يرى الناقد المصري أن هدا الديوان قد أسهم في تطور شعرية قصيدة النثر العربية؛ لإيغاله في التجريب في بنية الصوت المتكلم، وتداخلاتها الحلمية العميقة المنفتحة على الآخر / الآخرين، وإنتاجية النص للهوامش المكملة للمتن في فضاء الصفحة التجريبي الذي لا يهيمن فيه المتن بنيويا.

دورات الوجود المتحولة في إشراقات رفعت سلام

محمد سمير عبدالسلام

 

تؤكد كتابة الشاعر المصري المبدع رفعت سلام وفرة الصور، والدوال، والأصوات، والأزمنة، والفضاءات الفنية، والحلمية، والتاريخية الملتبسة في العالم الداخلي للصوت المتكلم؛ فالذوات، والأطياف، والأشياء، والأخيلة تتداخل في سياقات نصية ثقافية جديدة، وفق تقنيات التداعيات النصية، والمحاكاة الساخرة، والتناقض الإبداعي النيتشوي أحيانا، وتواتر الأسئلة، واللغة الشعرية الاحتمالية المتجاوزة للأصل، أو مركزية المدلول، والتحولات السيميائية للصوت في آثار الكتابة، ودوالها التي تذكرنا بالكتابة الأولى عند دريدا؛ فالذات – في خطاب رفعت سلام الشعري – تحتفي بالتعددية الداخلية اللامركزية التي تفكك البنى الزمكانية في لحظة من الاتصال بين الماضي السحيق، ولحظة الحضور، ولحظة الحلم، وأخيلته، وصوره العميقة المستعادة من اللاوعي، واللاوعي الجمعي، ومن الفاعلية المتجددة لأطياف الفن، والتاريخ، وشخصياتهما الصاخبة المستعادة، والتي تقع بين الحضور الجمالي المضاعف، والغياب في التحولات السيميائية المتلاحقة في وعي المتكلم المبدع في النص.

وقد تجلت مثل هذه التقنيات، والثيمات الفنية الحداثية، وما بعد الحداثية في ديوان رفعت سلام المعنون ب إشراقات رفعت سلام؛ صدر في طبعة ثانية ضمن الجزء الأول من ديوان رفعت سلام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2013؛ وأرى أن الديوان قد أسهم في تطور شعرية قصيدة النثر العربية؛ لإيغاله في التجريب في بنية الصوت المتكلم، وتداخلاتها الحلمية العميقة المنفتحة على الآخر / الآخرين، وإنتاجية النص للهوامش المكملة للمتن في فضاء الصفحة التجريبي الذي لا يهيمن فيه المتن بنيويا؛ فهذه الهوامش تنتج بنى خطابية جديدة، وكثيفة، مولدة عن الأصل، ومكملة له في اتجاه تفسيري مغاير؛ يؤكد حياة الصوت الأخرى، وتفكيك الغياب في الحضور الاستعاري الآخر، أو في المستوى الأعمق من مستويات الحلم، وعلامات اللاوعي.

وتومئ عتبة العنوان / إشراقات رفعت سلام بدوائر النشوء المتوالية، والمتلاحقة التي تحتفي بوفرة الاستبدالات التكوينية للذات المتكلمة، وللآخر في النص، وهوامشه المكملة التي تحتفي بصور الوجود المجازية الأخرى فيما يشبه الإشراقة المتكررة التي تجدد مدلول الوجود النسبي؛ وكأن الوعي يعاين تكوينه، أو تجسده، أو غيابه المؤقت في بكارته الحدوث الأولى؛ وذلك الوجود، أو ذلك الغياب يصير جزءا من صيرورة الإشراقات، والتحولات السيميائية في القصيدة؛ ومن ثم تتداخل التكوينات المجازية، وتلج بنى الحقيقي، والفني، والأسطوري، والتاريخي في مسيرة كونية، وإنسانية جمعية، وتنتسب إلى الذات المتكلمة في حضورها الإبداعي الذي ينطوي على أخيلة الآخر، وصرخاته، وحضوره المتعالي، ووهجه، ونشوته، وغيابه المؤقت في آن.

