُمسياتكِ أعياداً دائمة وأنت تنتظرين النهار كله لمساء يحل فيه طيف محبوبكِ ضيفاً، لا لشيء، إلّا لترقصي معه في جنح الليل ذلك، ولتبثي ورأسك يرتاح على كتفيه تعب نهاركِ!، وهذا ما كنت أفعله معك الليلة وكل الليالي التي ستلحقها، إنْ تسنّى لي العيش بقية عمري سالماً من هذه المحنة التي زُججتُ فيها عنوة، ولكي لا أسترسل كثيراً في وصف جنوني، يكفي أن أقول لكِ أني اتّفقت معك في ليل صحراء الكويت، دون أن نأخذ موافقتك، على أن نعيد حكاية ما جرى لنا منذ أول يوم لها، لكن بلسان الرواة المراقبين للمشهد من بعيد، غير أننا اختلفنا على من سيرويها، وبعد مشادة صغيرة بيني وبينك، تركتني أثرها وهمتِ على وجهك في ليل الصحراء، وكم كان رحيماً بنا سوية عواء ذلك الذئب الذي أفزعني حد الموت عليك، لكنه أرجعك مرتمية على أكتافي وأنت تنتحبين، حاكية لي اقتراحاً بدا مناسباً لي ولكِ، بأن تحكين لي فصلاً، وأحكي أنا فصلاً آخر، لكني اشترطت عليكِ أن ننثر فصول حكايتنا وسط فصول حكاية أخرى، أعيش شاهداً عليها ما دامت الشمس تبزغ من مشرقها وتغيب وراء أفقها، وقد يمتد ألم قصصيّ حتى يطول النصف الأول من مساء بعض الليالي.
18- الليلة الأولى
كان يجلس مقرفصاً كعادته كل ليلة إثناء نوبة حراسته، والبندقية تقف عمودية بين فخذيه، وفيه ضيق من وقت نوبته، إذ كان يتمنى لو رجع لفراشه وتلحَّف غطاءه نائماً ملء جفنيه، لكنه على حين غرة تحول الإحساس بالضيق عنده إلى إحساسِ من يقبل على الحياة, وفيه نزوع لأن يعيش عنفوان لحظتها، عندما تهادى له شبح أنثى يُطيِّر نسيم الليل شعر رأسها، وحملت له هبة ريح عطراً نسائياً، هيج عنده ذكورة في بداية مراهقتها، أو هكذا خيل له.
كان الشبح يتجسد له بلفَّة خصر لفتاة طالما حلم أن يستحضرها خياله، وأضاف خياله الجامح للقادم تفصيلات رآها متجسدة فيه سمنة، وبعض طول حتى تواكب شكل شبحه المقبل عليه، وعللها إلى فعل السنتين اللتين غابتهما عنه.
جلست قبالته فارشة أطراف ثوبها الفضفاض على تل رمل صغير، وأشاحت بنظرها على ضوء القمر، فاعترته الدهشة وقال:
- يا الله...
ردت متعجبة:
- ما لك فززت مصعوقا!... ها أني جئتك، مثلما كنت ترغب.
قال مشككاً:
- لكن كيف؟
فزادته حيرة وهي ترد:
- هكذا.. جئتك كما رغبت...حتى أسأل ذاك البئر.
مد يده باتجاهها، وفي أصابعه رجفة لا تستوي فيها ثابتة مع مشطها:
- دعيني ألمسك لأصدق عيني.
لمّت أطرافها وتدانت للخلف:
- ابعد يدك...لا تنسى ما اتفقنا عليه منذ سنتين...
فوجم صامتاً وراح يرقب الخاتم يلمع بإصبعها على ضوء القمر، كأنه ألبسه لها قبل لحظات.
أضافت تقول:
- فعلتها مرة ووافقت لك، فلا تطلبها ثانية...ثم إنك استدعيتني وها أنا أمامك..
صمتت قليلاً تسترد أنفاسها وأكملت :
- ما رأيك لو ابتدأت باللحظة التي لفت فيها انتباهي؟
طقطق أصابع يديه وفتح راحتيه على سعتهما وراح يفرك فيهما وجهه، وفيه إحساس أن طيفها يتشكل حقيقة أمامه.
ركز نظره على الهيئة التي تتمثل له، محاولاً أن يغرز شعاع بؤبؤيه مثل السهام فيها، عسى أن تتشرب رُؤْياه خيالها وتجسده ما استطاعت لذلك سبيلا:
- أيّامي مليئة هاهنا بالقحط، وفيَّ صفة قبيحة أني أتألم لما يجري، ولأني لا أريد لك، حقيقة كنت أم خيالاً، أن لا تفارقيني أبداً..
تلفّت على جانبيه مثل طريد يخاف أعداءه وأكمل هامساً لها:
- سأنثر لك شذى قصتنا وسط قيح هذا القحط الذي أعيشه، فما يجري بنهارات أيامي أصيغه عشرات المرات في ليلي، وقبل أن تحكي عن اللحظة التي لفت فيها انتباهك، أحذرك أن تجزعي لو وجدت مرارة الملح في حكاياتي وسط عسل كلماتك ...اتفقنا؟.
لاح شبح لهما وسط الظلمة فصاح فزعاً:
- قف.
تقدم الشبح منه دون أن ينبس بكلمة واحدة، ولما صار قربه، تبين تفاصيل محيط الجسد القادم له بضابط الخفر لتلك الليلة.
قال الضابط:
- مع من كنت تتكلم وأنا أقترب منك؟
أحسّ رجفة تنتاب أطرافه وضاعت الكلمات منه، فصمت قليلاً ليعيد ترتيب ما ألمَّ به وقال :
- ما من أحد قربي.
زاغت عيناه على مكانها، ولأول مرة يصيبه شعور بالفرح أن ما كان متجسداً قربه، قد تبخر بلحظات من أمامه كأنه فص ملح ناعم رمي في قدح ماء، وتمنى ألّا تكون حقيقة وتشاركه الحديث مع الضابط.
انتشله الضابط من فيض خوفه عليها:
- وما أصل كلمة القحط التي سمعتك تحكيها بصوت عالٍ؟.
فقال مدارياً الرجفة التي لا زالت تجتاح أطرافه:
- آه تذكرت....كنت يا سيدي أترنم بموال يحكي عن قحط رمال الصحراء، فقد طاب لي نسيم الليل وعذوبته، ونسيت نفسي، كنت يا سيدي مثل من يختلي بنفسه، ويغلق باب الحمام عليه، وتنتابه رغبة بالغناء.
قهقه الضابط عالياً وأحس هو أن مشطي رجليه يستقران ثابتين داخل حذائه، وسُكبت السكينة على روحه، كأنه طفل عاد لحضن أمه.
قال الضابط بعد أن أكمل ضحكته منتشياً:
- طيّب غنّ كما تحب، لكن انتبه لواجبك، فالأخبار تقول أن تحالفهم علينا وصل لثلاثين دولة...انتبه جيداً.
ودار هو برأسه مثل بندول ساعة يمشي برتابة، يبحث عنها، بعد أن اطمئن لخطوات الضابط تبتعد عنه شيئاً فشيئا، لكنه تملّكته الحيرة بين اضطراب مشاعره وهي تجلس قربه، وكيف تمنى أن تغيب عنه، ولا تعود مجدداً لحظة اقترب منه الضابط ، وبين هذه اللهفة التي تنتابه الآن باحثاً عنها!.
19- الليلة الثانية
تَطشَّرَ وقت واجبه مثل كل الجنود بين ساعات الليل، وخاف أن تكون قد فهمت أن وقت لقائهما البارحة سيكون ذاته في هذه الليلة، وأضمر اقتراحاً أن يتفق معها على موعد يمتد لأربع ساعات، سيعقده صفقة مع زملائه، يأخذها بشكل متواصل لنوبة واجبه فيها، وأضناه أن يجد حجة لذلك ، لكنه اهتدى أخيراً لأن يحاول أن يقنع البقية أن الأربع ساعات لكل منهم، ستكون كفيلة بتوفير الراحة لمن سينهي واجبه فيها ويركن بعدها لفراشه طيلة الليل، وعلم أنهم سيتآمرون عليه، ما دام هو صاحب الاقتراح، وسيجعلون نوبة حراسته بين منتصف الليل والرابعة فجراً، وفكر أن يمانع في بداية الأمر ليجعلهم يصرون على طلبهم، لكنه عاهد نفسه أن لا يتمسك ويماطل كثيراً في رفضه، حتى لا يتسنى لأحدهم أن يتبرع ويأخذ الوقت الذي يتمناه ليصفو فيه لخيالاته، ويعيش ربيعاً مزهراً معها كل ليلة، معللاً أن الأربع ساعات تلك ستكون كفيلة لأن تنسيه حرقة الأعصاب التي يعيشها كل النهار، كاظماً فيها غيظاً يفور داخله مثل المرجل.
وفي الليلة الثانية راح يعصر خيالاته ويستجدي عطفها، أن تجود عليه وتجسد له شكلها ليناجيه مثل الليلة المنصرمة، لكن العجز شل خلاياه لاستذكار صورتها، وبلّد مشاعره نحوها، وكلما ازداد عناداً على استحضارها امتنعت خيالاته عن مساعدته، مثل خائن يوغل بخيانته ويترك رجليه تخوض بوحلها عميقاً بعد أن تيقن من موت ضميره، كلما هبط في قاع الهاوية أكثر.
قرفص كعادته واحتضن بندقيته بين فخذيه، وعيناه زائغتان بين اتجاهين، فهو مرة يحدق في ظلام الأفق الممتد أمامه، ومرة يدقق في سراب الأجسام التي يخالها تخرج له من جهة مواضع الضبّاط، فقد كان يتلفت مثل التائه بين مكان لا يدري في أي لحظة يخرج منه الضابط الخفر، وقد ينسى نفسه فيطلق مناجاة بصوت عال يسمعها الضابط كما حدث بالأمس، ولولا أن أسعفته سجيته ووجد تبريراً باختلاق قصة الموال الذي يحكي عن قحط رمال الصحراء، لأدخله الأمر في سين وجيم يحلّ فيه ضيفاً عند ضابط الاستخبارات، وقد يخرج منه وهو جندي يحاول أن يكسر معنويات صمود الأبطال، ويثبط عزيمتهم!، وكان مرة أخرى يحدق في البئر مترقباً شبحها المنتظر ليكون له منقذاً، يهل عليه منبجساً من عتمة الليل، ليعيش معه ما أسماه لها بالربيع المزهر!.وتساءل في تلك الليلة : أيكون ما تجسد له حقيقة جعلت جسمها المادي يطير له على بساط مثل بساط علاء الدين السحري، ليجلس في وحشة الليل المظلم معه؟ وهل هي حقيقة شعرت وأحسَّت بفحوى خطورة موقفه إزاء التبرير الذي ساقه للضابط في قحط الموال؟.
ومع انصرام الليلة الثانية دون أن تحضر له، و توالي ليال أخرى على ذلك، ركن لحقيقة، راح يصدقها مع انبلاج كل فجر جديد يمضي على لقائهما الأول، صدق أن من جلس معه تلك الليلة كان جسمها المادي بشحمه ولحمه، وراح منذ تلك اللحظة يعد تبريراً، يجعلها توافق أن يمسك طرفاً منها يوقن فيه أن ما يزوره منها كائن مادي له أبعاد ثلاثة، ولا يفرق عنه ببعدٍ زائد أو بعدٍ ناقص، ولازمه لأيام متتالية هاجس داخلي تحول لعبارة راح يرددها كل ليلة:
- فقط لتأتي وسأجعلها تترك عنادها، سأمسك شيئاً من جسمها أكثر من الإصبع ذاك الذي ألبسته خاتم العهد بيننا في آخر يوم لنا قبل أن نفترق....فقط لتأتي، و.....
وفي الأيام التالية كانت تكبر في داخله صرخة مكتومة مثل بركان ثائر يكتمه جوف الأرض:
- أريد رؤيتها ثانية لأصدق...فقط لأصدق!.
20- الحلم
كان شبحها يتوارد على خاطري كإبل عطشى وسط الصحراء, شبح يتهادى خلف السراب، يبتعد فيها الزمن فتبدو صعبة المنال, مثل مراهق عاشق أرّقه النعاس ليلاً وراح يحلم صاعداً على سطح الكواكب والنجوم, يهرب من محيطه لعالم كائنات افتراضية تعيش حياة أخرى هناك، قد تفهم هيامه وتركن للصمت إزاء تجليات عشقه.
أضحيت أحاول أن أستحضر طيفها كل ليلة آلاف المرات, تحط قربي وإنْ تقربت منها فرَّت كالطائر الذي يلهي الرعاة عن رعي أغنامهم, ذاك الذي حكت لي أمي عنه وأنا صغير, كل مرة تطير وتحط قربي، فإن تدانيت منها طارت مرة أخرى لتحط ثانية على بعد خطوات أمامي، وإذا أطمئنت أني ابتعدت عن سربي، ومسختني من دقائق ليلي أسلمت جفوني المسهدة أرقا للنعاس، وطارت هناك بعيدة ترفرف عالياً، وتدير رأسها الصغير ضاحكة على غباء الراعي الذي خلف الغنم خلفه، فريسة يلعب فيها صغار الذئاب.
كنت أطاردها كشبح يتجسد أمامي، ثم ينزلق مثل مادة هلامية تتشكل داخل كفي لتندلق من بين أصابعي, وأنا عاجز عن احتواء طراوتها, إلّا إن قعر ثوبي يحتضن اندلاقها ثانية, فينبثق وجهها ملموماً على بعضه, ليتكور خدها الذي يواجهني, ويغدو لالتقاء جفنيها سهماً ذا رأس حاد, وينفتح منخرا أنفها, كأنهما منخرا طِفلِ امرأة شقراء جاءت سائحة لكن قبيلة أمازونية اغتصبتها، ولم تورثها كل جيناتها, فاختلطت المورثات, وتلملم الفم في قعر ثوبي, ولولا بقية أمل فيَّ لكنت نفضت الثوب مما فيه, لكن تكور المادة الهلامية في حجري كان يدفعني كل مرة لأن أرفعه ثانية بين كفَّي, ليترقرق وجهها للحظة, قبل أن تندلق المادة مرة أخرى من بين أصابعي.
كان حلم الأمنية هذا يطاردني كل ليلة، وكلما استعجلت في استحضاره أو صنعه أصبح يمزجه عقلي بخيال جامح، ويؤرقني أكثر.
21- الإعمام العسكري
راح عنصر الانضباط العسكري للحرس الجمهوري يندس بين كل ثلة جنود ويحذِّر فيهم، فيتلفت الجنود بعد انصرافه وجلين خائفين، وتخبو دردشاتهم، وتصفر الوجوه لتضيع بعدها ضحكاتهم المجلجلة قبل حين، ويتفرقون كأن لسان حالهم يقول:
-أَما كان الأجدر يا رجل أن تتركنا نعيش اللحظة التي نحن فيها على سجيتها؟!.
