يتّكئ النّاقد الأميركيّ هارلد بلوم على تسعة وثمانين عامًا، قضى ثمانين عامًا منها في القراءة، وما يقارب خمسة وستّين عامًا في تدريس الأدب. الحصيلة مرعبة من فرط الكمّ والنّوع: حرَّر مئات الكتب، وألَّف أكثر من أربعين، عدا عن عشرات الكتب التي كتب مقدّمات لها. ما من اسم مهمٍّ في تاريخ الأدب الغربيّ إلا وكان موضوعًا في مقالةٍ أو كتابٍ لبلوم. كان بعضهم محور كتابٍ كامل: وليم شيكسپير، وليم بليك، و. ب. ييتس، پيرسي شِلي، والس ستيفنز. وكتب بلوم عن بعضهم الآخر مراتٍ عديدة: لي تولستوي، جيمس جويس، مارسيل پروست، وليم ووردزورث، إملي ديكنسن، ولت وتمن، هنري جيمس، هارت كرين وآخرين. ألَّف بلوم كتابًا منذ خمسة عشر عامًا بعنوان: أين تُوجَد الحكمة؟ بوسعنا استعارة السؤال وتغيير محوره قليلًا: أين تُوجد حياة بلوم؟ كيف لنا أن نلخّص حياةً تُقارب قرنًا؟ هناك محاور جوهريّة عديدة داخل مسيرته المدهشة في النّقد والكتابة والقراءة. لدينا شيكسپير مثلًا، وبلوم –باعترافه– آخر وأكبر باردوليتر (bardolator) [مُقدِّس لشيكسپير]؛ لدينا شعراء الحركة الرومانتيكيّة، وبلوم أحد أعظم المرجعيّات النّقديّة في الشّعر الرومانتيكيّ؛ لدينا هارت كرين، وهو شاعره المفضَّل، إذ كانت قصائد كرين أوّل كتابٍ يقتنيه بلوم في حياته؛ لدينا ولت وتمن الذي يعدّه بلوم نبيّ الأدب الأميركيّ شعرًا ونثرًا؛ ومحاور أخرى عديدة. كيف نقرأ بلوم؟ يجيبنا بنفسه في كتابه الأحدث ممسوسًا بالذّاكرة: النُّور الداخليّ للنّقد (Alfred A. Knopf، 2019). يقرأ بلوم نفسه عبر الشّعر، وربما هو أعظم ناقد للشّعر في زماننا. يقرأ بلوم نفسه عبر الذاكرة، ذاكرته الثّاقبة التي بدأ الزّمن يُثْقِلها ويمحوها. نقرأ بلوم عبر ذاكرته، فيقرؤنا الشّعر أكثر ممّا يمكن لنا أن نقرأه.
تبدأ لذّة كتاب بلوم من عنوانه المُلتَبِس: Possessed by Memory. تخطر لنا ترجمات عديدة وصحيحة للعنوان، ولكن ثمّة ترجمتان تغطّيان معنى العنوان: «ممسوسًا بالذّاكرة» (بمعنى أنّ الكتاب أُلِّف استنادًا إلى ذاكرة بلوم الشّاسعة في ميدان الأدب)، أو «عن ظهر قلب» (بمعنى أنّ بلوم يكتب عن الأعمال الأدبيّة التي يحفظها غيبًا، وهو صاحب ذاكرةٍ فولاذيّة). المعنيان متكاملان، إذ نقرأ خريطةً لأهمّ الأسماء الشعريّة في الأدب الغربيّ المكتوب بالإنگليزيّة (باستثناء العهد القديم حيث يتناول ترجماته الإنگليزيّة)، ابتداءً بأسفار العهد القديم وانتهاءً بشعراء القرن العشرين. ونقرأ في الوقت ذاته أعمال هؤلاء الشّعراء التي يحفظها بلوم ويردّد قصائدهم في ليالي أرق الشّيخوخة والمرض. قيل قبل صدور الكتاب إنّه آخر كتب بلوم، فالرجل يكاد يبلغ التّسعين وبات قعيد فراشه أو كرسيّه المتحرّك. ولكنّنا سنقتفي عبارة بلوم الأثيرة التي قالها د. ه. لورنس: «ثق بالحكاية لا بالفنّان». لن نصدّق بلوم لأنّه يكرّر منذ عشرين عامًا تقريبًا بأنّ أحدث كتبه سيكون بمثابة «أغنية البجعة» يدندنه ويرحل عن حياتنا. وقد منحنا في هذه السنوات العشرين بعض أهم كتبه: شيكسپير: ابتكار البشريّ (1998)، العبقريّة: موزاييك لمئة عقل خلّاق نموذجيّ (2003)، يسوع ويهوه: الاسمان المقدّسان (2005)، تشريح النّقد: الأدب أسلوبًا للحياة (2011)، ظلُّ صخرةٍ عظيمةٍ: تثمينٌ أدبيٌّ للكتاب المقدّس (2011)، وغيرها. وكذلك، فقد أفشى بلوم لنا في كتابه الأحدث أنّه يحضّر ثلاثة كتب تُكمل سلسلته التي بدأها قبل عامين عن أعظم الشخصيّات الشيكسپيريّة. لعلّ المقصود هو أنّ هذا الكتاب آخر الكتب «الكبيرة». ولكن لدى بلوم بالذات، ما من كتاب صغير أو كبير، فبلوم هو بلوم حين يكتفي بمقدّمة، أو حين يؤلّف كتابًا بمئات الصفحات.
