برغم إعجاب الكاتب والشاعر الفلسطيني بسينما يوسف شاهين، إلا أنه يقدم هنا قراءة نقدية لفيلمه الشهير عن ابن رشد، يكشف فيها أن رغبة المخرج في تحويل قصة حياة المفكر العربي الكبير إلى أمثولة لما يدور في الحاضر، أدت إلى وقوع الفيلم في الكثير من الأخطاء التاريخية والفكرية.

فيلم «المصير» لم يُلامس ابنَ رُشد!

أين صراع «العقل والنقل» وسط الليبراليّة وسراديب الإرهاب؟

المتوكل طه

 

للمرة الثانية، أشاهد فيلم "المصير" للمخرج العربي العالمي يوسف شاهين، الذي تشدّني أعماله، وأسعى لرؤيتها والتبؤّر فيها. لأشعر، بعد مشاهدتي لأيّ من أفلامه، أن السينما العربية تستطيع أن تكون مختلفة، ما دام هذا "المجنون" يطوّح عروش "النمط" المكرور الباهت في براري الخراب، ليفترع الأرض من جديد وينعف هذه البذور المميزة، التي تنهض واثقة ممتلئة ممرعة. أُحب مشاهدة سينما يوسف شاهين كمواطن رائي، فأنا لستُ ناقداً سينمائياً، لكن فيلم "المصير" جعلني أطرح بعض هذه الملاحظات التي أراها "معقولة" وقد تفيد أحداً، في حين أعرف أن شاهين مخرج ذكي ومجرب ولا يتوقف في محطة فنية واحدة، كما اعتقد أن هذا المخرج صاحب رؤية كبيرة، دفعته الى الواقعية يوماً، ثم التجريبية بكل تجلياتها الفانتازية والتاريخية والنفسية، حيناً لاحقاً. نعرف جميعنا، أيضا، أن هذا المخرج قادر على قراءة التاريخ والواقع بشكل عميق، وانه، أيضا، وهذا هو الأهم برأينا، مخرج مغامر بوعي مسبق، وعالي التجريب، دفع الى عروق السينما المصرية خاصة، والعربية عامة، دماء جديدة ورؤية جديدة، قلّما رأيناها في أفلام قدّمها مخرجون واقعيون اعتبرت علامات مميزة في المشهد السينمائي العربي.

وسأتجاوز ما أثير حول أفلامه السابقة وبالذات فيلم "المهاجر" الذي أخرجه الرجل قبل سنوات عديدة، ولن أُشير إلى الرؤية الفكرية التي حكمته أصلاً، بل سأتناول فيلم "المصير" الذي نال المخرج بسببه جائزة مهرجان كان السينمائي. وكان مصدر فخر لنا جميعاً. فما الجديد والمبهر والخارق للعادة الذي تميز به هذا الفيلم؟ ولماذا هذا الضجيج الذي رافق الفيلم؟

أجيب على هذا التساؤل بالقول إن فيلم المصير لم يتحدث أصلاً عن ابن رشد، ولا عن فكره ولا عن حياته ولا عن قضيته الرئيسة؟ ويتفق معي كل من عرف بالتاريخ والفلسفة أن فيلم المصير لم يلامس ولو بشكل ضئيل قضية ابن رشد الأساسية. ذلك أن ابن رشد اعتمد منطق أرسطو في صياغة أفكاره ومعتقداته، الأمر الذي أدى به إلى القول: إن العالم وحدة أزليّة لا يجوز عليها العدم، وقوله بالسببية، واعتقاده بأن الإسلام مؤسس على الغيب لا على المنطق، بكلمات أخرى، حاول ابن رشد أن يجعل من الإسلام الذي اعتبره "إيماناً من نوع خاص" ينطبق على قوانين المنطق الأرسطوي، ولهذا السبب أنكر علم الكلام الذي يتمّ من خلاله إثبات أمور لا يقبلها العقل أو المنطق (من هنا فإن الأشاعرة الذين وضعوا الأسس العقلية للإيمان السُنّي استعملوا علم الكلام بكثرة، ويعتبر أبو موسى الأشعري أهم شخصية حتى الآن في هذا المجال)، يضاف إلى ذلك أن منطق ابن رشد قاده إلى إنكار حدوث العالم وإلى اعتماد مبدأ السببية (العلّة والمعلول) الأمر الذي يقود في نهاية الأمر إلى رفض المعجزات والإرادة الإلهية. هذه الأمور مجتمعة جعلت من علماء السُنّة والجماعة يتصدون له، ويكيدون له، ويحفرون تحته، ويعملون على تخريب العلاقة بينه وبين الحاكم، في دولة هي أول دولة إسلامية تعتبر الفلسفة أحد أركان شرعيتها.

إن الدولة الموحدية هي الدولة الأولى في تاريخ المسلمين التي اعتمدت مذهب التوحيد الكلامي الذي يخالفه ابن رشد علناً وجهراً، ولا عجب في ذلك إذ أن مؤسس دولة الموحدين هو فيلسوف متكلّم يدعى محمد بن تومرت، واستنّ محبة العلماء ومحبته الفلسفة، ولهذا فإن الأمير أبا يعقوب الذي عاش ابن رشد في كنفه دعم هذا الأخير، وولاّه القضاء مرتين، وكذلك فعل ابنه الأمير يعقوب، فقد ظل حامياً ونصيراً للفيلسوف رغم مخالفته له في آرائه، وفي عهد الأمير يعقوب حدثت محنة ابن رشد وليست في عهد أبي يعقوب (وهذا عكس ما ظهر في الفيلم) إذن، ابن رشد الفيلسوف والقاضي ورجل الدولة والطبيب، لم يظهر في الفيلم إلا رجلاً يعيش في (ربع) باللهجة المصرية، يضم غجراً وأشخاصاً هامشيين، تغلب عليهم أساليب (الحياة الليبرالية)، وظهر ابن رشد داعماً لهذا النوع من الحياة التي تكاد تكون مكشوفة (الأمر الذي يجعل من هجوم الفقهاء عليه مبرّراً، من وجهة نظرهم على الأقل، وليس لفكره فقط).

ظهر ابن رشد في الفيلم ليس صاحب قضية فكرية، بل صاحب قضية سياسية وهي الحفاظ على قوانين وأسس المجتمع الليبرالي الحرّ، حيث لا يمتلك احد الحقيقة، وحيث الحرية الشخصية غير المنضبطة ولا المقيّدة هي أسمى الأهداف، ليس هذا فحسب، بل ظهر ابن رشد، أيضا، وكأنه هو الذي يجب أن يكون الحاكم الفعلي والمقرر الأول والأخير في دولة الموحدين، وظهر ابن رشد، أيضاً، وكأنه يملك الحقيقة وحدها (وهو الأمر الذي حاول الفيلم أن يقول عكسه). وحتى نقول الأشياء كما هي، حاول الفيلم أن يرصد ذلك الصراع الهائل والطويل والمرير بين (العقل والنقل) أو "العلم والإيمان"، ولكنه وبدلاً من أن يجعل الفيلم يقوم برصد ذلك بدقة وتاريخية وعلمية فقد حول هذا الصراع إلى صراع على النفوذ والمصالح والعروش، وهكذا، فإن الطرف الآخر الذي يمثل عقلية النقل أو حالة الإيمان، ظهر في الفيلم وكأنهم وحوش، بأدمغة مغسولة ومنوّمة، ولا يسعون إلا إلى توريط الحاكم ومن ثم السيطرة عليه، وهم من اجل ذلك على استعداد للخيانة، نقصد خيانة الوطن.

هذا بالضبط ما حصل، أي أن رؤية المخرج، وصلت به إلى إلصاق تهمة الخيانة والفساد والإرهاب لمن يمثلون الفقهاء الذين خالفوا ابن رشد في القرن الثاني عشر. وقد جُرحت دقة المخرج ونزاهته وموضوعيته عندما صور الخلاف بين الطرفين على أنه خلاف على السلطة السياسية والمصالح والنفوذ، لأنه لم يشر بما يكفي أبداً إلى الفكر الجريء الذي جاء به الفيلسوف، الذي حاول أن يوفق بين الشريعة والعقل. إلا أن ذلك لم يخفف من الغضبة عليه (نحن هنا لا ندعو إلى اغتيال الحريات أو حرية المعتقد والتفكير ولكننا نناقش ما حدث قبل ثمانمائة عام).

ولأن شاهين لم يناقش ما حدث في الأندلس قبل ثمانمئة عام، وإنما يناقش ما يحدث في مصر والعالم العربي في التسعينيات من القرن المنفرط، لهذا جعل من فقهاء اشبيلية وقرطبة أمراء إرهاب وأقطاب تخريب، وجعل من ممثّلي التيار الإسلامي السُنّي في الفيلم قوى تعمل ضد العقل والحرية وضد الليبرالية بل والوطن، مسقطاً ذلك على ما كان يحدث في العقد الأخير من الألفية الثانية، وما كان يحدث وقتها لا يستدعي من أي مثقف أن يسم هؤلاء بذلك بشكل آلي مباشر، بل عليه قبل أن يفعل هذا أن ينتبه إلى كثير من العناصر والعوامل والأسباب التي أدت إلى انفجار العنف والإرهاب، في العالم العربي، وعلى هذا المثقف أن يعي تلك العلاقة التي تحكم النظام بجماهيره. الجماهير لا تحكم بالفقر والحديد والنار.

وكان شاهين ذكياً جداً في اختباره للهجة المصرية المحكية لتعبر عن هذه الحالة. فمن ناحية هو يسلب قوة النص تأثيره، ويمحو ما للكلام القديم من سحر، وينزل هذه الرفعة التي يتميز بها القديم إلى الأرض، لنرى كأن ما حدث قديماً يحدث اليوم، وكأن شيئاً لم يتغير! ولكن هذا غير صحيح أيضاً. ليس هناك حاكم مثل أبي يعقوب الموحدي، ولا مثل ابنه يعقوب اللذين ناصرا الفيلسوف على خصومه (للمعلومات، فإن نفي ابن رشد لم يستمر سوى سنة واحدة، ثم عاد إلى ما كان عليه من حظوة عند الحاكم)، وابن رشد لم يكن يمثل منظمة غير حكومية تتلقى تمويلاً من ملك قشتالة، ولم يكن على صلة بجهاز مخابرات أجنبي، ولم يكن يمثل ثقافة فرانكفونية أو أنجلوساكسونية، ولم يكن مستورداً للتجارب أو مترجماً سيّئاً للكلام، كل ما هناك، كان ابن رشد رجلاً حرّاً في تفكيره، انبهر بالفيلسوف اليوناني وحاول أن يطبّق ما قرأه على ثقافته الإسلامية، فكان هذا المزيج العجيب من الفكر الفلسفي المنطقي الذي يستطيع طالب فلسفة في السنة الأولى من نقاشه (الآن وبعد انفجار الذرة، وزوال الأوهام حول المادة، وقصور العلم والعقل عن إثبات أو ادعاء امتلاك الحقيقة).

باختصار، يمكن القول إن هذا الفيلم قدّم عرضاً خيالياً ورؤية نقدية شخصية لواقعة تاريخية قبل ثمانمئة عام، وأن هذا العرض "الخيالي" وهذه الرؤية تدعونا نحن المشاهدين إلى عدم قبولها كما هي أو الانبهار بالضجيج الإعلامي حولها، ذلك أن هذا الفيلم يقدم وهماً جديداً على وهم قديم، وهو منحاز منذ البداية إلى ما يعتقد أنه الحقيقة النهائية والأخيرة، وأن ابن رشد ضحيّة عصور الظلام والاغتيال، يتكرر دائماً وفي كل جيل، وأن ثقافتنا تضيق بكل ما هو جريء وحرّ.. ولكن الحقيقة التاريخية تقول لنا بكل بساطة إن هذه الأُمّة ستستمر وستتواصل وستصمد وستتصاعد وستنتصر لأن هذا قدرها الذي قرره الله سبحانه وتعالى في سابق علمه وإرادته، رغم كل النتوءات التي شهدها تاريخ العرب والمسلمين وحالات الحرق والإعدام.. وعلى الرغم مما يحدث الآن من اقتتال وتطرّف وخراب ودمويّة .

رغم هذا كله، فإننا نشير، أيضاً، وبموضوعية كبيرة إلى قدرة هذا المخرج، يوسف شاهين، على استعمال أدواته العقلية والفنية في إدارة كاميرا بطريقة تكاد تكون مثالية، وتشير، أيضاً، إلى قدرته الكبيرة، في تقديم شخصيات تستطيع حمل مضمونها وتوصيله، وكذلك إلى مهاراته المتعددة في ضبط الإطار ومعالجة المسائل الأكثر تعقيداً لتقديمها بأبسط الأشكال وأكثرها ربطاً للمشاهد. وربما يقودنا هذا الحديث إلى عشرات الآلاف من الأوهام التي أوقعتنا فيها السينما المصرية بوجه خاص والعربية بشكل عام، من حيث أنها تقدم كل ما ليس فينا، وما لا نعيشه، وما لا نحياه، وكأن السينما في واد ونحن في وادٍ آخر إلاّ القليل القليل.

وبصرف النظر عما قلناه هنا، إلاّ أن هذا الفيلم مثل غيره من أفلام يوسف شاهين، ومهما اختلفت الآراء حول مضامين أفلامه، فإنه ظلّ واحداً من أهم عباقرة الفن السابع الذي وظّفه لخدمة قضايا مجتمعة بدءاً من فيلم "باب الحديد" و"الناصر صلاح الدين" ومروراً بفيلمي "الأرض" و"العصفور" اللذين رفض من خلالهما هزيمة 1967 .. وانتهاءً بفيلمه هذا "المصير" الذي حاول من خلاله أن ينتصر للعقل وللحريّات في مواجهة الظلامية وقوى القمع والتخلّف كل ذلك من خلال أدوات فنيّة استطاعت أن تقول إن سينما شاهين هي الأكثر عافية، وهي التي نعوّل على مثيلتها، فنياً -على الأقل- في التصدي لأفلام المقاولات التجارية التي أفسدت الوجدان وأسقمت العقول وأشاعت الخسران والتفاهة في الروح.