على كرسي متأرجح، وبيدي فنجان قهوة، تبدأ ذكرياتي تتسلسل أمامي، منها الجميل ومنها الحزين الذي نحت في مخيلتي أصوات الطائرات الحربية والمدافع التي بت أسمعها في كل مكان أحلُّ فيه.
لا زالت تلك اللحظة ترجّف جسدي كله، اللحظة التي ألقوا القبض فيها عليّ مرة أخرى لأعود إلى الزنزانة، ثم المعسكرات، كنت في طريقي مع مهربٍ متجهين صوب الحدود حينما أحاطوا بنا في وادٍ ضيق وآسرونا. لأعود لحياة الرعب والقسوة ولم يخلصنا إلا فصائل الجيش العراقي التي حررت المكان وطردت القتلة.
أرشف من فنجاني وأنظر بعيداً إلى سلسلة الجبال وكلمات أبي لا زالت ترن في أذني وهو يخاطب أمي قائلاً:
"أجمعي جميع الوثائق بسرعة قبل وصولهم ".
لم اكن اعلم عم ماذا يتحدثون. خرجنا من البيت بسرعة أمي وأبي وأخواتي الثلاثة. ركبنا سيارة مكشوفة بدأت السيارة بالحركة صرخت أختي الكبيرة:
- وصلوا.. وصلوا!.
أسرع أبي وتحرك بأقصى سرعة ممكنة وقال:
- تشبثوا جيدا
شمس تموز المحرقة جعلت الحديد ساخن جدا. كان أبي يسير على طرقٍ ترابيةٍ لكي يضلل من كان خلفنا، وكلما تقدمنا تكثر المطبات. لم أعد استطيع تحمل حرارة الحديد. بدأت أشعر أن يديّ قد احترقتا فأفلتهما في نفس اللحظة انعطفت السيارة بشكلٍ مفاجأة فلم أشعر إلا وقد سقطت من السيارة على الأرض. كانت الشمس حارة والجو ترابي كنت أبن العاشرة وفي لحظة وجدت نفسي وحيداً وخلفي الأعداء ولا أدري ما سيكون مصيري وماذا سيحصل لي.
نهضت ورحت أركض خلفهم وأصرخ انتظروني .. انتظروني ..إلى أن تلاشوا في الأفق. أمات الخوف قلبي فوهنت قواي. توقفت عن الركض فأمسك بي من كان يلاحقنا. لم اعرفهم في بادئ الأمر ولكن وجوههم لازلت أتذكرها جيدا وجوه ببشرة داكنة ولحي طويلة وكثيفة، ورائحة كريهة تنبعث منهم، كانت أشاكلهم مخيفة. سمعتهم يتحدثون
- هذا الطفل الصغير سوف يفيدنا في المستقبل كالباقين!
أخذوني معهم إلى المنطقة التي استولوا عليها، كان الخراب يعم المدينة والمباني مهدمة. وضعوني إلى غرفة صغيرة فيها أطفال أخرين جلست في إحدى زوايا الغرفة، أفكر في السبب الذي جعل أهلي يتخلون عني بالرغم من الحب الذي أشعر به نحوهم، أتذكر قبل عدة ساعات كيف كانت أمي تحضنني وكيف كان أبي يلاعبني. كنت لا أنام إلا في حضن أختي. ما الذي حصل لهم حتى تخلوا عني بلحظات. رحت أشعر بغضبٍ شديدٍ منهم لأنهم تخلوا عني. وبقيت تحت رحمة من لا رحمة عندهم. لم يكن باستطاعة عقلي أن يستوعب تلك الصدمة. فُتِحَتْ باب الغرفة ودخل شخص كان يحمل بيده مسبحة تفاجأت مما رأيت لأنه قبل قليل رأيتهم يحملون السلاح. جلس الرجل وبدأ بالحديث
- أيها الأطفال يجب عليك أن تغيروا ملابسكم وترتدوا الملابس السوداء لأنها رمز انتمائكم "للدولة الإسلامية " يجب عليكم أن تميزوا بين الصواب والخطأ. يجب عليكم إتباع وإطاعة جميع أوامر الأمير لأنه يريد لكم أن تحظوا الجنان والنعيم في الآخرة أن شاء الله، أن جميع من ليس من ديننا ولا يتبع التعاليم هو كافر ووجب معاقبته في الدنيا قبل الآخرة وأن دمه مباح!
