ينسج القاص المصري في قصته الأقرب إلى الحكاية الرمزية منها إلى التجربة الواقعية شخصية نجار البيانو الذي يكرس حياته لأنقاذ الآلات الموسيقية التي يود العازف التخلص منها لسبب ما، فيخفيها في مخزن خاص إذ هو متأكد بان العازف سيندم ويأتي ليزور آلته، فيسرد علينا حكاية أحد النادمين الذي سيلتحق بجيش النجار الموسيقي.

نجار البيانو

محمد عبد الفتاح السرورى

 

جلسَ إلى المقعد غير ذى الظهر وهو لا يكاد يصدق نفسه بأنه قد تحصّل أخيراً على البيانو .. إحتضنه وألصق على حافتهِ إسمهُ الذى نقشهُ خصيصاً كى يضعهُ فرحةً بأمنيته التى تحققت ... انسابت النغمات إلى أذنيه وهو يعزف عليهِ وأنتشى وهى تتسربل إلى ثناياه ...

ومرت الأيام ..

وفى يومٍ غائمٍ إقتاد البيانو الى أحد المناطق التى تستشرى فيها إلقاء المخلفات وهَمّ أن يهوى بالمطرقة الضخمة على الجسد الأسير فإذا به يسمع صوتاً يقول له.. إنتظر ..

إلتفت إلى صاحب الصوت فوجد كهلاً ينظرُ إليه قائلاً له بهدوءٍ يناقض طبيعة الموقف بل والمكان بأكملهِ :

أنا المسؤل عن هذا الموقع .. مخلفات الآلات الموسيقية لايتم التخلص منها هنا ... تعال معى.

حمل بعض الشباب البيانو إلى أحد الأماكن .. فى شارعٍ جانبي .. وسار مع الكهل سابقين بخطوات .. و رأى مخلفات بعض الأجهزة الموسيقية المحطمة هنا وهناك ..

قال الكهل.. إنتظرنى هنا.. حتى آتيك بالبيانو.

وضع الشباب البيانو أمامهُ فألتقط المطرقة وهوى بها على البيانو مُحطماً .. وهاهى نفس الأذن التى أستعذبت النغمات يوماً تستعذب ضجيج إرتطام المطرقة بأصابع البيانو الباكية ..

إنتهى من مهمتهِ .. تاركاً ورائه نغماً دامعاً جرّاء ما لحق به ...

ومرت شهوراً .. أعقبتها سنيناً ..

عاد إلى نفس المكان نادماً ... وقبل أن تلمع عيناه بالدمع مثلما دمعت أوتار البيانو سمع صوت نفس الكهل من ورائه قائلاً ... كنتُ أنتظر إيابك..

دلفَ مع الكهل الى قبوٍ كبيرٍ وهالهُ ما رأى...

نماذج لهياكلٍ مختلفة من الآلات الموسيقية .. بعضها حقيقي والبعض الآخر مجرد هياكل ...و بُهت عندما رأى البيانو.. لقد عرفهُ من علامتهِ التى وضعها يوماً بيديه.. وجدهُ مثل الطفل الذى ينتظر فى مكانٍ غريب عليه.. وحار ولم يفهم ... حتى آتاه التفسير ...

أشار الكهل .. نعم إنه هو.

- وما الذى حطمته أنا؟

- كان نموذجاً.. مجرد هيكل بلا أوتار .. هيكل مطلٍ لا أكثر ولا أقل ..

- لا لقد سمعت صوت ضجيج الأوتار وهى تتحطم.

  • لم يصدر الضجيج منه.. لقد أستبدلناه ..

إنتبه إلي تلك اللحظة التى سبق فيها الكهل بخطواتٍ فربما تكون هى تلك اللحظة التى تم فيها الإستبدال ..

ضاق بتلك الحيرة وقال للكهل فى حدةٍ ... أريدُ تفسيراً واضحاً .. من أنت؟ وماذا حدث؟

نظر الكهلُ إليه وقال :

أنا هو أنت.. كنتُ مثلك تماماً ..عازفاً .. أحبُ الموسيقى وتحبنى .. حتى حدث لى مثلما حدث لك .. ووجدتهم يقولون لى مثلما قالوا لك ... لا .. إنها المعازف.

بدا الأمر يتضح شئياً فشئياً.. وأكمل الكهل :

ومثلما حدث معك ... عدتُ .. نادماً دامعاً ولكننى لم أجد جهازى الذى حطمتُ فقررتُ أن أُكفر عن خطيئتى تلك بأن أنقذ آلات الموسيقى من الذبح ..

.. صرتُ نجاراً.. أصنعُ هياكل لمختلف آلات الموسيقى .. وكل يومٍ هناك فى نفس المكان الذى ألتقيتك فيه .. أنتظر ضحية جديدة ... وكما حدث معك .. أستَبدلُ الآلات الحقيقية بأخرى هيكلية لاروح فيها ... لكى تلقى هى الضربات.

ومن أين يأتى الضجيج ؟

من الآلة الحقيقية ... إنهم هؤلاء الشباب.. إنهم مثلك تماماً .. عازفون عائدون .. نادمون ...تمر السنين ويتبدلون يبقون معى أياماً ثم يرحلون ويأتى غيرهم .. وها هم الآن قد زادو واحداً ...

نظر إلى الكهل صامتاً .. حتى سمع صوت أحد الشباب يقولُ من خلفهِ ... ألمحُ شخصاً من بعيدٍ أتٍ ومعه بيانو ...

فقال للكهل :

هيا بنا .