يكتب الناقد المصري أنه يمكن وصف هدا النص بأنه تجربة روحية بالأساس، جهاد داخلى تجسد فى صورة متاهة سردية، أو رحلة صعود إلى أعلى، محاولة للوصول إلى الكمال، عبر جسر متداع من النقص والخذلان.

بياصة الشوام. رحلة الكمال على جسر النقص

محمود عبد الشكور

 

لعل هذا النص الروائى المدهش من أكثر نصوص 2019 السردية ثراء، سواء فى بنائه أو فى أسئلته، ولا شك أنه من أفضل روايات هذا العام.
«بياصة الشوام» لـ أحمد الفخرانى (دار العين)، عمل مركب ومتداخل الطبقات، يمتزج فيه الواقعى بالأسطورى، والاستلهام من النصوص الدينية، بسحر التجربة الصوفية، يحضر الإنسان فى هذا النص بكل ملكاته وقدراته: العقل بأسئلته، والروح بحيرتها، والعاطفة بجموحها، والجسد بشهواته، يمكن أن تصف النص بأنه تجربة روحية بالأساس، جهاد داخلى تجسد فى صورة متاهة سردية، أو رحلة صعود إلى أعلى، محاولة للوصول إلى الكمال، عبر جسر متداع من النقص والخذلان، وكلها أفكار صعبة يستلزم أن تعجن فى مادة الفن والجمال، والمدهش أن أحمد الفخرانى نجح فى ذلك بامتياز، وهو أمر لو تعلمون عظيم وشاق، ولذلك فإن «بياصة الشوام» تجربة جمالية، بقدر ما هى تجربة روحية.
أول ما يلفت النظر، أن الفخرانى منح روايته اسما واقعيا، هذا المكان موجود فى الإسكندرية فى العطارين، وهو اليوم سوق للملابس المستعملة، وهناك أيضا مطعم حقيقى موجود فعلا هو «ملك السمان»، ولكن الواقع أعيد بناؤه من جديد فى الرواية، لينطلق إلى آفاق تستوعب التجربة الصعبة لبطلنا الذى يحمل اسم سعيد، فكأن الفخرانى قد احتذى ببطله، الذى يريد أن يصنع تماثيل ليست كالتماثيل: لقد قام الروائى بصناعة تمثاله المكتوب، مازجا بين طين الكلمات، وماء الأفكار والأسئلة، فأصبحت البياصة فى الرواية مختلفة عن أصلها الواقعى.
جدل الواقع والخيال، والملموس والمجرد، هو فى صميم معنى الرواية وشكلها معا، والواقعى البسيط تخصه أيضا أسئلة سعيد؛ لأنها ببساطة أسئلة الإنسان فى كل مكان وزمان، حول الجسد والروح، والجهل والمعرفة، والخطيئة والتطهير، والخير والشر، الفارق فقط فى مدى معرفة الإنسان بذلك، والمعرفة فى الرواية تبدأ من الواقع والجسد بكل تفاصيلهما، لتصعد إلى الروح، المعرفة وحدها هى وسيلة تخطى العقبة، وعودة الإنسان الناقص، إلى أصله السماوى.
الراوى يسرد على لسان سعيد، صانع التماثيل المثقل بالذنوب والآثام، والحالم بأن يصنع خلقا لا يقلد الواقع، وأن يصنع فنه الخاص وأصالته، ولكن الجدل يظهر أيضا بين الراوى وسعيد فى سطور مختلفة، وكأن سعيد يريد أن يمزق أقنعة الراوى، وكأنه يذكرنا أن الأسئلة تخص الجميع بمن فيهم الراوى، رغم أن التجربة والمعاناة من نصيب سعيد.
سعيد، كما قدمه الفخرانى من وراء قناع الراوى، يفقد الأب والأم معا، مشروع فنان يدخل إلى متاهة «بياصة الشوام» التى تبدو ليلا مثل جحيم أرضى، بمطعمها وفتواتها وشياطينها، حتى إدريس (بكل دلالات الاسم المرتبط بالحكمة وبصحائف المعرفة)، صاحب الورشة، يصبح مرشدا مختفيا، يلقى بأسرار أكثر مما يقدم إجابات.
وبين الورشة والبياصة، وبين اللذة وانفجار الجسد، وحضوره الواضح، وشفافية الرؤى الملهمة، يتعين على هذا البائس الناقص، ضعيف الإرادة والهمة، أن يصعد من مستوى البصقة المهملة، إلى مرتبة إزاحة الجبل، ليقود نفسه، ويقودنا معه، إلى حيث النور الخالص.
تقدم الرواية البديعة الإنسان، كما هو بكل نقائصه، ولكنها تقدم فى نفس الوقت قصيدة حب لأثمن ما يحمله الإنسان: السؤال، والفن، بل والجنون أيضا، وكلها قرابين من أجل المعرفة. تنقل «بياصة الشوام» أسئلة بطلها ومؤلفها إلى قارئها، تصهره فى أتون التجربة، تنبهه إلى أصله السماوى، وتلفت نظره إلى إرادته المندثرة، تبعثه مثل العنقاء من قلب رماد الذنب والخطيئة، تهشم ذاته لتجمع روحه، تأخذه من التحلى إلى التخلى، ومن متاهة الجهل، إلى أنوار العارفين.
«
بياصة الشوام» تنحاز فى النهاية إلى الإنسان، تكتشف فيه تلك النفخة الروحية الإلهية، تعيده خليفة مستحقا للخلافة عبر جهاد مؤلم، يجاهد سعيد نفسه بالأساس، المعركة فى الداخل، ولا صعود إلا بالانتصار على التناقضات والقيود.
ساعتها فقط سيمتلك أصالته، وسيصنع تمثاله الفريد، وساعتها فقط سيتكشف له ما وراء الطين والماء والجسد، وربما سيعرف من خلال ذلك سر الجمال الخالد، وسيكون جديرا وقتها بأن يضع مثلث الحكمة الخاص به، على كل التمائيل التى صنعها.