اتفق تمامًا مع الكثيرين على أهمية هذا الكتاب الممتع، ليس بوصفه مستودعًا لتراث العامية المصرية فحسب، ولكن أيضًا بوصفه صورة حية لعصر وزمن تحولات كبرى فى تاريخنا، وتحديدًا فترة الحرب العالمية الأولى، ثم ثورة 1919، وتأسيس دولة دستور 1923، كما أنه يؤرخ لزمن الفتوات، الذى كان يقاوم الاندثار، والذى يلخص فى شخصية الفتوة تناقضات شتى، لعلها ما زالت عنوانًا على الكثير من سمات الشخصية المصرية.
الكتاب «مذكرات فتوة» للمعلم يوسف أبو الحجاج (عن هيئة الكتاب)، وأعاد نشره الكاتب الراحل صلاح عيسى، مشفوعًا بدراسة مهمة، وبهوامش تفصيلية تستقصى تقريبًا معظم الكلمات والتعبيرات، تشرحها وتترجمها، وتثبت أصولًا فصيحة لكلماتٍ كثيرة.
كان عيسى اقتنى الجزء الأول منه، من حديقة سور الأزبكية فى إبريل 1971، وأكمل فيما بعد جزئيه الثانى والثالث، وإن جاء الثانى مجرد تلخيصٍ للأحداث، أما أصل الكتاب فهو حلقات كان يمليها الفتوة الظريف يوسف أبو الحجاج فى جريدة اسمها «لسان الشعب».
من حيث الشكل، فإن هناك نقطتين مهمتين تفسران جاذبية الكتاب: القدرات السردية الفائقة للمعلم يوسف، والممتزجة بخفة ظلٍ أصيلة، مما جعل البعض يعتبرون هذه السيرة الذاتية أقرب إلى رواية مكتوبة بالعامية، والحقيقة أن شخصية السارد تنمو بل تتحول، والصراع حاضر فى كثيرٍ من معارك الفتوة وأزماته، كما أن ملامح الزمان والمكان والشخصيات قوية وواضحة، ولكن تعليقات السارد، ورأيه فى حياته، وفيمن حوله، وإصراره على توثيق أبطال الحكايات بأسمائهم، يجعل فكرة السيرة هى المسيطرة، فالرجل يحكى بعفوية، ويشهد على نفسه ومهنته ليس إلا.
النقطة الثانية هى طرافة كل شىء تقريبًا، فالأحداث لا تغادر الأحياء الشعبية، ويوسف أبو الحجاج من الحسينية، وطقوس الفتوات فى معاركهم، أو عند دخولهم السجن، ولحظة خروجهم منه، أو فى علاقاتهم مع بعضهم بعضًا، أو فى لحظات تعاطيهم للخمر أو الحشيش، أو فى فلسفتهم للحياة، كل ذلك منح الكتاب حيوية مدهشة، وكأنك بالضبط فتحتَ نافذةً، أعادت بكَ الزمنَ إلى بدايات القرن العشرين، وليست المصطلحات والعبارات التى ينطق بها المعلم يوسف، إلا انعكاسًا لبيئةٍ ولعصرٍ مندثر، بالكاد يمكن أن تجده فى بعض أفلام الأبيض والأسود، أو فى بعض روايات نجيب محفوظ.
هنا كنز حقيقى لدراسة المجتمع؛ سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا ولغويًا، ولدراسة حياة الفتوات وعالمهم العجيب، بل لدراسة شخصية ابن البلد الذى كان يرى الجدعنة فى الفتونة، ولكنه أيضًا يتصف بالمفهومية والذكاء وخفة الظل: يوسف أبو الحجاج الذى كان يؤمن بأن السجن للجدعان، سينمو وعيه مع الحرب العالمية الأولى وثورة 1919، وسيستخدم تعبيرات؛ مثل «الحياد»، و«عصبة الأمم»، وسيطلق على ابنه اسم «سعد زغلول»، سيلتحق بفصول محو الأمية، وسينتهى فى نهاية الجزء الثالث إلى أن: «اللى الناس ترضى عنه يرضى عليه ربنا».
الفتوة، كما عبّر عنه صاحب المذكرات، شخص بسيط وفهلوى، يعرف الواجب والأصول، ويدخل المعارك إكرامًا لأصدقائه، أو حتى من باب المزاج، فى السجن يمكنه أن يتصرف، وأن يكسب ثقة العساكر والضباط، ولكنه أيضا ابن حظ وأُنس، عنده حق نجيب محفوظ عندما قال إن الفتوة فى الواقع كانت حياته فارغة ومكررة، خناقات ومعارك تشبه بعضها، ولكنه يمكن أن يكون رمزًا لأشياء كثيرة.
يوسف أبو الحجاج فى سجالاته الظريفة مع القضاة، وفى تعليقاته التى توقعنا من الضحك، وفى آرائه عن الصداقة والحب والنساء، يعبر ببلاغة عن الثقافة الشعبية، التى ما زالت موجودة ومؤثرة، وهى ثقافة مستقلة وموازية للثقافة الرسمية، منبعها الأساسى تاريخ طويل وقديم، وتجارب وخبرات إنسانية، وأمثال ومرويات بل خرافات، وفلسفة فيها تزاوج عجيب بين الدين والدنيا، وبين الحزن والبهجة.
الفتونة كانت ترجمة لكل ذلك، والدولة اعتمدت عليها فى حالات كثيرة، أما طريقة المعلم يوسف فى الحكى، فلا شك عندى أنها كانت مرجعا أساسيا فى رسم ملامح أولاد البلد فى الدراما المصرية، بل وملامح شخصية المعلم بكل تنويعاتها، سواء بأداء محمد عبدالقدوس، وعبدالعزيز خليل، أو بأداء عبدالفتاح القصرى، ومحمد رضا.
لعل هؤلاء قرأوا أو سمعوا عن المذكرات، أو ربما يكون المعلم يوسف قد لخّص بشخصيته نموذج الفتوة والمعلم، فلم يعد ممكنًا أن نقرأ مذكراته، من دون أن نتذكر كل هؤلاء الممثلين المعلمين.