لكن الهمس بينهم ما يفتأ يعلو، ويتحول التحذير إلى وصية يتبادلها الجنود بينهم بالمجان ويبدأ أحدهم قائلاً:
- إياك أن تأمن الكويتيين.
وعندما يرى الدهشة مرتسمة على محيا من يكلمه يوضح قائلاً:
- لا تستقل باصاً يقوده كويتي..
ثم يضيف هامساً:
- انضباط الحرس الجمهوري يقول إن منطقة كيفان لا زال فيها مخربون.
وعندما يلاحظ أن صاحبه لا يستطيع الربط بين مقاومة أهل كيفان والتحذير من ركوب باصات الكويتيين يقول:
- هناك إعمام عسكري ينصح الجنود أن يستخدموا أثناء تنقلهم الباصات التي يقودها المقيمون من دول أخرى...الإعمام يحتمل عمليات خطف للجنود في سيارات يستقلها عناصر المقاومة.
22- الليلة الثالثة
أيقظه زميله سريعاً عند منتصف الليل، فنهض متثاقلا، بعد أن تكاسل قليلاً في فراشه، وفيه رغبة لأن يغفو ثانية وينهض لمسك واجبه حال أن يسمع صوت حارس يصرخ مُوقِفا ضابط الخفر، وحسب على أصابع يده اليسرى عدد نقاط الحراسة التي سيمر بها الضابط قبل أن يصله، وكم من الوقت يستغرق ليفتش كل نقطة؟، وقبل أن يطبق جفنية وينام على هذه الاحتمالات برق في فكره أن الصدفة قد تجعل ضابط الخفر هذه الليلة يترك كل النقاط، وما يكون له هَمّ غير أن يفتش النقطة التي يقف فيها هو!، فتخيل الضابط يأتيه متلصصاً، يمشي على أطراف قدميه، كأن قوة سحرية تحمله دون أن يشعر فيه أحد، ليباغته وهو نائم ويسرق البندقية من حضنه، ويقدمه في صباح اليوم التالي مذنباً، محسور الرأس من طاقيته ومن نطاق بذلته العسكرية أمام آمر الوحدة، ليكون الضابط عندها البطل المغوار الذي يخاف على يقظة العيون الساهرة، ويُمسي هو المتخاذل الذي يريد أن يُمَكِّن شيطان التحالف من نزع الفرع عن أصله!، فنهض متثاقلاً بعد الدقائق الأولى لذهاب زميله، وافترَّت شفتاه عن ابتسامة خفيفة على نوع المسرحية التي يعرف فصولها قبل أن يبدأ عرضها، وكم يمقت حاله وهو يتذكر أنه أحد الشخوص المشاركة فيها، وهذا الهاجس كثيراً ما كان يرد لذهنه ويصيبه بالإحباط من لا جدوى الحياة التي يُزجّ فيها، ويجعله يحس بعبثية الاستمرار في اجترار ساعاتها، وبدت له أيام هذه الحياة التي يعيشها كأنها حلقة مفرغة لا تورث غير الموت!.
رشق بكفيه نثار الماء على وجهه وعبأ الهواء قدر ما يستطيع خارج الموضع، وراح يتهادى في مشيته مثل المخمور، وطقطقة حزام البندقية يضرب بدنها مرة، وجانبه الأيمن مرة أخرى، فتتناوب على سمعه طقطقات رتيبة، كثيراً ما مرت موسيقاها على أذنيه، وأصبح رنين كل آنية في البيت، لو حدثت إثناء إجازته الدورية، كان يعيده مباشرة بمجرد أن يسمعها لأجواء وحدته العسكرية الكئيبة، وعادة ما يفقد عندها أعصابه، ويصيب من يُحْدِثُها بالحيرة فيما يفعل، حتى أن أخته ذات مرة تركت ماسورة المياه تجري لوحدها، وانزلقت من بين يديها كومة مواعين كانت تغسلها، وطقطقت مع ملاعق الأكل مثل طقطقة حزام البندقية، فوقف مبهوتاً إزاء هروب أخته باكية لأمها، ونثار الزجاج يغطي أرضية المطبخ، بعد أن صرخ في وجهها لأن تكف عن فعل ذلك، ومن يومها امتزجت ذكرى المواعين المحطمة من بين يدي أخته مع حزام البندقية، فهو إن التحق لوحدته وسمع الصوت في سير الجنود بين نقاط الحراسة ليلاً تذكر حادث المطبخ وأخته، وإن كان مجازاً وسمع الملاعق تضرب المواعين تذكر أجواء الحراسة، وساعات الواجب الثقيلة، وأيام الخدمة العسكرية في الحرب الأولى، وهو اليوم بعد أن سمعها عادت له ذكرى تلك الحرب وقطار جنائزها الذي كان لا ينقطع، وتذكر كيف كانت الناس تحلم أن تنتهي وتسلم منها، وفي لحظته هذه عَنَّ له تساؤل عن السيناريو الذي ستنتهي فيه هذه الحرب الأخرى! وهل سيسلم منها كما سلم من الحرب الأولى؟.
قرفص على الأرض وخفض رأسه بمستوى سطحها، ليخرج كل جسم، عدا زواحف الصحراء، قد يسير عليها ويحجب الأفق أمامه، فيكون باستطاعته مشاهدة شبحه يدب في الظلام، وكرر الفعل لأكثر من مرة على جهة مواضع الضبّاط، وعندما تيقن أن قاطع مواضعهم تلفه السكينة، وبدت أضواء الفوانيس مطفأة عبر شقوق ستارة أبواب الملاجئ، تأكد له أنهم خلدوا للنوم وقرر أن يستعيد أحلامه عسى أن تطل عليه ليتجافي النوم عن عينيه المسهدة، وأحسّ بمقدار الحيف الذي وضع فيه نفسه وهو يطلب، وسط دهشة زملائه، أحلى ساعات الليل لتكون نوبة واجبه كل ليلة فيها، لو أن شبحها سيستمر معانداً ولا يأتيه هذه الليلة مثل باقي الليالي التي راحت، وراودته ضحكة مجلجلة وهو يلوم الشبح على عدم حضوره، بعد أن تذكر إنه هو من اختلقه، لكن مشاعره اضطربت وغابت ضحكته مطمورة في داخله، عندما تذكر الليلة الأولى التي اختفى فيها شبحها عندما بدأ الضابط يستجوبه عن الصوت الذي سمعه، وتحيّر فيما إذا كان الشبح حقيقة أم خيال؟ لكنه ركن لاستنتاج الحقيقة أكثر من استنتاج الخيال، إذ لو كان الشبح الذي جلس تلك الليلة قربه خيالاً فلِمَ أنسحب ولم يعد يأتي بعد مجيء الضابط؟ وساءل نفسه متعجباً : أما كان يكفيه أن يبقى صامتاً، لا يأتي بأية حركة حتى ينتهي تفتيش الضابط ؟.
وانتهى واجبه تلك الليلة فجراً ولا يشغل باله غير عبارته المعهودة يلهج فيها لسانه:
- أريد رؤيتها ثانية لأصدق...فقط لأصدق!.
لكنه أضاف لها هذه المرة تساؤلاً فيه إقرار:
- أأنا مجنون؟...لا ريب في ذلك!.
23- الفتاة
راقب اتجاه سير الجنود داخل ساحة الدوار، وتجمهرهم وسط فسحة بين حافلات لنقل الركاب، تحمل لوحات تسجيل لشتى المحافظات العراقية، ورغم أن سائقي الحافلات كانوا يصرخون كل على وجهته، إلّا أن أبواب الحافلات بقيت مشرعة، دون أن يتزاحم عليها جندي واحد من تلك الجمهرة!.
بدت السيارة الصغيرة ذات اللون الأخضر الفاتح كأن هيكلها متلاشٍ، بين هياكل الحافلات الحمراء الجاثمة في ساحة الدوار، وانحنت تعبث بمحركها فتاة قاربت الثلاثين من عمرها، ذات شعر فيه صبغة صفراء، وبوجه طولي، مصفرة اللون، ترتدي تنورة رصاصية وقميصاً أبيضَ طوت كُمَيْهِ على ساعديها، وظهرت ملامحها للجنود كأنها ضجرة من عطب سيارتها، لكنها كانت تثني جسمها وتُعَدِلْهُ بإغراء يجعل من حلقة الجنود تزداد انكماشاً عليها، كلما أتت بحركة انحناء للأسفل أو استقامت معتدلة.
سحبه زميله وتقرّبا من جمهرة الجنود الملتفّة حول الفتاة، لكنه ارتاب من وجود سيارة صغيرة وسط كراج لحافلات كبيرة غالبية راكبيها من العسكريين، لكز خاصرة صاحبه، وغمزه خلسة داعياً إياه للانسحاب سريعاً.
حاول زميله أن يتملص لكن نظرة غضب منه جعلته يلحق به متعجباً أن يستعجله ليبدلا عبق الحياة ونشوتها، متمثلة بفتاة جاءت بها الصدفة وأعطبت سيارتها، وسط مخيلة تتكثف فيها صور الكثبان الرملية وأصوات محركات الآليات العسكرية.
قال جازماً:
- أقطع يدي إن لم يكن وراء وقفتها هذه مصيبة كبيرة!...أنظر عينيها.
ضحك زميله وقال:
- قضيت العمر متوجساً خائفاً !...أما مللت؟..يا أخي عش الحياة.
فقال مدافعاً قبل أن تضيعهما دعامات الجسر الخرسانية خلفها:
- الخشية الأمنية لا تعني الخوف يا صاحبي...كثر الحديث هذه الأيام عن عمليات المقاومة، وبالأمس القريب سمعت كيف قاومت مدينة كيفان، ثم لك أن تسألني عن لغة عينيها...
قاطعه زميله ساخر:
- إذا كنت تعرف لغة العيون هكذا!، فلِمَ لا تطاوعني وترجع لتتملى فيهما طويلاً؟...تعال.
فرد بإصرار:
- امش، وسأشرح لك ونحن نبتعد.
قال صاحبه معانداً:
- لا..امش أنت، أنا سأرجع.
لكن إحساسهما بعواميد جسور الدوار ترتجف قواعدها كأنها امرأة ترقص فرحاً، ونثار حصى وقطع حديد تطايرت فوق رأسيهما، مثل رف طيور برية أفزعه الصياد، أعقبها بجزء من الثانية صوت تفجير قوي صم أذنيهما، وعلا صوت رصاص اخترق فضاء المحيط حولهما، وأسرعت سيارات بيضاء بزجاج مُضلَّل تطوق مكان التفجير، جعلهما كل ذلك يقفان مبهورين، خائفين ليرقبا عمود دخان أسود كثيف راح يعلو في سماء المدينة، ولون الحافلات يضيع وسط لون نار تلتهم العشرات منها، وصُبِغَتْ أجزاء بنايات المحيط البيضاء بقطع لحم معجون بالتراب، ورائحة شواء اللحم الطري هبت تعبأ منخريهما حد التقزز.
24- حزن العينين
اتكأ على دعامة الجسر يبلع ريقه مرتجفاً، وترك جسمه ينزلق على بلاطة القاعدة أسفل رجليه، وتَحلَّب اللعاب في فمه لزجاً فيه مراره، وأحس بشهيقه يجرح بلعومه ناظراً إلى صاحبه مصفر الوجه، وعيناه مفتوحتان على سعتيهما دهشة، متذكراً كيف كانت عينا الفتاة ذابلتين حزناً وكمدا، وفي وجهها صفرة الموتى، وانحناءتها على ماكنة سيارتها كانحناءة ممثلة تحاول أن تتقمص دور أنثى تغري مجموعة شباب تجمهروا حولها، وساقته الذكرى عنوة لنظرة الحزن التي كانت تغلف عينيها، كلما التقاها في الأيام التالية لوشاية البنت عليها.
كان يبدو سهل شهرزور - كما يحلو له دوماً أن يصف خديها- شاحباً، وبثور توشح جانبيه، وتطفح رؤوسها حمراء مدببة، وتبدو عيناها ناعستين ورموشها ملتفة على بعضها، كأنها تعرَّضت لرشة ماء وقبل أن تجف التصقت ببعضها، لكنها كانت في أيام نشوة الفرح تبدو نظرة مثل وردة الجوري وأوراقها تعانق بعضها، ولسان حالها يحاول أن يعبّ صوت كل زقزقة قربها، وتلك لحظات غدت له منسية بعد الوشاية، عندما خيم الحزن على وجهها وضاعت غمازتاها، وراحت تلاقيه كل صباح مُحمرَّة الأنف من أثر نشيج صاحَبَها الليل كله.
25- سيارات الدفع الرباعي
عادة ما يأتي أزيز الرصاص في زمن الحرب من سواترها الأمامية، لكنه هذه المرة جاءه من بعيد، وغدا يقترب شيئاً فشيئا من موقع وحدته، فأطلت رؤوس كثيرة غيره من تحت الأرض تستفسر عن هذا الصوت المقترب، وأخرجت بعضها أجسامها كاملة تحمل بنادقها، منتظرة أمر الرمي، وعلا صوت أحد الضبّاط يقول :
- المخربون يهجمون على الوحدات من خلفها.
وحلل جندي بينهم أن هذا الذي يحدث:
- غارة جوية معادية تغير على الوحدات العسكرية من الخلف، مما يجعل المضادات الأرضية ترمي شبح الطائرة بالتعاقب حسب اقترابها من الخطوط الأمامية.
وسَفَّه آخر هذا الرأي قائلاً:
- ما سمعنا صوت الطائرة الحربية المتعارف عليه!.
وعلى حين غفلة منهم فاجأتهم غبرة ملتفَّة حول شبح عجلتين مدنيتين، تسيران بشكل متعرج، مخترقتان مواقع الوحدات العسكرية، كأنهما في سباق صحراوي للسيارات.
كانت سرعة العجلتين ومفاجأة ظهورهما بين الكثبان الرملية، لا تعطي لعناصر الوحدة التي تخترقان موقعها فرصة لمعالجتهما كهدفين معاديين، قبل أن يجتازاها لمحيط الوحدة العسكرية التي تليها في القرب من الساتر الأول، ونثار التراب من عجلات أحداهما على الأخرى كانت تجعل المشهد كعاصفة ترابية تولد فجأة وسط ريح ساكنة حوله.
