يصور القاص المصري من خلال الشخصية المحورية في النص، معلم مدرس من القرية نسيج العلاقات في القرى المصرية الحديثة وطبيعة العلاقات بين الناس، ملقياً الضوء على القيم والعادات والتقاليد إلى وقفت حاجزاً في طريق التطور، فكتم الحريات قائم في التفاصيل يرافقه الكبت الجنسي واحتقار المرأة واستغلالها، كما يقدم كشفاً عن بنية القروي الفكرية من خلال المعلم الذي أفسدته الظروف.

السَّيِّدة ذات القُرط

عبد النبي فـرج

 

- 1-

بيتُنا في شارعٍ جانبيٍّ، وهذا مُريحٌ لي, ويعرفُ ذلك كلَّ مَنْ سكنَ في الرِّيف؛ لأنَّه يحمينا منْ فضولِ الجيرانِ، الذين يُصوِّبون عيونهم الليزر علينا أربعًا وعشرين ساعة, ويُضخِّمون الصَّغيرةَ، وينتقدون كلَّ تصرُّف، فلو جلستَ على كرسيٍّ، أو وضعتَ رِجْلا على رِجْلٍ، أو شربتَ سيجارةً، أو انطويتَ على نفسِك، أو كنتَ اجتماعيًّا أو مصليًّا مزكيًّا, أو فلاتيًّا، في كلِّ الأحوال أنتَ مُتَّهمٌ، ويتمُّ سلخُ جلدك، والطَّعن في شرفِك وعِرْضِك أينما تسير, وعلى أيِّ جانب تنامُ, فلا فائدةَ؛ لذلكَ أنا اعتبرُ نفسي مَلِكًا, وحدي في الشَّارع، أجلسُ على الكرسيِّ الخيزرانِ قدَّام البيت، وأمامي التَّرابيزة الصَّغيرة، لأعلِّمَ عليها الواجبَ المدرسيَّ لطلاَّب مدرسة أحمد عرابي الابتدائية, يوميًّا، ما عدا الخميس، والجمعة .
أذهبُ فيهما إلى الغيطِ مع أخوتي، لمساعدتهم في الأرضِ، ولو لم يكن هناك عمل في الغيط أذهبُ أيضًا معتبرًا الأمرَ "ويك أند"، بعد العصرِ أشربُ شايًا, وأضيِّعُ النَّهار، وأعودُ بعدَ أنْ أقومَ بصلاةِ العشاءِ في المصلِّيةِ المعرَّشةِ بالغاب على شاطئِ البحرِ, هناك مُتعةٌ, تجعلُ الواحدَ ينسى فيها المدرسة, والتَّدريس، وخراءَ التَّلاميذ أولادِ الحرامِ, وسخافاتِهم, وغباءَهم المريعِ, ولكن كم عُمر السَّعادة؟ , قصيرٌ، ولكن يجب أن تعرفَ أن هذا لا يعني أنَّني أُحبُّ أن أكون فلاَّحًا أزرعُ وأقلعُ، وتُصبح مهنةً, هُراء!, الزراعةُ والأرضُ رائعتانِ مادمت أجئ إليهما ضيفًا, استثناءً طارئاً, أمَّا أن أظلَّ كلَّ يومٍ أخرجُ من البيتِ لأعزقَ الأرضَ، خاصةً في موسمِ الذُّرة، أو أحشّ البرسيم في طوبة, أو تنظيف الشُّونة من الرَّوث, أو الرِّي في منتصفِ الليل، أو النُّزول لتسليك الفانوس من الحشائش, الَّتي تسدُّه ويجعل الماء الخارج من ماكينة الرِّي ضعيفًا، فهذا مستحيلٌ!, نار التَّدريس ولا جنَّة الزِّراعة، ثم إنَّ الجلوسَ بملابس نظيفة أمام الباب قيمة!,خاصة وأنا أضعُ رجْلا على رجْل، وفى فمي سيجارة فلوريدا مُعتبرَة، وأشدُّ النَّفَس وأُخرجه في روقان وراحةِ بال!