يصرّ «بلوم برونتوسوروس باردوليتر»، كما يطلق على نفسه تيمّنًا بالديناصورات، على أنّه ابن زمنٍ أقدم، مرجعيّاته النقدّية طُردت من زمننا، زمن الفوضى: فوضى النظريّات والتلقّي. هذا صحيح إلى حدٍّ ما لأنّ بلوم آخر فرسان النقد الأدبيّ بمعناه «الكلاسيكيّ»: أن تقرأ الأدب بحثًا عن الجمال وانطلاقًا من الجمال، لا من أجل اقتفاء شعار أو ترويج حدث أو الإعلاء من شأن أعمال متوسّطة المستوى لدوافع غير أدبيّة. ولكنّه مخطئ من ناحية أخرى، إذ إنّ أسلوب كتابة بلوم في عباراته البرقيّة المختزلة المكثّفة المتلاحقة، قريبٌ من أسلوب الكتابة في تويتر. لهذا التّكثيف محاسنه ومساوئه: صحيحٌ أنّ بلوم يخاطب القارئ العاديّ في معظم أعماله، ولكنّ فهم تكثيفاته يستلزم وجود قارئٍ واعٍ يندر وجوده اليوم. تتجلّى المساوئ في سهولة إساءة فهم هذا التّكثيف إذ سيكتفي قرّاء الاقتباسات (وهم الغالبيّة العظمى) بالفهم السطحيّ للعبارات، وبإفراغها من معناها الأعمق. أو ربّما سيفهمونها بكونها أحكامًا قطعيّةً غير مستندةٍ إلى تبرير. ومن هنا بالذات تنشأ معضلة كتب بلوم الذي يحاول في كتابه الأحدث تبديد قدرٍ كبير منها. لعل هذا الكتاب أفضل مدخل إلى عالم بلوم النقديّ والقرائيّ لمن لا يعرف كتبه السابقة، إذ يؤكّد بلوم بأنّه «كتاب استعادة ذكريات لا كتاب جدال» ولذا تغيب الحدّة السجاليّة التي تسم معظم أعماله السابقة، ويبدو هنا أبسط وأسلس وأكثر مباشرةً في الكتابة لأنّه يكتب بدافع الحب أولًا وأخيرًا. وهو تتويجٌ لأعماله السابقة بالنّسبة إلى قارئه المتابع؛ يكرّر بعض أفكاره بصيغةٍ جديدة، ويقدّم تعديلات لأفكار قديمة. والأهم أنّه يكتب عن أسماء تحاشى الكتابة عنها في الكتب السابقة لأنّهم كانوا ما يزالون أحياء، وسنحت الفرصة الآن للكتابة عنهم (في فصول قصيرة سريعة للأسف). قد نتّفق أو نختلف حيال آراء بلوم، ولكنّنا سنكون على أرضيّة واحدة حتمًا حيال الأسماء المختارة، إذ هم أهم أسماء في المشهد الشعريّ المكتوب بالإنگليزيّة. يمكن لنا أن نضيف أسماء أخرى، ربّما أهملها بلوم بدافع المساحة، ولكنّ غياب إملي ديكنسن صارخ ومستغرب من بلوم بالذات، لأنّها شاعرته الأميركيّة المفضّلة، وتناسب جوّ الكتاب عمومًا من ناحية الاستعادة والذكريات والشّجن والتّكثيف.