اختلفت التسميات بين جنود وحدته، فواحد أطلق على الراكبين للعجلتين المتسللين، وأخر أطلق عليهم المخربين، وثالث قال عناصر لا تريد للفرع أن يرجع لأصله، لكنه كان الوحيد بينهم الذي كان على يقين أن زملاءه يدارون فشلاً داخلياً وهم يطلقون تلك الأوصاف على مقاومين اخترقوهم بعربتين سريعتين يستقلهما من هم على درجة من الجرأة والإقدام، لم يبالوا بها في أمرين الأول أنهم كانوا لا يبالون بحياتهم لو تعطلت عجلتيهما وأُمْسِك كل من بداخلهما، والثاني أنهم كانوا يقودون بسرعة وسط صحراء مليئة بملاجئ تحت الأرض، ذات سقوف هشة قد تنخسف بثقل كيس تراب لو وضع فوقه!.
وأعجبه فخر المتسللين، إن راودهم الشعور فيه، على اجتياز المسافة في اتجاه الحدود مع السعودية، تاركين جنود الوحدات خلفهم مبهورين فقط بسمك أثر دواليب عجلاتهم، التي بان أثرها خلفهم مفروشاً على رمل الصحراء، كأنه يأخذ نصف عرض سرفة الدبابة.
26- خط نقل الطلبة الجامعيين
عادة ما كانت في بداية الأمر تجمعهما الصدفة في السيارة التي تقلهما للكلية سوية، وهو يعرف أن ما شدَّ انتباهها له إيثاره على نفسه أن لا يتعبهن في الترجل من سيارة الخط ويعرضهن لمخاطر عبور الشارع للجهة الأخرى، ولهذا تراه غالباً ما يخف راكضاً لتلبية طلباتهن أثناء الطريق من البيت للكلية وبالعكس، فتلك البنت تريد عصيراً تفطر به، وأخرى تطلب أن يشتري لها قلماً لأنها نست قلمها في البيت، وثالثة ترغب أن يختار لها هدية على ذوقه، زاعمة أنها ستقدمها لصديقتها، وأغلب الظن كما يحدث نفسه أنها كانت تريدها لصديقها، وكم كانت تراه غيوراً وهو يهب نشيطا فرحاً ليلبي طلباتهن دون أن يتثاقل مرة.
وبتوالي الأيام أدمن أن يترجل قبلها ليساعدها بعبور الشارع المزدحم في ساعات الصباح الأولى، فقد كان الطلبة يترجلون من خطهم الذي يقلهم عبر الشارع العام المقابل لكليتهما وتلك عدّها لاحقاً خطوة جريئة، شجعت نار العلاقة بينهما أن تُشعل صحراء الحياء الأنثوي عندها، وكانت تمهيداً جميلاً لأن تطلب رقم هاتفه الأرضي، بحجة أن تبلغه إذا حصل لها طارئ، وأرادت أن تتغيب عن الدراسة ذلك اليوم.
وجاء اليوم الذي أصبح فيه وقت الخمس وأربعين دقيقة بين البيت والبوابة الرئيسة للكلية، تسرقه عجلات سيارة الخط سريعاً منهما، وما يحسا فيه، كأن عجلاتها تنهب الطريق وتبلع الوقت فيه، كما تفعل عجلات الدفع الرباعي لسيارات المقاومة الكويتية، وهي تسير طائرة على رمال الصحراء، خائفة أن يحرقها لهيب سناها إنْ خفَّضت سرعتها.
27 - خزين معركة أُحد
استحثَّهم النائب الضابط المسؤول على إنجاز العمل أمام ضابط الفصيل، وأصبح لهم منذ أن باشروا أعمال الحفر في ساعات الصباح الأولى، ولحين لحظتهم تلك، مثل شرطي يقف فوق رأس سجين محكوم بالأشغال الشاقة، وفيما كانت حبات العرق تتفصد على جبين نائب الضابط، راحت أملاح مذابة مع عرق سالت قطراته مخترقة الحاجبين، تحرق عيونهم وتجعلها حمراء قانية، وعاندت الرمال أن تجعل الحفرة يكفي حجمها لخزان مياه يسع ألف لتر، وعاضد تعامد الشمس مع سطح الأرض، وريح هوجاء تلتف مثل إعصار على الحفرة، مع رخاوة تربة رمال الصحراء، أن لا تنجز مجموعته عملها، قبل أن تتيبس الشفاه عطشاً وتفتر الهمم.
انتابه إحساس بالسأم من عمل المجموعة، وكان يحاول مغافلة الوقت لينصرم بسرعة، وهو يفكر بعقلية من اتخذ قرار طمر خزانات مملوءة بالمياه تحت الرمال، ولم يفكر بجرذ أو حتى فأرٍ ينفق داخلها ليجعلها غير صالحة لشرب الإنسان!، وخال أن من أصدر القرار قد فكر بمصيبة المسلمين يوم حالت قريش بينهم وبين آبار المياه، وكأن أمر المعركة المستقبلية لا يستقيم تخطيطها، ولن ينتصروا فيه إن لم يوفروا مياهاً ينشروها في طول الصحراء وعرضها، وتعجب كيف لم تفكر سذاجة التخطيط العسكري أن سيف معركة أحد، تحول لطائرة شبح تنقض قاصفة هدفها قبل أن يُسمع صوتها!.
28 – الحرز
رمت حقيبة يدها تحت ظل شجرة صغيرة وتهالكت قربه تقول:
- خلاص ..
رفع رأسه مشدوهاً وهو يحاول أن لا تفارق شفتيه الابتسامة ليساعدها على فضفضة ما بداخلها دون حرج منه.
قال مستفسراً:
- خلاص...نعم، ثم ماذا؟.
فنشجت باكية وهي تقول:
- أمس بعد أن عدت من الكلية، كشفت لي أمي، أن أخي سيكلف أحداً بمراقبتي طيلة اليوم، وإن لم ينفع هذا الإجراء، سيخبر والدي بالأمر.
تريث بالرد حتى تستعيد أنفاسها وتنتهي نوبة بكائها، ونهض سريعاً ليرجع بقدح ماء استعاره من كافتريا الكلية، ودعاها أن تشرب قليلاً منه وتغسل وجهها بالمتبقي منه ثم أضاف قائلاً بروية:
- أخبرت والدي بالأمر وضعي في حسابك إن ذلك منتهياً خلال ثلاثة أيام..ستتقاطر الناس على باب داركم...سأتقدم لخطبتك.
كان يتهيأ له أن هذا الخبر سيفرحها، ويوقف بكاءها، لكنها نشجت ثانية وهزت رأسها وهي تعصره بكلتا يديها:
- لن يوافقوا..وقد يحجروني في البيت، ولن تعد تراني ثانية.
فرد بيأس:
- لِمَ؟.
قالت:
- لأنهم ببساطة يرون أن علو شأن عائلتي أكبر من أن يناسبوا عائلة مثل عائلتك...يقولون أن أصلابكم ليس فيها عرق مشيخة.
رد محمر الوجنتين قبل أن ينهض متوجهاً للكافتريا ثانية:
- طيب.. انتظري.
غاب لدقائق وعاد حاملاً علبة صغيرة ملء الكف. قدمها لها قائلاً:
- افتحيها.
فتحتها وقالت متعجبة:
- ما هذا؟!.
مد يده للعلبة وأخرج خاتماً بفص زجاجي وقال:
- أنا أخطبك الآن ... هات أصبعك إنْ كنت موافقة ... هات أصبعك.
اتسعت الخضرة في عينيها، ورفت رموشها وجلة، وضمت أصابع يديها تقول:
- قلت لك من سنتين خلتا، إياك أن تمسك طرفا لي ... لا.
فقال شارحاً:
- اسمعي... كل الأحداث تشير إلى أن أهلك لن يقبلوا، ومع ذلك، فسأتقدم وأخطبك منهم، لكن هذا الخاتم أطلب منك الآن أن ألبسكِ إياه وبيدي، هو عهد مني أني لن أقترن بغيرك، مادام في صدري شهيق وزفير.
تملكتها الجرأة وردت:
- وأنا لن أكون لغيرك، مادام في عروقي دمٌ يجري، لن أكون لغيرك، إلّا إذا أجبروني وأركبوني سيارة عريسهم عنوة ... وقد أقتل نفسي قبل أن أفعلها.
فجاراها الحماسة قائلاً:
- هات أصبعك إذاً .. دعيني ألبسك الخاتم بنفسي.
أخرجت بنصر يدها اليمنى على استحياء مرتعشة وقالت بعناد:
- ادخل الخاتم بإصبعي دون أن تمسك يدي.
ألبسها الخاتم كما أرادت وضحك متسائلاً:
- لِمَ؟.
فخانها الوجد ورفت رموشها ولهوجت بتلعثم :
- دائما ما تسألني ذلك!... أتريد أن تعرف حقا؟.
تعلَّقت عيناه بعينيها كأنه يتوسل جوابها الذي أضناه الحصول عليه طيلة سنتين، وقبل أن تسمع رده أضافت تجيب بوَلهٍ على تساؤلها:
- لأني بكل بساطة، طلية السنتين الماضيتين، لا أتخيل نفسي بين يديك، إلّا مثل خيط شمعة يحرقه لهيبها.
رد منتشياً بقولها:
- الله، الله.
ثم أضاف ضارباً جبهته براحة يده:
- وأنا كنت أقول لنفسي: أيعقل أن تخاف مني كل هذا الخوف؟.
قالت وابتسامة ناعسة بانت على عينيها، قبل أن ترتسم على شفتيها:
- كيف تقول ذلك؟.. أنا بقربك لي القدرة أن أهدُّ جبلاً بإصبع من يدي.
ضمَّت أصبع الخاتم براحة يدها مثل أم تطمر حرزاً في صدر طفلها، ودواخلها تلهج بدعاء يحفظ فيه الباري فلذة كبدها من عين الحسّاد، ويردّ كيدهم في نحرهم.
29- الجرح
التقاها وقت الظهيرة في شاغر بين محاضرتين، توافق أن يتطابق موعده عندهما سوية، فقد كانا في كليتين مختلفتين، لكنهما كانا بالجامعة نفسها، وقد أقلقته العيون المتربصة بهما في الصباح، وأنسته أن يسألها عن جرح أصاب حاجبها الأيمن، وبدا واضحاً للعيان بحمرة قانية، اسْوَدَّ له جفن العين من تحت الحاجب.
انتحى بها في جانب بعيد خلف إحدى بنايات الجامعة، مستغلاً فراغ طرقات الجامعة من السائرين فيها بسبب حرارة الجو وقال:
- ما هذا الجرح ؟..احكي لي بالتفصيل أرجوك!...أعرف أنه حادث وقع بعد زيارة أمي لخطبتك...لكن كيف حدث؟!.
أسندت ظهرها لحائط البناية خلفها وراحت تقص عليه:
- (وقت العشاء توددت أمي لأبي بإشارات, تكاد لا تلحظها غير عين المعني بالتودد, وعين الأنثى الأخرى, ورد أبي بابتسامة مبتسرة, وحدج أمي بنظرة تقول (استحي يا امرأة )!، لكنها سرعان ما تداركت الأمر قائلة بحضوري:
- جاءت اليوم امرأة تطلب يد ابنتك لابنها.
استعرت الهواجس في داخلي, بين سعادة جعلت لي جناحي فراشة أرفرف فيهما, وسط حقل منبسط , غير متناه يملأه عبق ورود اختلفت ألوانها, قبل أن يمتلأ صدري من رائحة عطرها, وبين هاجس خوف من نفق مظلم, أحسست أني أرمي بجسدي فيه, دون أن أعرف ما سيحدث, فانسحبت للمطبخ لكني سمعت والدي يسألها عن عشيرة عائلتك، وأسمك وأسم أبيك وجدك، وكنت حينها مضطربة وحرت داخل المطبخ بالذي سأفعله, وكانت أقرب الأشياء ليديَّ صف مواعين, غسلت ورصفت بانتظام, فسحبتها ورحت أعيد غسلها ثانية !.
قد تغيب الشمس في وضح النهار, ومَنْ تعوَّد وهج إنارتها ظهراً, يعشو بصره لو دخل غرفة أسدلت ستائرها, وتغدو فيها الأشياء باهتة المعالم, والأجواء من حولها مظلمة, وإن كانت صارخة ألوانها، وقد كان الماعون الذي أغسل فيه مثل فراشة ألاعبها بين أصابعي, ومياه الحنفية كأنها قطعة أنبوب بلاستيكي, تسرب غزارة مطر يهْطِلُ على سطح الدار, وقطراته التي تتساقط على صدرية المطبخ التي ألبسها, كأنها خرير شلال يرش علي, وحينها لاحت في مخيلتي صورة أبدو فيها وأنا لا زلت ابنة الخامسة من عمري, أنثر الماء على من يسبحون حولي, تحت شلال المصيف الذي سافرنا ذات صيف له، في بلاد ما عدت أذكر أسمها، لكني أذكر غيومها تحت جنح الطائرة التي سافرنا بها.
انتشلني من أحلام يقظتي صوت كرسي يقع, ورنين ملعقة على بلاط غرفة الضيوف, وأتاني صوت أبي حازماً, ينهر أمي ويحذرها:
- لا تعيدي هذه السيرة ثانية على مسمعي، فابنة الشيوخ لا تصلح أن تكون زوجة إلّا لابن شيخ...أفهمتِ؟
دارت الأشياء من حولي في المطبخ , وتطاولت صورها, ثم غطت أكبرها على أصغرها, وشحبت ألوانها, وأصابني لوهلة عمى الألوان, فبدا كل ما أراه بلون رمادي كالح, ومادت الأرض تحت قدمي, فترنحت وانحنى جسمي جانباً, وأحسست أن سُلَّما كهربائيا يصعد بي لطابق أعلى بعمارة شاهقة, وراودني انخساف الروح عند المسافر جواً, إذا أقلعت فيه الطائرة التي يركبها لأول مرة في حياته, ومادت الأرض ثانية فارتعش جسمي, وارتجَّ ظهري على صلابة تحته, وقبل أن تغيب الرؤية عني أحسست بلزوجة تنزل على حاجبي الأيمن, وغدوت بعدها كأني وسط جزيرة بمساحة مطبخ بيتنا, وفيها صخورٌ تغطيها طحالب متيبسة خضراء, كنت أجلس على إحداها, ومن حولي ماءٌ صاف, وأقدامي حافية تتدلى فيه, ويهب نسيمٌ باردٌ تتمايل له زهورٌ بألوان متعددة, تخرج من بين صخور الجزيرة، ثم صحوت بعد وقت لا أدري مقداره على هذا الجرح فوق حاجب عيني اليمنى، كما تراه).