ونكاد نلمح الشخصيات، والأطياف الملتبسة، والاحتمالية في نسيج نص رفعت سلام، وتداعياته في التلقي؛ فقد نعاين شبحا لدون كيشوت، أو جنيات حسن الصائغ البصري في حكايات ألف ليلة، أو ساحرات مكبث، أو صرخات الضحية في العصر المملوكي، واقتران تعذيبها بنشوة الغياب، والحضور المجازي الآخر في الحلم، بصورة تعددية لامركزية.

وقد يفكك خطاب رفعت سلام الشعري العلاقة بين الوعي، والأشياء، والظواهر؛ فتصير الظاهرة ممثلة للكينونة في تطور علامات النص، ثم يصبح الأثر الجمالي الداخلي المولد عن تلقي علامة الشيء مفتتحا لعلاقات سيميائية جديدة منتجة للذات، والآخر / الآخرين في سياق نصي آخر يحمل الأثر الداخلي نفسه؛ والذي يشبه الموسيقى، ولكن بصورة صاخبة، وفي زمن آخر، أو نبوءة حلمية مختلفة، تحمل أثر الحضور، والماضي السحيق معا.

ويذكرنا لعب الإحالات، والصور، والأصوات، وتداخلاتها، وتناقضاتها الإبداعية في خطاب رفعت سلام الشعري بتصور رولان بارت حول خصوصية النص، وتعدديته، وقوى الاختلاف الدلالية في بنيته الخاصة في كتابه لذة النص؛ إذ يرى بارت أن النص يهدم فئته الاستدلالية الخاصة هدما كاملا، وكذلك مرجعه اللساني الاجتماعي؛ فيكون المهرج الذي لا يضحك، والسخرية التي لا تنقاد، ويشبه الإحالة النصية بالكيمياء الخيالية للمادة اللغوية، أو المعدن المتوهج؛ وهي – عنده – حالة خارقة خارج كل أصل، وتنتمي للسان بينما ليست لسانا من الألسنة. (1).

إن خصوصية التشكيل السيميائي للنص– وفق تصور بارت – تنطوي على عمليات الاختلاف الدلالي الداخلي الذي قد يصل إلى التناقض الإبداعي في صورة المهرج، كما تؤكد تفكيك المدلول في حالة الكيمياء الخيالية التي تحدث عنها في الاستعمال الجديد للغة؛ ومن ثم يحتفي النص بالتناقض، والاختلاف، وتجدد الخصوصية الشعرية للعلامات، والدوال ضمن بنيته الخاصة؛ والتي تبدو هنا بنية احتمالية تقبل التداخلات المفتوحة، واللعب الذي نعاينه في إشراقات رفعت سلام، وفي مدلول الإشراقة الدائري نفسه؛ والذي يقوم على وهج التجدد العلاماتي للأصوات، والأشياء وفق التحولات السيميائية، والتداعيات، والهوامش المكملة للصوت، والمنتجة لحضوره الخيالي الحلمي العميق معا.

تأتي شخصية الحارس من الأزمنة القديمة في سياق حلمي واقعي في نص حاء، راء، صاد، سين؛ وكأنها تحمل بداخلها نبوءة للتحول الصاخب، وتفكيكا للغياب في وعي المتكلم، والآخر / الآخرين؛ الحارس تكثيف شعري للحراس الأسطوريين؛ وهو الطيف الكامن في الأشياء، أو روحها المجازية الأخرى الصاخبة؛ إنه صخب النهايات المتجددة، ونهاية لبنى الغياب الإنسانية الأولى؛ وهو سؤال الزمن، والوجود النسبي الذي يذكرنا بالوجود المتزمن عند هيدجر، وإمكانية تجاوزه فيما وراء الغياب، في ذلك الحضور الظاهراتي، والحلمي المختلف في تداعيات النص، وقوى الاختلاف، والتداخل في نسيجه؛ يقول رفعت سلام:

"لم أغب طويلا، ألف عام كنت أبحث عن نسيان، وامرأة، ومكان في الأوتوبيس؛ فتهت في الزحام، ونسيت، لم أغب، ولم، ولم ... أنا الحارس النائم عند الحائط الهديم، جئتكم هديما بعدما فقدت ورقة التوت، والخيط الذي انقطع؛ فهويت، فانتهيت".(2).