يبدأ الكتاب من التّعريف الشّهير الذي وضعه أوسكر وايلد للنّقد، والذي يعتمده بلوم ويرى نفسه امتدادًا له: «هذه ماهيّة أرقى أشكال النّقد حقًا، أن يكون سجلًّا لحياة المرء. ... إنّه الصيغة المتحضّرة الوحيدة من صيغ السّيرة الذاتيّة»، وينتهي بـ «كودا» [قفلة] يتناول فيها پروست وملحمته بحثًا عن الزّمن الضّائع. لا يقدّم بلوم تبريرًا لهذا الاختيار النثريّ الوحيد في جنّة الشّعراء التي زرناها معه، ولهذا الكاتب المنفرد الذي لا يكتب بالإنگليزيّة. ولكنّها قفلةٌ منطقيّة من حيث جو الكتاب الذي يسعى إلى لملمة ما ضاع من الزمن ومن الذاكرة، ومن حيث ارتباط الأدب بالسيرة الذاتيّة في أن تكتب عن نفسك بمقدار ما تبتعد منها، بحيث تبدو المقارنات (بلوم مهووس دومًا بالتّحليل عبر المقارنات، ولعلّ هذه هي أعقد وأجمل أشكال النّقد الأدبيّ) مع أوغستين، والبهاغڨاد-غيتا ووتمن مُبرَّرةً وجميلة، حيث تلامس حدود الشّعر الصّافي الذي يراه بلوم «النمط العلمانيّ المُطلَق لما أسماه القدماء ثورغيا» (معنى «ثورغيا» (theurgy) هو طقوس سحريّة لاستحضار الآلهة، ولعلّ الترجمة الفارسيّة «كرامات» أقرب ما يمكن إلى فهمنا لها). الشّعر يعني أن ننطق أنفسنا وما فيها استحضارًا لقوّة تفوق قوّتنا ولعالمٍ يفوق حدود عالمنا كي يحضر صوت تلك القّوة الغامضة التي ستُعيننا على فهم أنفسنا أكثر. ولذا كانت الانطلاقة من أسفار العهد القديم. يقرأ بلوم النص الدينيّ، ويعلّمنا أن نقرأه، من ناحية أدبيّة فقط. أن نتلقط جوهر الشّعرية في تلك النّصوص بمعزل عن حمولتها الدينيّة. المحاولة محفوفةٌ بمخاطر كثيرة نتذكّر فيها السّجال الذي أثاره كتاب بلوم ظلُّ صخرة عظيمة حين قرأ الكتاب المقدّس بوصفه كتابًا أدبيًا. يكرّر محاولته هنا بإيجاز، إذ يركّز على أسفاره المفضّلة وأبطاله الدّائمين في كتاباته السابقة: دبورة، داود، سليمان، المزامير، نشيد الإنشاد، راعوث. ويقرؤها في الغالب عبر مرآة شيكسپير ودانتي، وعبر تجلّياتها في النّصوص والقصائد اللاحقة لشعراء عديدين. نتذكّر عبارته الجميلة في كتابه المُعتمَد الغربيّ حين قال إنّه لا يكترث بالقراءة الفرويديّة لشيكسپير بقدر ما ينشغل بالقراءة الشيكسپيريّة لفرويد. وهنا أيضًا، لن تعنينا التّفسيرات الدينيّة للأسفار بقدر ما تعنينا أصداؤها الشّعرية في نصوص اللاحقين، وحضورها وتلاحمها مع إلهامات القصائد وتأثيراتها.
