زلقت قدم الفقيه العرعور في الحفرة، فسقط . لم يكن ينظر أمامه ، كان مشغولا بعد النقود، وكانت كرشه تتدلى إلى تحت، بعد أن التهم للتو دجاجة كاملة ومرقا ، صرخ مستنجدا، فتفرق عنه أنداده من الفقهاء الذي كانوا معه ، تناجوا في مابينهم برهة : "هذه فرصتنا لنتخلص منه، دعوه هنا ليموت، فلا راد لقضاء الله"، ثم تفرقوا عنه مخلفينه وراءهم، كان أضخمهم جثة وأجهرهم صوتا، وكانوا يكرهونه لأنه يستفرد بحصة الأسد من الأعطيات ، يكفي أنه كان يرفع صوته قليلا لتسمعه من بعيد، فيبعث الرهبة في قلبك، ويكفي أنه كان يجلس في الولائم ، لتراه بين العشرات ، فارعا، مربوعا ، لا تزيغ عنه العين، لذلك، فقد كان أمير المجالس ،وصاحب الدعوات المبروكة ، وبفضل مواهبه الفذة استطاع أن يؤثر في قلوب الناس ، ثم في جيوبهم. وبفضلها، استجلب حسد الفقهاء ثم كرههم ، وبسببها أيضا ، بقي وحيدا في هذه الحفرة تحت أشعة الشمس. شعر بطعم الخيانة، لقد خذله أصحابه ، لعنهم في سره، تمتم : "سيعلمون غداً أي منقلب ينقلبون"، ثم فكر كيف يخرج ، كانت الحفرة متربة بعمق ثلاثة أمتار، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا ليخرج منها، مواهبه البدنية لا تسعفه في التسلق والقفز، ياللورطة!! فكر في صوته ، قال: "وأين يصل صوتي في هذا المكاني النائي"! فكر في الدعاء، لكنه تفكر متعجبا ، قال في نفسه : "لم يسبق لك ياعرعور أن دعوت الله لنفسك ، فدعاؤك كان من أجل الناس فقط أو عليهم، وأنت أحوج ما تكون له الآن" ، ورفع يديه ليدعو فلم يستطع أن ينطق بكلمة ، تجمدت شفتاه، تساءل: "لماذا لا يخرج الصوت!"، جرب أن يصرخ ، رفع عقيرته فخرج الصوت ، رفع يديه ليدعو فانكتم الصوت، استغرب، توجس ودق قلبه، هي مزحة لاشك!! عاود من جديد، لكن أمنياته في الفرج لم تجد سبيلها من قلبه إلى لسانه، وتذكر كيف كان صوته يجلجل في المناسبات، وكيف كانت العيون تشرئب اليه، تستمطره الرحمة والعون، لقد كانت تلك العيون مصدر قوته ، بكاؤها وطمعها كانا ينشيانه، يدفعان بالكلمات المباركة أن تخرج من فمه هادرة كالبركان، ونظر حوله ، لا توجد عيون في هذه الحفرة، ولم يسبق له أن دعا لنفسه. ولأول مرة شعر بالوحدة والخوف، جف حلقه، شهر آب لايرحم، نظر إلى السماء فوقه، كانت زرقاء و صافية، حدث نفسه عن رحمة الله، تذكر يوسف في الجب ، حاول أن يتشبث بأمل في أن يعيش لتعشقه العيون من جديد، مرت ساعة كأنها الدهر، ثم أخرى لكن لا سيارة ، شعر بالعطش لكن لاماء، نزع قميصه لكن لا ظل ، قال في نفسه بهلع : "إذا لم تأت سيارة فستأت حتما السباع" سيموت هنا وسيدفن ، لن يتصدر المجالس، ولن يرفع صوته بالدعاء، ولن تعشقه العيون من جديد، ازدادت ضربات قلبه عندما أطلت عليه عينا ذئب على شفير الحفرة، نظر إليه الذئب بمزيج من الخوف واللهفة، فهم من نظراته أنه لا يطلب دعاءه، وإنما ينتظر أن يموت لينقض عليه، جلس الذئب مادا رجليه، وأضفى على نظرته هدوء واثقا : "هذا هو!! إنه الآن مطمئن على فريسته" ، أسر العرعور في نفسه مرتعبا، "أصبح الذئب واثقا أنه سيلتهمني، ولا شك أنه جرب هذا مئات المرات، ينظر في البداية إلى فريسته بخوف وشهوة، ثم حين يقيم الموقف ، إما أن ينصرف وإما أن يجلس ينتظر لاهثا مطمئنا كما يفعل الآن" ، لم يتعود العرعور لغة العيون هاته، هذه العيون لا تشبه العيون التي كان يعشقها، وتنهد: آه يا زمن!! بدا له الفارق بين الزمنين بعيدا وكأنه في الحفرة منذ عشرات السنين!!
توهجت الشمس في السماء نافثة مزيدا من اللهب و دخلت ذبابة الحفرة، كانت ضخمة خضراء، وتبعتها أسراب أخرى من مثيلاتها، كلها كانت تصدر طنينا مزعجا وتحوم حول رجل الحفرة. استسلم العرعور واستعد للموت، صرخ في يأس : "ستكون جثتي شهية وستأكلون كل ولائمي أيها الأوغاد"، ثم أخذ دماغه يغلي من القيظ، كانت دقات قلبه تضرب باب صدره بعنف لتخرج، أحس بالغثيان وتبلل سرواله الداخلي،وفجأة هجم الذباب على وجهه ، حاول أن يزيحه بحركة من يده، لكن حركته كانت بطيئة وغير مستعجلة، نال منها القيظ والتعب، في نفس اللحظة، صدر عن الذئب عواء مخيف، وكأن الذباب ألهمه الإشارة ، "هذه الكائنات ذكية"، فكر العرعور الذي بدأت رؤيته لما يجري حوله تتشوش، لم يعد خائفا، لكنه أحس بضباب شفيف يغطي عينيه، تطلع إلى الذئب ساخرا، نظر إليه هناك فوق رأسه يرفع صوته بالعواء ، رَآه يتصدر مجلسا من المدعوين، كانه عرس أو مأتم ، يرتدي جِلْبابا أبيض ، كالذي كان يرتديه ، وينتظر قدوم الطعام ، قهقه العرعور عاليا ، وأشار إلى الذئب بسبابته: " أنت لئيم أيها الذئب، ولن تضيع فرصتك مني، أعرف ذلك، هكذا يفعل الذباب عند الموائد!!"، بين الهلوسة والوعي، سمع حركة أصوات مختلطة ، هي مزيج من أصوات الذباب والذئاب والبشر، أحس بحبله يتدلى ويداعب عنقه، ثم غاب !!