راح يتكلم من هذا القبيل فترة من الزمن ثم دخل شخص طويل القامة، قوي البنية، ذو لحية طويلة، قاطب الحاجبين، كان يحمل السلاح بيديه أمرنا أن نخرج للتدريب، وقفنا بانتظام وبصورة عمودية أعطوا لكل واحد منا سكيناً ولعبة وقالوا لنا " تصورا أن هذا كافر ويجب عليكم قتله ..هيا افصلوا رأسه عن جسده " راح من كان بجانبي يطيع الأوامر إلا إنني قلت أن هذه لعبة تشبه لعبتي التي كنت ألعب بها وأردت بشدة أن أحتفظ بها. في تلك الأثناء وإذا برجل راح يصرخ عليّ بصوتٍ عالٍ كي أقوم بالعملية. خفت منه كثيراً ورحت أبكي. استمر بالصراخ قائلا:
- أن الدموع للضعفاء. لا تبكي وقم بما أمرتك به!
أمسكت السكينة ويداي ترتجفان، فعلت بما أمرني به والحزن يملئ قلبي، وفي نفس الوقت أزداد غضبي على أهلي الذين تركوني وأنا بين العتاب على الأحباب و الخوف من مصيري الذي لا اعلم أين سيكون؟
صرخ الرجل بأعلى صوته":
- يجب عليكم إطاعة الأوامر دون نقاش. حان وقت صلاة العشاء هيا توضؤا والحقوا بي".
دخلنا الى المسجد بدأ الأمام يردد عبارة " الله اكبر.. الله اكبر" والجميع يفعل مثله إلى أن انتهت لصلاة أمرونا بالذهاب إلى غرفنا لننام. دخلنا الغرفة، بدأوا بتقديم الطعام لنا، ولكن لم احظى بحصتي وقيل لي "
خالفت الأوامر اليوم لهذا لن تحصل عل وجبة العشاء!
لم أستطع النوم تلك الليلة. كان الحزن والخوف يملئ قلبي أردت أن أخرج من الغرفة، لكن لم يسمح لي فتسللت
من النافذة ورأيت الكثير من الأشياء التي لم استطيع فهمها في تلك لحظات، لكن أدركت معناها بعد حين ومن جملة ما رأيته مجموعة من النساء يقفن في صف واحد يحرسهن رجل ثم أقبل عليه مجموعة من الرجال أخذوا يتقاسمون النساء بينهم ويقولون:
- "أطال الله لنا بعمر الأمير الذي من علينا بهذه الجواري وشرع لنا جهاد النكاح "
وأخذ كل واحد منه امرأة وذهب، سرت خفيةً كي أرى ما يحصل؛ فرأيت ضوء من بعيد اقتربت من النافذة فرأيت مجموعة تصنع متفجرات يدوية وأحزمة ناسفة، وسمعتهم يقولون:
- هنيئاً لمن يستشهد دفاعاً عن الدين ويحظى بالجنان!
عدت إلى الغرفة وضعت رأسي على الوسادة غططت في نومٍ عميقٍ من شدة التعب.
استيقظتُ على صوتٍ يقول "استيقظوا أيها الكسالى" لم استطع فتح عيني من شده التعب، راح يصرخ ذلك اللعين فوق رأسي فاستيقظت وتناولت الطعام مع الآخرين. خرجنا للتدريب ولكن تدريب اليوم يختلف اختلاف تام عن الذي قبله فقد أتوا بمجموعة من الأشخاص والمقيدين والمغلقة أعينهم، يجلسون على ركبهم، أمرونا أن نقف وراء كل شخص، أعطونا سكيناً وقالو:
- هؤلاء كفره وخارجين عن الدين وقد أمر الأمير بقتلهم أقتلوهم على بركة الله!
وامسك كل واحد منهم سكيناً وراحوا يصرخون "الله اكبر" وذبح كل طفل الشخص الذي كان أمامه وراح الدم في يجري أمامي في كل مكان حتى وجوهم تلطخت.
