يرى الناقد المصري أن هده الرواية تجعل من التجربة بالمعنى الصوفى أساسا للسرد، وشرطا للرحلة، وهى أيضا وسيلتها وغايتها، وكأن للإنسان يومين للميلاد: يوم وصوله إلى الدنيا، ويوم خلاصه بالحب، يصبح معنى التعميد هنا مزدوجا: مرة بالماء، ومرة بالمعاناة والألم، لا توجد نهايات وإنما بدايات فى كل مرة، الظاهر خدعة، حتى الألفاظ لها أسرار ومعان، ولا شىء يوقف الإنسان إذا أراد أن يتغير.

«يونس ومريم» من أدرك غرقه نجا

محمود عبد الشكور

 

يمكننا أن نتحدث عن رواية صوفية، قانونها البحث والمجاهدة، وجائزتها الوصول، وطريقها الحب ومعرفة الذات، وعنوانها إزالة الفواصل بين الأزمنة، وبين الواقع والمعجزة، تجربة روحية بالأساس، ولكن مادتها الحكايات والبشر والأماكن.
"يونس ومريم" لمؤلفها محمد موافى (عن دار الشروق 2019)، تجعل من التجربة بالمعنى الصوفى أساسا للسرد، وشرطا للرحلة، وهى أيضا وسيلتها وغايتها، وكأن للإنسان يومين للميلاد: يوم وصوله إلى الدنيا، ويوم خلاصه بالحب، يصبح معنى التعميد هنا مزدوجا: مرة بالماء، ومرة بالمعاناة والألم، لا توجد نهايات وإنما بدايات فى كل مرة، الظاهر خدعة، حتى الألفاظ لها أسرار ومعان، ولا شىء يوقف الإنسان إذا أراد أن يتغير، عليه فقط أن يختار، ثم ييسر له العالم الطريق.
من غزة إلى الفيوم والقاهرة، ومن القرن الـ19 وبدايات الـ20 إلى العام 2018، يتواتر السرد وتتكرر الأسماء، وكأن سؤال البحث عن طريق لا ينقطع، وكأن الإجابة أيضا واحدة، ثلاث ثنائيات تختبرها التجربة: يونس الأول القهوجى بائع الخمر، وزوجته الراقصة التائبة، ثم يونس الثانى الحداد التائه، وحبيبته مريم الفيومية، ثم يونس الضبع الكاتب، وحبيبته مريم همام فى زمننا المعاصر.
ما يجمع بين يونس الأول، والثانى، والثالث، رغبة الخلاص والتغير، ثلاثة وجوه لسؤال التوبة، يونس الضبع يكتبهما، وكأنه يكتب نفسه، وعابر سبيل يراقبهم ويدعمهم بالعلامات والإشارات، يونس الاسم يستدعى النبى الذى أنقذه التسبيح من الظلام، تجربته ومتاهته صارت عنوانا على الميلاد الجديد، واسم مريم يستدعى المعجزة، سيدة النساء، وواهبة الحياة، الطاهرة المتهمة، والصامدة رغم قسوة الحياة والبشر، من قلب المعاناة تبدأ التجربة، وعلى قدر الصبر يكون الوصول، وعلى قدر المشقة تكون الجائزة.
تعتمد الصوفية على وجود الدليل، المرشد، الشيخ والقطب، ولكنه ليس بديلا عنك، وإنما هو صاحب العلامات، يونس الأول والثانى والثالث يظهر لهم عابر السبيل فى صور متعددة، فى قصته مع يونس الثانى بالتحديد ما يستدعى قصة الخضر وموسى عليه السلام، ولكن التجربة لا يمكن خوضها إلا بذاتك روحا وجسدا، وأساسها فى الرواية «التخلى» و«التحلى» كما فى الصوفية، ومفاتيح الرحلة منظومة فى عبارات من ذهب: «لا تسمح لعجزك أن يكون جزعا، فأول العجز جنون، ومنتهاه ندم، العجز بئس القرين، وصاحب خائن»، «النفس مؤهلة للطريقين، سكة الظلام، ومسير النور. الظلام يسير، والنور دربه عسير. والقرار لك أن تختار، فيسبق عليك كتابك بما تستحق وبما تختار»، «لا يشد يديك إلا يداك، أعرف الناس بك نفسك. وبغير ذلك فالسقوط حتمى
هى إذن حكاية عن إرادة الخلاص، معراج روحى بالأساس، والحب ليس إلهيا فحسب، ولكنه يبدأ من الذات، من الآخر، من المحبوبة، ومن الطبيعة، ووصف الطبيعة فى الرواية اكتشاف لجمال الحياة، الحب قانون كونى، وجنة أرضية، ليس أقل من ذلك.
فى رحلة يونس الثانى من غزة إلى الفيوم، رحلة تطهير ومعجزات، كتبها يونس الثالث على الورق، فكأنه يتطهر من خلال حكايته، اللغة الرصينة والثرية عرفناها فى رواية «حكاية فخرانى»، تتكرر هنا بثراء أكبر، وباستلهامات من تعابير قرآنية، وكتابات صوفية، بل وأغنيات فلكلورية، التجربة الصوفية تناسب ذلك بالتأكيد، وإن كان غريبا أن تكتب مريم همام بنفس الطريقة، وبذات الأسلوب، مهارة موافى اللغوية كنز وفخ فى آن واحد، عليه فقط أن يحترس من مشكلة الصوت الواحد، نعم التجربة واحدة، والسؤال مشترك، والبحث والسؤال متكرر، لكن الأشخاص مختلفون.
أصداء الحكاية عابرة للأزمان، عند لحظة معينة تنهمر الكرامات على من أراد واختار، وكأن ما فعله لم يكن من أمره، هو الذى بدأ الطريق، والله والكون كله ييسر له الوصول، فهل يستطيع ونستطيع صبرا؟ وهل هناك موت فى الرواية؟
تصبر الشخصيات حتى الوصول، تنجح فى ترويض الإحساس بالذنب، وتحويله إلى توبة، تنجح أيضا فى أن تجعل من الألم أملا، ومن الظلام نورا، ومن اليأس والعجز قدرة وحياة، ولذلك تبعث الشخصيات من جديد، وتتكرر الأسماء، حتى عبدالرحمن الكواكبى تبعثه الرواية بكل ثورته على الاستبداد، يحتفظ العالم بالحكايات وأبطالها، يخرجهم من بئر الزمن، ويحررهم من سطوته.
"من ذاق عرف»، و«من أحب وصل»، «ومن أدرك غرقه نجا».. فيا له من حصاد يستحق كل هذه المعاناة الصعبة.

 

جريدة الشروق المصرية