يطرح خطاب رفعت سلام هوية الحارس التمثيلية، وإشكالية الزمن الخاص، وعلاقة الوعي بالظواهر في سياق يجمع بين الذاكرة الجمعية، ولحظة الحضور اليومية؛ فالحارس ينقل نفسه في دال الحائط الهديم، ثم إلى اللعب الجمالي بمدلول النهايات في التلقي؛ فهو يشير إلى حياته العلاماتية الأخرى، وتجليها كنغمة موسيقية في الوعي ضمن تأكيده للنهايات في آن؛ إنه يحمل أثر الماضي في واقع يومي متحول، يشبه الحلم، أو يجدد بنية وجوده الطيفي في الصوت المتكلم، ويستشرف حياته الأخرى فيما وراء الغياب، وفيما وراء مركزية صوته الخاص؛ لقد صار الحارس نغمة للغياب الصاخب، وللنهايات المؤجلة، وسنعاين التناقض الإبداعي في بنيته بين الحضور الشعري المتعالي، وتشبيهات النهايات، أو آثارها الجمالية التي تؤكد الحضور المضاعف، والفراغ معا؛ النشوة النصية الممزوجة بأثر التفكك الذي يوحي بالسخرية من بنية النهايات، والإشارة المتواترة لها معا؛ يقول في الهامش أو النص المكمل:

"وانشروني / غيمة من الجنون / أو خيمة من خيبة / ساطعة. / ولترحلوا دوني / لأبقى شاهقا محلقا / كطلقة ضائعة / كجثة جائعة". (3).

تزدوج الإحالة إلى التفكك بالحضور الشعري المتعالي في النص الهامشي الذي يجسد خطاب الحارس؛ إنه يسخر من بنيته ضمن خطابه الخاص؛ فيحيلنا إلى هويته في امتلاكه الحلمي للفضاء، وشموخه، بينما يحيلنا إلى تحولاته في تشبيهات الغياب المضاعف، وأخيلته في دوال مثل الطلقة الضائعة، والجثة الجائعة؛ هل يومئ المتكلم إلى امتلاء الصوت بفراغ محتمل؟ أم أنه يومئ إلى لذة التناقض النيتشوي بين البهجة، وغياب ديونسيوس؟

وسنلاحظ أن الغياب – في النص المكمل – كان ساطعا؛ مثل إشراقة لأثر التفكك الذي يحتمل حياة أخرى للصوت فيما وراء آثار النهايات؛ إنها تنطوي على بهجة تحول الصوت في تداعيات النص، لا غيابه.

ويحيلنا الصوت المتكلم إلى أخيلة الغياب، والتجدد في الهويات التمثيلية المحتملة في نص إشراقة الغياب، ويتواتر حرف السين في النص؛ كأنه يومئ إلى دوال الكينونة، بينما تؤكد دلالاته الصخب، والسلب، والغياب في سياق الفاعلية التي تبدو كثيفة في علامة السيف؛ ويذكرنا التجانس الصوتي الممزوج بالاختلاف بتصور رولان بارت عن الاختلاف الدلالي في بنى التكرار، وإيحاءاتها الفنية في كتابه هسهسة اللغة؛ فالذات تمارس نوعا صاخبا من حضور يتجاوز بنيته الخاصة في غياب شكلي في علامة الدم؛ وكأن الصوت يحيا فيما وراء الفراغ، وفي تحول هويته التمثيلية بين الماضي، والحلم، ولحظة الحضور؛ يقول في إشراقة الغياب:

"فابتعدوا كهاوية؛ لأهوي فوقها متخافقا شرسا، أمزق ما تبقى من دمي؛ لأكون مثل السيف فردا مفردا. متوزع بين الفجيعة، والفرار المر، أفترش الخلاء فريسة للوسوسات، وسوء ظني، أسحب الأسماء من جيبي، وأنثرها على الأشياء بالعشواء؛ كوني أنا من سار فوق الماء مستندا على عكازي المكسور ...". (4).

يحيلنا الخطاب الشعري هنا إلى الذات، وتجددها السلبي عبر استنزاف بنية الدم، والنشوء الآخر للصوت في علامتي السيف، وافتراش الخلاء؛ وكأن النشوء الآخر يأتي ممزوجا بالفراغ، وبلذة الغياب في تحولات الصوت التمثيلي؛ وسنجد علامات استنزاف الذات تكررت في الوسوسات، والعكاز المكسور، ولكنها امتزجت بمرح الصوت التصويري فيما وراء الغياب، أو في حياته الحلمية الأخرى.

