يرى الناقد المصري أن أمجد ناصر يعيد – في عمله الروائي – طرح سؤال الوجود، والوعي بالذات بصورة تجمع بين الأصالة، والتجريب في بنية الشخصية الفنية، وتحولاتها الجمالية من جهة، وفي التشكيل السيميائي للفضاء من جهة أخرى. وقد اختار السارد لشخصيته مهنة الخطاط؛ ليومئ إلى أصالة الهوية الثقافية، وتجددها.

تجدد إشكاليات الوجود وصوره المجازية المحتملة

قراءة لرواية «هنا الوردة» لأمجد ناصر

محمد سمير عبدالسلام

 

يكشف السارد في رواية هنا الوردة للشاعر، والروائي الأردني المبدع الراحل أمجد ناصر عن تحول وعي الشخصية الفنية بكينونتها، وإمكانية تأويل تلك الكينونة وفق احتمالات متباينة، أو متعارضة أحيانا في كل من السياق الثقافي الاجتماعي، والسياق الحلمي، ودلالاته الباطنية الإبداعية اللاوعية، أوالكونية في آن، وقد صدرت رواية أمجد ناصر – في طبعتها الأولى – عن دار الآداب ببيروت سنة 2017؛ ويعيد أمجد ناصر – في عمله الروائي – طرح سؤال الوجود، والوعي بالذات بصورة تجمع بين الأصالة، والتجريب في بنية الشخصية الفنية، وتحولاتها الجمالية من جهة، وفي التشكيل السيميائي للفضاء من جهة أخرى؛ وقد اختار السارد لشخصيته مهنة الخطاط؛ ليومئ إلى أصالة الهوية الثقافية، وتجددها، بينما نراه يمارس نوعا من السخرية ما بعد الحداثية في تفكيكه للنموذج المتمرد / الإشكالي للبطل عبر تطور وعيه من الإحساس بالقيمة الحضارية الإنسانية المتمركزة على الرغبة في التحرر، إلى الإحساس بسطوة الآلية العبثية، ثم وعيه بالتحول الجدلي الشعري باتجاه فضاء سيميائي آخر قد يستبدل موقع الموت، أو يقع ضمن احتمالات الواقع، وعلاماته التي تختلط بالوجود الشبحي الشعري في صيرورة السرد الروائي.

وتتصل شخصية البطل / يونس بالتراث الثقافي العربي، وقد تعيد تشكيل شخصية دون كيشوت لسرفانتس، أو تذكرنا بنموذج المتمرد الذي أشار إليه ألبير كامو في كتابه المتمرد؛ ورغم أن دون كيشوت كان يحاكي النموذج الإشكالي بصورة ساخرة سلبية في وعي البطل، فإنه صار صورة تأويلية تمثيلية للنموذج الإشكالي الأول / المتمرد وفق صيرورة السرد الروائي، وغلبة الآلية العبثية على التعالي، والتحرر الداخلي للبطل؛ ومن ثم يمارس السارد نوعا من السخرية المضاعفة إزاء تحول البطل باتجاه شعرية الفضاء المجازي الذي يستنزف حضوره الإشكالي، وما يستدعيه من أسئلة، واحتمالات تعكس علاقات القوة المتداخلة، وآلياتها النفعية التي قد توجه الخطاب، وتستنزف وعي البطل بحقيقة الحدث، وطرائق إدراكه النسبية، والمتعارضة أحيانا.

ويمزج أمجد ناصر بين استخدام السارد للتبئير الداخلي، وتعليقاته على الشخصيات؛ وبخاصة شخصية يونس، وتحولاتها، وعلاقاتها بالشخصيات الأخرى المتنوعة؛ مثل تعارضها البنائي مثلا مع صورة الحفيد المركزية التي لا نراها من الداخل، وإنما من خلال لمحات خطابية تجسد الهيمنة الدائرية؛ وكأنها نموذج متجدد يحمل أثر الماضي بصورة رمزية تمزج بين الحضور المضاعف، والغياب، بينما نعاين الطفرات، وتحولات الإدراك واضحة في شخصية يونس، وفي تعليقات السارد التي قد تأتي استعارية، وتأويلية، ومكملة للحدث، واحتمالاته اللامركزية في النهاية، حين ينقسم يونس باتجاه فضاءين متعارضين؛ وهو ما يمثل نوعا من التجريب ما بعد الحداثي في وظائف الراوي، ولغته التي تمزج بين الفني، والحقيقي بصورة نسبية احتمالية تتجاوز مركزية النهايات في الخطاب السردي.