30- علب الكبريت
تأخرت سيارة الأرزاق، التي عادة ما تأتي وقت صلاة الظهر، لتوزع حصص طعام أصبحت تقل يوماً بعد آخر، وبنوعية رديئة، لاسيما أن ضبّاط الوحدة باتوا يستولون على الجيد منها وبكميات تفوق ما يستهلكونه ليوم واحد، وشاهد كثير من الجنود أن ما يزود عن حاجة الضبّاط يرمى على المزابل تالفاً بعد يوم من استلامه، ودفع الجوع بعض الجنود أن يتسللوا ليلاً للنبش فيها عن الصالح من الصمون وبعض الأطعمة الطازجة.
خَوَت البطونُ وكسلت حركة من هدّه الجوع كثيراً، فتوقف ترقُّب سيارة الأرزاق، وأحس الضبّاط بالخوف على خزينهم، فخرجوا من ملاجئهم يتبخترون بمسدساتهم لإخافة من يحاول من الجنود التمرد والهجوم على مطبخهم، متناسين قوة الجوع إنْ تَجبَّرتْ وصرخت في بطون الجياع، قد تتحول لألف فوهة نارية تشهر بوجه من يكتنز خزين الأطعمة ويتنعم فيها!.
وقريبا من زوال قرص الشمس نحو غروبها، سمعوا صرير حديد لعجلة تسير على شارع فرعي قريب لموقع وحدتهم، ولكثرة المفاجآت بين تفجير وقع على أحد الوحدات داخل مدينة الأحمدي، يهمس به الملتحقون، أو إحراق عجلة عسكرية مركونة في أحد شوارع مدينة الكويت العاصمة قام به أحد الشبان ولاذ فاراً، تكاسل جنود الوحدة عن القفز خارجين من ملاجئهم كما كانوا يفعلون مع كل مفاجأة يأتيهم فيها قادم من الخلف، وركنوا للسكينة ضاغطين على بطونهم الخاوية، لكن صفارة يمتلكها رئيس عرفاء الوحدة نغمت فيها أنفاسه ،مع صوت رخيم تعودوا أن يسمعوه منه دوما وقت توزيع الأرزاق جعل شبح أمل الشبع يترقرق راقصاً أمام أعينهم، ويعطيهم دفعة قوة خارقة أخرجتهم لوليمة ستوزع عليهم ويعرفون أنها لا تتعدى المرقة الفارغة، إلّا من بعض قطع بصل تطفو فوق سائلها، وصمونة لكل نفر منهم، غير أن تأخرها عن موعد الغداء ومجيئها لهم مع مغيب الشمس جعلهم يعدّونها وجبة دسمة، ما صنعت مدبرة منزل، حتى في بيوت أهاليهم، مثلها أبداً !.
لكن ما أفسد التلذذ بتلك الوليمة كان خبر أن سيارة الأرزاق أُعطِبَتْ دواليب عجلاتها، بسبب ألغام صغيرة بحجم علب الكبريت، نثرتها طائرات التحالف الدولي خلال الليلة الفائتة على طرقات المدن الخارجية، لتعويق حركة الآليات العسكرية للجيش، وأن الأرزاق تبعاً لذلك ستوزع كل يوم في هذا التوقيت، وحثّ الخبر في نهايته الجنود على محاولة الاقتصاد بالصمونة، وتوفير قسم منها لنهار اليوم التالي.
31- التوجس
خبّأت لهما الأيام عيوناً تتلصص عليهما في الكلية، وشوشر الشك في علاقتها بزميلاتها، فتجنبت الاختلاط كثيراً بهن، حاسبة أن الابتعاد سيجعلها بمأمن عمّن تحيك الوشاية ضدها، واختفت البنت الواشية من الطرقات التي يمران فيها، لكن الهاجس في الإحساس أنها تشمّ أخبارهما وتتبعها ظل ملازماً لهما.
كان الرفض القاطع ردة فعل والدها على وفد الخاطبين لها، وانعكس عليها بثورة منه اتهمها أنها خانت ثقته التي منحها لها، وتعجب أن تلجأ ابنته الوحيدة لتنكيس رأسه أمام العشيرة متحيِّراً من زمن تختار فيه البنت زوجها!، وأمّا والدتها فقد ترجمت ثورة زوجها بتقتير مصروفها الدراسي عليها، مكتفية بإعطائها أجرة النقل من وإلى البيت، وحجبت عنها باقي مصروفها الخاص وكأن لسان حالها يقول:
- ابتعدي عنه وسأرجع مصروفك.
وتكفّل هو بمصروفاتها كلها، وكان الاثنان على قناعة أن أهلها يعلمون به وهو يتحمل مصروفها، فقد تبرع له شخص من معارفه وأوصل رسالة منه لوالدها بمفاد مبالغ فيه يقول:
- اقبلوا الخطبة والولد مستعد لأن يزفها بثوبها الذي تلسبه، وهو يتعهد أن يصوغها ذهباً من رأسها حتى أخمص قدميها.
وكان صادقاً في ما قال، فقد وعدته أمه أن تبيع ما تملك لأجل إسعاده، أما والده فصرح أنه مستعد لإغلاق محل الكماليات الذي يديره ويخصص كل رأس ماله لإتمام زواجه منها، غير أن التباهي عند والدها بعرق الأسياد كان أكبر من إقناعه لهم، ومن يومها أحسا أن طرقات الكلية مزروعة بألغام العيون المتربصة فيهما على جانبي طرقاتها، مثل ما تنثره اليوم طائرات التحالف من ألغام تعويق بحجم علب الكبريت على طول حدود الكويت.
32- أعلاف خيول المراهنة
الأحمدي مدينة عائمة على حقل البرقان وهو أكبر حقل نفط في العالم، وفيها مقر شركة نفط الكويت، وإن كانت لندن تشتهر بضخامة مجارير صرفها الصحي، وباريس تشتهر ببرج إيفل، فإن الأحمدي كأي ميناء نفطي كبير تكاتفت خطوط نقل النفط تحتها، كأنها أياد عشيرة تتشابك مجتمعة لتحتضن أذرعها شيخها وتعزه، ليغدو ميناؤها البحري مرسى للسفن الكبيرة من شتى أنحاء المعمورة، وبسبب ارتفاع موقعها عن سطح البحر فقد غدت منتجعاً وسكناً لكبار الموظفين، والعمال الآسيويين العاملين في حقول نفطها، فأخذت نصيباً كاملاً من تواجد وحدات عسكرية كوِّمت فيها وحولها دون تنسيق، وغدا الجوع يعصر الجنود فيها قبل سكانها، وأصبحت أسواقها فارغة من المواد، وسرى همس بين الجنود أن أصحاب الأسواق راحوا يفرغون محتويات محلاتها ويوزعوها على سكان المدينة، مثل باقي المدن الكويتية الأخرى.
وتحت ضغط الجوع وخوفاً من أن يتهم بمعارضته لرجوع الفرع للأصل بعد أن سأله الضابط:
- لما لا تشارك الجنود غزوهم؟
يومها تحجج بوجع في الرأس، وبأنه يسكن بيتاً بالإيجار، ويخاف إن أخذ مواداً وتعب في نقلها، أن سارقاً ما سيفرغ بيته منها، بعد أن يلتحق لوحدته ويتركها خلفه، لكنه اليوم حاول أن يبعد الشبهة عنه، والواقع كان غير ذلك، فهو في حقيقة الأمر كان من عائلة متوسطة الدخل، ودارهم مسجلة باسم والده، وأمه حية ترزق، لا تني تذكره دوماً أن العمر سيمتد فيها إلى اليوم الذي تزفُّ له فيه عروسه، وكان كثيراً ما يمازحها إنْ كانت ستعيش لترى ذريته وتربيهم في حجرها، أم إن درب العمر سيقتصر ليوم زفافه فحسب؟! وكانت تلك لحظات سعادتها التي تضحك فيها ملأ شدقيها وهي تقول:
- لا ..يكفيني أن أراك متزوجاً، أما ذريتك فلتربوها أنت وزوجك بعزكما.
غير أنه أدعى وحدته وبيت الإيجار ليرسخ في ذهن ذلك الضابط فكرة الكف عن متابعة سلوكه بين الغازين وحاجياتهم، وتملكته رغبة في أن يرافقهم لميناء الأحمدي عسى أن يجد شيئا يأكله ليسكت فيه الوحش الذي يمزق أحشاءه، وأحسّ أن الموت سيكون رفيق الغزوة هذه إن داست رجلاه دون أن ينتبه على لغم تعويق صغير، وخرج رأس المنية يضحك عليه هازئاً، وهو يقارن السلامة والأمان بين مغامرة الغزوة بحثاً عن أكل فيه احتمال الموت بلغم، وبين أن يبقى داخل الوحدة يكابد وحش الجوع وجبروته وهو موت بطعم آخر! وتراجعت القيم الأخلاقية أمام النزوع للبقاء حياً، ودعته رغبة الغاب الأولى لتلبيتها قبل أن يفكر بالاحتمالات الأخرى، وأحسّ عندها أن الحيوان داخله ينتصر على إرادته لأول مرة مذ وطئت قدماه أرض هذا البلد.
كانت المدينة تبدو له كأنها ضِياع مقسمة بين الوحدات، وظهرت قيم أخلاقية مستحدثة للسرقة والنهب، فما عاد من حق وحدة عسكرية أن تستبيح حدود افتراضية خاصة بوحدة عسكرية أخرى، وابتسم بمرارة وجزع على وحش الموت يكشر أنيابه في وجهه، فيما هو يبدو مبتسماً لمن قسم المدينة لضياع، وكأن لسان حاله يقول لهم:
- امرحوا كيفما شئتم، فمجال عملي بعيدٌ عما تصنعوه بأهل الديار.
لكن بوابة كبيرة كانت مشرعة أمام سيارة الغزوة لوحدته، غازلهم فيها عدم وجود من يحميها، جعلت الضابط يأمر سائق السيارة أن يلج عبرها، فانحرف السائق نحوها جانبياً وترجل الجنود قافزين من حوضها، ليفاجئهم ملعب لسباق الخيول والمراهنة عليها، وثمة أبواب على جانب المدرجات تفضي لإسطبلات خيول، راح بعضها يصهل قافزاً نحو الزوايا، كأنها خيول برية شمَّت أنوفها خطر حيوانات مفترسة، جعلتها مذعورة تصهل طالبة نجدة أصحابها.
وفي عمق فضاء الإسطبل كانت هناك غرفة كُتِبَ على جدارها (الأعلاف)، بان من بابها الموارب بضعة براميل مرصوفة جنب بعضها بانتظام، جذبته إليها كلمة( أعلاف / تمور) خطت بفرشاة عريضة على جانب كل برميل منها، فاستيقظ الجوع صائحاً داخله كأنه عواء ذئب لاحت الشاة قريبة منه ويريد أن يطوع جفلتها، لتستكين خائفة ذليلة له.
دخل غرفة الأعلاف وتعبأ منخريه برائحة التمر، لكن جذع نخلة دار أهله امتدَّ سامقاً يفرش ظله على الباحة، وخشخش سعفها يحتك ببعضه، ورجفت الأعذاق بفعل الريح، فتساقط الرطب مائعاً يلتصق ببلاطات الباحة، وغبار خفيف يغطي قشرته، فيما ظهر ما تحت القشر من بين ما تشقق منه، أحمر فيه خيط صفار يُسَيِّلهُ مثل الدبس على جانبيها.
سال خيط لعاب من فمه فزم له شفتيه، وعالج بيديه غطاء البرميل ليفتحه سريعاً، ثم فرد أصابع يده متهيئاً لمسك قبضة من داخل البرميل، لكنها غاصت بلزوجة ليخرجها بقبضة تمر معجون على بعضه.
أخذ منه لقمة ملء فمه، فأحس بحموضة فيها تخمر اشمأَزَّ منها بعد أن استقرت اللقمة كاملة في جوفه، لكنه لمّا تلمَّظ ماصاً شفتيه أحس بقرقرة داخل بطنه، أسكتها بلقمة أخرى، فانتابه شعور بالغثيان ودمعت عيناه، غير أن الخواء في داخله جعله يكابد الرغبة في التقيؤ، واستمر يدفع لقم التمر المعجون دون أن يزدردها، متخيلاً وحش الجوع يستكين جالساً أمامه كأنه حمل وديع.
33- ألم آخر
التيه هو أن تضيع وسط الدوامة، فإن حاصرك الظن بين الضياع والنجاة فستترك لجسدك أن يسترخي في التيه، ولا تفكر في كوة الأمل أبداً، وهذا الشعور هو ما كان يعتلج في داخله، بعد غزوة ملعب المراهنة على الخيول بمدينة الأحمدي، ولحظتها وهو يطلب من زميل له أن يعينه على رفع برميل التمر لحوض السيارة، وسط سخرية كل من يراه، كان يراوده الشعور بالحيوانية، يقابله وحش الجوع وهو يحاول كسر إرادته، فقد كان باستطاعته أن يسلب حاجة ثمينة من أحد البيوت ويبيعها لمن سيرغب فيها من رفاقه، ثم يرشو بثمنها أحد مراسلي الضبّاط، وهو يعرف أن من باستطاعته في هذا الزمن أن يخدم من هو أقل منه في التحصيل الدراسي، وذلك ما كان يفعله المراسلون في الجيش، لا لشيء إلّا ليعفوهم من مسك الواجب في الليل، ومن التكليف بأشغال السخرة في أعمال البناء والشغل مع بقية الجنود، إنَّ مثل هؤلاء لقادرون أن يقبلوا الرشوة، ويسرقوا له جزءاً من أكلِ الضبّاط يخرس فيه وحش الجوع بأحشائه!، لكنه استساغ أكل أعلاف الخيول، بعد أن عاش دوامة عصرت كل ما تعلمه من اخلاقيات، وشخص له شبحٌ لا يني يخرج له من داخله كلما حاول أن يجاري البقية فعلهم، ولم يكن في عوز لعلم المنطق حتى يفهم حقيقة صراعه الداخلي بين الجوع وأغراء الأموال المنثورة قربه دون حارس، وأن ما يشخص له من شبح يحاسبه دوما، هو الضمير، وفي بعض اللحظات كانت تجتاحه رغبة لأن يتمثل له هذا الشبح بجسد مادي، لينقض عليه ويميته، قبل أن يمنحه الفرصة ليقضي عليه، وفي النهاية ركن لتعليل أن الوازع الإنساني داخله يمنعه سلب حاجيات الناس المقهورة بما جرى لها، فراح يأكل أعلاف الخيول بتقزز، وزاد انسياقه مع دوامته: أن طلب من زميله ذاك أن يعينه على رفع برميل كامل لحوض السيارة، وفيه تصميم أهوج أنه سيغط رأسه بجوفه، كلما استيقظ داخله وحش الجوع الكاسر.
