يرى الناقد المصري أن عتبة عنوان الرواية تؤكد المزج بين الشخصي، والتاريخي في مسيرة البطلة، ونشوئها، وعلاقتها بتحولات المجتمع الثقافية التي تتقاطع – بدرجة كبيرة – بإشكالية تحقيق كينونتها الأنثوية بعيدا عن أشباح منزل الرعب، في مقابل تحقق الكينونة، وتجددها في تطور شخصية ناريمان، ووعيها بالذات، والآخر، والمجتمع.

تشكيل الكينونة، وتجاوز لحظات الغياب

قراءة لرواية «رقصة الحرية» لهدى توفيق

محمد سمير عبدالسلام

 

"رقصة الحرية" رواية حديثة للروائية المصرية المبدعة هدى توفيق؛ صدرت عن دار يسطرون للنشر بالجيزة سنة 2019، وتمزج ساردة هدى توفيق – في الخطاب السردي – بين الذاتي، والتأويلي، والتاريخي، والتحولات الداخلية في وعي الشخصيات الفنية، وبخاصة وعي البطلة / ناريمان، ورغم أن النص يعزز من تعددية الشخصيات الفنية؛ فإن الساردة تقدم الخطابات المتنوعة انطلاقا من صوت ناريمان، ونصها الروائي المعنون ب أشباح التوليب؛ فالنص يرتكز على التبئير الداخلي – في أغلبه – طبقا لتعبير جيرار جينيت، ولكنه قدم الخطاب السردي للآخر / الآخرين من داخل الاتصال بوعي الشخصية الرئيسية؛ مثل رؤى محمد ناصر، ويحيى، والشندويلي، والجدة، وريعو، ونور، وسلوى، والخال، وغيرهم.

وترصد الساردة صوت ناريمان من داخل خطابها السردي الذي جاء من داخل تقنية وجود نص روائي داخل رواية رقصة الحرية؛ وهو نص أشباح التيوليب الذي تشير عتبة العنوان فيه إلى ذاكرة ناريمان، ونشوئها، ومخاوفها التي ارتبطت بمنزل تسميه بيت الرعب، واقترانه النيتشوي – في وعيها، ولا وعيها – بزهور التيوليب التي تؤول كينونتها الأنثوية، ونزعات التحقق الداخلي، والانبعاث الذي يتجاوز منزل الرعب في آن.

وتشير الساردة إلى بعض أعمال الموسيقى الكلاسيكية، واتصالها بحياة ناريمان، وتطورها الذاتي، والفكري؛ مثل أوبرا عايدة لفيردي، وكارمينا بورونا لكارل أورف؛ وأرى أن فضاء القبو المظلم في نهاية أوبرا عايدة قد اتصل – في وعي ولا وعي ناريمان – بالرغبة في الخلاص من الأخيلة الجحيمية التي تشبه مدلول النماذج لدى نورثروب فراي، والتي ارتبطت بنشوئها في منزل الرعب؛ وكأن الصيرورة السردية تستنزف بنية القبو، وتستبدلها ببنية للتجدد، للانبعاث، أو للولادة المتجددة في تطور البطلة الروحي الداخلي.

نعاين – إذا – التحولات الذاتية للبطلة / ناريمان من داخل خطابها السردي في روايتها الخاصة التي قدمت أيضا مجموعة من التحولات التاريخية، والثقافية في المجتمع المصري من داخل وعيها، ومجموعة من رؤى، وخطابات لشخصية نور السويفي، وقد امتدت مثل هذه التحولات التاريخية، والثقافية منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى ثورة يناير 2011، وتبدو الأحداث مزدوجة أحيانا بحياة البطلة الشخصية مثل تأثير محمد ناصر على وعيها بالعالم، وتأثر أختها نسرين بموجة التدين الشكلي في المجتمع؛ فالساردة تقدم لنا أخيلتها، ورؤيتها للآخر / الآخرين، ولبعض الأحداث من داخل عالمها الداخلي.