،وكفى الأستاذ راح, الأستاذ جاء, أُمتِّعُ العينَ بالوجهِ الحَسَنِ من التي تقف أمامي في بلكونة العمارة المواجهة لنا، بجلبابها الفِضفاضِ الورديِّ المنقوشِ عليه زهور سوداء, تنظر في لامبالاة, للحقول الممتدَّة أمامها, نحيلة, ممشوقةَ القوام كرُمحٍ, لا تضعُ على رأسها غطاءً مثل الفلاَّحات؛ فهيَ زوجةُ الطَّبيب, والموظفةُ الإداريَّة في المدرسةِ التي أعمل بها والسَّيِّدة الشِّيك التي ترتدي أكثر الملابس أناقة في البلدة، الودود التي تتعامل برُقيٍّ مع المُدرِّسين, والإداريِّين, والطَّلبة, أحاول دائمًا, أن أكون قريباً منها, لذلكَ أعمل كلّ شيء تحبه, كلَّما قابلتها أنحني انحناءةً بسيطة, وأقول لها في نبرة مسرحيَّة, سيِّدتي المَلِكة المتوَّجة على العرش, فتضحك، وأقول لها نُكتًا تُضْحِكُ طوبَ الأرض!, وكلما تصوَّرت أن العلاقةَ تدخل قليلاً في العميق, وأُحاولُ أن أضفى جِدِّية, على نبرة صوتي, وأهمس بكلام غامضٍ، تضحك ساخرةً, أنت عبيط ؟، أنت بتتكلِّ،م كده ليه؟ أعرق وأقول:عايز حفرة صدَّام اختفى فيها!,وعندما تقابلني مرَّة ثانية, في الحوش, أو في الكانتين, وأتجاهلُها, وأعمل غضبان , تدخل على حجرة المدرسين وتقول: " استيقظ الأرنب في الصَّباح, وذهب إلى أمِّه، وطلب منها الأكل، ماما جاءت بالخَس والجزر؛ ليأكل الأرنب, ولكنه نظر إليها وقال غاضبا: كل يوم خس وجزر, وقرَّر الأرنب الغضبان أن يترك ماما", ساعتها تنهار مقاومتي, وأغنى مع السَّيدة نجاة "ما أحلى الرجوع إليه"
الشَّارع الذي أسكنُ فيه مُتفرِّعٌ من الشَّارع العموميِّ, لا يسكنُ فيه سوى عائلتي الموقَّرة, وجارنا العظيم الشَّأن السَّيد أبو غبيط العايق, وهو عايق مفيش كلام!؛ الجلاَّبيَّة الكشمير المكويَّة النظيفة المزهرة, الصّديري, الشَّعر المسرَّح بعناية - مش أبو غبيط اللي يلبس طاقية طويلة والقفطان التَّمام, مع أنَّ النَّاس بطَّلت تلبس قفاطين!, حتَّى الصّديري اكتشف الفلاحون- فجأة- أنَّه لا يُناسِب العصر وأنه يخنق, وأنَّ الفانلة المحلاَّوي أنعم على الجسم, ولكن هو، حتى لو في شهر يوليو, حيث شمس الله المُوقدة: القفطان يا سعدية, ويُعطِّر نفسَه بكولونيا خمس خمسات, و لا يقوم بالأعمال الشَّاقة, أو المحتقَرَة في عُرْفه, مثل تحميل الحمار السِّباخ من الشُّونة, أو الخروج بالبهائم إلى الغيط, فكان يقوم بهذه المهمَّة ابنُه الصغير عصام, أو زوجته سعديَّة, ويقوم هو بعد ذلك بحشِّ البرسيم, عندما يكون الولد في المدرسة, وفى وقت إجازة المدرسة الصَّيفيَّة, يصبغ الولد صابغة العبيد!, يجلس في الخُصّ, و يضبط دور الشَّاي "الموكن" وينده "ابو إسماعيل", وحسين عبَّاس, وسعيد أبو زينب, وفازع أبو غريب, ويشدّ في سهراية طويلة.