34- الإبل وسورة الكوثر
تناخى الجنود فيما بينهم متخيلين وجبة دسمة، تبشرهم فيها مجموعة إبل سارَتْ ضالَّةً في الأَرْضِ دون راع لها، وتخلف أحدها وراء القطيع وفيه عرج برجله، بينما تهادت البقية تهز رقابها متناغمة مع حركة قوائمها الأربعة، كأنها بمدّها لرقابها تدفع قائمتيها للأمام، وحين تطويها كأنها تنقل قائمتيها الأخرتين وترجع ما قبلهما، وأختلف الجنود بينهم على طريقة إناخة أحدها وجعله يبرك على الأرض، فاقترح أحدهم أن يرمي انشوطة حول عنق البطيء منها، ثم يهب بقية زملائه لمسك الحبل معه وإرغام البعير على البروك، لكن الضابط اقترح أن تكسر قوائمها رميا بالرصاص، فألقمت أكثر من بندقية رصاصها، وأَفْزَعَ صوت سحب أقسامها مجموعة الإبل فلوَتْ أعناقها ثم أناختها باستقامة مع الأرض، وولت هاربة عرض الصحراء، لكن البعير الذي فيه العرج خانته قوائمه أن يلحق بالبقية، وتعثرت ركبه في بعضها ثم سقط على الأرض يخور بصوته، وثمة رغاء أبيض سال بخيوط من بين شفتيه، وطوقته حلقة البنادق من كل جانب مرتفعة ماسوراتها إلى الأعلى، بعد أن تيقن أصحابها من استسلامه لوجع قائمته المكسورة.
اخرج أحدهم سكيناً راح يلمع بريقها على أشعة الشمس، فاستوقفه زميل له صائحاً:
- مهلا...أتعرف كيف يُذبح البعير؟.
قطب صاحبه جبينه متعجباً واكتفى بابتسامة بلهاء، فقال المعترض بتباهي:
- البعير يذبح مرتين.
أدار رأسه على من حوله كأنه يختبر أن كان أحدهم يعرف ما سيدلي فيه وقال:
- مرة من عند الحلقوم ومرة من عند الصدر وفي الأولى تُقرأ سورة الحمد وفي الثانية تُقرأ سورة الكوثر.
فانبرى واحدٌ من بين الجنود صائحاً :
- ما هذا التخريف؟
التفت الوجوه ناحيته فأكمل قائلاً:
- أولا البعير لا يذبح بل ينحر، ونحره يتم بإدخال السكين في لُبَّتهِ، واللُبَّةُ هي الموضع المنخفض في رقبة البعير، وهو الموقع في أعلى الصدر متصلاً في العنق، ولا يُذكر عند نحره غير (باسم الله)أو(الله اكبر)أو (الحمد لله)، فمن حكى لكَ بدعة النحر مرتين؟.
انقسم الجنود بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك، لكن ضخامة حجم البعير ومعاندته أن لا يُطرح على جنبه، جعلتهم ينحروه من لبته وهو بارك على ركبه.
35- الشبع
فار القِدْرُ وتكثف البخار فيه داخل المطبخ، ومع كل رشفة من حساء لحم البعير، تكثف الإحساس بدفء المنزل داخله، وارتفعت صينية الأكل على راحة يد أمه تدعوه لتذوق لقمة من هذا الطبق ولقمة من ذاك الطبق، ومع صمت الوحش داخله وركونه للسكينة نائماً، جره الخيال لذكراها، وانتابه شعور بالعجز عن استحضار شكلها، وشخصت له أنابيب بئر النفط أمامه حيث خرجت له من جهتها تلك الليلة، قبل أن يفزعه وصول الضابط الخفر، وتهرب منه، فشخصت عيناه على فتحة البئر يراقب سراباً تهيأ له كأنه يخبئ شكلها خلف الأنابيب المعقوفة، وبدت له في عتمة الغسق الذي راح يأفل بالشمس لغروبها، كأنها تتخفى مرة تحت هذا الأنبوب، ومرة ينتابها الهلع فتقفز لذاك الأنبوب في محاولة منها ليُغطّيها ظله منهم، وحك فروة رأسه شائحاً بنظره على جهتها، مثل من يريد أن يجد حجة يفرق فيها رفاقه الذين اجتمعوا على وليمة البعير، هذا ينهش اللحم في عظمة، وذاك يقلِّب شريحة يتصاعد بخارها بين يديه وتكوي راحتيه، وثالث يحاول أن يفتت الشحوم ويقشطها عن قطعة أخرى بسكين في يمناه، فيما إلتمَّت مجموعة منهم على جمرات خابية تحاول أن تشوي أسياخ لحم عليها!.
سربل الظلام بأجنحته يلف المكان حوله، كأنه خيمة أُسْدِلت أطرافها ورصفت أحجار حول محيطها، خوفاً من أن تطيرها ريح المساء وتكشف ما خلفها، وأضمر نية أن يترقبها الليلة، وقد يفتش البئر عسى أن يتيقن من شكوكه، وتتجسد حقيقة أنها موجودة بلحمها وشحمها، لكن السخرية من أفكاره سرعان ما أطلت برأسها تهزأ من تخيلاته، وتبذر شكّ الهبل داخله.
36- السماء تمطر أوراقا بيضاء
سكنت ريح تلك الليلة وعم الهدوء مساحة واسعة حوله، فخرجت زواحف صحراوية يسمع دبيبها وصرير غنائها لبعضها دون أن تُرى أجسامها الصغيرة، فلمْلمَ رجليه وقرفص يحدق في ظلمة الأفق العريض أمامه، وتهادى من بعيد صوت طائرة مُسيَّرة مرت مسرعة من فوقه عالياً، اشتعلت لها سماء المنطقة ببريق المضادات الأرضية، بعضها ترمي عتادها عكس اتجاهها، وبعضها لا تبرق فوهاتها إلّا بعد أن تخلفها وراءها، فيبدو له تصويب عتادها كأنه قذف حجارة بيد طفل عاركه صبيٌ أكبر منه وسار مبتعداً عنه، لا يلتفت للغيظ الذي خلفه عند الصبي الصغير، ثم عم الهدوء ثانية لتغفو المنطقة حوله على ترقب حذر، مثل ترقب قاتل ينتظر من سيثأر منه كل لحظة، ويراه يتجسد له خلف حركة ستائر الغرفة التي تطيرها الريح خارج الشرفة. وعلى بزوغ قليل من قرص القمر تلوَّت أوراق بحجم الكف ملتفة على محورها، راحت تتساقط حوله لتستقر متعاقبة على الرمال، كأنها كمأ الصحراء راح يفقّع سريعاً.
أخذتهُ خشية جعلته يتلفَّت على جانبيه خائفاً، فارتقى بناظريه إلى الأعلى وشاهد مبهوراً كيف أن السماء تمطر أوراقاً بيض!، ومع كل لحظة تمر كانت كثافة الأوراق ترتفع متكومة على الأرض، ومع بزوغ صباح اليوم التالي عرف مع جنود الوحدة إن طائرات التحالف نثرت من السماء آلاف الأطنان من المناشير، تدعو جنود القوات المسلحة العراقية لترك مواقعهم والرجوع لأهلهم إن أرادوا أن يسلموا من الموت، وظهرت بعض المناشير المصورة تهزأ ساخرة من القائد العام للقوات المسلحة العراقية، وبدا الرجل في الصورة الكاركتيرية مفزوعاً، يرفع يديه مستسلماً لكافة صنوف أسلحة التحالف الدولي، تطوقه وحيداً من كل جانب له!. فيما أرشد منشور آخر كل الجنود وضبّاطهم على طريقة الاستسلام الصحيحة عند بدء الهجوم البري، وطالبهم مصمموه أن يحتفظوا بهذا المنشور، ومن يُأسَر منهم ولا يكون محتفظاً بنسخة المنشور سيعامل كأنه مجرم حرب، وسيعدم على أثر ذلك، ورغم أنه كان يعرف هذه الطريقة في الحرب النفسية، وكيف يراد منها تطويع الآخر، وقيادته لتقبل الإرشادات الأخرى بسهوله ودون اعتراض، إلّا أنه طوى نسخة من المنشور بكيس نايلون، وفتق لها فتحة في نهاية بنطاله العسكري عند خاصرته، وطمرها بين الطيّات ثم خاط الفتق بخيط وإبرة يدوية، قبل أن تصدر أوامر استخباراتية عراقية تتوعد الجنود بالإعدام، إن مُسِكَ أي فردٍ يحتفظ بنسخة من هذا المنشور!.
37- منتصف الليل
منذ أن تهيأ له رؤيتها تخرج من جهة البئر، راحت تنتابه تخيلات غريبة لا يعرف كيف تبدأ نقاطها الأولى تتجمع داخل خلايا دماغه، لتنبجس شكلاً مجسماً لها، لكن اتساقها هذه الليلة مع سقوط المناشير من السماء، رسَّخ لديه يقيناً واقعياً أن التخيلات تلك لم تأت من فراغ، فراح يربط كل تخيل لحضور شكلها قربه، مع تجسيد يماثله لما يجري لأهل هذه البلاد، وكانت جذوة التحليل العقلي هذا قد بزغت عنده عندما شاهد مجموعة مناشير تلتمّ على بعضها، قبالة توهج شعاع قرص القمر ويخرج من التشكيل مجموعة أوراق كأنها اذرع لجسم بشري راح مع ضوء القمر المنعكس عليه، يزيح تخيلاته إلى لون بشرتها البيضاء، وأصبحت مجموعة المناشير تأخذ شكل عصابة رأسها وتتدوَّر مثل تدوُّر وجهها، وأخذ منشوران، يسقطان إلى الأسفل، شكلاً طولياً مثل رقبتها، والتوى اثنان من المناشير ليأخذا تكويرتي كتفيها، وفي لحظتها اكتسحته رعشة فرح، وصدق قاطعاً أنها تهبط نازلة إليه من كبد السماء فوقه، فأخذته الرجفة وأحسّ بجسمه يتعرَّق، كأنه يلاقيها حقيقة، وبدت له تلك الثواني كأنها بداية أول لقاء بها، لكن الثواني امتدَّت كأنها دهراً، ومع تساقط مزيداً من الأوراق حوله انسحب بذاكرته للهاتف الأرضي، يرن في البيت بعد منتصف الليل.
رفع السماعة دون أن يعرف الطرف الآخر:
- ألو ..
صمت الصوت في الطرف الآخر فأعاد القول مكرراً له مرتين:
- ألو..ألو..
خشخشت سماعة الطرف الآخر فأبعد سماعته عن أذنه ، ولما أرجعها تهادى له صوت أنثوي رفيع يقول:
- مرحبا.
تشربت ذاكرته الصوت وعتَّقته، والتقى كل حرف فيه بسلم موسيقى يختلف عن السلم الموسيقي للحرف الآخر، فلفَّه الحنين لأروقة الكلية، ولاعب النسيم الأزهار في حدائقها، لكن صوتها أرجعه قرب الهاتف ثانية، فسحب الكرسي القريب منه وجلس منصتاً لها تضيف:
- ألا يستحق سلامي لترد عليه؟.
أخجله العتب فقال متلعثماً:
- بالعكس، لكن..أ..لكن توقيت الاتصال فاجأني!.
كان يحس جرأتها أكثر مباغتة من تلعثمه محرجاً:
- راودني تساؤل عن اهتمامك بي، وتذكرت رقم هاتفك الأرضي الذي طلبته منك...ف..هكذا ..اتصلت.
ودون أن يدري ما يقول همس لها:
- إذا أردتي الصدق ..فأنا...أنا في البداية كنت أتصرف على سجيتي..لكني منذ أسبوع ..أصبحت عيناي رغما عني تبحثان عنك في كل الاتجاهات إنْ تخلَّف أحدنا عن ركوب الحافلة ذاتها...ربما....
وصمت واجماً، فرن صوتها مشجعاً:
- وبعد...ثم ما هذا ال (ربما) التي توقفت عندها.
قال باختصار:
- ما رأيك لو تركت شرحها ليوم غد...في الكلية، نلتقي ونتكلم.
قالت بإصرارٍ:
- وما الفرق..في الكلية ستشرحها وسأسمعك، وأنا الآن أستمع لك...قل.
صمت قليلاً ثم خفض صوته قائلاً:
- ربما ...بدأت أحبك.
فساد الصمت بينهما لدقائق، أحسّ فيها كأن سكوتها جبالٌ تثقل كاهله، فانتابته رجفة جعلت أطرافه تكاد لا تحمل ثقل جسمه، وأضاف متصنعاً كياسة فيها مجاملة:
- أنا اعتذر إنْ كنت قد تجاوزت الحدود معك...
قاطعته :
- لا تعتذر...ابق كما أنت.
وقبل أن يشعر بدبيب يسري في مسامات جسمه، تصاحبه حكة، جعلته يطيح بما يلبسه جانباً ويبقى عارياً، إلّا من ملابسه الداخلية، سمعها تغلق سماعة الهاتف، ويلف أرجاء البيت صمت مطبق.
38- رعونة
بعد أشهر طوال فُتِحَتْ إجازات الجنود، واستطعت أن أحصل على اثنتين وسبعين ساعة، وكان لي همّان أثناء تمتعي بإجازتي، الأول كيف أشبع من أكل البيت، وأشم ريح عصابة أمي وقميص أبي؟، والثاني كيف أتلقَّطّ أخبارك؟.
كنت خلال الساعات التي فضلت لي من إجازتي أمرُّ أمام بيتكم في الساعة الواحدة منها عشرات المرات، عسى أن أراك وأعطيك بعض أوراق هلوستي في هذه الصحراء، وما كنت أفكر بالذي سيجري لي لو مسكني أحد الرفاق الحزبيين ودقق في ما كتبته لك!. فمفكرة التدوين في لحظات الجنون لا تحسب لكوارث أفعالها حساباً.
طلبت سيارة صديقي ورحت أجوب كل الشوارع المؤدية لبيتكم، ومع كل عباءة تلفّ جسداً أنثوياً يتقرَّب، أو يخيل لي أنه في طريقه لداركم، كان القلب عندي يتحول من عضلة لحم ترتخي وتنقبض لا إرادياً، أو هو يصبح حقيقة، إيقاع عند طبال ماهر، وليتك كنت تستمعين له كيف كان ينغم كل سُلَّمات الضرب عليها!، فقد كان مرة يخفق فوقها ضرباً شرقياً، وأخرى يناغي دبكة عراقية تغني لعيون الحبيبة والبعد عنها، وثالثة يتحول لطبال أفريقي يحاكي أرواحاً شريرة تريد أن تسلبه عزيزاً، ورابعة يريد أن يخرج من الأحشاء ليرقص فرحاً!، أما إذا مرت النسوة المتلفعات بعباءاتهن دون أن يتوقفن على عتبة بيتكم، فقد كان اللحن يخبو ليعزف موسيقى جنائزية تسلب الروح معها.
