صدرت عن دار العين، رواية "المايسترو" للرّوائي المصري سعد القرش، وهي الرواية السادسة له بعد "حديث الجنود" و"باب السفينة" وثلاثية "أول النهار" و"ليل أوزير" و"وشم وحيد". وأبرز ما يعالج فيها من قضايا، قضيتا الاغتراب والطبقيّة، وإن لم يهمل مسائل دقيقة في المعتقدات والميتافيزيقيا والعلاقات العشقيّة.
فعلى قارب فقير يجرفه التيار نحو يخت يتعملق في مياه الخليج، شخصيات أربع من جنسيات ومعتقدات مختلفة تتسامر في الحب، وتتحاور في شؤون الحياة وتفسيرات دينيّة لها، كاسرة تابو الخشية من الآخر، تارة يعلو صوت المرح وتارة أخرى تشقّ صمت الليل ضحكة ساخرة، تتجاوب مع أصوات بعيدة تصدر من اليخوت الراسية. لعلّ القارب بشخصياته المتعدّدة في ثقافاتها وجنسياتها، يرمز إلى العالم، إلى الهمّ الإنساني المشترك. الخادم الهندوسي المطرود «إنليل» ولد في بلاد غريبة عن الهند، والعامل التّبتي «تسو» يؤمن بتكرار الحياة وتناسخ الأرواح، وقد خبر عادات الهند بفعل التهجير القسري بعد الاحتلال الصيني لبلاده، والفنّان التشكيلي «نوّاف» ابن البلد المهمّش ومنقوص الجنسية، والمحامي المصري المتأمرك «مصطفى»، منفتح عقديًّا وثقافيًّا، بعصاه ونظارته يحاكي المايسترو، يضبط إيقاع الأحاديث.
كلّ منهم يحمل بلاده في قلبه وأساه على ظهر هذا القارب، كما لديه قصة يخبرها، لاسيما قصة الحب الرئيسة بين مصطفى و«لورا»، وهي أستاذة في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ميشيجان. ومغامرة نوّاف النسائية المنقوصة كهويّته ورجولته في هولندا، وقد جعلته يكتشف «أن ميراث القهر يتجسد في لحظة، وينزع عنه رجولته، رحلة منحته خبرات ووعيًا رجّ بعنف ما تربى عليه، وزلزلت يقينه، وما كان له أن يفهم أن أرض الله واسعة إلا بالخروج من بلاده». وقصة تسو والحلم في العودة لتولّي منصب روحيّ في الهضبة المقدّسة. يسردونها في دعة ظاهرة، وغضب يتعاظم ضد «حيتان المال»، بانتظار من يعلن نفيرًا يخرج بالعباد إلى النهار.
تبدأ الرواية بمشهد ملتبس يقترب من السورياليّة، بلغته الواصفة، إزاء المحمول الواقعي للأحداث. هو بمثابة إرهاص بحدث، لتختتم بالمشهد غير المكتمل نفسه، والمفتوح على الاحتمالات، بدائريّة بناء، «يهبّون من كل وادٍ، ينتظرون أن يعلن أحدهم نفيرا، أو ترتفع في الأفق راية». كما تُرصد حركة ذهاب وإياب زماني؛ إذ أنّ أيّ موضوع للحوار بين الشخصيّات الأربع على القارب يستدعي شيئا من الذكريات لكلٍّ منها، فتتناسل الأحاديث في دفق شبه متصل، وفي تناوب بينها على الحكي، بحيث يقترب من حكايات ألف ليلة وليلة ومسامراتها. بل ثمة تماه في انتظار الصباح والخشية من مجهول ما قد يكون هلاكًا ممّن هم «فوق»، في اليخت الغارق في الظلام.
يقول نواف «إنّ لدى هؤلاء الساحقين المخمورين أموالا لا تنقص بدفع ديات ضحاياهم، ولديهم أيضا فتاوى بالمقادير والأنصبة... حكمة ظلم لا ينهيه إلا العدل الإلهي». لعلّنا نجد ظلًّا لليخت العملاق في جوف الليل في الحوت «موبي ديك» كونه مصدر قلق للمتسامرين في القارب الضئيل. وإذا تمظهر الصراع عنيفًا في مستوى الأفعال في الرواية-الملحمة الأميركيّة، فهو خفيّ، بقي في مستوى ملفوظات الحالة في الرواية المصريّة، إلى حين إعلان مشهد الغضب.
