رواية تلو أخرى، استطاعت لينا هويان الحسن أن تُراكم تجربتها وترسم ملامح هوية إبداعية خاصة. تعود الكاتبة إلى لحظات تاريخية محفورة في الوعي السوري الجماعي لتُعاين علاقة الإنسان بمحيطه. الروائية هي ابنة البادية السورية، ولهذا فإنّ المكان عندها ليس إطاراً ضيقاً ومقفلاً، بل مساحة متحرّكة ومفتوحة تُلائم شخصياتها المغامرة والمتمردة. حين تكتب عن الصحراء، أو عن المدينة، يبقى المكان في رواياتها دافعاً لخروج الذات من المدار الداخلي إلى مدارها الكوني. بعد "سلطانات الرمل" و"بنات نعش" و"نازك خانم" و"ألماس ونساء" و"بنت الباشا" وغيرها، تأتي رواية "ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلاَّ" (دار الآداب) لتُكمل مشروعاً أدبياً بدأته الكاتبة قبل نحو عشرين عاماً.
هذا العنوان السينمائي هو خير مدخل إلى روح الرواية التي كتبتها لينا بلغة بصرية عالية. ومع أنّها رواية غنية بأحداثها وشخصياتها، تبقى التفاصيل الصغيرة هي أكثر ما يمنحها صلابتها. بيلا بكداش الأذرية، شمسي ميرزا آغا الشركسي، سيسي الأرمنية... أبطال الرواية يحملون هوياتٍ مختلفة نُميّزها بحواسنا، لأنّ الهوية هنا ليست جغرافيا ولا انتماء، إنمّا نكهاتٌ تتمازج فيها الروائح والمذاقات بالألوان والملابس والحركات. هويّاتهم تكمن في ثقافةٍ ورثوها ومارسوها وطوّروها في مدينةٍ كوّنت جماليتها من موزاييك إنساني يرتقي بالاختلاف، لا بالتطابق.
عشرينيات القرن الماضي
تعود الكاتبة إلى حلب في عشرينيات القرن العشرين. تصوّر المدينة كما لم نعرفها. تحكيها بلسان "غربائها" الذين أصبحوا أهلها. لم تسقط لينا هويان في فخّ التقديم الفولكلوري لهذه الشخصيات المختلفة في انتماءاتها، إنما ذهبت بعيداً في رسم خطوط حياتهم المتشابكة وتحديد مساراتهم في ضوء هذا التشابك. لم تقف أيضاً عند حدود اللحظة الزمكانية، إنما تجاوزتها عبر بناء صلة مع تفاصيل الحياة اليومية لأبطال الرواية. واللافت أنّ صاحبة "نازك خانم" ابتعدت هذه المرّة عن تقنية "البطل (ة)" الأوحد، واختارت لروايتها أبطالاً يتساوون تقريباً في المساحة والكثافة والاهتمام.
تتوزّع الرواية على ثلاثة أجزاء، تتنقّل فيها الأزمنة من العشرينيات إلى الخمسينيات فالثمانينيات، بالتوازي مع تبدّل الأمكنة التي احتلّت عناوين الأجزاء: "حلب"، "دمشق"، "عزبة خُناصرة الأحص".
البادية ليست خلفيةً بُنيت عليها هذه الرواية، لكنّها حاضرة، وإن بخجل. أحياناً، تمرّ على أهل البادية الذين يحتلّون الهامش ويعيشون على أطراف مدنٍ يسكنها الأبطال. تُسمّيهم أحيانا "العرب" أو "البدو المساكين" ممّن يبنون مساكنهم بين الطرق الوعرة. وفي التلميح إليهم، نستشف طيف المؤلفة التي كانت تعيش بينهم، على الهامش، وتُراقب بعينيّ طفلةٍ مفتوحتين تفاصيل ما يجري أمامها، في الوسط.
من يقرأ هذه الرواية يُدرك أن تاريخ الإنسان هو قدره، وأنّ ماضيه هو مستقبله. أحداث أليمة عاشها الأجداد فحكمت على الأبناء أن ينبتوا في أرض غريبة. مسلمون هاربون من بطش الروس المسيحيين ومسيحيون أرمن هاربون من مجازر الأتراك المسلمين. تقول سيسي الأرمنية: "كلّ هذا جعلني شذرة تائهة لتاريخ ينقله قوم فارّون من الموت. يدوّنون تاريخهم عبر إطلاق الأسماء على أماكنهم الجديدة وأطفالهم الجدد. لم أكن يوماً إلاّ مقموعة، بتاريخي المستتر، بثنايا اسمي، مسجونةً بخطايا حضارة أذنبت عندما أصرت على البقاء حيّة" (ص 260).
مع ذلك، فإنّ الحظّ أنصفهم عندما زرعهم في تربة مرنة تحتضن كلّ الأنواع. وإذا كانت الحرب هي التي شتّتت أبطالها، فإنّ الحبّ هو الذي يجمعهم. تلك هي سوريا التي أرادت لنا الرواية أن نستذكرها بعدما أصبح اسمها معادلاً لصورة حزينة كرّستها الحرب السورية خلال السنوات الأخيرة.
البرج اللامرئي
أسألها عن حضورها البارز على وسائل التواصل وفي معارض الكتب، وإن كان هذا الانفتاح على القارئ سببه طبيعتها المرنة أم إستراتيجية كسب المزيد منهم، فتقول:
"في زمن السوشيال ميديا لا معنى لخيار الانزواء في البرج العاجي النمطي، كل من يخوض غمار الكتابة سيحمل بين أضلاعه برجه اللامرئي، تماماً، مثلما يحمل فضاءاته بين أضلاعه. أحيلك مثلاً إلى صفحة " إليف شافاق" على الإنستغرام، نشاطها مدهش".
وعن إقبالها على بمعدل رواية أو روايتين في السنة، وإن كان هذا الإيقاع يعني أنها تكتبي بقرار وليس بمزاج، تقول: "إنه الانضباط اليومي. تعلمت أن أكتب كل يوم، إنه ذاته الانضباط الذي يسند إنساناً ليكتب ينبغي عليه أن يخوض حرباً ضروساً على خريطة أرض مجتمعاتها سلطوية وأنظمتها شمولية، وعليه أن يعوم في بحر من البغض، فيما يواجه قلّة ضمير بعض الناشرين ونقّاد المصالح وزملاء وزميلات الكلمة، ويواجه حروباً شعواء ومفتعلة، وهو يصرّ على النجاة من التحيزات السياسية، ليحافظ على استقلاليته، في الرأي، فلا يحسب على جهة، أو فئة، أو حزب، أو طائفة".
أسألها عن أبطال روايتها "ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا" الذين هم من "غرباء" سوريا الذين أصبحوا جزءاً من أهلها، وإن كانت العودة إلى تاريخ سوريا كبلد كوزموبوليتي هي للتعويض عن صورتها الراهنة، تجيب: "الكتابة التاريخية هي محاولة فض اشتباك منتصف ليل "الماضي" مع "ظهيرة" اليوم. مثلاً! لأجل المفارقة أنّ سوريا استقبلت الشركس المهجرين من القوقاز بسبب إسلامهم، والأرمن المهجرين من تركيا بسبب "مسيحيتهم"؟! وهنا تغدو الذاكرة مراسم وطقوساً، وحالة تدوين للذاكرة المعذبة. مثلاً الشخصية الأرمنية في الرواية "سيسي بابايان" التي سعدت بلقبها الذي أطلقه عليها زملاؤها في المدرسة لتتخلص من واقع وظلامية اسم "نيميسيس" الذي اختاره لها أبوها، وهو، اسم منظمة الثأر الأرمنية السرية لما ارتكبه الأتراك بحقهم من مجازر".
وعن انحدار أبطال الرواية من أمكنة مختلفة بعدما اضطرتهم ظروف أوطانهم إلى الهجرة، وإن كان هذا التنقل بين العوالم المتنوعة هو جزء من تاريخها الخاص لكونها من بادية لا يعرف أهلها الاستقرار، تقول: "يحدث أن يرافقك الحظ، كعصفور، يحط على غصنك، في الوقت الملائم، كما حدث معي خلال طفولتي، فمنحت نعمة "الغرائبي" والسحري في وقت مبكر من حياتي. يمكن المرء أن يتخيل كم من المفاتيح التي يمكن أن يلتقطها طفلٌ منبته بدويّ على تخوم بوادي وهضاب يقطنها بشر ينتمون إلى عرقيات مختلفة، متنوعة الأديان والانتماءات لفتح بوابات الخيال؟! لا أنكر تأثير جذوري البدوية في اختيار مناخاتي الروائية".
الخاص والعام
تجمع الرواية بين تاريخ سوريا العام وتاريخ أبنائها الخاص، ولكن، على الرغم من الحروب والشتات وفوضى الانتماءات واللغات، ترسم الكاتبة شخصياتها بلا ضعف أو وهن. ما سرّ صلابتهم، ولماذا تبتعد الكاتبة في أعمالها عن تقديم أبطال يعتريهم النقص أو الخوف، تجيب: "هل كتابة النص الروائي التاريخي إلّا محاولة جادة لمناوشة استعلاء "التاريخي" وسحبه إلى اللحظة الراهنة؟ أشك في أنه يمكنني فعل ذلك من خلال "الضعفاء"!؟ نعم اخترت المهمشين والفقراء والأثرياء، لكن، أنحت لهم أنماطاً مختلفة ومتفاوتة من القوة لمساعدتي في القبض على المتواري والممتنع، والمستعصي في متن "الماضي" وفي فراغاته، ومنافيه، وفجواته، لأجل فهم الحاضر، على نحو يخلو من العدوانية".
تتنوع تيمات الرواية وتتشابك أحداثها، غير أن الحب يبقى خلفية تبنى عليها مسارات الشخصيات، فهل الحب هو آخر ما يبقى للإنسان عندما يخسر وطنه؟، تجيب: "بالحب يثأر الأدب لنفسه. الحب كما الكتابة، مجابهة، تحرير، تغيير، تنوير. يتواطأ الأدب مع "الحب" الذي يبزغ فجأة كطفرة غير متوقعة وغير مرحب بها، في الحياة الاجتماعية. الحب هو العشب الضار الذي تحرص المجتمعات القمعية، على اقتلاعه بينما الأدب يغذّيه من دون حساب".
أسألها:الرواية تتميز بتفاصيلها ولغتها البصرية العالية، ألا تعتقدين بأنها جاهزة كي تتحول إلى فيلم سينمائي أو مسلسل درامي؟ ولو كانت الفكرة متاحة، من تختارين لإخراجه ولمن تمنحين دور بيلا وشركائها في الرواية؟ فتقول: "هذا حلم جميل ومؤجل حتى تلك اللحظة التي تتعافى فيها الدراما السورية من أوجاعها، ومن مسار أجبرت على سلوكه بسبب ظروف الأزمة ورضخت لمطالب التجاري والسطحي والهش. "بيلا "لا أراها الآن مطلقاً، في هذا "الزمن القبيح" مقارنة بنجمات "الزمن الجميل". لا أرى "بيلا "في وجه محشو بالفيلر ومشوّه بالتاتو، لا كبرياء فيه، فقط عيون الجواري، الخاضعة".