والولد ابنه جواه مِرْجَل يغلى بالغضب, وهو ولا على باله .
وضعتُ صفرًا كبيرًا للطَّالب في الكشكول, يبقى يخلِّي الأستاذ عبد الفتاح ينفعه, وركنت باقي الكشاكيل على التَّرابيزة الصَّغيرة, لكي أنعم باستراحةٍ قصيرة أتَأمَّــل فيها السَّيدةَ ذاتَ القرط, ثم أعودُ لأراجِعَ إجابات الطَّلبة.

-2-

خرج أبو غبيط وتوقف أمامي مباشرة، ثم استدار ناحية بيته وطلب منْ سعديَّة زوجته, أن تقوم بتطريب الشُّونة, وأنت رايح فين يا بو عصام؟ . نظر إليها نظرات ناريَّة , ليكى فيه؟، ليكى فيه يا مَرَة؟، قلت: ما هو دا آخرة انك تارك لها السَّايب فى السَّايب يا بوعصام, الله يرحمه أبوك لو كانت واحدة رفعت عينها كان يكسر لها أسنانها.
شفت يا أستاذ, غلطنا يا عم, والله الواحد بيتعامل معها من باب الرِّفق بالحيوان الأخرس, ما هو الواحد لو عامل النسوان دي, على أنهم بني آدمين، يتعب في حياته!, ردَّت أم عصام: وأنا عملت إيه؟؛ ما أنا من صباحيَّة ربّنا شغالة!.
أيوه!, أيوه يا حلوة!َ, ردي علىّ كلمة بكلمة!, وحرَّك يدَه في عصبيَّة, لازم تاخدي, مصروف التَّهزيء والضَّرب بالمركوب، عاد مُسرعًا وبصق على وجهها, عجبك كده!. خلاص يا خويا!, روح , روح الله يسهلها لك . هزَّ رأسَه فى حسرة, وأخرج علبة سجائر سوبر وناولني واحدة, ميه مسا, وانطلق، وهي أخرجت الحمار من الشُّونة, وعليه الغبيط وبيدها المقطف والفأس, واقتربت مني وقالت لي في وجهي
: أنت قاعدتك سوء!
قمت من على الكرسي, قاعدتي سوء؟, ماشي!, ماشي يا سعديَّة!, كشكول عصام آهه!, ورفعته في مواجهتها, صِفر!, إن نجح ابقي تفِّي على وِشِّي .
ضحكت سعدية فجأة ضحكة شبه نهيق الحمار,وقالت:
صدَّقت؟, دا أنا بضحك معاك!, هو احنا لينا بركة إلا أنتَ ؟
قلت في سِرِّي: آه يا شعب يخاف ما يختشيش! .
ابنك بليد يا سعديَّة بس أنا باقي على الجيرة, وباخالف ضميري، وابنك بينجح كل سنة بالغش والتَّدليس, وجاية في الآخر تبخِّي في وشِّي سمومك .
وضعت المقطف والفأس واقتربت منِّي.
وعليَّ الطَّلاق زي الرِّجالة: أنت في مقام رمضان أخويا!.
خلاص يا سعديَّة عشان خاطر العِشرة مسامحك, وعشان تعرفي إنِّي أصيل,حذفت الصّفر وأديت عصام عشرة على عشرة! . رفعت يديها للسَّماء:
تفرح!, يرزقك ببنت الحلال اللي تريَّح بالك, وتكون لك مش عليك، وتركب المرجيحة يا بن فاطمة!
انفجرتُ في الضّحك وقلت لها:
أنا ساذج يا سعديَّة وكلامك يفسد أخلاقي!
بصبصت لي:
أنتِ آه منك!, دا أنتَ عِلق على كبير!.
ضحكتُ حتَّى كدتُ أقعَ على ظهري، وهيَ حملتْ المقطف، والفأس، وذهبتْ تُحمِّل الحمار التُّراب من الكوم الموجود أمام البيت .