ويفضل أمجد ناصر الإشارة إلى الفضاءات، والأزمنة، والقوى المنتجة للخطاب الثقافي في النص، وتحولاتها بصورة سردية رمزية؛ وذلك ليعمق سارده سؤال الكينونة، وتطور وعي الشخصية الإشكالية باتجاه الشعري المناظر للعبثية التي تذكرنا بأجواء سارتر، وجينيه، وبيكيت، وكامو؛ فضلا عن احتفاء السرد بالإيماءات المجازية للروائح، والخطوط، والأصوات، وأنوثة رلي / محبوبة البطل، والتي تقترب من الحضور الطيفي الشعري في النص؛ فصورتها – في وعي الشخصية – تختلط بروائح الزهور الممزوجة بتجسد أنثوي جمالي، يشبه علامات الكتابة التي تجمع بين حضور الأثر، وصوره الطيفية الاحتمالية في الوعي.

وتومئ عتبة العنوان / هنا الوردة إلى شعرية النسق السيميائي في الرواية، والتطور العلاماتي فيما يختص بتأويل الشخصيات الفنية، وفي بنية الفضاء؛ فشخصية رلي تجسد شعرية الأنوثة في الوعي، واللاوعي، وتوحي ببلاغة الروائح، وتكوين الزهرة الطيفي، وتجسداته الطيفية كأثر يجمع بين الحضور، والمحو مثلما هو في تصور دريدا للدال، وتناقضاته البنائية، كما يشبه التشكيل السيميائي للفضاء البديل مدلول الوردة في حضوره المجازي الشعري في صيرورة السرد؛ وكأنه يستبدل بنية الواقع الفيزيقي من داخله؛ فالانتقال إليه قد تم في وعي الشخصية بالسيارة؛ وهو ما يوحي بأنه يستنزف بنية الواقع باتجاه كتابة شعرية جديدة للفضاء، ولحضور الشخصية التي تعاين الموت، والخروج معا؛ فالوردة هي التكثيف المجازي لتحولات الشخصية، والفضاء، وأخيلة الأنوثة في تداعيات النص.

ويمكننا قراءة رواية أمجد ناصر من خلال المدخل التفسيري النسبي للغة التحليل النفسي؛ وقد قدم بول ريكور تصورا للغة فرويد التفسيرية لابتسامة الموناليزا في لوحة دافنتشي، وربط بين الاستيهام، وغياب ابتسامة الأم المستدعاة من الطفولة، ومدى تحول هذه الابتسامة إلى عمل فني لدى دافنشي، ثم يتناول ريكور إمكانية التأويل لدى فرويد في أنه قد أدرك أن ليونار تغلب بقوة الفن على تعاسته في الحب؛ ومن ثم يصير العمل الفني – طبقا لمنظور فرويد – عرضا، وعلاجا معا. (1).

هكذا يعيد ريكور قراءة الاستيهام لدى فرويد من داخل كل من الغياب، والحضور السيميائي الفني المضاعف لابتسامة الأم في لوحة دافنشي في كتابه في التفسير، محاولة في فرويد؛ وسنعاين مثل هذا الاستيهام في شعرية الفضاء، وتكوين شخصية رلي في رواية أمجد ناصر؛ هذا الفضاء الافتراضي الذي يشبه النسخ المجازية من الورد، والأصوات، وتجسدات رلي، ويستنزف حالة الغياب التي توشك أن تتحقق في الواقع في نهاية المسار الإشكالي لشخصية يونس المتمردة.

*السخرية المضاعفة، والإحالة إلى دون كيشوت:

يمارس السارد نوعا من السخرية ما بعد الحداثية المضاعفة إزاء وعي شخصية البطل / يونس بكينونته، والمفارقة التي تحتمل كلا من التعارض البنائي، والتداخل مع نموذج دون كيشوت؛ فالبطل يسخر من وجود مثل هذه الشخصية، وهو يقرأ النص القديم، بينما تومئ صيرورة البطل في رواية هنا الوردة إلى تجلي علامة دون كيشوت، وصورته الأولى كتأويل محتمل لكينونة البطل الإشكالي؛ إذ يعي – في النهاية – بأنه كان جزءا من حبكات، وقصص، وعلاقات قوى، ومصالح متداخلة، ومعقدة أدت إلى بنية التخفي، والهروب الذي استبدل إشكالية التمرد في عالم البطل الداخلي؛ ومن ثم يجد نفسه إزاء نموذج دون كيشوتي يشبه لحظة تحول إدراك دون كيشوت لكينونته في عمل سرفانتس؛ فالتعارض البنائي بين البطل والشخصية الفنية، صار مستبدلا بعلاقة التداخل في نقطة تحول الشخصية باتجاه فضاء شعري مغاير، قد يستعيد عوالم الكتابة الاستعارية، ولكن في فضاء آخر مواز للغياب، ويحتمل الغياب في آن؛ وذلك لانقسام شخصية يونس في نهاية العمل بين الواقع، وفضاء الطفولة الشعري الافتراضي، والحلمي في النص؛ يقول السارد:

"كان قد قرأ نصف الكتاب خلال الرحلة الطويلة، وقسط النصف الثاني على يومين تاركا الذي يسميه "الفارس حزين الطلعة"؛ ذلك أنه لم ير شخصا مثله بين الناس ... يضحك يونس". (2).

إن النص يؤكد غياب دون كيشوت، وحضوره كأثر جمالي محتمل في الآخر معا؛ فبينما يسخر يونس من هذه الشخصية، ويعتقد أنه إشكالي حقيقي، نجده يعاني من الانتظار العبثي، ويصير علامة في حبكة لا يعلمها تتمركز حول شعرية علامة الرسالة الغامضة في حذائه؛ وكأنه يخضع لمجموعة من القوى المعقدة، والحبكات التي تتجاوز طرائق إدراكه، وسنجد إلحاح صورة رلي، وفضاء الكتابة، والطفولة على وعيه، ولاوعيه في الهوامش السردية التي يستبطن فيها السارد الشخصية خارج المتوالية التي تتمركز حول مهمته، وسفره، وهروبه؛ وكأن هذه المتوالية السردية الوظيفية نفسها تتقدم باتجاه أخيلة الوعي، واللاوعي، وفضاء الكتابة المجازي الذي يراوح السارد صورته مع بنية الواقع في نهاية العمل.

لقد طور السارد شخصيته في بنى حكائية متعارضة، يظل الاحتمال الدون كيشوتي كامنا فيها؛ فبينما تتحقق بنية الهروب إلى الحلم الطفولي الذي يشبه الفن، وتصور ريكور عن ابتسامة الموناليزا طبقا لفرويد، نجد حالة أخرى من حالات التجسد تنتظر الغياب، واستنزاف بنية التمرد، والسخرية من خطاب الشخصية، ووعيها الأول بكينونتها، وبالآخر؛ فثمة أكثر من مونولوج كما أشار السارد – بداخل يونس، وأكثر من مسار فني سردي، يعيد تشكيل وعيه بسؤال الوجود، وتأويل الكينونة.

*تعددية الخطاب، وتنوع البنى الفنية للشخصيات:

ينسج سارد أمجد ناصر مفارقة بين شخصيتي يونس الخطاط، والحناوي، ومجموعة من المثقفين، والشخصيات الأخرى المحيطة بيونس، وبخاصة في فضاء مقهى الزنبقة السوداء؛ ويبدو توجه يونس النفسي مختلفا عن الحناوي، رغم حبهما للأدب، والشعر، والقراءة؛ فيخبرنا السارد عن علامات التمرد في يونس؛ فهو مباشر، ومتحمس؛ أما الحناوي فكتوم، وهادئ، ويفضل البقاء في الظل، ثم يكشف السارد عن المفارقة بين قوة حسن فياض الجسدية، وقدرة يونس على مواجهته بالصمت، ثم فعل الحكي الذي قرب بينهما بعد ذلك.

ويمكننا معرفة رلي / محبوبة يونس من داخل عالمه، ووعيه؛ فهي تجسد نوعا من التجلي الشعري الكوني للأنوثة في ارتباطها بالعلامات الطبيعية، وتحولاتها المجازية في وعي، ولاوعي يونس؛ يقول السارد:

"إنها هناك بشعرها الرابض كماعز على جبل جلعاد، بأعطافها التي تتفوح برائحة مسك ... ذاكرته تستعيد رائحة عبيرها المتصاعد من جسدها ذاته، لا العطور، ولا مزيلات روائح العرق، وما شابه ... تلك رائحة أعشاب ظلالها الندية التي يميزها أنفه من بين ألف رائحة". (3)