وبصدد طرائق الإخبار في الخطاب السردي الروائي، يرى تودوروف في كتابه الشعرية أن السرد قد يرتكز على الموضوع المدرك، أو الذات المدركة، وقد يكون من خلال ضمير المتكلم، أو الغائب، ويستعيد تودوروف تعبير المرايا العاكسة من هنري جيمس؛ ليعبر عن السرد للموضوع من داخل ذات المدرك؛ ويمثل لذلك برواية البحث عن الزمن الضائع لبروست، والتي تكشف عن رؤية الآخرين من داخل ذات البطل. (راجع، تودوروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر بالمغرب، مع سوي بباريس، ط2، سنة 1990، ص 52).

يرتكز تودورف – إذا – على طرائق تقديم الحدث من داخل الشخصية، ومدى اتصالها بالموضوع، وانعكاسه في الذات، أو في استعارة المرآة التي تظهر مدى حضور الوعي في التقديم السردي للحدث؛ وسنجد بعض الأحداث التي تكشف عن وعي، ولا وعي الشخصية الرئيسية / ناريمان؛ مثل مشاعرها المتناقضة إزاء منزل الرعب، وأشباحه، وزهوره، وبعض الرؤى التفسيرية للتاريخ من داخل تأثرها بشخصية ناصر، أو من خلال خطابات نور السويفي؛ يرتكز النص – إذا – على التفسير السردي للذات، وبعض أحداث التاريخ، والتحولات الثقافية في المجتمع، دون أن ينفصل عن فاعلية أخيلة اليقظة، والأحلام، وجماليات الفن، وبخاصة الموسيقى، وتأكيد بعض النوازع الأنثوية في تشكيل الكينونة خارج المركز، فيما يتصل بطرائق تفسير ناريمان لكينونتها، وعلاقتها الضدية أحيانا بنموذج الحضور المركزي للأب / الشندويلي في النص.

وتؤكد عتبة العنوان / رقصة الحرية المزج بين الشخصي، والتاريخي في مسيرة البطلة، ونشوئها، وعلاقتها بتحولات المجتمع الثقافية التي تتقاطع – بدرجة كبيرة – بإشكالية تحقيق كينونتها الأنثوية بعيدا عن أشباح منزل الرعب التي توحي بالتوقف في مقابل تحقق الكينونة، وتجددها في تطور شخصية ناريمان، ووعيها بالذات، والآخر، والمجتمع.

ونستطيع أن نلمح بدايات تشكيل كينونة ناريمان في لحظات النشوء الدالة، وفي فعل الحكي، وفي علاقتها بالأشباح، وبزهور التيوليب التي تشبه شقائق النعمان، وأفكار التجدد في تصور جيمس فريزر عن تموز، أو أدونيس؛ فقد مارست ناريمان فعل الحكي – في براءته الأولى – في خلوتها الوجدانية بالأرنبة كاستيلا؛ وكأن الحكي هنا يستنزف الموت، ويتجاوزه، ويفكك مركزيته مع استحضاره في آن.

وتذكرنا أخيلة اليقظة، وأصوات اللاوعي المتعلقة بمنزل الرعب – في الرواية – بالتناقض النيتشوي بين عدالة أبولو، وتمزق ديونسيوس في كتابه مولد التراجيديا؛ فزهرة التيوليب تشير إلى الانبعاث، والتجدد، وتشكيل الكينونة، بينما تشير الأبراص، وظلالها، وأشباح المنزل، وأصواته إلى لحظات التوقف المحتملة، أو إلى إيماءات الغياب، أو غلبة الخطاب الأبوي؛ وسنجد أن نزوع ناريمان نحو التحرر، وتشكيل الذات قد تصاعد – في صراعه مع الخطاب الأبوي المركزي – حين حاول الشندويلي حرق الكتب التي تشكل جزءا من كينونتها، بينما نجد ناريمان تراجع أفكارها، وانطباعاتها عن الشندويلي مرة أخرى عقب عزائه؛ وكأنها تتجاوز الثنائيات القديمة بين الذات، والآخر، وتواصل – على مستوى الوعي – تحققها، وتجددها المناهض لكوابيس الطفولة، ولإيماءات الغياب في الحلم، وفي أحلام اليقظة التي انحازت فيها ناريمان للتأملات الأنثوية الشاردة طبقا لباشلار في كتابه شاعرية أحلام اليقظة، والتي تجلت في تأملاتها، وحكاياتها للأرنبة كاستيلا؛ وقد صارت الأرنبة موضوعا لعالم افتراضي في وعي البطلة، يذكرنا بعلاقة الطفلة بالبطة البرية، وحضورها الرمزي في مسرحية البطة البرية لإبسن.

