يرى الشاعر الفلسطيني في القصيدة سكنا لشجونه وقلقه وحتى شغفه الطافح للحب، كل شيء تحمله اللغة على أجنحة المعنى واللامعنى، وفي القصيدة متسع للاختباء والسكن الصوفي والذي يمسي بوابة الكشف عن هذه الصور المتكررة لامرأة ونساء فضلن زيارة الشاعر في استعاراته ومجازاته، حيث اكتمال هذا الحوار الذي يستدعيه الشاعر وهو يفرغ شجونه على نبض القصيدة.

مطر مكتهل في شتاء إمرأة

نمر سعدي

 

القصائدُ غالباً ما تكونُ حصانا طرواديِّاً أختبئُ فيهِ

وأنا أتنقَّلُ بينَ الكناياتِ المحمومةِ وأقبيةِ الحمامِ الزاجلِ

بينَ أسرَّةِ الفراغِ ونسوةٍ يمضغنَ أضغاثَ الأحلامِ اليابسةِ

أحملُ فوقَ رأسي جرَّةً من ماءِ النوستالجيا

وأتوارى عن هواجس امرأةٍ

تحوِّلني عصا أُنوثتها السحريَّةُ

إلى شجرةِ ليمونٍ في حديقةٍ مهجورةٍ

القصائدُ سفينةٌ خضراءُ مسكونةٌ بالبحارِ والمحيطاتِ

لكنها منذُ ملايينِ السنينِ الضوئيَّةِ لم تبرحْ شاطئَ قلبي

*

منذُ الظهيرةِ، منذُ الصاعدينَ إلى

أحزانِ بابلَ أو آلامِ سيدوري

أُحمِّلُ الريحَ والأشجارَ حدسَ دمي

وأقتفي أثرَ الناياتِ في الحورِ

ليلُ الشتاءِ مصبٌّ للقصائدِ في

أصابعِ امرأةٍ.. أو وردها الجوري

أُصغي إلى شعراءٍ يهمسونَ كمن

يُصغي إلى دمعةٍ في مقلةِ السورِ

*

قارورةٌ مائيَّةٌ ملأى بأنواعِ الزنابقِ والفصولِ

فلا تكنْ فظَّاً فتكسرَها

لأنَّكَ من شظاياها ستحشو قلبكَ الورقيَّ يوما ما

ولو كنتَ الوصيَّ على مفاتنها الكثيرةِ..

هل تركتَ نحيبها الأبديَّ ينمو كالضفيرةِ

في صدى الرغباتِ

أو كالعشبِ في ظلِّ الندى القمريِّ

فيما أنتَ منشغلٌ بأشعارِ النسيبِ وبالبكائيَّاتِ؟

لن يأتي إليكَ الموتُ من سردابِ عينيها

ولن تنحلَّ قُبلةُ غيرها أبداً على عينيكَ

وهيَ تراودُ الكلماتِ عن أسرارِ معناها..

سريركَ فارغٌ والحلمٌ كابوسٌ

فهل تغفو بعيداً عن سنابلِ شَعرها الخمريِّ؟

أو تلتفُّ بامرأةٍ سواها.. نصفها شبحٌ

ونصفٌ ظلُّ ذئبٍ جائعٍ

يهذي ويأكلُ زهرةَ النسيانْ؟

*

أبحثُ في الرسائلِ القديمةِ عن شامةِ امرأةٍ أربعينيَّةٍ

عن طريقٍ مرصوفةٍ برائحةِ زهورِ النارنجِ

وبأعقابِ الغراميَّاتِ المستهلكةِ في قصائدِ البدوِ الرُّحلِ

أبحثُ في غبارِ الفراشةِ عن وجهِ زليخةَ

وعن أثرِ قبلتي على وردتها الرخاميَّةِ

أبحثُ في طريقي الطويلةِ إلى البيتِ

عن قطعةِ نردٍ واحدةٍ منسيَّةٍ

أنقشُ عليها وجهي وأرميها على أرضِ القصيدةِ

أبحثُ في محطَّاتِ القطارِ

عن مطرٍ مكتهلٍ في شتاءِ امرأةْ

*

صادقتُ في صغري الشتاءاتِ البعيدةَ

كانتْ البابَ الخفيَّ إلى عوالمِ سندبادَ..