لمّا يئست وخارت قواي وافترَّت همتي عن الفوز برؤيتك ذلك اليوم، ركنت لرعونة أردت فيها أن أتنكَّر بزي شحاذ وأطرق الباب!، وقبل أن أنفذ فعلتي تذكرت قولك لي يوماً أن فتح باب داركم لمن يطرقها، من اختصاص أخيك الصغير، فتريثت ونطَّ لي ساعتها تساؤل: ترى كيف سيكون شكلي لو فعلتها وطرقت الباب، وكان من سيفتحه ليس أخاك الصغير، بل شيخ العشيرة بجلالة قدره؟.
قريباً من مغيب الشمس، وكنت ساعتها قد وطنت نفسي أني سأترك لك وصية عند أهلي، يرسلونها لك عندما تتاح الفرصة لهم، تقول أني أحلُّك من عهدك الذي قطعتيه على نفسك، فقد وصلت لنتيجة أننا لن نكون لبعضنا أبداً، ومن الجرم عندي أن أتركك تضيعين عمرك على حلم لن يتحقق، فأنا أحسب جمال الوردة إنْ أعجبنا عطرها ليس بقطفها، لتذبل بين أيدينا بعد ساعات، بل أن نرويها كلما عطشت، حتى تبقى نظرة طيلة موسمها.
أدرت مقود السيارة وأنا أُودع شارع بيتكم لآخر مرة، وقبل أن يغيبني المنعطف في الشارع، فُتِحَتْ الباب وخرج منها طرف عباءة توقفت صاحبته، ربما تحكي مع من هو قربها خلف الباب، أو تكون قد توقفت لتنتظر مرافقاً سيخرج معها، ولحظتها حضر الطبال الشرقي والطبال الأفريقي، وراحا يعزفان سوية على عضلة قلبي، طبلة كهوف ما طبَّلتها حتى القبائل المتوحشة في غابات الأمازون، ووقف الطبال الجنائزي على القرب منهم، ينتظر خيبتي بمن سيطل من فتحة الباب، وقبل أن تواجهني صاحبة العباءة أصبحت الأشياء تدور فيَّ وأنا داخل السيارة، وحمدت الرب كثيراً، أني أجلس خلف المقود، ولم أكن واقفاً على قدمي، ثم على حين غرة أبرقت السماء وأرعدت، وخرجت أمك أولا تبعها جسم ملفوف بالعباءة له شكل جسمك، وراحا يتهاديان عليَّ وأنا أنحني شمالاً مرة وجنوباً مرة أخرى، لألمح وجه من تتخفّى وراء أمك دون أن تدري، وعند المنعطف وعلى بعد خطوات مني لمعت إبرة جرعة إدماني، فهللت الدنيا وتشكل قوس القزح يعلن مطراً ربيعياً، فيما لاذ الطبال الجنائزي هارباً، وتوحش الطبال الشرقي والطبال الأفريقي حتى كادا أن يمزقا طبلتيهما ضرباً.
لحظتها وأنت تمرين على بعد خطوات مني، دون أن ترفعي راسك كعادتك، وكنتِ ساعتها بذات الشموخ الذي تركته يجللك، في تلك اللحظة بالذات برق فص الخاتم بأصبعك كأنه لتوه يبرق بيدي وأنا البسه لك، فلطمت جبهتي نادماً أني فكرت بعتقك من العهد، لطمت جبهتي لأنك كنت لحظتها أشجع مني، وأكثر جرأة، وأصلب جأشاً وأنتِ لم تفكري بعتقي من عهدي الذي قطعته لك.
39- أبراج الحمام
راحت طائرات التحالف تحوم على كل آلية عسكرية تسير في الصحراء، حتى إنْ تَرجَّلَ منها جنودها وابتعدوا عنها كثيراً، قصفتها الطائرة المحوّمة فوقها، وفهم الجنود مع توالي الأيام أن قصف سياراتهم لا يستهدف موتهم، بقدر ما يستهدف تدمير الآلة العسكرية أياً كان نوعها، ومنعت الحركة في النهار إلّا في الحالات الضرورية القصوى، فازداد على أثرها الجوع شراسة بين الجنود، وانتهت الثروة الحيوانية الكويتية بسبب مئات الآلاف من الأفواه الجائعة ليل نهار، ومع مغيب الشمس زَمَّرَ النائب الضابط بصفارته ليتجمع أفراد الوحدة، ثم ما لبث أن أمرهم الضباط حَشْرَ أجسامهم الذابلة تعباً وجوعاً، في سيارتين حوضيتين متوجهين على مزرعة قريبة.
أُطْفِأ ما سمح به من إشارات ضوئية ضعيفة للسيارات، وأمرهم النائب الضابط للوحدة أن يترجلوا صامتين، ثم أشار لبرج حمام كأنه غرفة نوم تسع لأخشاب عريس جديد، وشوهد البرج مرتفعاً على قوائم حديدية عالية، وظهر بابه مفتوحاً على نصفه.
ارتقى جندي منهم سُلَّمات البرج سريعاً وفي يده مصباح إضاءة صغير، ظهر مشتعلاً من خلف شقوق البرج، بعد أن أوصد الجندي الباب خلفه، ورفرفت أجنحة طيور تخفق في المكان، متلاطمة على ضوء مصباح ما تعودت إضاءة ليلها فيه قبل هذا اليوم.
ووقف في الأسفل مع بقية الجنود يرقب دهشاً الغاية من غزوتهم هذه!، ومع مرور الوقت تباطأ خفق أجنحة الطيور داخل البرج، مع كل دقيقة تنصرم على الباب مغلقاً خلف الجندي وراءه، وراحت تتلاشى شيئاً فشيئا، ثم سكنت الحركة داخله إلّا من ارتجاج أضلع البرج بفعل حركة الجندي فوق أرضيته، وفُتِحَ الباب لتتناثر على الأرض قرب أحذية الجنود طيوراً مقطوعة الرؤوس بالعشرات، لا زال بأجسام بعضها رفيف في أجنحتها، وبدا منظر الجندي ملطخاً بدماء الطيور، على ضوء المصباح اليدوي المُطبِقُ عليه بين أسنانه، كأنه قصاب خرج لتوه من مسلخٍ ذَبحَ فيه حيوانات كثيرة.
وفيما كانت الأيدي تجر كيس (جنفاص) أبيض ملأ بطيور مذبوحة، فهم هو أن الغاية من الغزوة كانت توفير وجبة طعام لجنود الوحدة في نهار اليوم التالي.
40- المسلخ
رفرفت أجنحة الحمام وتناثر دمها، وراحت بعض رؤوسها المرمية قرب الأقدام، تفتح مناقيرها وتطبقها ببطء، مثل مشابك ربطة الغسيل تفتحها ربات البيوت وتطبقها ببطء وروية، حتى تمسك قطع غسيلها جيداً.
راقب الأجنحة ترف سريعاً، وأجسادها تنتفض ثائرة على مخالب الموت الذي أطبق عليها، ثم لا تبرح أن تستكين هادئة شيئاً فشيئا، فتراءت له جذوة سعادتهما كيف ابتدأت صاخبة، تحاول أن تطبق على عبق الحياة كله دفعة واحدة، ثم كيف تناثر خبرها مثل دم الحمام؟، لتخبو تحت الوشاية مثل إطباقة الموت على الأجساد المنتفضة لحمام الأبراج.
41- الراديو والفانيلا البيضاء
أدى التحية العسكرية بأدب جم للضابط المسؤول عنه، بعد أن استدعاه الأخير إليه، ووقف مستمعاً لما سيقوله:
- لف لي سجائر، فأنا كما تعرف لا أجيد صنعها..
وأضاف مستدركاً:
- تستطيع أن تلفُّها الآن ..على الأقل حتى لا تتعب بالذهاب والمجيء.
شجَّعته لهجة الضابط الاستعطافية من أجل أن يضمن استمرار لف السجائر له، فجلس على حافة السرير في ملجأ الضابط، وراح يكوم له سجائر اللف مبرومة بإتقان وشطارة، وراوده شعور باستغلال حاجة الضابط له فلمح له قائلاً:
- قبل مجيئي لكَ سيدي سمعت أن ضابط الاستخبارات أوعز بمنع ارتداء الجنود للملابس الداخلية البيضاء.
حدجه الضابط بنظرة متفحصة وقال:
- نعم ..هذا أمر صدر من الجهات العليا لمنع حالات الاستسلام، لا سمح الله إن حدثت، فهنالك خشية من تأثير العدو على معنويات الجنود..
أطرق الضابط قليلاً ثم أضاف بذكاء:
- وأنت طبعا لا يهمك أمر الملابس البيضاء..
قاطع الضابط قائلاً:
- نعم ..لا يهمني.
فشدّد الضابط على مخارج الحروف :
- ما يهمك هو الأمر الثاني..صح؟.
ترك لف السيجارة بين أصابعه دون أن يكمله، وتناثر فتات من تبغها على فراش الضابط ورفع رأسه يستفسر صامتاً، فقال الأخير مبتسماً بخبث:
- أعتقد أن ما يهمك هو منع الاحتفاظ بالراديو، وبما أن علاقتي بضابط الاستخبارات جيدة، فأنت تريد استثناءً من هذا المنع؟.
رد هادئاً بعد أن تأكد له أن الضابط كشف مواربته لفتح موضوع المنع من بدايته:
- لا يخفى عليك سيدي أن التواجد هنا يبدو مستحيلاً، دون أن نسمع ما يجري لأهلنا هناك.
قال الضابط مشيراً بيده نحوه:
- اطمئن أنت...سواء استمعت لأخبار الأهل أو أخبار العدو فأنت ستكون مستثنى من هذا المنع...لكن عليك أن تحاذر وأنت تفتح الراديو، وأرى أن فتحه في الليل سيكفيك لأن تلمّ بآخر الأخبار، مثلما نفعل نحن الضباط.
42- الاستثناء
تردد أخوها لأكثر من مرة على الكلية، وفي كل مرة كان يتحجج لها بحجة، فمرة يقول أن صديقاً له كلفه بسؤال شعبة التسجيل في الكلية عن شروط الدراسة المسائية فيها، ومرة يدعي أنه جاء ليقابل صديقاً يعرفه من الطلاب، وثالثة يقول إنَّ صديقاً آخر كلفه أن يسأل عن المستوى العلمي لأخته في الكلية، وبعد أن عجز عن إيجاد الحيلة لتردده على الكلية رد عليها غاضباً بسخرية:
- قيل لي إن الشيطان يتواجد بينكم، وجئت لأتشرف بمعرفته.
وحدجها بنظرة استهزاء مديراً لها ظهره قبل أن يتركها محرجة أمام من يعرفها من الزملاء والزميلات، وكان في كل مرة تشاهده في الكلية يحاول أن يكلم هذا الطالب ويكلم ذلك، وملامحه تفضحه وهو يرسل لها رسالة مفادها( أني أعرف كل من أكلمهم، وهم كلهم عيون ترصدك لي ).
لحظة أن سمح له الضابط بإبقاء الراديو لديه واستثناه من المنع، أحسّ كأن أخاها ما عاد يتردد على الكلية، وأن الفسحة رجعت لهما ليلتقيا ثانية.
43- هروب بعد العشاء
أُسْقِطَ الأمر في أيدي ضباط الوحدة وتغاضوا عما يسمعوه، أو هم وصلوا لنتيجة مفادها أن التغاضي عنه قد يولد نتيجة تجبر من في يده القرار أن يتخذ أمر الانسحاب، قبل أن تحل النكبة وتنتشر فضيحة الهزيمة، والعقلية العسكرية كما فكر فيها باستطاعتها تحمل أشد الظروف صعوبة، لكنها غير قادرة على تحمل أمر الهزيمة وجر أذيال الخيبة والخسران مهما كان حجم خصمها، ولأنها في هذه الحالة تعرف مقدماً حجم التحدي وتعرف نتيجة الجولة ،ولمن سيحسم أمرها سلفاً، وبعد أن شبعت قياداتها الفعلية للحركات مما وصل بيوتهم من السيارات المحملة بكل ما يرغبون فيه، أطل رأس رغبة التمتع فيما بات مكنوزاً في خزائنهم، وحالة الانهزام بجيش مكسور بعد جولة خاسرة مع خصم يفوقهم عدة وعدداً، ثم تفوق عسكري للخصم في المجال الجوي يستطيع فيه أن يرصد الحركة ليل نهار، مقابل هيمنة منهم على عديد جنود بقوة الترهيب، وعصا تبختر يمسكوها تحت أبطهم أورثتهم تسيّداً على رقاب آلاف الشباب لسنين طوال، وجعلت تقديسهم أمراً مفروغاً منه، ستترك مثل هذه الحسابات غصة في دواخلهم على ضياع عزها والتنعم بفخرها، وإن خرجوا سالمين لكن بطريقة مهزومة، ولهذا كانوا يحاولون أن يغضوا الطرف أو يتعاملوا مع ما يسمعوه وكأن الكلام لم يصل لطبلات آذانهم، أو هو لم يحكِ أصلاً أمامهم!.
بعد مغيب الشمس تجرأ جندي وصاح بملءِ الفم:
- بصرة ... بصرة.
فغازله شخص في نهاية محيط الوحدة صائحاً مثله، وردت مجموعة من وسطها قائلة:
- احجز ثلاثة مقاعد.
اشتكى صوت في الظلام:
- متنا من الجوع.
وران صمت مطبق على ملاجئ الضباط ، وكأن أصوات الجنود المحرِّضة على الهروب العلني لا تنتمي للوحدة العسكرية التي تأتمر بأمرهم.
44- ظلمة الدرب
كان يراقب الهروب، وفيه حسرة أن لا يكون معهم، وهو يفكر بشيبة والده وكبر أمه، وكيف سيهانان؟، وربما يسحل والده من تلك الشيبة بين كل يوم وآخر بحثاً عن الأصبع المعوج في يده، الذي هانت كرامة الماجدة له، وفضل سلامة روحه على عزتها، وفكر بما ستؤول له نتائج الحرب لو انتصرت فيه السلطة؟، وتساءل عن حجم مأساة الناس بأصل البلدين وفرعهما؟، وكم سيكون حجم السجن، وكيف سيكون شكله؟، وزحف التفكير فيه لشكل حراس السجن وعضلاتهم، وتخيل السياط بأيديهم تتلوى على ظهور الناس، مثل سياط النبلاء في عهد القنانة على عبيدهم كما قرأ عنها، وشغله رأي أهل هذه الأرض التي تستباح، وهل يعلمون بحجم السجن الكبير الذي يعيش فيه أهله، وأحسّ بمقدار خيبتهم وهم يصحون على زيف إعلام السلطة قبل أيام تدعي فيه أنها حامية العروبة وحارسة لبوابتها الشرقية، لكنه ما لبث أن ضحك من كل تساؤلاته، عندما تذكر تحذير ضابط الخفر بليلته المشؤومة، التي أضاع فيها أحلى طيف كان سيؤنس وحشته، لو أنه تلك الليلة فتش كل النقاط وتناسى أن يفتش نقطته، ليحذره من وصول أعداد الدول المتحالفة لثلاثين دولة، وملأته غصة مريرة من عقول تخطيط عسكري تحاول أن تدخل حرباً بسلاح الكلاشنكوف ضد أسلحة ثلاثين دولة تقودها دول نووية، يحسب لها المجتمع الدولي ألف حساب!.