المحطّة الثانية هي شيكسپير، أعظم الكتّاب بلا منازع تبعًا لبلوم. وهنا نفهم ضمنيًا أنّ الزمن الفاصل بين الأسفار وبين مسرحيّات شيكسپير وقصائده يمكن تكثيفه في مرآة شيكسپير وحده، حين استوعب كلَّ ما كان قبله وعكس الضوء إلى كلّ ما جاء بعده على نحوٍ واع ولا واع. فكما أنّ للنّصوص الدينيّة حضورها اللاواعي في الأدب، بصرف النّظر عن مدى «علمانيّته»، كذلك هو حضور شيكسپير في كلُّما كُتب بعده. سيدخل القارئ إلى عالم شيكسپير البلوميّ الذي يناقض معظم الرؤى النّقديّة المرتبطة بشيكسپير وأعماله وتأويلاتها. سترتفع احتماليّة سوء الفهم هنا أكثر، على الأخص في ظل آرائنا المسبقة التي أورثتنا إياها المدارس النّقديّة المتلاحقة، ولذا لا غنى للقارئ هنا عن العودة إلى كتب بلوم السابقة التي تناول فيها شيكسپير أو بعض أعماله. كيف لنا أن نفهم معنى أن يكون هاملت البطل-الشرير من دون فهم رؤية بلوم؟ كيف لنا أن نستوعب حضور فولستاف الهائل من دون استيعاب تأويل بلوم له؟ كيف لنا ألا نستغرب حين يؤكّد بلوم أنّ إدغر هو الشخصيّة المحوريّة في الملك لير بعد لير نفسه؟ وسيتضاعف ذهولنا واستغرابنا وفهمنا في آن حين نقرأ أنّ بلوم الذي رافق شيكسپير منذ ما يقارب ثمانين عامًا يرى أنّ الإلهام بالنّسبة إليه إما أن يكون شيكسپير أو لا شيء، وحين يؤكّد في الوقت ذاته أنّ ما علّمه إيّاه شيكسپير كان كلّ شيء ولا شيء. ولذا كانت الانتقالة التالية إلى جون ملتن وقافلة الشعراء الرومانتيكيّين وسامْوِلْ جونسن، الذين يشكّلون هوس بلوم القديم المتجدّد على الدوام. الفارق هنا أنّه يقرؤهم، أو يستعيدهم بالأحرى، عبر أصداء شيكسپير.
نغنّي أو ندندن في لحظات وحدتنا ووحشتنا، ولكنّ بلوم يردّد قصائده المفضّلة التي يحفظها غيبًا، خصوصًا قصيدة الفردوس مُضاعةً لجون ملتن التي يرى أّنّها القصيدة الإنگليزيّة الوحيدة التي تنكمش أمامها القصائدُ الإنگليزيّةُ كلُّها إنْ استثنينا تشوسر وشيكسپير. تحضر القصيدة فتحضر ذكريات بلوم منذ أيام دراسته الجامعيّة في ييل، ويحضر دانتي وشيكسپير حتمًا. الفارق هو أنّ رؤية ملتن ودانتي وحشيّة، بينما رؤية شيكسپير عطوفة وفقًا لكلام بلوم. وقبل أن يواصل بلوم الغوص في الشعر يتوقّف عند ساموِلْ جونسن النّاقد الإنگليزيّ البارز الذي يعدّه بلوم أباه الروحيّ بمعنى ما، ولذا لن يفاجئنا حين يقول بتواضع إنّ جونسن كان مثاله الذي يطمح إليه طوال حياته، «مع إدراكي أنّني عاجزٌ عن بلوغ مستوى عقله، ومعرفته، وطاقته». وحين يؤكّد أن النّقد، كما علّمه جونسن وينقل لنا بلوم، يعني تدوين الحكمة، بل أدب حكمة بمعنى ما. واستحضار الحكمة وجونسن يعني استحضار الجنس الكتابيّ الذي تعرّض إلى ظلم وتشويه اليوم بما يُقاس: المقالة أكانت أدبيّة أم لا. يذكّرنا بلوم بميشيل دو مونتيني، وفرانسس بيكن بوصفهما أعظم من كتبوا المقالة في تاريخ الأدب، مع تفضيل منطقيّ للفرنسيّ على الإنگليزيّ. ولكنّنا سنشعر بخيبة حين ينتقل بلوم للحديث عن الشعراء الرومانتيكيّين، وستتضاعف الخيبة لأنّ المؤلّف هو بلوم بالذات. لا نجد أفكارًا جديدة عن قصائدهم أو حياتهم، إلا من ناحية دراسة القصيدة بالتّقاطع مع حياة الشاعر، بينما كان بلوم أفضل في كتاباته السابقة عنهم، على الأخص حيال بليك وشِلي، وهما شاعراه المفضّلان. يكتفي بلوم بتحليل سريع لبعض القصائد، ويمرّ مرورًا عابرًا على قصائد أخرى، ولكنّه يُدرج لنا قصائد كثيرة كاملةً أو مجتزأة. لا نعلم ما إذا كان خفوت الألق هنا لأنّ بلوم حاول الإيجاز فلم يترك تفاصيل مهمة كثيرة، أو لأنّه لا يجد لهم حيّزًا واسعًا في خريف حياته وهم شعراء الخريف، أو لأنّه حاول الكتابة عن أسماء كثيرة منهم فكانت النتيجة عبارات مبتورةً في الغالب. ولكن لحسن الحظ سنجد تركيزًا مهمًا على شعراء منسيّين اليوم هم صلة الوصل بين الرومانتيكيّة والحداثة: ألفرد تنيسن، روبرت برواننغ، ألغرنن سْوِنْبيرن، عوَّض النّقص الذي باغتنا بلوم فيه حين تناول الرومانتيكيّين.
