يؤكد الكاتب على أنه قلما توجد في التاريخ دولتان تتشابهان في المنشأ والتطور والمسلك مثل الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال ممارستهما للعنف المبرمج والمنهج. ويرى إلى أنهما تسيران نحو العزلة، وتوسيع دائرة العداوة على مستوى شعوب العالم، والاكتفاء بعلاقات مصالح مع رؤوس تلك الدول.

مثلث الجريمة ونشأة الولايات المتحدة

الإبادة والرق والحرب

عبد الحميد صيام

 

قلما توجد في التاريخ دولتان تتشابهان في المنشأ والتطور والمسلك مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، وكأن الثانية إعادة إنتاج تجربة الأولى، والأولى بدأت تقتبس من الثانية رعونتها وعنجهيتها وعربدتها وإدارة ظهرها للعالم، خاصة في عهد ترامب. كلا البلدين يسيران نحو العزلة، وتوسيع دائرة العداوة على مستوى شعوب العالم، والاكتفاء بعلاقات مصالح مع رؤوس تلك الدول.

وسنحاول أن نستجلي في هذا المقال الشرور الثلاثة التي ارتكبها المهاجرون البيض القادمون إلى العالم الجديد، والتي أدت إلى قيام هذه الدولة الأقوى في التاريخ. وسنرى ونحن نتكلم عن نشأة أمريكا كأنما نتكلم عن نشأة إسرائيل. الفرق أن المهاجرين إلى العالم الجديد استطاعوا إبادة السكان الأصليين، أما المهاجرون إلى فلسطين فقد فشلوا في تحقيق هذا الحلم. والجرائم الثلاثة التي قامت عليها الولايات المتحدة هي، التطهير العرقي للسكان الأصليين، واستجلاب الأفارقة في أكبر حركة استرقاق في التاريخ، ثم إشعال الحروب بشكل متواصل من دون توقف وتحويلها إلى تجارة رابحة.

كانت البداية في وصول الإمبرياليين الأوروبيين للأمريكتين عام 1492 ليكتشفوا أن هذه البلاد الغنية بمواردها الطبيعية عامرة بسكانها الأصليين المنتشرين في كل مكان يعيشون حياتهم الطبيعية البريئة كما يحبون، لا ينكد عليهم إلا غضب الطبيعة من عواصف وثلوج وفيضانات، تحايلوا عليها بذكائهم الفطري، حتى وصلت أعدادهم للملايين، لأن آلات الموت وصناعة الحروب والأوبئة الفتاكة ما كانت لتصلهم لولا قدوم المستعمرين البيض، الذين برروا قتلهم جميعا مستندين إلى تفسيرات دينية توراتية، حتى إنهم سموا هذه البلاد «أرض الميعاد». وكي يسهلوا لأنفسهم الجريمة أطلقوا عليهم صفة المتوحشين والبدائيين، وحجر العثرة أمام تطوير البلاد، فألوانهم داكنة ولغاتهم مختلفة، ولا يعبدون الرب، أي ملحدون يجوز ذبحهم. كما أثيرت قضية المواطنة منذ ذلك الوقت، لتعني أن المواطنة حق حصري للمهاجرين القادمين من وراء المحيطات، وأن هؤلاء أغراب لا يجوز أن يمنحوا شرف الانتماء للعرق الأبيض النقي. وما دام العدو الذي يقف أمام الأبيض أقرب إلى الشيطان ومتوحشا وليس مواطنا وحجر عثرة في طريق البناء والتقدم، واختلاطه بالرجل الأبيض يعكر نقاء العرق، تصبح مسألة الإبادة الجماعية ممارسة عادية بل مباركة. وكان الملك جورج الخامس يمنح جنيها إسترلينيا عن كل جلدة رأس يسلخها الرجل الأبيض عن رأس الساكن الأصلي المذبوح، حيث انتشرت المنافسات بين المستوطنين الجدد على من يسلخ جلدات رؤوس أكثر. ثم اكتشفوا فيما بعد أنهم بحاجة إلى آلة قتل سريعة تبيد مئات الألوف والملايين، فوزعوا عليهم الأغطية الملوثة بأمراض الحصبة والملاريا والكوليرا والتيفوئيد والديزنطاريا، حيث لا يوجد لدى أجسادهم النقية مناعة ضدها فهلك بذلك الملايين.