لكن سؤالاً واحداً ظل عالقاً في باله دون أن يوفَّق بالإجابة عليه:
- كيف سيكون شكل مصير الناس في الأصل بعد نهاية الحرب، انتصرت السلطة أم خسرت؟
45- آبار النفط
أُمِرَ أفراد الوحدة بحفر ملاجئ تتسع لفرد واحد وتبعد ثلاثمائة متر عن كل بئر نفط تحت الخدمة أو هو جاهز للخدمة، وأصطحبه نائب ضابط الوحدة لملجئه الجديد بعد أن وقع مع غيره على أمر الإعدام، في حالة نشوب الحرب البرية وتخاذله، أو امتناعه عن تفجير البئر الذي خصص له.
وفي الليل دحْرج برميل الأعلاف من ملجئه القديم إلى ملجئه قرب البئر،وباشر يسوّى فراشه ويعدِّله في الداخل، ثم خرج ليشمَّ الهواء لكن البئر انتصب أمامه ذلك المساء كأنه كائن خرافي، وتحولت أنابيبه المعقوفة إلى أسفله كأنها خراطيم وحش، تتحرك مثل أرجل نجم بحر أمسك سمكة كبيرة، وضاعت الأسلاك الشائكة المحاط فيها البئر مع كل خيط ضياء يسرقه ظلام الليل ماشياً نحو فجر اليوم التالي، وقبيل نومه بعد منتصف الليل تكوَّرت لفة السلك الثنائي عند قدميه، اللفَّة التي وصفها النائب الضابط أنها ستكون له منذ الآن فوهة سلاحه الذي سيقاتل فيه الأعداء، ومثل سنَّي أفعى سامة راح طرفا السلك يوخزان ساقه، وامتدّت نهايتاهما الأخريتان كما رآهما صباح اليوم التالي على رمال الصحراء بين ملجئه وبئر النفط، يلمعان أسودين على أشعة شمس الصباح.
كان عنق مضخة البئر مثل مطرقة ناقوس كنيسة لم تفتح أبوابها بعد، فالبئر كان متوقفاً عن العمل، وثمة طرف فيه يبدو بكتلة حديد مستقيمة، فيما ظهرت جهته الثانية مثل مطرقة سندان، وغار أنبوب مطلي بمادة زيتية، يمسك المطرقة من وسطها، في داخل أنبوب أعرض منه ثبت بمساند حديدية على جانبيه، وكتلة خراسانية صبت حوله.
أطلت أزمة أخلاقية بدت تؤرقه كل ليلة يقضيها في ملجأه قرب البئر، وأخرجت له شبحاً يشبهه كان يناقشه كل مساء ويقارن امتناعه عن مشاركة الآخرين سرقاتهم، مقابل أن ينتهي فيه الأمر لتضييع ثروة بئر لا تكلفه غير ضغطة بساعديه على صليب آلة الصعق، فما أن يوصل طرفي السلك معاً ويضغط على صليبها، يسري تيارها الكهربائي لطرفي السلك عند برميل مليء بمادة شديدة الانفجار، ستجعل، لو انفجر برميلها، فوهة لهب تعانق السماء ويصبح البئر عندها كأنه فوهة بركان ثائر، كما شرح لهم الضابط المسؤول في الهندسة العسكرية، يوم وزعت بينهم المهام، وترسخ مفهوم السرقة، منذ أن زاره شبيهه، مقترناً بمفهوم تفجير البئر وتضييع الثروة داخله، وتأرق ليالي طوالاً على إيجاد طريقة تمنعه من تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، واستقر فيه الرأي لمثل يقول: لكل حادث حديث، لكنه انتهى لقرارٍ ناجزٍ مفاده أن البئر صار بئره، ومن يحاول تفجيره عليه أن يدوس على جثته أولاً.
كان على يقين أن الأشياء ستتوقف عن سيرها في الدرب لو تفجر بئره، وسيفقد الزمن بُعده إنْ أجهض الأمل، فنام تلك الليلة على إغفاءة حلم يشتط فيها الفكر لغدٍ آخر فيه دروب تخلو من شؤم الماضي ورعبه، حلم تحسّر أن يتذكر بعد ذلك كيف صاغ فيه الدنيا كما تتمناها الأحلام، وغدت فيه ضحكة مَنْ يُحب كأن الله ما صنع مثلها أبداً !.وأصبح الجدب في حياته كأنه سهل مخضّر في ربيع دائم.
46- القضية
كانت الصدفة أكبر من حسبانها، فلحظة أن أُوْكِلَ له هذا البئر لتفجيره، كانت لحظة لن تتكرر، فإن يختاروه هو دون البقية ويعطى له البئر، الذي تراءى له شبحها يتخفى وراء أنابيبه المعقوفة، ليقفز مرة وراء هذا الأنبوب ومرة وراء ذاك الأنبوب، مساء يوم تعشوا لحم بعير، ثم يوم جاءته ليلاً قبل أن يجعلها ضابط الخفر تولي هاربة دون رجعة، فتلك لحظة كانت بالنسبة له لن تتكرر أبداً!.، وكم شكر الرب وأثنى بحمده أن البئر لم يقع من نصيب غيره فيفجره، وقد تتناثر أشلاء جسدها وتتلطخ ملابسه من قطع لحم جسدها ونثار دمها!.
في تلك اللحظة بالضبط أصبحت المحافظة على سلامة البئر مهما كلفه أمرها، وقد يدفع عمره ثمناً لها، كأنها محافظة على سلامة شخصها هي، وعدّها مثل التكفير عن ذنبه يوم حام على دارها ولما يئس من رؤيتها، قبل أن يراها، أراد أن يعتقها من عهدها الذي قطعته له، فتمثل له البئر رفضاً للعتق مرة، ومرة أصبح خاتماً ببنصر أصبعها، وثالثة تجسد فيها كاملة.
ومن ساعتها ما عاد البئر عبارة عن مجموعة أنابيب و(مطرقة ناقوس كنيسة لم تفتح أبوابها بعد) كما شبهه لحظة أن استلمه، بل أضحى كائناً حياً تسكنه روح ما خلق الله بمثل رقتها وعذوبة صحبتها، وأحسّ مقدار الضيم الذي يلف مصير بئره، وقاربه لمستوى المصير الذي ينتظر أهله هناك في الخلف، وكان إنقاذ البئر من التفجير أصبح يمثل عنده إنقاذا لأهله من مصيرهم المجهول، وقبل أن ينام تبنى قضية، نذر مصيره لها، وأسماها: سلامة البئر من التفجير.
47- حقول الألغام
هفهفت رياح خفيفة على ستارة شق الملجأ، فأغرته نسمات قليلة اخترقت شقوقها ولفحت فوديه وجانبي رقبته أن يتمتع بها، ومع أول خيط طَيَّرَ شعر رأسه راقت نفسه، وأدار وجهه لأنابيب البئر أمامه، مخافة أن تضنيه الهواجس ويؤرقه شبح نفسه، وتمنّى أن يعثر على أغنية بين محطات إذاعية ليس لها شغل غير حرب قادمة، يرفض هو أن يصدق محلليها الذين يؤكدون حتمية وقوعها، ويجعلوا بصيص الأمل الذي يحاول أن يزجي فيه لياليه من أنَّ حلاً قريباً يترقرق في عتمة السياسة الفوضوية لبلده، حلاً ميؤوساً منه.
لم يصدق أذنيه وهو يستمع لصوت واضح تغني فيه أم كلثوم (لسه فاكر)، وتطابقت خيالات فكره وما يوحي فيه كلام المحللين، مع ما تغنيه السيدة، وتخيلها تقف فوق المسرح الستيني متجسدة فيه لتخاطب التخطيط العسكري لبلده قائلة:
(وأنت متهني بحيرتي وانشغالي
قل لي إيه قصدك معايا
بعد ما عرفنا النهاية).
انتهت الأغنية سريعاً ولعبت أصابعه أسرع منها بمؤشر الموجات الإذاعية للراديو الصغير، وجافاه النوم، وانتصف الجزم عنده لنهاية الأزمة بين حلٍّ مستحيلٍ وحربٍ مؤكدة، مثلما انتصف جزمه بين أن يستمر حياً ليرى نهاية الأزمة، وبين أن يموت في طاحونتها، تتناهش جسده الهزيل ضواري الصحراء، متعفنا في هذا الجحر الذي انتبذوه له جانب البئر، وأصبح فيه مثل ناسك انقطع عن جلبة الناس حوله، وتماثل الموت في حالته مثل النسر يرقب الناسك الصائم طيلة أيام السنة، عله يهلك وينهش جثته فوق الجبل هناك!.
قبل أن يدخل قرص القمر في الربع الثالث للأفق، تناهت لسمعه أصوات تفجيرات متتالية من جهة الغرب إلى الأمام، راحت تتوالي متجهة إلى الشرق منه، وخمن أنها تجري في عمق الأرض الحرام، وكان واثقاً أن التفجير يجري في حقول الألغام، واستبعد أن يكون قطيع إبل ضال عبر منطقة حقول الألغام وأحدث كل هذا التفجير المتتالي، لأن ما يسمعه من مئات التفجيرات، لا يوافق منطق أن يأتي قطيع متكون من مئات الإبل ليفجر كل بعير لغماً منها، واتجه نحو أن تكون الحرب البرية قد حانت ساعة الصفر لها، لكن هدوء أفق الجبهة بعد دقائق التفجير تلك كان ساكناً، لدرجة أن طلقة رشاش لو رميت على البعد، لكانت قد سمعت من مسافات بعيدة عنه.
تماثلت له سلسلة التفجيرات المتتالية بالتعاقب مثل زوبعة وشاية زميلتها عند أمها، تلاها طلب أخيها أن لا يلتقي أخته مرة أخرى، ثم التضييق عليها وارتفاعه لدرجة منع المصروف من قبل أمها عنها، وصولا للعيون المتلصصة عليهم وزيارات أخيها للكلية بحجج واهية، منتهية بحسرة تنتابهما سوية وهما يسرقان لحظات اللقاء في أروقة الكلية، كأنهما لصّان يخافان أن يراهما من سرقاه، مثل الحسرة التي تمنعه الآن من السؤال عن ماهية التفجيرات بسبب سكون الحركة داخل الوحدة، وغياب حركة المتنقلين بين مواضع الجنود، والتي عادة ما تحدث إن وردت معلومات عن تحركات مريبة يجريها الخصم في الجهة الأخرى، لكن فصيل تابع لاستخبارات الوحدة رجع مع بداية ضياء الخيط الأول للفجر، حاملاً معه ثلاثة أجهزة بطول كف اليد، وفي كل منها ثلاثة أصابع إرسال يمكن سحب تداخلها ليبدو الواحد منها بطول ذراع الإنسان، اتفقت كل التخمينات أنها أجهزة إرسال ألقت بها الطائرات، ترسل إشارات كهرومغناطيسية متحكم فيها من الجو، استطاعت تفجير حقول الألغام في الأرض الحرام كلها.
48- صوت العرب من القاهرة
انتصف الليل وخرجت زواحف الصحراء الصغيرة، بصريرها وحفيفها، وتعامد القمر مع الأرض دائرة بيضاء تضحك في كبد السماء، وآوت غالبية مَنْ بقي مِنْ أفراد الوحدة لمهاجعها، وما بقي غير حركة سلاح خفيف هنا وسلاح خفيف آخر هناك، وتصايح جندي على ثانٍ يستعجله الرجوع قبل نهاية الليل، وخرج صوتاهما قوياً تُرددُ صداه شقوق ملاجئ فرغت من ساكنيها قبل ليال، وتيقن أن الشهور التالية حبلى بأمر جلل لم يتعود الداخل العراقي عليه قبل اليوم، وزاغ فكره عن صورة الداخل لصور من يرتدون البدلات الزيتونية هناك، وتساءل عن معنى وجودهم في الداخل في وقت يصفون من يتخلف عن الجبهة، التي ستشتعل بثقب الأجساد قبل أن تشتعل بنفطها، بالخيانة والتخاذل وهم أولى الناس بهاتين الصفتين!، وفكر فيمن آثر الهروب والمصير الذي ينتظر عائلته قبل أن ينتظره هو! وفيما إذا كانت حفلات إعدام علنية تصيب من يمسك هارباً، أم إن زمام الأمور فلتت من عقالها واختبأت أجسام منفذيها، قبل أن يختفي صوت الإذاعة وجوقتها التي لا زالت تطبل للحرب، وتُوْعِدُ الناس بانفتاح جنة عدن بعد نهايتها!، وهاله غباء من يصدق ذلك، ويرى استباحة طمأنينية جيرانه جنة عدن ستفتح له أنهار العسل وماء الكوثر!.
أحسّ بالإرهاق وأصابه اليأس، فحاول أن يتشاغل بالبحث بين موجات الإذاعات العالمية عن شيءٍ ينسيه ما هو فيه من أفكار سوداء، وجرّب بداية أن يستمع لأغنية ما، لكن رنات ساعة إذاعية كأنها رنات الإذاعة البريطانية، لكن من دون صدى ناقوسها الكنسي، ذات الصوت المضخم، سمعها ترن وتملأ فضاء الملجأ، ليعقبها صوت مذيع يقول:
- الساعة الثانية بعد منتصف الليل في إذاعة صوت العرب من القاهرة.
ران بعدها الصمت قليلاً ليكمل المذيع مثل شخص يريد أن يقول شيئاً يستوجب السرعة في بيانه:
- الأخبار( يصمت مرة ثانية) الجنرال شوارتسكوف يعلن بدأ عملية عاصفة الصحراء.