نستعيد وهج الكتابة البلوميّة حين نصل إلى ولت وتمن وأوراق عشبه، في قسمٍ بعنوان جميل مُقتبَس من والس ستيفنز: «النّاقص هو فردوسنا». لا يخيّبنا بلوم أبدًا حين يتناول وتمن ولو في جملة عابرة، فهو شاعر أميركا الأبرز، وجميع شعرائها خرجوا من لحيته، ولذا سنلتقط حضور وتمن في جميع الأسماء التي كتب عنها بلوم من ستيڨنز إلى إيمي كلامپت. تغيب مرآة بلوم الشيكسپيريّة الأثيرة وتحضر مرآة وتمن حين ندخل فردوس (أو جحيم؟) الشّعر الأميركيّ (والكنديّ)، ويتضاعف حضورها – وينقص في آن ربّما – مع غياب المرآة الأنثويّة الموازية: إملي ديكنسن. يُمهّد بلوم لوتمن بعبارة موجزة ثاقبة كعادته: «بخلاف صيته، وتمن شاعر صعب. يبدو سهلًا ولكن هذا محض خداع». وهذا ما يتبيّن لنا حقًا حين نتعمّق في قراءته (ومجددًا، حين نتعمّق في قراءة ديكنسن). يمنحنا بلوم نقطة الانطلاق ويترك لنا التأويل والقراءة. ولذا أظنّ أنّ قَصْد بلوم هنا هو أنّ وتمن شاعر المتناقضات وشاعر التملّص من التصنيفات. شاعر السّماء بقدر ما هو شاعر الأرض؛ شاعر الطبيعة بقدر ما هو شاعر المدينة؛ شاعر الكلام بقدر ما هو شاعر الصمت؛ شاعر الذَّكَر بقدر ما هو شاعر الأنثى؛ شاعر الجُمُوع بقدر ما شاعر الفرد؛ شاعر الفردوس بقدر ما هو شاعر الجحيم. ومن هذا التنوّع الخلّاق والمُكبِّل في آن سنفهم الشّعراء الأميركيّين اللاحقين أكانوا من مريديه أم من معارضيه. لا مهرب من وتمن، كما لا مهرب من شيكسپير، كما لا مهرب من المتنبّي في حالتنا. لم تعد اللغة ذاتها بعدهم، لأنّهم غيّروا المعاني وظلالها.