إنه التطهير العرقي في أبشع صورة في تاريخ الإنسانية. لقد شنوا عليهم حروبا متواصلة قدرت بـ1500 حرب أطاحوا بالملايين، التي لا أحد يعطي أرقامها الحقيقية وتتراوح بين 15 إلى 70 مليون من الشعوب الأصلية، ولم يبق في الولايات المتحدة مع نهاية الحروب في نهاية القرن التاسع عشر إلا 283 ألفا وضعوا في معازل. وحسب كتاب «الفلسفة الأمريكية من معركة الركبة المجروحة إلى اليوم» لمؤلفيه إرن ماكينا وسكوت برات (2015)، فقد كان عدد السكان الأصليين في الأمريكتين عام 1491 نحو 145 مليونا وانخفض العدد عام 1691 بنسبة 90–95% أي قتل منهم نحو 130 مليونا، وهذه بلا شك، أكبر جريمة تطهير عرقي في تاريخ البشرية.

بدأت حركة الاسترقاق، أو جلب أبناء القارة الافريقية عبيدا لخدمة المزارعين الأمريكيين، عام 1619 أي بعد نحو قرن من استيطان العالم الجديد، حيث وصلت أول سفينة محملة بعشرين افريقيا كان يطلق عليهم مصطلح «عبيد»، مدينة جيمستاون على شاطئ فرجينيا لبيعهم للفلاحين المتعطشين للأيدي العاملة الرخيصة. منذ ذلك اليوم الذي يوثق استجلاب الأفارقة عبيدا للإمبريالي الأبيض خطف ما لا يقل عن عشرة إلى عشرين مليون رجل وامرأة وطفل من القارة السوداء، وبيعوا في سوق الرق في هذه البلاد، التي بنيت على لحوم أجسادهم. لنسمع الرئيس جورج واشنطن يعطي تعليماته لمساعده دانييل آدمز، عندما أرسله لشراء عدد من العبيد: «فليكن ثلثاهم من الذكور، والإناث الثلث الآخر. يجب أن يتمتعوا جميعًا بأطراف مستقيمة وأجسام قوية قادرة على التحمل وأسنان جيدة».

تأسست بعد ذلك الشركة الملكية لتجارة العبيد، حيث أصبحت تجارة رابحة لزيادة الطلب على الأيدي العاملة لمزارع القطن والفستق والدخان، بالإضافة إلى خدم للبيوت. كانت السفن تغادر افريقيا مكتظة تحمل فوق طاقتها من العبيد، من دون غذاء أو دواء أو صرف صحي، فيقع كثير منهم ضحايا للأمراض الفتاكة. وكان البحارة يحملون الشخص المريض ويقذفون به في عرض المحيط. فلا يصل شواطئ الأطلسي إلا أصحاب الأجسام المنيعة. في الحرب الأهلية الأمريكية التي انطلقت عام 1861 كان في الولايات المتحدة نحو أربعة ملايين 95% منهم في الولايات الجنوبية. كانت ولايات الشمال تعارض الاسترقاق، وتعتقد أن تحرير العبيد سيؤدي بالضرورة إلى وقف عمليات الاستجلاب من القارة الافريقية. وعندما انتخب أبراهام لنكولن عام 1860 المعروف بتأييده تحرير العبيد، أعلنت ولايات الجنوب الانفصال عن الدولة الاتحادية. فشن لنكولن الحرب، ولما انتصرت ولايات الشمال عام 1865 أعلن رسميا إنهاء العبودية، لكن لم يكن ذلك إلا حبرا على ورق. ولم تبدأ عملية التحرير الحقيقي للسود إلا بعد مئة عام، مع قيام حركة الحريات المدنية بقيادة مالكوم إكس ومارتن لوثر كنغ، فانحنى الرئيس جونسون ووقع الإعلان الرسمي لإنهاء العبودية والتمييز الممنهج ضد السود في 2 يوليو/ تموز عام 1964. وكانت انتخابات عام 1968 أول انتخابات تلغى فيها كافة الاستثناءات، وشارك فيها السود على قدم المساواة مع البيض.