في يوم كنت في الفصل أشرح حصة الرياضيَّات, سمعتُ صرخةً قويَّةً, رميت صباع الطباشير، وتركت الفصل, بعد أن حذرت الطَّلبة من الخروج , وجدت المدرِّسين يهرولون تجاه الكانتين, تتبَّعتُهم حتَّى وصلنا، وجدنا السَّيدة ذات القرط منهارة, وهي تبكي وملتصقة بالحائطِ , ناظرةً إلى الأرض, وفى يدها كوب ليمون, لم تستطع أن تُقرِّبَه من فمها, والمُدرِّسات جوارها يُطيِّبنَ خاطرها, وهيَ تشهقُ, ثم رفعتْ شعرَها الذي يسقط على جبهتها، ووضعتْ فيه مشبكًا، فأشرقت حلمة أذنها الفاتنة, وظهرَ الحلق الدبلة الكبيرة يتأرجح فيها, وبدَا انبثاقٌ دمويٌّ حولَ الثُّقبِ الذي يدخل فيه الحلق, ومدير المدرسة - وهو إنسانٌ شرسٌ عنيفٌ , من عائلةٍ كبيرةٍ في القريةِ - يُمسِكُ فرَّاش المدرسة من ياقة جلابيته ويضربُ فيه بعنف، وأخذَ يجذبه ، والفرَّاشُ مُستسلِمٌ؛ يضربه بالشَّلوت والبونيات في ظهرِهِ وعلى قفاه, حتى أدخله حجرة المُدرِّسين, وعرفنا بعد ذلك أن المخبول أمسكَ صدرَ السَّيِّدة, وبرَّر- بعد ذلك عملته - أنَّها كانت تضحك كثيرًا معه، وأنَّه تصوَّرَ أنَّها كانت تُحبُّه, و لن تغضبَ من ذلك, ثم تمَّ تحويله للتَّحقيق في إدارة أوسيم التي تتبعُها المدرسة، وقد توسَّط له عضو مجلس شعب كي لا يتم رفته، وقد تحقق له ذلك, ولكنَّه نُقِلَ إلى مدرسة الفاروق الإعداديَّة بكرداسة, وعندما ذهبَ لاستلام عمله, قابله ناظر المدرسة الأستاذ رياض عبد المسيح، وهو رجلٌ طيِّبٌ ومُسالمٌ ويخاف ربّنا، وقال له: أنا عارف سبب نقلك للمدرسة عندنا، و من كان بلا خطيئة فليرجمها!, بس أنا عايز أفهِّمك حاجة؛ العقاب هنا على غلطة زي دي, أو أقل منها، لا يكون من خلال التحقيق عن طريق الإدارة, أبدًا؛ دي مباشرةً، وفى التوِّ واللحظة!, وأنا أتذكر أن مدرِّسًا بالمدرسة قد فُتِنَ ببنت, في فصلِهِ, وتحرَّشَ بها, وأنا شاهد عيان، وكنت مُدرِّسًا جديدًا, لم أكنْ حتَّى تزوَّجتُ أم هاني, والله يا بني تمّ صبّ جاز عليه، قدَّام كلّ المدرسة، وتمّ حرقه, فخليك في حالك وكُلْ عيش!, وصل الكلام؟.
صار الفرَّاش في المدرسة بعد ذلك كالصِّراط المستقيم، وبعد فترة من الزَّمن, تآلف مع الأهالي، و انتقلَ مع الأسرة بعد أن باع ممتلكاته في القرية، واشترى بيتًا ثلاثَ غرفٍ وصالة وحمَّامًا, في كرداسة، وربَّى لحيته، وأصبحَ من المدرسة للجامع ، ومن الجامع للبيت .