يغيب ت. س. إليوت عن قافلة شعراء القرن العشرين. ولكنّ غيابه مُبرَّرٌ هنا لأنّ بلوم لا يسعى إلى الموضوعيّة بل إلى السَّكينة. ولن تتحقّق السّكينة في وجود إليوت وبلوم معًا؛ لا جدال ولا سجال في هذا الكتاب، ولذا لن نرى إليوت مع أنّ بلوم يشير إليه سريعًا، ولكن في معرض مقارنة مع أحد شعرائه المفضّلين، آرتشي آمنس: «في أقوى قصائده، يمنحني إليوت السّلوان، مع أنّي لن أحبّه أبدًا. مع آمنس، شخصًا وشاعرًا، أنا على أرضي منذ البدء». ولكن حتّى في أقصى لحظاته الشخصيّة لن يفقد بلوم حسّه النقديّ الموضوعيّ، وهنا نقطة تميّزه عن غيره من النقّاد. نعرف تفضيلاته الشخصيّة، نعرف مَنْ يحبّ ومن يكره، وقد نختلف معه كثيرًا في تفضيلاته، ولكنّ التفضيلات شخصيّة في نهاية المطاف. أما الجدارة فلا يمكن أن تُكتسَب إلا بقوّة الشّاعر وقصائده، ولم يحدث يومًا أن قلَّل بلوم أو رفع من شأن شاعر وفقًا لذائقة أو تفضيل، بل بناءً على الموضوعيّة وحدها. صحيحٌ أنّ آمنس صديقه وأحد شعرائه المفضّلين، وصحيحٌ أنّه أحد أهم الشعراء الأميركيّين منذ الستينيّات، وصحيحٌ أنّه يصل أحيانًا إلى مستوى عالٍ يكاد لا يضاهيه أحد من مجايليه، ولكنّ بلوم يقول بثقة: «لا يمكن لي أن أؤكّد أنّ آمنس يضاهي وتمن، إذ لا يضاهي [وتمن] من بين الشّعراء الأميركيّين إلا إملي ديكنسن». اللافت في القسم الأخير من الكتاب، الذي يتناول وتمن والشعر الأميركيّ (والكنديّ) في القرن العشرين، هو أنّ بلوم يترك المساحة الأكبر لمجايليه. لم يكن ليتجاهل والس ستيفنز وهارت كرين ووليمز كارلوس وليمز، ولكنّ التّركيز الأكبر والكتابة الأجمل كانت من نصيب المجايلين، آمنس وجون آشبري وجيمس مِرِلْ خصوصًا. فمع رحيل آشبري يُعلن بلوم نهاية عصرٍ شعريٍّ كامل، كما انتهى عصرٌ آخر مع رحيل ستيڨنز منتصف الخمسينيّات. أما جيمس مِرِلْ فسيحظى بمكانةٍ يُحسَد عليها حقًا، حين يضعه بلوم في مقارنةٍ واحدة مع ييتس، وپروست، وكڨافيس، بكونه «شاعر فراديس إيروسنا المُضاعة».
ما الذي يبقى من بلوم بلا سجالاته الرائعة؟ تبقى الذّاكرة الطّافحة بالشّعر، وتبقى القصائد ذاتها التي أصرَّ بلوم أحيانًا على وضع عدد كبير منها كاملةً، وكأنّه يريد منّا إعادة قراءتها بمعزل عنه وعن سجالاته حتمًا، ولكن أيضًا بمعزل عن ذاكرته. ترك لنا القصائد كي تقرأنا قبل (وأثناء) قراءتنا لها. علَّمنا بلوم دومًا أنّ القراءة تعني إعادة القراءة، وأنّ الشّعر سلوان الوحيدين. نقرؤه في ليالي أرقنا، وفي لحظات يأسنا المتلاحقة. لا تحتاج إلى شخص آخر، أيِّ آخر، حين تكون مع القصيدة. فكما أنّ «شيكسپير يعلّمنا أنّ كلًّا منّا عدوُّ نفسه أو نفسها»، كذا تُشرّحنا القصائد وتدلّنا على متاهاتنا الخفيّة التي لن يدركها غيرنا، وربّما لن ندركها إلا مع الشّعر وحده. في كتابه الأحدث (وليس الأخير كما نتمنّى)، يغرق بلوم ويُغرقنا معه في الشّجن: يبدؤه بالقول «وأنا أدنو من نهاية ثمانيناتي، أُدرك أنّي في فصل الرّثاء»، ويُنهيه «يمكن لفِعلِ شيءٍ للمرة الأخيرة أن يشبه رؤية محبوبٍ يرحل. فالزّمن الذي سنرى، ونسمع، ونفعل فيه يدنو من ختامه في نهاية الثّمانينات». ولكنّه لن يتركنا وحيدين مع أرقنا، بل يُهدينا كتاب ذاكرته في أكثر من خمسمئة صفحة، وعشرات القصائد التي قرأَتْه وقرأها، وينتظر منّا أن نقرأها وتقرأنا قبل خريف أعمارنا.
(عن موقع معنى)