لقد تجلت صورة رلي بين الفضاءين الذاتي، والكوني في الخطاب السردي، وقد ارتبطت – في وعي ولاوعي يونس – بسيمياء الروائح، وشعرية العلامة الكونية، وخصوصية التجسد الجمالي، ورغم اختلاف موقف رلي عن يونس في إشكالية التمرد؛ فإنها تتصل – في عالمه الداخلي – بالفضاء البعيد الآخر المناظر للواقع، والذي تتجلى فيه أخيلة الطفولة، وذكرياتها الحلمية، وقد اتصلت رلي – في مواضع أخرى من النص – بنشيد الإنشاد، وروائح الزهور المتنوعة التي تتقن أسماءها؛ ومن ثم فهي تجمع بين الحضور الفيزيقي، والكوني، والشعري، ونماذج الذاكرة الجمعية، ثم تشير إلى التشكل السيميائي للفضاء الحلمي الواسع الذي ارتبط بأفكار الأصالة وجماليات الأصوات، والخطوط العربية في وعي البطل.

وقد أشار السارد إلى مجموعة أخرى من الشخصيات التي اتصلت بيونس، وإلى تناقضاتها الذاتية التي أرى أنها تبدو كتشبيهات، أو استعارات تأويلية لنموذج يونس الإشكالي المؤجل، أو المفكك؛ فمحسن ينتحر بحرق نفسه؛ لأنه لم يستطع الزواج من محبوبته صباح بسبب اختلاف الدين، وحسيب مرتضى يجسد التناقض بين المثقف الذي يتقن الحديث عن القصة، والرواية نهارا، بينما يبدو كسكير، وعدواني بالليل؛ أما المعلم الشطي فتعجبه أحاديث المثقفين، وربما يشكل منها عالما افتراضيا شعريا، يماثل فضاء اللاأين في وعي يونس.

هكذا نعاين الآلية العبثية المضادة للمستقر في خطاب محسن، والانقسام في خطاب حسيب مرتضى، وفي الممارسة اليومية للشطي، بينما نجد أن خطاب التمرد في شخصية يونس مؤجل في اشتياقه المستمر لعالم رلي الذي يجسد التجانس، أو الهارموني، والاستقرار بعيدا عن المشاعر الثورية، وكذلك لفضاء الطفولة المجازي، وجماليات الخطوط العربية، وقصائد الشعر التي ربما أسهمت في انقسامه الطيفي الأخير في تداعيات السرد، ووظائفه.

*الإيماءات الشعرية لعلامات الخطوط، والروائح، والأصوات:

تسهم الخطوط، والأصوات، والروائح، والصور في تشكيل وعي يونس بالأصالة، وبكينونته، وبرؤيته للعالم من جهة، بينما تشكل عالمه الآخر الطيفي المستوحى من البناء السيميائي لتاريخ الفن، والشعر من جهة أخرى؛ وكأن هذا التاريخ الجمالي يستنزف الوجود التاريخي، والفيزيقي نفسه للبطل في النهاية، وإن ارتبط في – السرد الروائي عند أمجد ناصر – بشعرية الهوية، والوجود؛ فالخطوط العربية تبدو كأثر جمالي مؤجل للموت في وعي يونس، ويجسد أصالة الهوية الذاتية، وشعرية الأطياف الخفية للفنانين في المشهد الواقعي نفسه؛ يقول:

"لفتت نظره دقة الخطوط التي كتبت بها لافتات المحال؛ فهي تتراوح بين الثلث، والتعليق، والرقعة، والديواني الغنوج، منفذة بمزاج فني راق، وحرفية عالية، وتنافس خفي لأيد تحول بعضها على الأغلب إلى تراب". (4).

يرتكز الخطاب السردي هنا على لعب العلامات الخاصة بالخطوط، واستعادتها لطيف الفنان ضمن بنية الواقع؛ وهي تجمع بين الهارموني، والاختلاف؛ فهي تستنزف الموت، وتشير إليه في الوقت نفسه، وهي تمارس نوعا من الإغواء إزاء صلابة المكان، وأبنيته المعمارية التي توشك أن تلج التاريخ الجمالي للخطوط، وأطياف الفنانين المجازية الخفية التي تقع بين الداخل، والخارج.

أما الأصوات فتبدو مثل إيماءات لسيمفونية يصنعها المجموع في الفضاء / الشارع في وعي، ولاوعي البطل؛ وتذكرني مثل تلك الأصوات بالإيماءات التجريبية الحداثية للصوت في الشعر الحديث؛ وإن جاءت في رواية أمجد ناصر؛ لتحقق المزج بين الجمالي / التجريبي، والألم الإنساني الذي يقترب من التصوف في اتصاله بالآخر، وبالذاكرة الجمعية طبقا لتصور كازنتزاكيس عن اتصال الذات بالأسلاف، ويجسد البنى الثقافية التي تشكلها لحظة السرد في وعي يونس، وطرائق إدراكه للواقع؛ يقول السارد:

"قدر أيضا أن ذلك النشيج الموحش غناء طالع من حزن دفين، يسفر عن وجهه العاري ... نشيج أصوات حلقية ناهرة، هرولة، ثم صمت يعم الشارع". (5).