- 3-

ظلَّت السَّيِّدةُ ذاتَ القُرطٍ عامًا في أجازة بدون راتب, وعندما عادتْ كانت ترتدي حِجابًا يغطي شعرها ورقبتها، ولم يعُدْ يظهر منها غير عيننينِ تلمعانِ, وقد أظهر الحجابُ أنفَها المثيرَ, الذي يلمعُ بوهجٍ ناريٍّ خاطفٍ, يسحق أيَّ إرادةٍ قويَّة, أنفٌ غريبٌ فاضحٌ شهوانيُّ حدَ الكارثة!, أتذكَّر أنَّني أوَّل مرَّة قابلتُها, كنتُ أراها وأنا أطلُّ من باب الفصل, فوجدتُها تُكلِّم المدير، وبالتَّأكيد كانت ستمرُّ من أمامِ الفصل ؛ لكي تذهب إلى مكتبها في آخر الممرِّ، صرختُ في الطَّلبة:
أي ابن كلب سافل هسمع صوته, همرمغ اللي جابه في الأرض, يا كلاب!.
وضربت- في عنفٍ - بالخيرزانة على التَّختة, التزمَ على أثرها الفصلُ الصَّمت , واندهشتُ من قدرتي المفاجِئة على السَّيطرة على الفصل؛ أنا المعروف في المدرسة بضعفِ الشَّخصيَّة, أنا الذي لا يهمّني شيءٌ سوي الدِّروسِ الخصوصيَّة, وأخذتُ أُنصتُ إلى وقعِ خطواتِها وأحسبُها جيِّدًا، وفي الوقتِ المناسبِ بالضَّبطِ، خرجتُ من الفصل، فكانتْ في مُوَاجهتي, وأنفُها شامخٌ يتألَّق في سموٍّ, جسمي تهدَّلَ, وتراختْ أعصابي, وغرقت في عرقي، وأنا أُحاولُ أن أُخرجَ صوتي ترحيبًا بها، فكنتُ أشبهَ بالخُرْسِ المَخَابيلِ، مدَّت يدَها في رحابةٍ وبساطةٍ, ازيَّك يا أستاذ! واحشني!, عادت روحي، ووضعتُ يدي في راحتِها، وأنا فى شبه غيبوبة، كان وجودُها فاحشًا, مُغريًا لدرجةِ أنَّني كنت مثارًا بدرجةٍ شديدةٍ, وقد اتَّصلتُ بخطيبتي, وأخذتُ أتحدَّث معها, وأُداعبُ نفسِي على صوتِها, وعندما نمتُ القيلولةَ, رَأَيتُ السَّيِّدة في حُلْمٍ مُستسلمَةً لي تمامًا, وأنا أُداعِبُ حلمةَ أذنِها المُغويةِ بلساني وأمصُّها, وشفتاها تتوهجانِ, وأنفُها يضوي كمنارةٍ, كنتُ في حالةٍ جنونٍ عاتيةٍ, حتَّى انتبهتُ من رقدتي على صرخةٍ, قمت أجري إلى الشَّارعِ، وجدتُ الصَّرخةَ تخرجُ من بيت "أبو غبيط", تثاءبتُ, وتيقَّنتُ أن الأمرَ بسيطٌ؛ أبو غبيط يضرب سعديَّة, أبو غبيط فاعل وسعدية مفعول به!, فتحتُ البابَ، وتوجَّهتُ إلى بيت "أبو عصام", وخبَّطتُ على الباب، ودخلت غرفة النَّوم، وجدت "أبو غبيط" قاعد باللباس عريان، فبدا كالسِّحلية, الملابس تعمل له قيمةً وهيبةً, كدت أضحكُ :
خبر إيه أبو عصام؟
مفيش, وليه بنت كلب مضروبة في مخها, عايزة تتعالج!
سعديَّة مصمصت شفايفها وقالت:
النَّاس خيبتها السَّبت والحدّ, وإحنا خيبتنا ما حصَّلت حد! .
أخذ ينظر إليها في حدَّة، وهو يغمزُ بعينه, وعوج حنكه:
يا ولية اهمدي, فرَّجتي علينا اللي يسوا وإلا ما يسواش! .
كدا يا بوغبيط , دا الوقت غريب ويسوي وما يسواش!, تُشكر!, تُشكر يا بن الأصول! .
قرفص أبو عصام على السرير:
مش قصدي عليك, أنت منّنا, أنا قصدي على الناس, دي كلها.. وأشار بيديه.. نظرتُ لم أجدْ أحدًا.
قومي ياوليَّة اعملي شاي للأستاذ .
جلستُ على السّرير بجواره وقلت:
إيه الحكاية؟
قامت على طولها سعديَّة وقالت:
الحكاية أن الباشا أخذ حق العجل ابن الجاموسة, وشرب بيرة فى فرح ابن أبو حسين, وطلع على المسرح، والرَّقاصة هزَّت له هزّتين ورمى لها باقي حق العجل على صدر الشّرموطة .
يا وليه دا واجب وأبو حسين حبيب!
حبّك بُرص يا بعيد .
شايف يا أستاذ دي مَرَة دي؟, الله يرحمك يابا, غلطت وأنا بدفع ثمن غلطتك، ياريتك كنت كهربتني, ولا شفت الغمّ الأزلي كلّ يوم الصّبح!
وحدوا الله يا جماعة!, دا شيطان دخل بينكم!
دي شرموطة, كنت عايز رقَّاصة ترقص؟, تعالَ يا اخوي وأنا ارقص لك طول الليل!, وأخذت تهز فى جسمها وصدرها!
خلاص يا أم عصام !
نط أبو عصام على أم عصام, ومن شَعرِها أخذ يمرمغ فيها على الأرض, حتى دخل أبي:
ولد يا بو غبيط , اعمل لنفسك قيمة!
فتركها وأخذ يرتدي ملابسَه وهو يُردِّدُ, حاضر يابا الحاج!, حاضر يابا الحاج!, ثم ناداني أبي، وسرتُ وراءَه، وعندما خرجنا نغزني في جانبي وقال:
قاعد تتفرج يا وسخ يا بن الكلب .

- 4-

تزوجتُ، ولم أعدْ أجلسُ في الشَّارع إلا نادرًا، وانخرطتُ في إعطاء الدُّروس الخصوصيَّة للطَّلبة، وبدأتُ في محاسبةِ الطَّالب بالحصَّة بدل الشَّهر, ومعظمُ الطَّلبة لم يكونوا يهتمُّمون بكوني أشرحُ جيِّدًا أو لا, حتَّى أصبحتْ الدُّروسُ مجرَّدَ روتين؛ أن أكتبَ المذكِّرةَ وأشرح والطَّلبة فى حالة غيبوبة، طالبٌ يُخرجُ جيبه علبة السَّجائر، يرشُ عليَّ وعلى أصدقائه من الطَّلبة, غير مبالٍ بشيءٍ, المهِّمُ أن أُسرِّبُ له الامتحان وينجح في آخر العام, حتَّى أصبح البيت ولا المدرسة!, وتحسنَّت أحوالي المالية, حتَّى إنَّني اشتريتُ قيراطين من الأراضي الزِّراعيَّة وبنيتُ بيتًا من دورينِ , الدّور الأرضي للدّروس الخصوصيَّة, والثَّاني للأسرة، والحياة بقت معدن, شيءٌ لا يصدَّق!, فلوس بتترمَّى عليَّ بلا حساب!, فكنتُ أصرفُ ببذخٍ وأشتري أحدث الأجهزة الكهربائيَة المُستورَدة، اشتريت تليفزيونًا ملوَّنًا 25 وعشرين بوصة، وأوَّل كمبيوتر يدخل البلد كان لي, وثلاجة كريازي, وبوتاجاز أربعة عيون, وتوقفت عن ملاحقة السَّيِّدة ذات القرط, وزوجتي أنجبت سماهر وخالد , ولم يعد يشغلُني سوى جارٍ لنا، كل شغلته في الحياة أنه يعِدُّ التلاميذَ التي تأخذ عندي دروسًا خصوصيَّة، و كلَّما قعد مع أحد, يقول له:
50
رأسًا دخلت اليوم!، والحسَّابة بتحسب!، والعدَّاد بيعد! .
غُلبتُ مع هذا الملعون, وكلَّما فتحتُ له الموضوعَ, يضحكُ ويغلوش على الكلام ويقول: ربنا يملاه لك بركة!. وكنت كلّ فترة أذهب إلى بيت العائلة، لأرى أمِّي؛ أنا وزوجتي والأولاد، وهيَ الدَّائمة الشَّكوى من أنَّني لا أذهب إليها، وأنني نسيتُها, أجلسُ بجوارها فترةً ثم أسحبُ الكرسي، وأجلسُ أمام البيتِ أنظر إلى عمارة الطَّبيب, وزوجته ذات القرط الجميلة، التي توقَّفت عن الذِّهاب إلى المدرسة بعد مشاحناتٍ عنيفةٍ مع مدير المدرسة، وكلّ مرَّة أمنِّي نفسِي برؤيتها دون جدوى, وفي يوم ذهبت إلى بيتنا القديم، ليس لأنَّني أريدُ أن أري أمِّي، أبدًا, فقط ملل وعدم وجود شيء يشغلني، خاصةً أنَّنا في الأجازة الصَّيفيَّة, وقد أصبحتُ بلا أصدقاء, تساقطوا منِّي لأسبابٍ كثيرةٍ, منها غيرة, أو رخم، ودائمًا السُّخرية منِّي, كأنَّ لا شيء تغيَّرَ في الحياة, ومنهم مَنْ سافر إلى السُّعوديَّة, والإمارات, ومنهم مَنْ جدَّدَ حياته بأصدقاء جُددٍ, وأنا في كلِّ الأحوال لا أفتقدهم، أو أشعر بالحنين لأيَّامٍ مرَّت من عمرنا تشاركنا فيها, ولا أُحسُّ بغربةٍ، أو أنَّ حياتي تفتقدُ المتعةَ، رغم أنَّ أخي مثلاً يتصوَّر أنَّني أعيشُ كالبهائم؛ آكل وأشرب وأنام, روتين سرمديٌّ بغيضٌ, هو لا يرى إلاَّ نموذجَ حياته، ولكن لي حياتي!, أنا مُستقرٌّ, ولا أريدُ أن ينغِّصَ حياتي شيءٌ, أريدُ أن أستمرَّ هكذا إلى الأبد، وعندما أموت لا يعنيني أي شيءٍ؛ لا تعنيني زوجتي ، أولادي, أنا سعيدٌ بهذا الوضع، ما الذي يجعلني أغيِّرُ حياتي الَّتي لا أتألمُ فيها ولا أتعرَّضُ للخطرِ فيها وأعيش في طمأنينةٍ, لا يعكِّرُني شيءٌ, مثلاً أنا أحبُّ أن أمارسَ الحبَّ مع أمِّ طالبٍ عندي، وهيَ أرملةٌ فاتنةٌ, ومن السَّهلِ إقامةِ علاقةٍ معها، ولكن ماذا لو انجرفتُ في العلاقةِ؟، ماذا إذا استطاعتْ أن تُوقعني في فخٍّ وتُسيطرَ عليَّ, ثم أُجبرتُ على الزَّواجِ منها, أو تمَّ اكتشافُ العلاقةِ وفرضَ أهلُها عليَّ الزَّواج؟ ، ما الذي يمكن أن يحدثَ في تلك الحالة؟، هل لي قدرةٌ على مواجهةِ أسرتي وزوجتي الجميلة وعائلتها؟, ستتحول حياتي إلى جحيم، "الباب اللي يجيلك منه الرِّيح سدّه واستريح"،هو أهلينا قالوا حاجة غلط؟!, يا فرحة أمِّي بي عشان نزوة!، أو حُب حقيقي أدمّر حياتي وأعيش في توتُّرٍ دائمٍ , كلام فارغ!, وصلت إلى بيتنا القديم, دخلتُ على أمِّي مباشرةً، وجدتُها وحدَها تجلسُ على السّرير, وسمعتُ أصواتَ أولاد أخي داخل البيت, جلستُ جوارها:
أزيك يا حاجة؟
أهلا يا خويا, مين؟
كان نظرها قد ضعف تمامًا، اقتربتْ بوجهها منِّي لكي تتعرَّفَ عليَّ, وقد أصبحتْ تنسى حتَّى أولادها؛ أنا ماهر و محمد و محمود, هو أنا أكلت يا وله؟, أبوك جه من الغيط؟, أخذتُ أتحدَّث معها فترة طويلة، ثم أخرجت 20 جنيهًا، ووضعتها في يدِها, فشعرتُ بسعادةٍ تغمرُها وهى تتحسَّسُ الفلوس, وأخذتْ تدعو لي .