هذه البلاد قامت على الحروب من اليوم الأول وحتى كتابة هذا المقال. وهناك مجلدات حول حروب الولايات المتحدة، خاصة مع السكان الأصليين. فقد أطلقت القوات الفيدرالية ثورة عارمة ضد المحتل الانكليزي، وانتزعت استقلالها بثمن باهظ عام 1776. وبعد ذلك تابعت حروب القوات الفيدرالية مع السكان الأصليين. وهذه الحروب لم تتوقف مع الشعوب الأصلية إلى أن تمت إبادة الغالبية الساحقة منهم في مشارف القرن العشرين. وانتقلت الحرب في فصلها الثاني مع دول الجوار، خاصة المكسيك (1835-1836 ثم 1846-1848) حيث انتزعت منها ولاية تكساس ومكسيكو الجديدة وكاليفورنيا. كما خاضت أساطيل الدولة الجديدة حروبا في البحر مع القراصنة اليونانيين، ومع ساحل شمال افريقيا (1815) ما سميت حرب البربر، الذي شمل المنطقة الممتدة من طرابلس إلى طنجة. ودخلت الدولة الفيدرالية العديد من حروب الاستكشافات، كما أطلق عليها مثل، حرب ساحل العاج وفيجي وماليزيا. وانطلاقا من عام 1898 بدأت تتسع رقعة الحروب، فدخلت الولايات المتحدة حربا ضد إسبانيا في مستعمراتها الجنوبية مثل كوبا وبنما وبورتو ريكو والفلبين. كما دخلت في حرب جديدة حول ترسيم الحدود مع المكسيك بين عامي 1910 و1918. ثم تحولت تلك الحروب إلى احتلال عسكري، حيث احتلت نيكاراغوا وكوبا وهايتي وجمهورية الدومينيكان.

ودخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى وشاركت في الحرب الأهلية في روسيا 1918-1920 ثم دخلت في الحرب العالمية الثانية، التي استخدمت فيها السلاح النووي ضد اليابان، بإسقاط قنبلتين هيدروجينيتين على هيروشيما وناغازاكي في أغسطس/ آب 1945. وبعدها دخلت في حروب عديدة في جنوب شرق آسيا مثل لاوس وفيتنام وكمبوديا. ودخلت قوات البحرية لبنان 1958 لحماية نظام شمعون كما غزت كوبا عام 1961 المعروفة باسم «معركة خليج الخنازير» إضافة إلى حرب الكوريتين وكمبوديا وغرانادا وبنما وحرب العراق الأولى فأفغانستان فحرب العراق الثانية وصولا إلى حرب كونية أطلق عليها الرئيس بوش «الحرب على الإرهاب».

لقد تحولت الحروب لدى الدولة الأمريكية إلى صناعة مربحة فأصبحت أكثر دولة في العالم مصدرة للسلاح وأكبر دولة تنفق على السلاح فميزانيتها للدفاع تزيد عن ميزانيات أعلى عشر دول على القائمة، بما فيها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان.

هذه صورة عن نشأة هذه الدولة المتعجرفة. وهل يصعب علينا أن نشاهد الصورة تنعكس مشوهة قليلا على الكيان الصهيوني الذي قام على التطهير العرقي للفلسطينيين، وارتكاب المجازر والاستيلاء على الأرض والحروب المتواصلة منذ وعد بلفور إلى يومنا هذا. وذلك موضوع حديث آخر.

 

(محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي)