وسط تصاعد لافت لما يمكن تسميته الصراع الضاري بين السردية الفلسطينية والأخرى الصهيونية، وفي سياق كتب كثيرة حُبِّرَت صفحاتها حول الموضوع إياه، ودراسات ومقالات ومشاريع، يتصدى الناقد والأكاديمي المغربي يحيى بن الوليد للمسألة، ناظراً إليها من زاوية لافتة غير متورطة بالتأريخ لسردية فلسطينية تضيع في دهاليز السردية الصهيونية، وتدوخ داخل سراديب التاريخ، وتضارب المرويات هنا، وتدافع اللقى واللفائف والوثائق والألواح والحفريات، بل يذهب في كتابه "سرديّةُ فلسطين بين إدوارد سعيد ومحمود درويش" الصادر حديثاً عن دار "العائدون للنشر"، إلى معاينة سردية فلسطين من خلال تجربتين مختلفتين بقدر ما هما متقاطعتين: تجربة ناقد أكاديمي من طراز فريد، وتجربة شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس.
سردية الهوية
إنها سردية الهوية المتحققة الآن وهنا وإلى الأبد. الهوية الفلسطينية الخالصة من جهة والمتفاعلة مع هويات العالم أجمع من جهة ثانية. ومنذ صفحات الكتاب الأولى، تتبدى غايته النهائية دون أي مواربة: هو يريد أن يبحر بنا مستفيداً من معرفية موسوعية شاملة يتحلى الرجل بها، في كيف عبّر إدوارد سعيد (1935-2003) عن فلسطينية هويته. متى اكتشفها؟ وما الذي فعله لأجلها؟ وكيف ساجل الآخرين في معنى أن يكون بوصفه أكاديمياً أميركيّاً، فلسطينياً في الوقت نفسه؟ متى تستكين روحه لمواضعاتها التي تحقق معظمها خارج إرادته، ومتى يتمرد على مختلف تلك المواضعات؟ ما هي اللحظة التاريخية الحاسمة التي تفجّرت داخل وجدانه وفي يومياته وأدبياته وحفرياته، هويته الفلسطينية بمختلف سرديتها وشعابها واستحقاقاتها؟ وهو ما يقوم به مع القامة المتفردة الأخرى محمود درويش (1942-2008) الشاعر الفلسطيني بشموخ عربي ونبرة وتطلعات وروافد عالمية.
يحيى بن الوليد يعي، وبعمق، نقاط الاختلاف بين القامتيْن، تماماً كما يتلمس بمسبار معارفه القواسم المشتركة بينهما. من لحظة الإهداء المدوّن في مستهلّ الكتاب "إلى محسن العدلاني .. عاشقاً لمحمود درويش وإدوارد سعيد"، يتبيّن لنا بجلاء أن دافعية الكتابة عنهما ودافعية كتاب سردية فلسطين هي الحب. ابن الوليد يكتب عن اثنين يكنّ لهما الحب والاحترام والتقدير، وهو ما يظهر أكثر وضوحاً، ربما، في المدخل الآخر للكتاب المبحثي "تمهيد في سياق الوعيّ المحلّق" الذي يريد أن يخبرنا من خلاله مدى فخره بمنجز سابق له حول إدوارد سعيد، إذ إن كان يحق لنا أن نلخّص هذا التمهيد، فخلاصته هي أنه ورغم كتابته عن جابر عصفور (ناقد ومفكر مصري)، وعن المؤرخ والمفكر المغربي (الألمعي) عبد الله العروي، وعن الكاتب المغربي (اليهودي) إدمون عمران المليح (1917-2010)، وعن الثائر المغربي المهدي بن بركة (1920-1965)، وعن الكاتب المغربي محمد شكري (1935-2003)، إلا أنه يرى أن أهم ما أنجزه في سياق الكتابة عن آخرين (نقاد ومفكرين على وجه الخصوص) وأكثره قرباً إلى عقله ومنهجه ووجدانه هو ما فعله في كتابه حول إدوارد سعيد: "الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد وحال العرب" الذي يظل بحسب ما يقول حرفياً "الأقرب منّا، ولا من ناحية ما استلزمه من تكثيف الحضور التحليليّ فقط، بل أيضاً من ناحية ما ينطوي عليه البحث في حدِّ ذاته من دلالات بخصوص قامة أكاديمية وفكرية في حجم قامة إدوارد سعيد في جبهاتها النقدية والفلسفية والجمالية والفكرية المتعددة".
إن مدخل الحب والتقدير الكبير الذي ينطلق منه بن الوليد نحو سعيد يجعله يرى أن سعيد هو قامة من الطراز الذي تظل السجالات حولهم تتصاعد وتستمد حيوية متجددة متناسلة لا تخفت ولا تنتهي: "وفي ضوء ما سلف يسهل علينا التأكيد أن إدوارد سعيد من صنف القامات التي لا يمكن للسجال بصددها إلا أن يستمر، وإلا أن يطول ويطول" (الكتاب ص 18). في إطار التمهيد، أيضاً، يرى بن الوليد أن اقتصار كتابه على سردية فلسطين في منجزيّ إدوارد سعيد ومحمود درويش لا يعني "تغييبَ أسماء فلسطينية وحتى عربية خدمت بدورها فكرة فلسطين"، ويورد بعض الأسماء. وكي لا نتجاوز العتبات قبل أن نستوفي حقنا التحليلي منها، فإن ثمة عتبة أخرى من عتبات الكتاب يقتبس فيها الباحث عبارة لمالك بن نبي: "الأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها". فما هي الأفكار التي تعرضت للخيانة؟ ومن هم المفكرون الذين تعرضوا للخيانة؟
إن الخيانة الكبرى التي ما تزال جروحها تنزف هي الخيانة التي تعرضت لها قضية فلسطين من العالم أجمع. وهي خيانة لا نهائية الوجوه والوجهات، وفي ظلالها تتوسع الخيانة وتلد خيانات وراء خيانات؛ فتُخان الأفكار الحاملة همّ فلسطين، ويُخان أو يُخوَّن من يتبنى سردية فلسطين، وهلمّ جرّا. في حالة إدوارد سعيد وهو بالمناسبة القامة التي بدأ بها ابن الوليد الكتاب قبل أن ينتقل لمحمود درويش، فإن أكثر ما أشعل نار الصراع من أجل فلسطين ومسألتها داخل أعماق روحه، هو ما جرى له ومعه بُعَيْد هزيمة حزيران/يونيو 1967. فالمفكر المثقف العضويّ البليغ والإنسان الحقيقي الجارح الذي هو، لم يستوعب حجم القذارة الكونية في التعامل مع العدوان الإسرائيلي: "غير أن هزيمة العام 1967 كان لها وقع التأثير الجارف على مستوى تغيير مجرى سعيد جذرياً، فكراً وسلوكاً؛ بل ردّته إلى (أمّته) مثلما جعلته يلتفت إلى حال العرب بعامة. يقول سعيد في كتابه "خارج المكان": "لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967. فقد دفعتني صدمة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فلسطين. فدخلتُ إلى المشهد الشرق أوسطي المتحوّل حديثاً بوصفي جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية". (ص 356). فنحن بصدد سعيد الآخر وإنه لمعبّر جداً أن يكون ردّ فعل سعيد الفوري على صدمة الهزيمة هو قراره تعلم اللغة العربية. "من هنا تضافرت صدمة نكسة 1967 واستعادة اللغة الأم على تكوين الحدث التأسيسي الذي استولد سعيد الآخر" كما يقول فواز طرابلسي في مقالٍ دالٍّ ومكثّف "إدوارد سعيد في تطوّره الفكري: من شرق غرب إلى رحاب الإنسانية" (الكتاب ص 29). تحوّلٌ يشير بن الوليد إلى امتداده في مجمل تفاصيل تكوين سعيد المعرفي والأكاديمي، مما يدفعه إلى إعادة النظر في "المعرفة الغربية" التي كان صنيعتها بحسب توصيف الباحث الذي يضيف "مثلما كان غارقاً فيها في سياق التطلع نحو التميّز المعرفي" (الكتاب ص 29).
لحظة تاريخية فارقة
إنه تحوّل نحو فلسطين يرفع من وتيرة سرديتها داخل معارف سعيد. وهو بمنزلة لحظة تاريخية فارقة كما يحدث عادة مع الأبطال التراجيديين الكبار؛ لحظة ترفع من وتيرة الحب من طرف بن الوليد نحو سعيد، وتجعل وجهات الكتاب تبحر أكثر ما تبحر في ضفاف هذا التحوّل، مُركّزَةً (أي تلك الوجهات) على مجمل منجز سعيد بعد التحوّل لا قبله، فقبله كان الرجل مجرد أكاديميّ له بصماته الواضحة في نقد البنيوية ومحاولة تلمس مقولات الخطاب discourse الأدبي والنظرية الشعرية وما إلى ذلك، وإذا به يتصدى لعناوين كبرى من مثل "الاستشراق" كتابه المدوّي الصادرة طبعته الأولى عام 1978. وقبل أن يكمل الكتاب الإشكاليّ عامه الأول وإذا بسعيد العائد إلى مرافئ هويته/ سرديته/ لغته/ أسئلته الآتية من الشرق (اللعين) يتبعه بكتاب "مسألة فلسطين" 1979 بحسب الترجمة الفرنسية، وربما يمكننا تسميته "قضية فلسطين" دون أن نصاب بأي وخزة ضمير، فالفرضية الثانية (القضية) هي الأكثر شيوعاً في الأدبيات السياسية والإعلامية المتعلقة بالشأن الفلسطيني.
وإن كانت حرب 1967 وما تبعها من احتلالٍ كاملٍ لفلسطين التاريخية إضافة لصحراء سيناء ومرتفعات الجولان، باعدت الشقة بين سعيد وأي مستقبل متخيّلٍ في البرج الأكاديميّ العاجيّ، فإنها من الناحية الأخرى للنظر قرّبته من هويته العربية الفلسطينية، وأعادته (كاملاً كما أرى) إلى أترابه من النقاد والمعرفيين والسجاليين العرب، خصوصاً المنهمكين منهم بـ(المسألة) الفلسطينية، أو ولكي نقترب أكثر من غائيات كتاب بن الوليد، المنشغلين بتثبيت سردية فلسطينية مضادة للسردية الصهيونية العرجاء، ولكن المحصنة في الوقت نفسه، بقوة الدعم الغربي الامبرياليّ الذي يرى في تلك السردية تجلياً آخر من تجليات الامبريالية العالمية التي عصفت بالكون مع مطالع القرن العشرين.
من هنا جاءت العلاقة المنطقية، والحتمية ربما، بين إدوارد سعيد ومحمود درويش.
لم تكن والحال كذلك قراءة سعيد الاستشراقية مجرد ترفّ فكريّ تنظيريّ، بل هي نتاجٌ صاخب لما بعد عودته من بيروت (1973) وقد تعلم العربية والتقط مختلف مفردات الهوية وجاب مقاربات الثقافة العربية ناهلاً من أستاذ رائع هو أنيس فريحة. لم تطل الحال مع سعيد في ظلال تحولاته الكبرى قبل أن يصبح عدوّاً (خطيراً) لروافع الصهيونية في العرين الأميركي. وقبل أن تبدأ طروحاته المجللة بالعلم الرفيع، تزعج وتشاغب وتلقى الرفض بعد كل ما حققه من قبول وهو الطالب النجيب والأستاذ الجامعيّ النوعيّ المختلف.
ابن الوليد لا يترك شاردة ولا واردة من تحولات سعيد وصولاً إلى انتظامه في منظمة التحرير الفلسطينية، إلا ويسردها من مختلف زواياها. ثم ما يلبث أن يتوقف طويلاً عند تحوله (إلى فلسطينيّ أكثر من الفلسطينيين) إن جاز هذا التعبير وهو ابن القدس الذي شرب حليب فلسطين في مهد التكوّن الأول لحظة نزوله من الرحم.
العبارة المقوّسة قد تكون لسان حال أنصار مسيرة السلام العرجاء التي بدأت من مدريد عام 1991، وهي المسيرة التي أعلن سعيد دون مواربة نزوله من كل قطاراتها وحافلاتها ومركباتها البطيئة والسريعة بمجرد انطلاقها مؤمناً أن ما أُجبر الفلسطينيون على قبوله إنما هو (استسلام) لا سلام، محذراً دون أن يسمعه أحد، من استفادة الاحتلال من كل هذه الاتفاقيات واللقاءات وكاميرات التصوير، في إعادة إنتاج نفسه (أي الاحتلال) وبما يؤمّن له مزيداً من التغوّل والعجرفة والقضاء على البقية الباقية من (حلم) فلسطين.
سعيد بحسب كتاب ابن الوليد، كان حادّاً إلى أبعد الحدود في تعاطيه مع هرولة القيادة الفلسطينية نحو كليشيهات المصافحة دون أدنى تمحيص، ودون أن تكون تلك القيادة مزوّدة حتى بخرائط توضح لها على ماذا سوف تحصل وماذا سوف تضيّع للأبد. وعلى عدم تمكّن معظمهم من اللغة الإنكليزية التي خيضت كل تلك المباحثات والمحادثات وحررت الاتفاقيات بها (الكتاب ص 47).