تعودوا على ذلك وأصبحوا متعطشين لسفك الدماء أما أنا لم اجرأ على فعل ذلك.. كنت خائفا.. مرتعبا!. بدأوا يصرخون علي:
- أقتله.. أقتله!
- لا استطيع ..لا استطيع!
استمروا بالصراخ، فرميت السكين ورحت اركض لا أعرف إلى أين ؟ كنت أود الخلاص لكنهم أحاطوا بي وأمسكوني أشبعوني ضرباً وركلا وهم يصرخون واحتجزوني في مكان صغير ومظلم ومخيف عدة أيام دون أكل وشرب، أخرجوني بعدها أطعموني ثم ألبسوني شيئاً على خصري علمت لاحقاً أنهُ حزام ناسف، ثم بدئوا يعلموني كيفية استخدامه قائلين لي أن هذا الشيء مثل الألعاب وهو غير مؤذي أو مخيف وأن علي ارتدائه والذهاب الى منطقة قريبة من المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها وهي منطقة شعبية مليئة بالسكان أن فعلت ذلك سوف يتركوني بشأني ولم يحدث أي شيء لي أو لغيري اقتنعت في بادئ الأمر ولكن حين ألبسوني إياه وجدته ثقيل الوزن فبدأت أشك في الأمر، ومما زاد شكي تغير طريقة المعاملة معي بصورة غريبة. أركبوني سيارة وذهبوا بي إلى ذلك المكان، وطوال الطريق يقنعوني بأن ما أفعله هو الصواب وأنني بعد أن أقوم بهذه العملية سوف ألتقي بعائلتي. أنزلوني وغادروا بشكل طبيعي وهم بالملابس المدنية, بدأتُ بالسير مسافة لكي أصل الى السوق. في الطريق فكرت بما قالوه، وودت بشدة رؤية والديّ ولكنني تذكرت ما فعلاه بي، قررت أن لا أقوم بما أمرت به. تطلعت إلى شخص كبير بالسن يقف بإحدى زوايا السوق. شعرتُ بالطمأنينة له فقلت له كل ما أخبروني به، وفتحتُ له المعطف الذي كنتُ أرتديه قال لي بكل هدوء
- لا تخف الأمر بسيط جدا..
واخذ بيدي إلى نقطة عسكرية قريبة وحكى لهم، فبدأوا يعملون ببطء وحذر شديدين. أنزعوني الحزام وسألوني عن أهلي وأين هم؟ فسردت لهم القصة وما حصلَ معي، فرأيت تعابير التعاطف والحزن والحيرة تعلوا على وجوههم:
- إلى أين سوف تذهب الآن؟!
- لا اعلم!.
فسمع الرجل الذي ساعدني ما جرى وقرر احتضاني ورعايتي إلى أن أجد أهلي. أمسك بيدي فشعرت بالأمان فتسلل حنانه إلى قلبي. أخذني إلى بيته كان بيت جميلا وتفوح منه رائحة أزهار الجوري بدأت حينها الابتسامة ترتسم على وجهي من جديد‘ شعرت لوهله إنني في منزلي الجميل، لكن تذكرتُ ما جرى لي فابتسمت ساخرا من واقع حالي المرير. قمتُ من السرير الذي أعده لي بعد الحمام والطعام. خرجت من الغرفة وإذ بي أجد ذلك الرجل يتلوا القرآن بصوتٍ عذبٍ يجعل سامعه يشعر بالراحة النفسية، كان وجه يشع بالنور، جلستُ إلى جانبه مصغياً لتلاوته حتى فرغ فنظر نحوي وتبسم قائلا:
- أنا اسمي الشيخ مصطفى إمام الجامع، وهذه القرية تابعة لمدينة الموصل وتنظيم داعش الإرهابي يحاول جاهدا السيطرة عليها. وأنت استخدموك وسيلة رادوك تفجر الحزام تقتل الناس الأبرياء اللي ما لهم دخل في كل ما جرى ولحسن الحظ وبمشيئة الله لم يحدث ما كانوا يرمون ويبغون من دمار، وأنت ألا ترغب بالحديث عن نفسك؟!
