في صيدا، في ثانويّتها التي كنتُ يومها مديرتها، تعرّفتُ على كاتب ياسين. كان ذلك أوائل نيسان/ أبريل من العام 1974، على ما أذكر. جاء بصحبة مهدي عامل، أستاذ الفلسفة في هذه الثانويّة. جاء ينتظره ريثما ينهي درسه.
كان مهدي قد حدّثني عن كاتب ياسين، صديقه، وسألني إن كان بإمكاني تأمين مكان له في صيدا، مجرّد مكان ينعزل فيه للكتابة. مكان مؤقت، أضاف، “أكثر دفئاً، في هذا الوقت، من بيتي الصيفي في صبّاح (مصيف بارد محاط بأحراش الصنوبر)، سأنقله إليه بعد شهر تقريباً”.
كان هذا المكان المؤقّت شقّة شاغرة، لابنة شقيقتي، في عبرا (ضاحية شرق صيدا) قريبة من سكننا يوم ذاك.
لم أكن أعرف كاتب ياسين شخصيّاً، لكنّي كنت قد قرأت روايته “نجمة”، وامتلأتُ إعجاباً بها. هكذا رحتُ أتأمل وجهه النحيل، ونظرته التائهة، وقد لفتتْني فوضاه حين زرته، برفقة مهدي، في مكان إقامته في عبرا: أوراقه الكثيرة المفرودة على طاولة للطعام، وصورة ورقيّة كبيرة للينين ملصقة على باب غرفة نومه، وبقايا طعام تملأ أرض المطبخ، وطائر يأكل، طائر أنثى يدعوه عائشة.
لكن… من هي نجمة؟
من هي نجمة؟ تساءلتُ في سري. هل هي ابنة أب جزائري وأمّ فرنسيّة؟ هل هي عاهرة تنام مع رجليْن من قبيلة بني “قيلوط”، قبيلة كاتب ياسين؟ هل هي لقيطة تتبنّاها امرأة جزائريّة عاقر، ثم تُزوَّج من رجل جزائري خامل تكرهه؟ أم هي الجزائر التي تأسر عشّاقها الكثر؟
كنت أتساءل وأتذكر “لخضر” وأجد في شخصيّته شبهاً بكاتب ياسين، بحياته. فقد سُجن “لخضر”، في الرواية، وعُذِّب كما سُجِن كاتب ياسين وعُذِّب. كان لخضر مثل كاتب ياسين ثائراً، متمرداً، يدور في دائرة الهويّة والجذور وأحلام التحرّر.
هل لخضر هو كاتب ياسين؟
تساؤلات بقيت وقتها بلا أجوبة، واستقرَّتْ هكذا في ذاكرتي طيلة سنوات الحرب في لبنان وعلى لبنان، الحرب التي احتلتْ بمآسيها مكان الصدارة في وعينا ولا وعينا.
استقرت تساؤلاتي في ذاكرتي، لتستيقظ يوم ذهبتُ إلى الجزائر، والتقيتُ بـ أحميده عياشي، الصحافي والأديب الجزائري الذي كانت تربطه صداقة عميقة بكاتب ياسين، والذي كان مهدّداً بالقتل من قبل بعض المتزمّتين بسبب آرائه السياسيّة. التقيتُ به في الجزائر (العاصمة) في مناسبتين: الأولى كانت بتاريخ 4/5/2008 وبدعوة من القيّمين على جائزة مالك حداد بصفتي في اللجنة التحكيميّة. والثانية كانت بتاريخ 25/10/2011 بدعوة من وزارة الثقافة، للمشاركة في ندوة عن الرواية الجزائريّة، بمناسبة معرض الكتاب الدولي في الجزائر.
بعدها، تعدَّدتْ لقاءاتي مع عياشي. أذكر ذاك اللقاء الذي كان في مقهى على شاطئ المتوسط. هناك فرنسا، قال لي مشيرا بيده إلى الأفق، البلد الذي عاش فيه كاتب ياسين زمنا، البلد الذي استعمر الجزائر وناضل كاتب ضد سلطته. حكى لي أحميدة، يومها، الكثير عن صديقه، ثم راح يسألني عن أمور تخّص عملي ونتاجي ليفاجئني، في اليوم التالي، بمقالة نشرها في “الجزائر نيوز”، الجريدة التي أسسها وكان مديرها. كانت المقالة مكتوبة بأسلوب أدبي جميل، ذي طابع شخصي، وكانت في الآن نفسه، تستند إلى الحديث الذي دار بيننا وفيه ما يتعلق بعملي، بما يخصّ الإدارة والمسؤوليّة، وفضيلة الاعتراف بالخطأ.