ونعاين تحولات الغياب السيميائية المرحة في الهامش المكمل للنص؛ فالجسد يصير فضاء فنيا جماليا، ممزوجا بصخب الدماء، وأصوات الماضي المستدعاة من اللاوعي ضمن عالم المتكلم الداخلي؛ يقول:

"أسراب من الصرخات / تأتي في المساء / وتبني عشها المشروخ / في جسدي المتشظي / قشة، / فقشة مسعورة من الدماء".(5).

لقد صار الجسد فضاء صاخبا لتحولات الصرخات التاريخية، والأسطورية، والفنية، والحلمية اللاواعية؛ وكأنه فضاء لانبعاث، أو ولادة جمالية تحتفي بالكينونة الممزوجة بفراغ صاخب؛ فتمزق الجسد هنا يوحي بتداخلات لحظات النشوء الجمالي الملتبس بالغياب المؤجل، وبأطياف الماضي التي تؤكد تعددية الصوت، وحضوره الكوني رغم ظاهرية الغياب؛ فكل من دالي تكوين العش الفني، والجسد، يمتزج بالإحالة إلى الصوت، وانبعاث أصوات الماضي، وصرخاته في الصيرورة السردية لحالات التكوين، والتفكك معا.

ويتواتر حرف السين أيضا في نص مكابدة في سياق علاقة الصوت المتكلم بالزمن، وقلق الوجود، وتشكيل الهوية، ويستعيد المتكلم أطيافا تشبه ساحرات مكبث حين عرضن عليه أشباح بانكو، أو سيف دون كيشوت المعطل؛ وهي تتوافق مع نزوع الصوت لتشكيل الكينونة، وحالة التأجيل التي ارتبطت باستدارة الزمن، وفراغه المجازي المحتمل؛ وينتقل المتكلم من أرق تشكيل الهوية الذاتية إلى الغياب في عوالم اللاوعي، وإيماءات المرح الملتبس بالسراب، واستنزاف الكينونة؛ يقول:

"واستدارة ساعتي تسعى؛ فتستلب السؤال إلى سؤال، ثم تسعى، تستدير، وتستدير؛ فأستغيث بساحراتي، ليس يسمعن استغاثاتي، فأسحب سيفي المكسور، أصرخ في السياق سدى، مسعاي سدى؛ فيسرقني النعاس، والنسيان السهل على سلم المساء أسيرا كسيرا". (6).

يحتفي الصوت – إذا – بتعددية الأصوات، والأطياف الجمالية الكثيفة بداخله، وتحولاتها في سياق نصي ما بعد حداثي يسخر من بنية المدلول المركزي الأول؛ إذ تؤجل الساحرات هنا بنية النبوءة، وتتشكل علامة الفارس التمثيلية باتجاه الفراغ، وعالم الحلم البديل في سياق سخرية المتكلم من اكتمال بنيتي الهوية، والصراع.

وقد تجسدت حركتا الفاعلية الذاتية، والسخرية منها في تجانس السين الصوتي، والاختلافات الدلالية؛ إذ تجلت هوية المتكلم في فعلي الاستغاثة، وسحب السيف، وإحالته إلى الأصوات الكثيفة التمثيلية بداخله، بينما تواترت السخرية في صمت الساحرات، وفي السراب الكامن في حضور المتكلم الزمني النسبي.

ويستعيد المتكلم - في النص نفسه – صورا للنماذج المستعادة من الحكايات، والأساطير ضمن استعادته لهويته، ونشوئه الفني المتجدد عبر خطابه للجنيات، وحضورهن في سياق بهجة الصيرورة السردية لفعل النشوء، وامتزاج الذاكرة فيه بالتكوين الجسدي الفني، أو الطيفي الذي يذكرنا بعلاقة حسن البصري بالجنيات في ألف ليلة، وإن حمل أثر الجنيات هنا الاتصال بكينونة الذات المتكلمة بصورة تبدو اعتيادية في غرابتها الحلمية؛ وكأن الشاعر يؤكد حالة اللعب في إنتاجية النص للإشراقة، أو دورة الوجود الأخرى، وتحولاتها المرحة، والمأساوية في آن.