49- فرحة النهب
وقت تقافز الضباط من ملاجئهم عندما اشتعلتْ الخطوط النارية، بأزيز الرصاص وصوت قذائف المدفعية، وشهب الصواريخ المتوسطة وهي تتناثر في الأمام لتكون خط صد بين الجبهتين انسلَّ هو مثل ثعلب ماكر باتجاه ملاجئ الضبّاط، وأشهر سلاحه في وجه أحد المراسلين، فاختبأ المراسل في زاوية الملجأ يبكي واضعاً يديه على رأسه خوفاً منه، ويده تشير له على كيسٍ مملوء بالصمون العسكري والمعلبات الجافة، التي كان الضابط يركن كيسها قرب سريره، لكنه ترك مهمة السلب والنهب التي تجرأ على فعلها أخيراً، وراح يمزق خرائط مواقع الوحدات العسكرية التي لصقها الضابط على جدار ملجئه، وكومها داخل الفسحة الصغيرة في الوسط، ثم أشعل فيها النار، وكان لحظتها يتآكله الغيظ على الضابط الذي ترك الخرائط العسكرية لمواقع الوحدات الخلفية، والتي قد يهلك فيها الآلاف لو وقعت بيد الجهة المهاجمة، وكانت تنتابه أمنية، أن يصاب جيش بلاده في هذه اللحظات بالتجمّد، ويبقى كل فرد فيه واقفاً مثل التمثال، ليأتي المهاجمون ويجردوا سلاحه ثم يتركوا أفراده يرجعون لبيوتهم سالمين، فقد علمته المراقبة لقصف الطائرات في الأشهر التي سبقت بدأ المعركة، أنها كانت تقصف الآليات العسكرية، ولاحظ كيف أنَّ الطيارين كانوا يحومون أولاً على الهدف الآلي ليخيفوا من يعمل عليه، ثم إنْ هرب أعداده منه، عالجه الطيار بصاروخ ليحرقه في مكانه، وللحظات أخرى وقف متبحراً في ما يعتلج داخله من مشاعر متناقضة لكنها مضطربة تتصارع مع بعضها دون هوادة، فهو من جهة تلبسته روح شرير إذ فكر بنهب الأكل في ملجأ الضابط، لكنه بدا رحيماً في الجنود بالمواقع الخلفية، فأحرق الخرائط حتى لا يصيبهم مكروه بسببها، وفي الوقت الذي أصابه الغيظ على الضابط الذي ترك موضع مراقبته لسير المعركة، ورجح أن يكون قد استقلَّ سيارة الجيب العسكرية وولّى هارباً، فقد أصابه شعور آخر بالشفقة على المراسل المنزوي خائفاً في زاوية الملجأ، وهو ذات المراسل الذي كان يراه بالأمس يتضور جوعاً وهو يقف حارساً لكيس الأكل والمعلبات الجافة المركون قرب سرير سيده!. لكنه هزّ رأسه متعجباً مما يجري حوله وما يجري داخله، ثم فتح أزرار قميصه وعبأ فيها بضع صمونات وخرج تاركاً المراسل يفغر فمه دهشاً، وكان وهو يقفز مثل الذئب راجعاً لملجئه بعد أن حصل على طريدته التي سيشبع منها، فيه فرحة الناهب وإحساس النصر على الطرف الضعيف.
50- المحاولة الثانية عشرة
في هذه اللحظات الصعبة جداً علي، أكتب إليكِ بشكل سريع، على أمل أن يقع ذات يوم ما أكتبه بين يديك وتقرئيه، وذلك ما أشك فيه كثيراً، وفي لحظات أخرى أكاد أجزم أن ذات لحظة لا تحسب من التاريخ، لأن فيها سيتوقف الزمن عن دورته المعتادة، قد تخرجين من ذاك البئر أمامي لتختطفي دفتر أوراقي هذا، قبل أن أكتب آخر ما أريد تدوينه لك، وعلى سبيل الفرض، فلو حدث ما افترضته وأصبح حقيقة، فعليك أن تعرفي أن خاتم العهد ببنصر يدك إنْ كنت تلبسيه أينما حللتِ وأينما رحلتِ، إنما أنا ألبس لك بدله طوقاً برقبتي، وأحسب أن مضمون هذه الأوراق لو وقع بيد غير يدك، سيجعل الطوق في رقبتي يدفن معي إنْ غُيِّبَ جسدي، ويكفي أن تعرفي، إنْ لم يُعْلِموكِ أهلك، أن آخر محاولة لخطبتك قد جرت من قبل أهلي، وأعلمني بها أحد زملائي بعد أن أوصاه والدي أن يخبرني بها إنْ التحق، وقد رفضت من قبل والدك، وهي المحاولة الثانية عشرة لخطبتك، وإنْ كُتبَتْ لي السلامة من هذه المحنة فتأكدي أني سأبقى أخطبك، حتى وإنْ كنت على فراش الموت ممدداً أحتضر. فمثلما أعلن السيد شوارتسكوف رفضه لاحتلال دولة الكويت وبدأ عملية عاصفة الصحراء، فقد أعلن السيد والدك رفضه لاحتلالي قلبك.
51- الساعة الخامسة إلّا الربع فجراً
شوهدت من خلال نواظير الثيودلايت لموقع ضابط الرصد أرتالاً لآليات ضخمة تسير بالنسق، وكل رتل عجز من يشاهده عن إحصاء آلياته المتقاطرة خلف بعضها!، يسير ببطْء مثل النمل يغيبه لون الصحراء الشبيه للون آلياته، وحوَّمت طائرات هليكوبتر خلفه وعلى جانبيه، ثم تلت التي تحوم فوقه مجموعة طائرات أخرى ترتفع عالياً، وتقدمت الأرتال تمشط الأرض الحرام.
لكن زخة قذائف مدفعية جاءت صارخة من الخلف تسلب روح من تمرق فوق رأسه، سقطت متناثرة بين السواتر الأولى وأرتال الدبابات، لتجعل التراب بين الرمال يختلط بدخان القذائف وتحجب الرؤية بين الطرفين، فاخترقت مجال الحجب طائرات بمراوح كثيرة، وثمة صواريخ طائرات حربية راحت تقصف كل آلية أخرجت عنقها، أو فتحت فوهتها النارية، فتقافز الجنود عن أسلحتهم الثقيلة، وخرج عمود نار من وسط الأرض مرتفعاً، كأنه نافورة ماء أحمر حبست لها كل مياه الكرة الأرضية!، فارت في الأعلى وهرب من هو قريباً منها وفيه إحساس إن شعلتها ستلتوي، مثل حمم بركان وتغطيه مشوياً فيها، لكن النافورة كانت تتحول لغيمة سوداء تلتف على نفسها أولاً، ثم تنتشر على محيطها متوسعة شيئاً فشيئا، وتكاثرت النافورات حتى تحول الصباح إلى ليل دامس في الحدود الصحراوية لمدينة الوفرة .
طوى السلك وراح يقطعه زاحفاً على بطنه، وفيه رغبة لأن يقطعه أكثر، حتى لا يترك مجالاً لمن سيكتشف أمره أن يعالج الحالة ويربط السلك ثانية، وأحس بكل القيم الجميلة تتجمع متكاتفة لتحمي بئره، لكنه كان يفكر في كل لحظة تمر عليه كأنها آخر لحظة سيعيشها، وأصبح شريط الحياة يستعرض في كل دقيقة أمامه عشرات المرات، وكلما تكثّفت الظلمة أكثر كلما ملأه الفرح أن بئره سيتعدّى الأزمة وسيفلت من عقابها، ثم ألقم بندقيته عتادها قاطعاً على نفسه وعداً أنه سيدافع عن بئره حتى آخر نفس فيه، لكنه قرفص يرتجف خائفاً محتاراً، ولكي يتشاغل عما ينتظره أخرج دفتراً صغيراً من عبه وراح يكتب فيه، و.....................
52- ملاحظة الناشر
لم يتم قراءة ما كتب في الصفحات الأخرى لاختلاط حروف الكلمات كلها بلون الدماء الحمراء، القانية جداً.
53- اللجنة العسكرية التأديبية
قبل أن يدخل الجندي العربي على خيمة اللجنة العسكرية التأديبية التابعة لقوات التحالف الدولي، اقترب محامي الدفاع الذي انتدبته اللجنة للدفاع عن المتهم وصرح قائلاً:
- سادتي الضبّاط القانونيون اسمحوا لي أن أعلمكم: أن هناك تطوراً سيغير مجرى وقائع جلستنا هذه، والواقع أني ما علمت فيه من موكلي غير صباح هذا اليوم، وقد طلب مني موكلي أن أعرض أمامكم رغبته لأن يدلي بشهادة، لم يتح له الوقت الكافي لأن يقولها في حينها، وهو كما يدعي أنه أودِعَ الحجز طيلة الأيام السابقة دون أن يُسأل أو تؤخذ إفادته، وباعتقادي الشخصي إن ما سيدلي به من شهادة هي جديرة بأن تطلعوا عليها دون تأخير.
يدخل الجندي العربي حاسر الرأس، ويقف بانتظار من يسمح له بالإدلاء بشهادته، كما اتفق مع المحامي المنتدب له، فيما يُشاهد ضبّاط اللجنة التأديبية الثلاثة يتشاورون مجتمعين على أوسطهم، فتنحنح رجل القانون من اليسار لأن يكلم الجندي العربي، لكن رجل القانون الأمريكي أوقفه بإشارةِ من يده، وأوْعِز لمن يجلس عن يمينه بالتكلم نيابة عنه وعن زميله الجالس عن يساره:
- أخبرنا محاميك أن لديك إفادة ستغير مجرى جلسة اللجنة، فإن كانت لديك الرغبة بالإدلاء بها فلتتفضل ... وباختصار رجاءً.
تقدم الجندي أمام اللجنة خطوات ثم تنحنح قائلاً:
- حسب أوامر القيادة المركزية لقوات التحالف الدولي فقد أوكلت لفصيلي مهمة مرافقة فصيل من قوات المارينز الأمريكية، لإنقاذ ما نستطيع إنقاذه من آبار النفط، قبل أن تفجرها القوات المسلحة العراقية، وعليكم أنْ تفهموا سادتي أنَّ العملية بدأت في ساعات الصباح الأولى، لكن النهار تحول بعد ساعات من بدء المعركة لليل دامس، اضطررنا فيه أن نستخدم المصابيح اليدوية، وبعضنا استخدم الإشارة الضوئية الفسفورية ليدلّ على نفسه للقوات الصديقة، وهذا الأمر كانت صعوبته تقع حصراً على فصيل الإنقاذ الذي يشارك فصيلي معه، ولا سيما أن مهمتنا كانت تستوجب من عناصر الفصيلين الانتشار في عمق الصحراء، وربما في مكان بعيد عن مواقع اشتباك قوات المشاة من الطرفين، لكن شاءت الصدف أن هناك بئراً لم ينفجر كان موقعه في قلب المعمعة، وكنت قد لمحت شبح أنابيبه، فتسللت بين المشتبكين لأفكك عبوة التفجير فيه، وإثناء سيري في اتجاهه شاهدت ملجأ على اليمين من البئر، يبعد عنه حوالي ثلاثمائة متر تقريبا ، ولا يخفى عليكم سادتي أننا أعْلِمْنا بتواجد هذه المواقع على أحد جانبي كل بئر، وبُلِغْنا أن نأخذ الحيطة والحذر منها، لأن فيها من أوْكِلتْ لهم مهمة تفجير الآبار، فسحبت مسدسي وتقربت حذراً من الملجأ، لكن قذيفة دبابة صديقة اعتبرت الملجأ هدفا لعدو يمثل تهديداً محتملاً وفتحت نارها عليه، والواقع عند إصابة الملجأ بقذيفة الدبابة حسبت مهمتي سهلة وفرحت لتلك الإصابة، لكني وأنا أتقدم نحو البئر بطيئاً سمعت من يستنجد بي، وأنا عربي تجري أعراف الصحراء وتقاليدها فائرة في عروقي، فالتفت وإذا بي أمام جثة مرمية قرب الملجأ لجندي عراقي ينزف كثيراً، كانت الدماء تغطي وجهه من كل جانب، وبدت بدلته العسكرية منقوعة فيها، والتوت ساقه مكسورة من فخذه الأيمن، وكان بالكاد يفتح أصابع يديه ويشير لي أن أقترب منه، فأحسست أن عنده شيئاً يريد قوله لي، وبين حب الاستطلاع لمعرفة ما سيقوله، ورغبة مني لأن أرى جندياً عراقياً عن قرب، تقدمت منه، ولن تصدقوا يا سادتي ما أسَرَّ لي فيه وهو بتلك اللحظات الحرجة!، كانت يده الأخرى ممسكة بدفتر صغير، وحالما اقتربت منه رمى الدفتر، أو لنقل بعد أن أحسّ بقربي منه، أسقط الدفتر الصغير في حجري، وكان قميصه مفتوح الأزرار من صدره، وعلى ضوء مصباحي اليدوي لمحت صمونتين مما يصنع لأكل جنود الثكنات العسكرية، وكيس تبغ تطشّرا من عبه قرب مذياع صغير، وكانت أشياؤه هذه تسبح وسط بركة دماء تنزّ من جرحها في خاصرته، ويخرج معها صوتٌ مثل ثغاء البعير كلما عصر نفسه ليهمس لي بجملة، وحتى لا أطيل عليكم، كان يا سادتي يهذي بكلمات كثيرة، لكنها جاءت متقطعة وبصوت واهن ضعيف، وهو يشير ناحية البئر في لحظتها:
- أعطها هذا الدفتر....وإن وجدتها مقتولة..... حاول أن تنشر ما فيه.
ثم ارتعش جسده وراح يردد:
- أنا ...أموت...أرجوك لا تجعلهم يقتلوها... لا تجعلهم ينثروا أشلاءه...أشلاءها...أشلاءه.....لا تجعلهم يفجرون البئر.
وعلى ما أذكر أني تأبطت الدفتر، فرآني الضابط الأمريكي لحظتها معتقداً أني أسلب الموتى أشياءهم، وهو ما عدّه تصرفاً معيباً يستوجب تقديمي للجنتكم الموقرة، وأنني إذ أطلب الآن أن ترفق شهادتي هذه مع محضر لجنتكم، فإنني أطالب بالنسخة الأصلية من الدفتر الصغير للجندي العراقي، لأنفذ له وصيته، فأعرافنا تقول إنَّ من المعيب حقاً أنْ لا تنفذ وصية الموتى، فقد قلت له وهو يلفظ عبارة (أنا أموت)، وقبل أن يستل الضابط الأمريكي الدفتر من تحت أبطي، واعذروني هنا أني سأستعير لهجة بلدي المحلية كما تلفَّظتها له، إذ قلت:
- (اصبر يا راجل، متستعجلش، الدنيا لسه بخير، انت مش حتموت، انت حتعيش).
(انتهى)
الإهداء:
إلى روح والدتي أهدي هذا العمل، متذكراً منها قولاً فتحت ساعته زيق ثوبها بيدٍ، وبأخرى تضرعت للسماء، وهي ترد على النسوة اللاتي جئن يسألنها، عما جلبه ابنها من الكويت، إذ قالت:
- ( أريد العطية من ربي، ليرجعه لي سالماً فقط).
وتَلتْ من بعده دعاءً طويلاً، جعل الفضول يخبو منكفئاً في وجوهِ النسوةِ.