- أني اسمي "محمد علي" من مدينة تلعفر لمن دخلوا مدينتنا هربتُ مع أهلي لكنني في الطريق سقطتُ من السيارة، فتركوني فشعرت بغضب من ذلك وعندما قالوا لي أفعل ما نأمرك به ونجعلك تلتقي بأهلك، لذلك لم أفعل وسلمت نفسي لأني لا أريد رؤيتهم بعد ما فعلوه بي. رُفِعَ الأذان في المسجد فقال لي الشيخ:
- قم يا ولدي نصلي ونعاود الحديث وراح أخبرك عن السبب الذي دفع والدك للقيام بهذا العمل وأنا على يقين تام بأنك عندما تسمع السبب سوف تسامحهم .. هيا قم!
- لا أطيق صبراً
- الصبر مفتاح الفرج والدنيا من دون صبر لا تطاق!
ذهبت معه اغتسلنا وانا ارقبه فقال لي؛ قلد ما افعل، ففعلت، ثم وقف في مقدمة المصلين وراح يصلي بهم إلا إنني لم افعل. كنت متحيراً كيف للذين كنت محبوسا عندهم وآذوني أن يصلوا، وكيف لذلك الشيخ طيب القلب يفعل مثلهم! كنت واقفا بباب المسجد متحيراً، وعندما قال الله اكبر ردد من كان
خلفه لله اكبر. وإذ بي اسمع ضجيجاً وأصواتاً فاختبأت، كانوا مسلحي داعش يدخلون المسجد ويطلقون النار على كل من كان هناك ويهتفون الله اكبر الله اكبر. شعرت بخوفٍ شديدٍ من أن يجدوني ويأخذوني معهم من جديد، وخفت على الشيخ مصطفى. غادر المسلحون وهم يتوعدون من لم يطع الأمير بنفس المصير. عمّ الهدوء، فأسرعت إلى المسجد وهالني ما رأيت أجساد مثقفة بالرصاص تنزف سيولا، البعض همد والبعض يئن طالباً المساعدة، مشهد لا يوصف، تمالكت نفسي وأسرعت لعمق المسجد باحثاً عن الشيخ فوجدته مصابا بأكثر من طلقة. جلست عند رأسه وبدأت أبكي، فقال لي: لا تبك يا بني الله يحبني إذ جعلني شهيدا، وأنت مثل أبني أوصيك بأخذ ما أدخرت من مال وضعتها تحت السجادة تحت السرير وتذهب إلى شخص أسمه إبراهيم حداد في السوق وتخبره بما جرى. سيساعدك بالخروج من العراق، وانتفض بقوة ثم همد مسبلا أجفانه. فبكيتُ بشدة جواره وحزنت حزنا شديداً. عثرت على المال الملفوف في كيس وعيناي تملؤها الدموع وذهبت إلى دكان الحداد وسألت عن ذلك الرجل فدلوني عليه فأخبرته بالأمر وما قاله الشيخ مصطفى وأريته النقود فقال لي:
- أنت طفل لا تستطيع السباحة كيف لك عبور البحر!
قلت له:
- الأعمار بيد الله
في اليوم التالي خرجنا تحت جنح الظلام متجهين نحو الحدود مجموعة مكونة من أربع أنفار والدليل مهربنا.
* * *
على كرسي متأرجح، وبيدي فنجان قهوة، تبدأ ذكرياتي تتسلسل أمامي، منها الجميل ومنها الحزين الذي نحت في مخيلتي أصوات الطائرات الحربية والمدافع التي بت أسمعها في كل مكان أحلُّ فيه.
لا زالت تلك اللحظة ترجّف جسدي كله، اللحظة التي ألقوا القبض فيها عليّ مرة أخرى لأعود إلى الزنزانة، ثم المعسكرات، كنت في طريقي مع مهربٍ متجهين صوب الحدود حينما أحاطوا بنا في وادٍ ضيق وآسرونا. لأعود لحياة الرعب والقسوة ولم يخلصنا إلا فصائل الجيش العراقي التي حررت المكان وطردت القتلة.
أرشف القهوة ورأسي يضج بصور القتل والحرق والدم والانفجارات والتعذيب، يضج في الصحو ولمنام محولاً حياتي إلى كابوس متصلٍ يبدو بلا نهاية.