يقول:

"تأتيني أمواج الصراخ المارقة من العهود القديمة؛ فأفتح لها حضني الوارف، وأهدهدها إلى أن تنام هادئة، ولا أنام ... فيا أيتها الجنيات الذهبيات لقد أدركني النسيان، وما أدرككن؛ فقلن بأية آصرة مشدود للتيه؛ فأنتن جوابي الضائع، أو أنتن جوادي الجامح مني؛ فتمهلن قليلا؛ لألملم أشلائي شلوا شلوا". (7).

إن دورات الوجود في النص تبدو مثل سيمفونية تجمع بين أصوات الصرخات الصاخبة المتمردة المجردة، واستعادة التكوين بصورة سردية جمالية تبعث الجنيات والنماذج في مسافة بين المستويات العميقة من الحلم، ولحظة الحضور؛ ورغم إيماءات التفكك، والتمزق، وآلام الأصوات، والصرخات الكثيفة المستعادة من الفن، والتاريخ، نلمح حالة الأداء الإبداعي للصوت في احتفائه بالتكوين المعلق، وبمرح اتصال الصوت بنماذج الجنيات؛ وكأنه يمنحهن حضورا افتراضيا مألوفا ضمن عالمه الآخر الكامن فيما وراء الفضاء الفيزيقي المختلط بالفراغ، وتحولات العلامة، وانبعاثها المتجدد في الأصوات الجمعية، والأخيلة، والصيرورة السردية للذات في بحثها عن حضور يتجاوز مركزيات الهوية، والجسد، والزمن.

ويستعير الشاعر صوتا لضحية من العصر المملوكي، وقد اتحدت بالصوت المتكلم في سياق الاستعادة التأويلية لبكارة لحظتي الغياب، وتكرار دورة الوجود المجازية البهيجة التي تعلي من النزعة الفردية المنشقة عن الواقع، والتاريخ في سيمياء المستوى العميق من الحلم، وتحتفي بالصوت المجرد الطيفي الذي يعاين الجثة، وتحولاتها، وتشبيهاتها الحلمية، ويستعيد سؤال الوجود الذي يبدو غائبا في إغواء الصور، والإيماءات الاستعارية الكثيفة.

إن النص يبدأ من لحظة تفكيك بنية الموت في التكرار البهيج لحدث الغياب، واستنباته في عالم المتكلم الداخلي، وفي الفضاءات المجازية الحلمية الكامنة فيما وراء التجلي الفيزيقي لباب النصر؛ وكأن لعب الأطياف يمتد في الصيرورة السردية الكامنة في التكرار الساخر الإبداعي للماضي خارج مركزيات الموت، والحياة، والهوية؛ يقول رفعت سلام في نص إشراقة السفر:

"فتنفلت الأشياء من دمي، تنفرط الذاكرة رملا، وماء، وريحا جميلا ... يحوطني الجلبان، والغلمان، والطبول الزاعقة، أتمايل من طرب، فيسوطني المملوك الموكل بي إلى أن أنام قليلا، وأصحو معلقا في باب النصر؛ تتشهاني الذئاب، وكلاب الليل وليمة لئيمة". (8).

إن الصوت المستعاد يمارس حالة من الأداء الإبداعي السردي في اتجاهين تفسيريين؛ الأول يتعلق بمرح النشوء المتكرر، ولحظة التجدد التي تشبه أخيلة الربيع القديمة فيما وراء تصاعد إيحاءات التفكك نفسها، ويتصل الاتجاه التفسيري الثاني بنشوة للغياب، وحضور صاخب للصوت المجرد؛ وكأن حالة التمزق تومئ إلى غياب مؤجل، وحياة مجازية للصوت في المشهد الكوني.

ويعاين هذا الصوت المجرد حضورا مضاعفا للضحية في تشبيهاتها التي تفكك مركزية هويتها الأولى؛ يقول في الهامش:

"لا أشبه الهديل، فوق / المقبرة / معلقا / هل كنت، ماذا كنت؟ / بيرقا / أم احتضارا شاهقا". (9).