احتفظت بالمقالة، واختزنتْ ذاكرتي الكثير ممّا سمعتُه من عياشي عن كاتب ياسين.
اليوم أوقظ هذا المخزون لأتابع ترحالي الأدبي، وأحاور ذاكرتي وما عرفته عن كاتب ياسين من أحميدة عياشي:
س: من هي نجمة؟
ج: نجمة لم تكن مجرّد خيال، بل امرأة عشقها كاتب ياسين وارتقى بها، في روايته، من واقع يحول بينه وبينها، إلى أسطورة لا تموت. أسطورة أراد بها التخلّص من كلّ أصوات الأجداد والأسلاف التي مثلتها نجمة، والتي سكنتْه حتى العظم.
س: لكن كيف تحقَّق مثل هذا الارتقاء بنجمة وما هي حكايته؟
ج: كتب كاتب ياسين روايته “نجمة” في باريس، في شقة أعارها له صديقه البولوني، وكان ياسين مفلساً. لذا بقي حبيس شقته هذه، لا يجرؤ على التجوّل في شوارع باريس الباردة، وكانت الكتابة تتدفّق عليه، يكتب ولا يتعب. ويوم حمل أوراقه إلى دار “سوي”، ووافقتْ هذه الدار على نشرها، غمرته الفرحة، ولم يضره أن يقول: “طلبوا مني إعادة ترتيبها من جديد والتخلّص من أكثر من نصف الرواية”.
س: هل قبل بذلك؟
ج: قبل على مضض، قبل ما لا يقبل به كثيرٌ من الكتّاب الروائيين. فأنكبَّ على أوراقه يحذف، ويعيد التركيب والبناء، ما جعل “نجمة” تتحوّل، كما قال كاتب ياسين: “إلى وجه متعدّد، وإلى صوت ذي نغمات متنوعة ومركّبة ومثيرة. تحولتْ الرواية إلى شكل متجدّد، يدور حول نفسي، ويقودني من متاهة إلى أخرى… هكذا كانت نجمة تعود من زمنها الغابر إلى زمن آخر، هو زمني الذي يحاصرني لكن لا أمتلكه، زمن يمكث داخلي وفي خارجي لكني لا أراه، بل ألتفُّ حوله ويلتفُّ بداخلي وخارجي...”.
س: هل هي حيّة؟ أقصد نجمة.
ج: “أجل”، تجيبني ذاكرتي، هي نجمة ابنة عمّه التي عشقها، وغدتْ أكثر من امرأة في روايته، غدت عالماً هو الجزائر: الزمن والحياة، الأجداد وكل الأصوات التي كانت تسكنه حتى العظم.
يوم وفاته عادت نجمة امرأة من لحم ودم، ترتدي الأسود. عيناها غائرتان “وملامحها تحمل نفس الكآبة التي تظهر على وجه ياسين، يوم كان وحيداً، صامتاً، غارقاً في تأملاته وهو يسير متكئاً على عكازه في غابة “عكنون” ذات خريف أصفر…”
س: هل استطاع أن يقول لفرنسا بأن الجزائر ليست فرنسيّة، هو الذي كان يكتب بلغتها؟
ج: اللغة الفرنسيّة “غنيمة حرب”، كما قال، وشخصيّة نجمة عبّرت عن المعاناة في أن تكون الجزائر جزائريّة. لقد اهتم كاتب ياسين بفئات المجتمع المهمَّشة لكن التي تشكّل أساس بنيته، والتي بها تتحقق عمليّة التغيير، أو الثورة المجتمعيّة: الشباب، والعمّال، والنساء، وأهل الأرياف. في هذا الصدد تبرز صورة لكاتب ياسين المناضل عبر المسرح. وذلك بكتابته نصوصاً مسرحيّة تهدف إلى تثوير الوعي الجمعي، وعي أبناء الشعب الجزائري المهمَّشين، وتزويدهم بثقافة تجد أصولَها في تاريخ هذا الشعب، وتقرأ ما يعيشه ويعانيه في حياته اليوميّة.
لقد سعى كاتب ياسين، تتابع ذاكرتي، إلى تكوين فرق مسرحياته من الهواة، من الشباب والعمال والنساء، وأهل الأرياف الذين حلم بأن ينطلق المسرح من أرضهم، ولهذا الغرض حمل نشاطه المسرحي إليهم، وتوسَّل اللغة العربيّة الشعبيّة التي يحكي بها أبناء الشعب الجزائري ويفهمونها. ولهذا الهدف حرص، في نشاطه المسرحي، على إشراك تلامذة المدارس الثانويّة، وأسّس فرقة مسرحيّة أطلق عليها اسم “النشاط الثقافي للعمّال”.
س: هل نجح، أو ما هو مدى نجاحه؟
ج: لقد غامر كاتب ياسين بحياته حين توسَّل المسرح للنضال. ذلك أن العمل المسرحي، سواء أكان تقديماً أو كتابة، اعتُبِر من قبل السلفيّين نشاطاً يفسد العقول، يجب أن يعلن أصحابُه توبتهم وإلاّ حلَّ قتلهم. هكذا هاجم أئمة الإخوان المسلمين كاتب ياسين، وناهضوا عمله المسرحي. فأقفلوا في وجهه المدارس التي كان يحرص على إشراك تلامذتها الثانويين في نشاطه المسرحي.
س: هل صحيح أن كاتب ياسين كان معجباً بـ آية الله الخميني؟
ج: صحيح. إعجاب كاتب ياسين بـ آية الله الخميني يجد تفسيره في علاقته الفكريّة القويّة بـ علي شريعتي، الذي كانت أعماله النظريّة بمثابة الخزان الروحي والفلسفي للثورة التي قادها الخميني. شريعتي درس في فرنسا، وتأثر بـ جان بول سارتر، وفرانز فانون، وأصدر كتاباً بعنوان “الإسلام الأحمر”.
هي الثورة، أردّد في سرّي، تعود اليوم، كأنها الثمرة التي تعاني نضجها، والزهرة التي تتهيأ للتفتح. وهو كاتب ياسين، القائل: “أتحدث وأكتب بالفرنسيّة لأقول لفرنسا أنَّ الجزائر ليست فرنسيّة”.
* * *
كاتب ياسين (6/8/1929-28/10/1989)
- روائي ومسرحي وشاعر. جزائري، عُرف باسم «الثوري المتمرّد».
- ولد في ولاية قسنطينة، وكتب وهو ابن عشر سنوات، وقال: «لم يشجعني أحد على الكتابة إلاّ احتلال فرنسا للجزائر.»
- يقول إن روايته “نجمة”، 1956، ولدت “من مجموعة إيحاءات، وعلى مدى عشر سنوات”، وعرفتْ شهرة عالميّة واسعة، واعتُبِرت فاصلة في مسار النتاج الأدبي، كما اعتمدتها أعرقُ الجامعات العالميّة نصّاً مرجعيّاً.
- دخل عالم الصحافة عام 1948، ونشر في جريدة “الجمهورية” التي أسسها برفقة ألبير كامو.
- انضمَّ إلى الحزب الشيوعي الجزائري، وقام برحلة إلى الاتحاد السوفياتي ثم إلى فرنسا عام 1951.
- نجا من محاولة اغتيال في تيزي وزو، عام 1987.
- توفي في مدينة غرونوبل الفرنسيّة بسرطان الدم، ونقل جثمانه ليدفن في الجزائر.
- كرمته بلدية الدائرة 13 في باريس بإطلاق اسمه على حديقة تقع قرب مقرّها.
- بين أعماله: “مناجاة”، شعر، 1946؛ “ألْف عذراء”، شعر، 1958؛ “دائري القصاص”، مجموعة مسرحيات، 1959؛ “المضلع النجمي”، رواية، 1966؛ “الأجداد يزدادون ضراوة”، مسرحية، 1967؛ “الرجل ذو النعل المطاطي”، مسرحية 1970.