في القصور يحدث ما لا يمكن أن يُعلن أو أن يجرؤ المرء على البوح به؛ فالمال يصنع كل شيء، والأسياد غياب بغير تسمية، لكنهم شديدو الحضور في جبروتهم. وثمة إشارات لمّاحة إلى قضايا الاتجار بالبشر، والشذوذ، والمثليّة، والتحرّش الجنسي بالأطفال. فقصة اختفاء الصبي البنغالي «مونيرول» ماثلة في أذهان الأجيال الهنديّة الوافدة، «مونيرول وأبوه ذهبا فداء لغيرهم ممن وعوا الدرس، فأحنوا الرؤوس، وتفادوا أن ينظروا إلى الأمام إلا خطوة واحدة». كما أنّ المصادفة قادت مصطفى إلى تأدية دور الأعمى، «فيعاشر رجلًا وامرأته، وينال أجرًا مثل أيّ داعر»، ويعود بالمال المثقل بالخطايا، ليؤسّس حياة أخرى، ويجد حرجًا في الاعتراف بهذه الواقعة لزوجته لورا.
هذا المصري العابث الذي لا يخطط ليومه أو غده، يحيا على الحافة، بوصف نواف له، يجد في طريقه الافتراضي أميركية تطوف به التاريخ والجغرافيا، وتثير خياله وعقله، وتدفعه إلى تغيير مسار حياته. في هذه العلاقة التي بدأت بمحادثات عبر الشاشة الزرقاء، دفعًا للملل، رسم لمفهوم الندّيّة في الحبّ من طريق العقل والثقافة نحو القلب، وتأكيد لمفهوم الرجولة المرتبطة بالمعرفة تثبيتًا للاستحقاق «لم يستفسر كثيرا عن أشياء، فينتقص السؤال والجهل بثقافته من رجولته». يلقى مصطفى في لورا معنى خاصا جدا تجسّد في امرأة، ويرى أحيانًا أنّ لا فائدة ترجى من العبث معها، إذ لا وفاء لها إلا لعقلها، فتهمل ما دونه. ويفصح عن تقويتها فضيلة القلق والاجتهاد لديه. وهي بدورها، تخفّفت بالحب من ثقل المعاجم وجفاف المناهج العلميّة، «رددتني إلى الله فأحببته، وهو يحبني لأنه اصطفاك لي... أشهد أنّي بُعثت».
في كل سلوك وحوار ثمة مفارقة وتعديل أو تفكيك لأنماط فكرية تطمئن لتصورات ترسّبت. في علاقة مصطفى بلورا، يظنّ القارئ بداية أنها تلميح إلى نظرة استشراقة وباب لصراع ثقافي، شرق/ غرب. إنّما بمتابعة المآلات تتضح الرؤية حيال مسألة النظر من فوق، «في أميركا بشر مثلنا»، وأحيانًا ينافسون الشرقيّ في الروحانيّة. «جبران» قاد لورا في الصغر، ورسم لها حياتها، كما شرعت في البحث في التاريخ الإسلامي، مثلما جذب أعلام الشرق من المتصوفة بعض المفكرين إلى إعادة النظر في مسلّماتهم الغربية. وهي لا تنفك تعقد مقارنة بين حبيبها مصطفى وبطل جبران خليل جبران «المصطفى» في كتابه «النبي»، وسرعان ما يشبهها بالآنسة مي زيادة منزلةً في نفس جبران.
هذه المناخات الصوفيّة تحكم الجو العام، فلا تجلّل علاقة الحبّ في بعدها الوجودي وحسب، بل هي قصص تمسّ جوهر الحياة واستخلاص المعنى الهادي للإنسان. فما يراه أحدهم أسطورة وتخريفًا تاريخيًّا، لا يتنازل آخر عن الإيمان به بوصفه مسلّمة؛ فالعقائد لا تناقش ولا تخضع للتجربة والعقل، «منذ متى يناقش الآلهة؟» بتعبير تسو البوذي محاججًا إنليل ونواف تباعًا، مردفًا «لو أن الأمر هو الكفر فنحن نتساوى، كلانا كافر بإله الآخر». بذلك يسرّب الراوي رؤيته الأيديولوجية حين يعلن أنّ «لحظة المساس بالعصب العاري للعقيدة، أو الاستهانة بأهله، لا يراعي شيئا، ولا يبالي بأحد… تيار الغضب، حين يسري تلقائيا، يضيء مصباحا أو يشعل حريقا». حتى لحكاية إبليس، بوصفه كائنًا مأساويًّا ذاهبًا إلى مصير قدّر له أن ينتهي إليه، نصيب من الأناة في الحكم على منطق رفضه السجود لمخلوق توقعت الملائكة أن يفسد في الأرض، ويسفك الدماء. هي رؤية تنحو باتّجاه تفكيك التعميمات والأحكام القارّة في أيّ مسألة، وتدعو إلى احترام الاختلاف، إلى فهم وتفهّم منظورات أخرى، بغير شعور بالإحسان على أحد.