زوجة أخي يبدو أنَّها سمعت دعاء أمِّي فجاءت، وأخذت تعتبُ عليَّ لأنني لم أنبهم ؛ لكي تقومَ بالواجب, ثم طلبتُ منها أن ترسلَ إلي الكرسي, وخرجتُ إلى الشَّارع أنظرُ إلى البيوتِ, وإلى العمارة، لا أحدَ سوى الصَّمت , جاء ابنُ أخي بالكرسي ، فجلستُ عليه، واستغرقتُ في أحلام اليقظةِ، حتَّى جاءت زوجةُ أخي بالشَّاي, أخرجتُ علبة السَّجائر وأشعلتُ واحدةً, وأخذتُ أرشفُ الشَّاي فى بطءٍ وتلذُّذٍ, حتَّى فُتِحَ بابُ بيت "أبو غبيط"، وقد خرج منه ابنه عصام، الذي رحَّب بي بمودَّة وذوقٍ رَاقٍ, فرحت بالولد الذي أصبحَ شابًَا مفتولَ العضلاتِ يرتدي ترينج أزرقَ, شيك, وشَعرُهُ الأسودُ الغزيرُ أضفى عليه وسامةً, أعتذرَ إليَّ لكونه سيذهب إلى النَّادي، ثم خرجتْ أمّ عصام من الشُّونة بالحمار، والفأس في يدها والمقطف، وهى تجرُّ الحمارَ الذي أصبحَ عجوزًا , يسيرُ في بطءٍ , أم عصام أزيك؟، وتركتُ الكرسيَّ وجريتُ أسلِّمُ عليها في ودٍّ وسعادةٍ، وقد جرفتني مشاعرُ الحبِّ لها، وهيَ اندهشتْ من هذا الاحتفاءِ؛ لذلك فقدتْ القدرةَ على الكلام واعوجَّ فمها من الخجل, كأنَّها بنتًا بكرًا, وكانت بي رغبةٌ عارمةٌ أن أحضنَها، وأظلّ هكذا فترة طويلةً، يحتويني جسدُها الضَّامرُ, خجلتُ من نفسِي، استغربتُ احتياجي ورغبتي غير المبررةِ, لدرجة أنَّني انتزعتُ نفسِي وعُدتُ إلى الكرسي منهارًا, ساعتها شعرتُ أن الحياة كئيبةٌ, وضعتُ يدي على خدِّي واستغرقت في التفكير، في هذا المصيرِ القاتمِ، وبعد فترة رفعت ناظري, وجدتُ السَّيِّدةَ ذاتَ القرطِ تخرجُ وتقف في البلكونة, وهيَ ترتدي النِّقاب وقد عرفتُها من تأمُّلي الطَّويل في هيئتِها, نظرتُ إلى أم عصام، وجدتُ الجلاَّبيَّة مهترئةً من تحت الإبطِ، وكلَّما رفعتْ المقطف بان جزءٌ كبيرٌ من ثديها المُرتخِي, نظرتُ إلى السَّيِّدةِ النائيةِ، وجدتُها تنظرُ إلى البعيدِ، حيثُ حقول الذُّرةِ ممتدَّة .