يرى الناقد المصري أن هذا الكتاب تراجيديا هائلة نجح المؤلف في بناء تفاصيلها، إنه يقطع سرد المختطفات، بفقرات سردية عن تاريخ هذه الجماعة (اسمها الفعلي جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد)، وعن ضعف الدولة في نيجيريا وفساد أجهزتها، مما ساعد على انتشار الجماعة، وعن الطبيعة الجغرافية، والتركيبة القبلية والدينية والسياسية المعقدة.

«المختطفات» .. زمن التتار الجدد

محمود عبد الشكور

 

يبدو هذا الكتاب قاسيا ومؤلما، بحجم معاناة بطلاته البائسات الصابرات، ولكنى أراه كتابا شديد الأهمية والخطورة، لأنه يترجم ما نتحدث عنه دائما من مصطلح «الفاشية الدينية»؛ بمعنى استخدام الدين لقهر البشر، وتعذيبهم، وتحويلهم إلى أرقام بلا هوية أو إرادة، وكلها من سمات الفاشية الواضحة، مهما تنكرت وراء شعارات دينية أو قومية أو سياسية.
المختطفات.. شهادات من فتيات بوكو حرام، والصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع، لمؤلفه الصحفى الألمانى فولجانج باور، وبترجمة د. علا عادل، ينقل لنا بصدق حكايات نساء وفتيات نيجيريات اختطفن لفترات مختلفة من خلال جماعة «بوكو حرام» الإرهابية، بعضهن أجبرن على تغيير الديانة، والمسلمات منهن أجبرن على ارتداء النقاب، ثم الزواج من أعضاء الجماعة، وكانت بعضهن تنتظرن التحول إلى انتحاريات رغما عنهن: يتم تلغيم أجسادهن، ودفعهن لكى يفجرن أنفسهن، ولكن المختطفات نجحن بشكل أو بآخر فى الهرب، عدن إلى قراهن لكى يشهدن أمام الصحفي الألماني، وزميله المصور أندى سبيرا، على زمن التتار الجدد، العائدين إلينا تحت عباءة الدين، والجهاد، والخلافة.
تراجيديا هائلة نجح مؤلف الكتاب فى بناء تفاصيلها، إنه يقطع سرد المختطفات، بفقرات سردية عن تاريخ هذه الجماعة (اسمها الفعلى جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد)، وعن ضعف الدولة فى نيجيريا وفساد أجهزتها، مما ساعد على انتشار الجماعة، وعن الطبيعة الجغرافية، والتركيبة القبلية والدينية والسياسية المعقدة
أما الشهادات نفسها، فكل شهادة منها عبارة عن قصة قصيرة تمتزج فيها الدماء بالدموع، جماعة بوكو حرام تقتل الرجال سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، فمن ليس منهم كفار يجب قتلهم، أما النساء فهن سبايا حرب، مجرد أجساد للمتعة، وأوعية للإنجاب، ضرب وتعذيب بالسياط، حتى وهن تحفظن القرآن، مكان الاحتجاز غابة مظلمة، وإرهاب مستمر سواء بمشاهدة الجثث فى كل مكان، أو حتى بمشاهدة عمليات إعدام بكل تفاصيلها، أقساها بالطبع عمليات إعدام لنساء تقوم بها نساء أخريات، اختطفن من قبل، وتمت إعادة تربيتهن على طريقة الجماعة، فصرن جزءا من وحشية الغابة
المأساة تتخذ بعدها الاجتماعي إذا عرفنا أن أقاليم الشمال مهمشة، وأن جنوب نيجيريا هو الجزء الأغنى ببتروله وثرواته، النساء أصلا فقيرات جدا، وكثيرات الأطفال، وتعشن على الكفاف حتى قبل ظهور التتار الجدد، ونجاتهن بالهرب لم يقلل خوفهن ورعبهن، بل إن الحكومة تنظر إليهن بتشكك، وبعض النسوة أنجبن من زيجات قسرية مع آباء من بوكو حرام، لا يوجد دعم نفسى، والتبرعات والهبات لا تصل لمستحقيها أحيانا.
المأساة فى قراءتها الأعمق مرتبطة بالجهل والفقر، وبتحالفات مريبة بين أحد السياسيين مع محمد يوسف المؤسس الأول للجماعة، من الثغرة الواسعة التى سببها ضعف الدولة، استطاعت الجماعة أن تكتسب أرضا جديدة، حتى سيطرت على أرض تعادل مساحة بلجيكا، أو 20% من مساحة نيجيريا.
طريقة مكافحة هذه الجماعة أيضا كانت متخبطة: هناك سوق كبيرة للسلاح فى نيجيريا، وحدود يهرب منها العتاد العسكرى، بما فى ذلك ما تركه حكم القذافى فى ليبيا، كما اعتمدت الحكومة، أحيانا، فى مقاومة بوكو حرام على ميليشيات شعبية، تضم مجرمين ورجال عصابات، وهؤلاء كانوا لا يقلون عن التتار الجدد فى السرقة والنهب، والعنف والوحشية.
على الغلاف البديع للكتاب تنظر إلينا إحدى المختطفات، جزء من وجهها مضىء، وبقية الوجه والجسد فى قلب السواد، فى عينيها حزن دفين، وإحساس لا ينتهى بالظلم، ترتسم عليها كل فصول المأساة، من القرية إلى الغابة، وفى نظرتها تساؤل عما إذا كان العالم سيسمح بأن تتكرر هذه التراجيديا الإنسانية.
مؤلف الكتاب يقول إن العولمة ألغت الحواجز، والمكان الذى كان بعيدا، لم يعد اليوم كذلك، هذا صحيح: «بوكو حرام» و«داعش» ليست مجرد أشخاص وعصابات، إنها أفكار فاشية احتكرت الدين، واحتقرت الإنسان، إذا توفرت أسباب ظهورها ستظهر بأشكال مختلفة، وسيصل عنفها إلى كل مكان، وستدفع النساء الثمن مضاعفا، قويات هن، كما يقول المؤلف، تخضعن للعلاج من جراح الجسد، ولكن كيف يمكن أن تلتئم جراح الأرواح؟

 

جريدة الشروق المصرية