وفي مشهد شفيف نرى معنى روحيًا لطقس إعداد الخبز في اجتماع عناصر الطبيعة وتكاملها؛ فالخبز هو «العيش»، وبتتبّع مراحله تجذّر في الحياة وحبّها. وهذا ما خبرته لورا مع أم مصطفى، «للعجين روح فلاح مهّد الأرض، وزرع، وسقى، وحصد، وحمل القمح من الغيط، وغسله من الغبار وطحنه. وفي المطرحة الخشبية الناعمة روح من الخبز، ورائحة عرق نجار، صنع من الخشب مطارح، ومقاعد وأسرّة». ذلك يتناغم مع رؤية الراهب البوذي الذي نقل الطبخ، من موقع الضجر إلى مرتبة الفن في السؤال الفلسفي المطروح عنوانًا لكتاب: «كيف تطبخ حياتك».
أجواء سحر الشرق وعتق التاريخ تجد أصداءها في الحضارة المصرية التي تمتاز بطابع روحيّ يلقى هوى في نفس لورا، بحكم بحثها في لوحات وجداريات تصوّر «بقرة حتحور» أو «الثور اليساري» بحسب تعبيرها، وعن أسرار الاستبصار، والتخاطر عبر طاقات العين الثالثة؛ ومن خلفها الروائي في رصفه القصدي لمعارف تتعلّق بمصر القديمة، لا تخلو من الذهنيّة وإن أفاد من السياق العام للحوارات. فتنبّهنا إلى سرقة الإغريق أسس علوم المصريين إبّان غزو الإسكندر لمصر، وإلى اهتداء أجداده المصريين إلى الجسد الأثيري الذي يمكّن صاحبه، من الإسراء إلى أقصى الأرض، ثم العودة إلى قرينه، إلى جسده البشري. وفي إشارات لمّاحة يظهر مفهومه لأصالة الانتماء، عبر صوت مصطفى حين يخبر أنّه سافر إلى أميركا ورجع من دون أن تتغير بصمة إصبعه أو فصيلة دمه. كما يحاجج بأنّ مصر مصرية، وهي أم الدنيا قبل أن يكون للدنيا أب أو أم.
جاءت بيئة "المايسترو" المكانية والزمانية مغايرة لبيئة ثلاثية سعد القرش، إنما ثمة رؤية واحدة تحكم عالمه، في رصدها تفاصيل الإنسان في دقائق أموره وهمومه اليوميّة؛ ذلك من منظور وعي الشخصيّات نفسها، بالسماح لها أن تتكلّم بلغة تقترب من لغة الناس التلقائيّة، في حوارات مباشرة تنبض بالطزاجة، أو بسرد حدث تستحضره من الذاكرة.
وفي اقتصاد سرد يميّز أسلوب الروائي، يرافق الراوي الشخصيات، يرى كما ترى؛ لا يستبق الأحداث ولا يعلم أكثر ممّا تعلم. كل ذلك يجعل من نصه الروائي عملًا يتماهى بالدراما. كما أنها رؤية تتوخّى استشراف الآتي من الزمان من خلال الحاضر وما يتوجه به من أسئلة إلى المنظومات الثقافية الحاكمة. هكذا، فإنّ البساطة، واللغة متعدّدة المستويات بتناسبها مع كل شخصية، وحركة الذهاب والإياب بين الأزمنة التي تحكم حياة الإنسان بذاكرته وتطلّعاته، جميعها ترسّخ التخييل السردي في الواقع المتواشج مع المرجع، وهو باب يتيح لهذا المنجز أن يترسّخ في وعي قرّائه.
أسماء رمزية ثلاثة يتضمّنها التصدير والنص، توجّه القراءة بتأويلها؛ عسى «المصطفى»، الشخصية الجبرانيّة، ينادي فيتجاوب مع صوت الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب «يا خليج … يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى»، ليصل الصوت إلى «رع» إله النور واهب الحياة، في أرض الانتصار «ماعت» في ساحة العدل والحق.
(نقلا عن العرب)