تتجلى الأصوات في الفضاء هنا مثل أطياف مجردة، ومتناقضة، وتشير إلى ملمح ما بعد حداثي في مزج الغناء بالحزن؛ وهو يذكرنا بمزج الموت، والفراغ بالغناء في قراءة إيهاب حسن لأورفيوس؛ فالأصوات المجردة تعكس أطياف الماضي، وتأويلات الوعي للوجود، والبنى الثقافية الشعرية لزمكانية الفضاء / الشارع، والتباسه بشعرية القصيدة في السرد الروائي عند أمجد ناصر.

وقد أشار السارد إلى سيمياء الروائح، والورود، وإلى بنية الاستقرار في صورة رلي في وعي يونس؛ ربما ليؤكد أن نزعة التحرر، وارتباطها بتمرد يونس غير مركزية في النص، وأن شخصيته، وعالمه النفسي يقبل احتمالية التحول، والحنين إلى الفضاء الذي تجسده صورة رلي الطيفية التي ارتبطت أيضا بالذاكرة الجمعية في قراءتهما لأجزاء من نشيد الإنشاد، وفي استباقها للمكان الحلمي الآخر الذي يستنزف بنية النهايات في المتوالية السردية الأخيرة من النص الروائي.

*تجدد أسئلة الهوية:

تنتقل شخصية يونس – في تداعيات السرد – إلى فضاء الطفولة الحلمي / الشعري فيما يشبه الشيزوفرينيا الزمكانية، وقد أحسن أمجد ناصر حين استخدم تقنية التداخل بين السرد الروائي والفنون، والأنواع الأخرى في رسم المشهد؛ إذ أشار إلى التصوير السينمائي فيما يختص بانقسام كينونة يونس حين فشلت مهمته، وحاول الهروب عبر السيارة التي تشبه فضاءات مسرح العبث عند بيكيت، وكذلك علامة السيارة في رجال في الشمس لغسان كنفاني، بينما خرج طيفه باتجاه فضاء الطفولة المتعارض بنائيا من الآلية العبثية؛ فهو حلمي فسيح، وتكثفه أنوثة رلي؛ وأرى أن هذه النهاية الشعرية / السردية التي تومئ إلى فنون أخرى، تحفر مكانا لها في السرديات التجريبية العربية، والعالمية، وتؤكد صوت أمجد ناصر الشعري في منظور السارد، وحضوره النسبي الجمالي في الرواية.

يقول:

"وكما يحدث في الأفلام، عندما تخرج روح شخص من جسده، أو يخرج منه شبحه، أو قرينه، خرج شخص من جسد يونس، له ملامحه، وانفصل عنه، رآه ، رغم العتمة، وهو يطلع منه، وينسلخ عنه بلا صوت، بلا أمل، ويترجل من السيارة التي ستأخذه، ورفاقه بعيدا ...". (6).

لقد تحول يونس تحولا جدليا شعريا من التمرد إلى الآلية العبثية، وغياب الإدراك التفسيري للحدث، ثم إلى معرفة وقوعه في مجموعة لامركزية من الحبكات النسبية المحتملة، ثم ممارسته لحالة التحول الشعري، والغياب في فضاء الطفولة المجازي، وحضوره الحلمي المناهض لبنية التمرد الأولى من داخلها، وقد استخدم السارد أيضا – في رواية أمجد ناصر – الاستبدال التفكيكي طبقا لدريدا في استنزاف بنية السيارة، والوجود الفيزيقي نفسه بالفضاء الشعري، والشخص الطيفي المجازي المؤول لسؤال الوجود، والهوية، والذي قدمه نص أمجد ناصر بصورة سردية تجريبية استثنائية.

*هوامش الدراسة

(1) راجع، بول ريكور، في التفسير، محاولة في فرويد، ت: وجيه أسعد، أطلس للنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2003، ص 150.

(2) أمجد ناصر، هنا الوردة، دار الآداب ببيروت، سنة 2017، ص 13.

(3) أمجد ناصر، السابق، ص-ص 114، 115.

(4) السابق، ص 26.

(5) السابق، ص 27.

(6) السابق، ص 222.

 

msameerster@gmail.com