مازال الصوت يعاين تكرار دورات وجوده المتحولة سيميائيا في القصيدة، وقد انفلت – في الهامش – من آثار التفكك الصاخبة باتجاه حيوات مجازية أخرى تجدد سؤال الكينونة في الحلم، وفي أخيلة الصوت الذي يعاين تحولاته، وإيماءاته، وبهجة تشكيل الصور للجسد، والهوية.

وتأتي أخيلة البحر ضمن استبدالات الكتابة في خطاب رفعت سلام الشعري في نص مراودة؛ فالبحر غريم داخلي في الوعي، يحيلنا إلى الغياب في صحراء حلمية، ثم يستبدل تكوين الأنثى الفيزيقي، ويمنحها حياة تشبيهية ملتبسة بصخب المياه، ثم نعاين عودة المرأة إلى البحر بصورته الحلمية العنيفة الأولى في الوعي المبدع؛ فالمتكلم يجسد الأثر الجمالي للبحر في الغياب علامة الصحراء، وفي استبدالاته التكوينية لصوت الآخر المرأة؛ وهي استبدالات تؤكد اللعب، وتأجيل بنى الغياب، والإيروس معا؛ يقول:

"فليس البحر غير غريمي الرواغ، يفلتني لحتفي في دروب تفضي إلى الصحراء، وشبابيك مشرعة لمن يجيء، فهل كان جسدك بحريا حتى يسكن اليود الذاكرة العارية، أم كنت تراودينني، وتنفلتين مني إلى البحر في اللحظة التي أهم فيها، فلا تنفلتين، فكان لي أن أسميك، وكان لي أن أصرخ الصراخ؛ أنت قاتلتي الاعتيادية". (10).

ينتقل المتكلم من تخييل علامة البحر، وانشقاقه عنها - في تأويله لكينونته- إلى تواتر دال البحر في تجسدات المرأة، وأخيلتها الأسطورية، والحلمية التي تؤجل اكتمال بنيتي الإيروس، والموت؛ فالبحر يحفز لحظات دائرية من التمرد، والانشقاق، والوحدة، والتجسدات الجمالية السردية للجسد، والغياب في الأسطورة، والقتل الشكلي المعلق، والتحول الداخلي نحو تناقضات الصحراء؛ فالنص يحتفي – إذا – باستبدالات العلامة، وحضورها السيميائي المتجدد في حالات الوجود النسبية.

ويذكرنا نص رفعت سلام بتصور غاستون باشلار عن ارتباط المياه بالرحيل في أخيلتها العميقة في كتابه الماء والأحلام؛ فالماء – عنده – ينزعنا من مادة الأرض، ويحيلنا إلى أسطورة مركب كارون، وإلى تشبيه بودلير للموت ببحار عجوز.(11).

توحي المياه عند باشلار – إذا – بالوداع، والسفر، والرحلة الأسطورية، أو الرحلة إلى عوالم الحلم، والأسطورة، والتشبيه؛ مثلما أشار إلى مركب كارون الأسطوري؛ وقد جاء البحر – في نص رفعت سلام – كوسيط سيميائي لرحلة التكوينات الجمالية الصاخبة، وإعادة إنتاج بنى الغياب، والنشوء، والتحول بصورة تؤكد تواتر دورات الوجود، وأصواته الصاخبة الكثيفة، وانبعاث تشبيهاته في فضاء حلمي كوني واسع في تداعيات القصيدة.

*هوامش الدراسة:
(1) راجع، رولان بارت، لذة النص، ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري بسورية، مع سوي بباريس، ط1، 1992، ص-ص 61، 62.

(2) رفعت سلام، إشراقات رفعت سلام، ضمن ديوان رفعت سلام، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013، ص-ص 162، 163.

(3) رفعت سلام، السابق، ص 163.

(4) السابق، ص 154.

(5) السابق، الصفحة نفسها.

(6) السابق، ص 112.

(7) السابق، ص-ص 106، 107.

(8) السابق، ص 127.

(9) السابق، الصفحة نفسها.

(10) السابق، ص 72.

(11) راجع، غاستون باشلار، الماء والأحلام، ترجمة: د. علي نجيب إبراهيم، تقديم: أدونيس، المنظمة العربية للترجمة ببيروت، ط1، 2007، ص 115، 117.