سفينةً خضراءَ أو حوريَّةً حوراءَ

توقظني بتمريرِ ابتسامتها على وجهي

لأحلمَ بي صغيراً راكضاً خلفَ الطيورِ..

كأنَّ في روحي الخفيفةِ مثلَ غيمِ القطنِ

تزهرُ أبجديَّاتُ الأُنوثةِ حينما تهمي السماءُ

وحينَ تربدُّ الغيومُ..

وتستفيقُ على صدى القطراتِ رائحةٌ لحُبٍّ عاثرٍ ما

أو خطى امرأةٍ من الليمونِ

تتركُ حبرها السريَّ في هذي القصيدةِ

*

لا أعرفُ كيفَ اصطبغَ البرقوقُ بفمي

في مطلعِ كلِّ سنةٍ ضوئيَّةٍ

تعجنها متاهةُ الأملِ على نارٍ هادئةٍ

وعلى مرأى نوافذَ مضاءةٍ بالظنونِ..

لا أعرفُ كيفَ صنعتُ قوساً من ظلِّ الظهيرةِ الفضيِّ

أو سهماً من خطٍّ مستقيمٍ تركتهُ الحيرةُ في رملِ نهارٍ قائظٍ

ولا كيفَ أسندتُ ظهري المتعبَ إلى تنهدَّاتِ حوضِ الحبقِ

علَّمتني الحياةُ ما لم أكن أعرفُ

أن صخرةً أحملها منذُ الأزلِ

لن تصبحَ ريشةَ طائرِ في مهبِّ الأغاني

أو أثراً لفراشةٍ عابرةٍ

وأنَّ قلبَ الشاعرِ يشبهُ غربالاً بحجمِ الأرقِ

تصبُّ فيهِ بحارٌ من النساءِ

*

لا أكتبُ في المقهى أو في الحانةِ أبداً

كالشعراءِ الدجَّالينَ أو الرومانسيِّينَ المنسيِّينَ

فمنذُ وُلدتُ غريباً وأنا

أتناسلُ من كحلِ قصائدَ شاعرةٍ لا أعرفها..

وأفتِّشُ عن وجهي في ظلِّ الأنهارِ

أطيرُ خلافَ الريحِ وأُبحرُ ضدَّ التيَّارِ الأعمى

أكتبُ فوقَ الماءِ، على ورقِ البُرديِّ

على أهدابِ امرأةٍ في شكلِ غزالٍ أو فرسٍ

أمسحُ عن دمعتها كلَّ ذرورِ المكياجِ

وأنصاعُ لرغبتها في الرقصِ

وفي تنويمِ ضفائرها في الليلِ الباردِ فوقَ الأرضِ

وأحبسُ نفسي في بيتٍ

تسكنهُ أرواحُ الشعراءِ وأشباحُ الفيسبوكْ

*

امرأةٌ في استراحةِ بعدَ الظهيرةِ تشعرُ بالضجَرِ التامِّ

تقرأُ مرتفعاتِ العشيقاتِ..

تتركُ مقعدها شاغراً للكلامِ الإضافيِّ عن لعنةِ الحبِّ

أو عن حنينِ الحمامِ السماويِّ..

لا رجلٌ في الخريفِ يراودها عن حدائقها قائلاً:

لستِ كومبارسَ في الفيلمِ أو وصلةً في أغاني الهُواةِ

ولا ظبيةً في معلَّقةِ الرملِ، أو فرساً

في صدى شعرنا الجاهليِّ القديمِ، بلا طائلٍ..

أنتِ شمسٌ مرمَّمةٌ بالكنايةِ أو بندى العشبِ والأُقحوانِ

تضيءُ طريقي إلى ليلها وإلى رغبتي، وتُجلِّي اشتهائي

بنافورةٍ من دموعِ التماسيحِ في صوتها المعدنيِّ..

تُربِّي برفقٍ وصايا النساءِ

ولكنها تحرقُ الشعراءَ من الداخلِ

*

قصائدي العاريةُ المكتوبةُ بأبجديَّةٍ منقرضةٍ

القصائدُ التي تركتها في خزانةِ الملابسِ منذُ عقدينِ وأكثرَ

لم أجدها غارقةً في نومها الشتويِّ الطويلِ كما ينبغي لها أن تكونَ..

لقد تسلَّلتْ من النافذةِ إلى أقربِ سماءٍ على هذهِ الأرضِ

وأصبحتْ غابةً من أشجار الصفصافِ والغارِ

وعصافيرُ الدوريِّ الأنيقةُ التي رسمتها في الصبا

على شكلِ امرأةٍ ترقصُ وحيدةً

بقلمِ الرصاصِ المزركشِ بالنجومِ الزرقاءِ الصغيرةِ

باغتتني وطارتْ من الدُرجِ المقفلِ بحذوةِ فرسٍ وزهرةِ نارنجٍ يابسةٍ

لتكملَ هجرتها إلى الشمالِ أو إلى امرأةٍ وحيدةٍ

*

في داخلي مطرٌ وفوقَ قصيدتي

ويدٌ من المطرِ الخفيِّ تدقُّ خلفي البابَ

هل أجتازُ أشجارَ الشتاءِ كقُبلةٍ في الريحِ؟

أم أضعُ الشفاهَ على رفيفِ سنابلِ امرأةٍ..

وأتركُ من ورائي الليلَ مفتوحاً على أرقي بمصراعيهِ؟

كيْ أجدَ احتوائي في التي أهوى..

المسافةُ كالخرافةِ بينَ أجنحتي المصابةِ بالرمادِ

وبينَ عطرِ سريرها الصيفيِّ في قرِّ الشتاءِ

*

نمسكُ أذيالَ أحلامنا لا لشيءٍ

ولكنْ لننجو من الزمهريرِ أو الليلِ

نرسمُ مثلَ الصغارِ على حائطٍ مُهملٍ

وردةً نصفَ رمليَّةٍ وطريقاً إلى البيتِ

مشتى طيورٍ شتائيَّةٍ ومزارعَ عبَّادِ شمسٍ

كأنَّا سكارى غناءِ الجبالِ

كأنَّا حيارى نخطُّ قصائدنا بالشفاهِ

ونحضنُ أوهامنا بالعيونِ

*

لا وقتَ عندي للوقوفِ أمامِ سرِّ تبسُّمِ جيوكندا

والتفكيرِ في ألوانِ فان غوخَ التعيسِ

ولا لأحفنَ ماءَ صوتِ أميرةٍ شرقيَّةِ العينينِ

بالكفَّينِ والفمِ

صوتُها ظلُّ البنفسجِ.. صوتُها

البحريُّ سرُّ تأوُّهاتِ نساءِ لوركا

في الغناءِ المسرحيِّ

وزهرةٌ بيضاءُ ضاعتْ في التلفُّتِ

والحنينِ إلى الوراءِ

*

منديلها النيليُّ لا يُخفي ضفائرها الطويلةَ

أو صراخَ الماءِ في أعلى قناديلِ الرياحِ

هي الفلسطينيَّةُ الأحلى

يداها نخلتانِ صغيرتانِ..

فراشتانِ تهيِّجانِ دمي..

مفاتنها ملايينُ المناقيرِ الصغيرةِ في الثيابِ

*

متصالحٌ مع جمالها وليسَ معها

بيننا مسافاتٌ ضوئيَّةٌ كتنهدَّاتِ الظلالِ

ومطالعُ ناقصةٌ لقصائدَ رعويَّةٍ

على فمها وردةٌ أكلها أنكيدو

وعلى فمي زفرةٌ مُضاءةٌ كالحبَّارِ

متصالحٌ مع أمواجها كسندبادٍ ضلِّيلٍ

وليسَ مع بحرها المعلَّقِ كالقنديلِ في قلبي

*

طالما في شفاهِ التماثيلِ

يكبرُ عشبُ القصائدِ أو شغفُ النسوةِ الحالماتْ

لن أسألَ الريحَ عن خفقانِ الضفائرِ..

أو قمراً خافتاً في النهارِ الخريفيِّ

عن وجُهةِ الكحلِ في الأُغنياتْ

*

أينَ طوقُ النجاةِ وطوقُ الحمامةِ؟

في داخلي مطرٌ

أينَ أهربُ منهُ؟

وفي كاحلي وردةٌ من لهبْ

لا أُريدُ الجمالَ الذي ليسَ يجرحني

مثلما يجرحُ الليلَ ماءُ الغناءِ الشجيِّ

وتجرحُ تنهيدةٌ في الكمنجةِ أو في الهواءِ النديِّ

المسافةَ بينَ دمي والقصيدةِ

بينَ فمي والعناقيدِ

بينَ الصدى وحنينِ القصَبْ.