وتتنوع أشكال الخطاب المتصلة بالشخصيات الأخرى، وتحولاتها في الرواية، والتي نعاينها من داخل وعي ناريمان، ولكنها تؤكد المبدأ الحواري بين الذات، والآخر في نسيج الرواية طبقا لتصور تودوروف عن باختين؛ فالذات تعاين مجموعة من الخطابات، والأمزجة، والنوازع المتناقضة، وحالات الحضور، والغياب، والتحول الجدلي في رصدها لتطورها الذاتي، وتطور الشخصيات الأخرى في النص.

يتجلى محمد ناصر كأب روحي لناريمان في تمرده على المركزية، وزواجه من مسيحية، وسفره للخارج، ويجسد خطاب ناصر الانحياز لتحقيق الكينونة الذاتية، والبحث المستمر عن الحقيقة، ويبدو تطوره شبيها بناريمان؛ فكل منهما بحث عن كينونته بصورة نسبية، وإن تحققت كينونة البطلة وفق أخيلتها الأنثوية، وعلاقتها بأطياف الغياب المؤجلة – في الوعي واللاوعي – في تجدد زهور التيوليب، وتحقق الكينونة الأنثوية.

وتبدو نسرين كنقيض لناريمان؛ فهي تجسد نموذج التدين الشكلي، بينما يرتبط مصير ناريمان بمقاومة النموذج المسبق عن المرأة، وهو ما يذكرنا بأفكار سيمون دي بوفوار عن ارتباط تحقق المرأة بالمشاريع، والأهداف النسبية في كتابها الجنس الآخر، وقد طورت ناريمان من وعيها بالذات، والآخر من خلال آثار الفعل الجمالي الذي تجلى في أثر الموسيقى، وفي فعلي القراءة، والكتابة.

ويجسد ريعو تناقضات اللامبالاة، والمواجهة المباشرة للحقيقة، ثم ترصد الساردة غيابه الذي يجمع بين الصمت، والصخب السابق، أما نور السويفي فهو المؤول التاريخي، والشاهد على التحولات الثقافية من منظوره الذي يرتكز على الأصالة، ويبدو ذلك في تناوله للأوبرا، والمسافرخانة انطلاقا من خطاب سردي تاريخي، يقوم على الانحياز لكل من الأصالة، والنوستالجيا؛ أما يحيى فيجمع بين التمرد، وقبول المتعة الحسية، والتحقق الذاتي النسبي، والحياة المشتركة في علاقنه بناريمان، وتواجه سلوى تحولا من البهجة إلى الصمت عقب وفاة شوق صديقتها، ورغم جدلية تحول سلوى، فإنها تبدو أخيرا وكأنها تبحث عن التجدد أيضا، وقد شكل غياب الشندويلي نوعا من التعاطف الداخلي، ومراجعة التمرد في وعي ناريمان؛ وكأن حضوره المركزي السابق قد اقترن بالتسامح إزاء دائرية الصمت، وقسوته التي ارتبطت بنشوء ناريمان، وتأملاتها الأنثوية المقاومة للموت؛ ومن ثم يجمع نص هدى توفيق بين مجموعة متنوعة من أشكال الخطاب، والتحولات التي تؤكد التنوع، والنسبية، والتعددية.

ومن الملامح التجريبية في النص علاقة الذات بالفضاء؛ فالمنزل المخيف يبدو فضاء نصيا مزهرا أحيانا، ونيتشويا أحيانا، ومستبدلا بقبو عايدة في القراءة المحتملة، وفي النسق السيميائي للخطاب السردي الذي ينحاز للتجدد، والمقاومة غير الواعية للغياب.

 

msameerster@gmail.com