يأخذ ابن الوليد وقته كافياً في تعريفنا من هو إدوارد سعيد، قبل أن يشبع موضوعه الثاني (فلسطينية إدوارد سعيد) أو كما منح الموضوع عنوان "في مسألة فلسطين"، بحثاً وقراءة واقتباساً، رائياً أن سعيد تعملق في محاربة فكرة (أرض بلا شعب) وأن كتابه "مسألة/ قضية فلسطين" يتأمل بشكل عميق السردية الصهيونية قبل أن يفتتها من أركانها ويهرمسها هرمسة معرفية فلسفية اجتماعية فكرية إحصائية باتعة. كتاب رفض من أميركا بالقدر نفسه الذي رفض فيه من فرنسا التي لم يعد فيها قامات من طراز جان بول سارتر ومن هم بمستواه معرفياً وأخلاقياً. وفي سياق متصل يستعرض الباحث هدف سعيد من كتابه حول فلسطين: "الإسهام في تصحيح حقائق المسألة الفلسطينية أمام الرأي العام الأميركي وأمام القارئ الغربي بصفة عامة" (الكتاب ص 61). وتوضيح أن فلسطين لم تكن "صحراء لا سكان فيها"، وأن الشعب الفلسطينيّ كان موجوداً "قبل قيام دولة الكيان"، وأنه ما يزال يقاوم رغم "التجريف الذي طاول ذاكرته وهويته" (ص 62).
العلاقة مع درويش
يفرد الكتاب مساحة معقولة للعلاقة النوعية بين إدوارد سعيد ومحمود درويش. ولكنه قبل أن يفعل ذلك، يرصد سيرة درويش منذ البروة وصولاً لأماكن إقامة يتنقل بينها في القاهرة وبيروت وباريس وعمّان ورام الله "نصف عودة إلى نصف وطن" ومدن أُخرى. كما يتوقف مليّاً عند تقاطعات درويش مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومواقفه من اتفاقيات السلام ومن السلطة التي شرعت بالتكوّن بدءاً من غزة وأريحا (أوّلاً) وصولاً إلى رام الله.
وبعد المساحة الوافية التي خصصها لسعيد، ينتقل الكاتب لسبر أعماق التجربة الشعرية والفكرية والإنسانية والمعرفية المتعلقة بالشاعر محمود درويش. وهو في مختلف فصول الكتاب وذروات تجليه، يواصل التأمّل المقارن بين التجربتين: سعيد ودرويش، بوصفهما الأنموذجين الأعلى كعباً، إن على صعيد بحث فلسطين عن سرديتها الخاصة بها، أو على صعيد تفكيك السردية الصهيونية/ الإسرائيلية، بوصفها، وفق السياق المكتوب، سردية إمبريالية لا تختلف من حيث الجوهر عن الخطاب الإمبريالي الغربي إلا بكونها سردية أكثر تصلباً وانغلاقاً ورجعية من الامبريالية الغربية على وجه العموم.
سردية الفلسطيني في مواجهة السردية الصهيو- أميركية والغربية، علاقة كل من سعيد ودرويش بالمنفى (ما تقاطعا فيه هنا وما اختلفا)، علاقة كل منهما بالمؤسسة الفلسطينية الرسمية (منظمة التحرير الفلسطينية)، علمانيتهما ومن ثمّ مفهوم كل منهما للآخر، الشكل المتخيّل عن كل منهما لحلِّ الصراع (الحلّ النهائي)، علاقتهما بالنقد وجدواه، مصادر قوة كل منهما وفرادته وكريزمات تفوقه، وتفاصيل وحيثيات أخرى كثيرة، يقف عندها ابن الوليد، ويخضعها لمبضع التحليل العميق، مارّاً على مواعيد تقاربهما، وعلى أشكال التعاون بينهما التي لم تقتصر على كتابة سعيد مقالات شبه دورية منتظمة في مجلة "الكرمل" عندما كان درويش يترأس تحريرها.
ابن الوليد يخلص في خاتمة الكتاب إلى أن فكرة السردية "ليست متعلقة بشعب أو مجموعة قومية دون أخرى"، وأن التاريخ بحاجة لمن يرويه، حيث لم يتح للفلسطينيين قبل الاحتلال كتابة "تاريخهم الوطني"، كما يذهب في خاتمته الجامعة إلى أن أهمية سعيد ودرويش تأتي من سرديتيهما وكسرهما لمألوف السردية التاريخية المثقلة بالطابع الوطني السوسيولوجي أو التقليدي، وفي عدم إيغالهما وإفراطهما في التاريخ ذاته، ومراوحتهما بين "التاريخ العبء" و"التاريخ الحافز"، وفي اعتمادهما على "منظور يبحث لسردية فلسطين عن موقع في النزعة الإنسانية الكونية وفي التاريخ العالمي للقرن العشرين ككل، وبكثير من التفرّد والتميز على مستوى "سلاح الخطاب"، ودونما سقوط في أي صنف من صنوف الالتزام الراديكالي بالفكرة الراديكالية أو "لغم الفكرة – الوثن".
دون هوادة، يعزف الكتاب لحنه صاعداً نحو معراج اليقين، مقرباً الخطى نحو فلسطين، ساطعاً بوصفه نشيد أنشادنا.
عن «ضفة ثالثة»
عن كتاب يحيى بن الوليد (سردية فلسطين بين إدوار سعيد ومحمود درويش)