تصور الكاتبة العراقية الشابة في قصتها حياة عائلة فقيرة من العمال في ظروف الحرب المستعرة في العراق منذ عقود، عارضةً تفاصيل معاناتها في العيش والكدح تحت الاضطراب العاصف لجنون العقل زمن الحرب لتلقي الضوء على الأغلبية الفقيرة التي تسحقها تلك الظروف وتخرب حياتها التي هي أصلاً على الكفاف.

فستان أحمر

فاطـمـة ياسـر

 

كان صباحا عاديا من يوم الأحد مليء بسمفونيات الحرب، حيث القذائف وصوت نسف البيوت وصولا إلى مصنع الأقمشة المليء بتهكمات العمال من الساعات الإضافية التي فرضها صاحب المعمل لتجهيز طلبية لاحد المتاجر المعروفة في بغداد. كان له انف كبير ومستدق النهاية ووجهه مستطيل يشبه قطعة الدومينو أسنانه كبيرة وغير متناسقة مملوءة ببقايا الأكل، وصوته يشبه بوق إنذار، مخيف ومزعج، اعتاد الأمر كل صباح

- اعملوا جيداً

وهو ينظر بعينيه الصغيرتين اللتين تشبهان حبتي بزاليا، فيقابله العمال بنظرات ضيق وضغينة من وجوهٍ تشبه الأوراق المدعوكة جراء الظروف القاسية التي فرضتها الحرب. اقترب صاحب المعمل الذي يدعى قيس من فتاة طويلة ممشوقة القامة، ذو وجه ملائكي يملأه النمش الذي اكسبها جمالا اكثر كانت كلوحة تعبيرية حيث في كل زاوية من زواياه تحمل قصة. اقترب وصاح بصوته الصاخب الذي طغى على ضجة المكان - اعملي جيدا يا سما!

وبصوت خافت ومتردد أجابت:

- حاضر يا سيدي!

بدأت بغسل الأقمشة بسرعة بسبب وصولها متأخرة جراء تعرض منزل يقع في طريقها إلى المعمل للقصف فسقط وقطع الطريق، كان المشهد عادياً لسما وغيرها ممن يسكنون المناطق الساخنة. توقفت قليلاً ونظرت إلى يديها المتآكلتين المملؤتين بالندبات جراء مواد الغسيل، أخذتْ نفساً عميقاً وسكنت لبرهة لتتقبل هذه الصدمة، ولتعيد تسلسل أفكارها. سمعت ضجة، صوت زوجها الذي يعمل معها حمالاً في نفس المعمل وهو يتشاجر مع صاحب المعمل حول أجره. ركضتْ مسرعةً فسقطت علبة مملؤة باللون الأحمر على القماش علبة نستها إحدى العاملات بسبب الإجهاد. سقطتْ على القماش الأبيض. توقفت. لكن دون جدوى فلقد ملأ اللون الأحمر القماش!

- ما لذي يجب أن تفعلهُ؟

تخالطت الأفكار في رأسها وبانت ملامح الخوف والارتباك عليها، فزوجها قد يكون طرد من المعمل، وهذا يعني تقليص وجبات الطعام والاعتماد على نقود عملها فقط، والقماش باهظ الثمن وقد يؤدي إلى طردها. قررت إخفاء القماش بسرعة خوفاً من رؤية إحدى العاملات لها وأخبار صاحب المعمل. حملتها وتوجهت نحو الباب الخلفي للمعمل الذي لم تكن تعلم بوجوده سوى القليل من العاملات ممن قضين معظم حياتهن فيه وبما أن سما من العاملات العتيقات في المعمل، حيث قضت طفولتها فيه، عندما كانت والدتها تحضرها معها. ركضتْ مسرعةً بين الممرات، ها هو الباب أمامها، حاولت أن تفتحه، كان مغلقاً وعالقاً بسبب الصدأ الذي ملأ قفله. حاولت بكل قواها لكن عبثاً، قررت أن تخبأه في احد الصناديق الموجودة في المخزن الذي يسبق الباب الخلفي، أخقتها ونظراتها تمسح المكان خشيةً وعادت لترى زوجها. فوجدته قد طرد. يالها من خيبة بعد أن كانت تأمل تحسن الأمور من أجرهما وحلمت أن يدخرا قليلا من المال لاستقبال مولودهم الجديد الذي لم تكن تعلم بجنسه ولكنها تخيله أنثى شعرها ذهبي كخيوط الحرير. عيناها كبيران وسوداوان كوالدها. حبات النمش تملأ خديها. تخيلت وتخيلت لكن الآن العالم اصبح مظلماً وعّم الصمت. تلاشتْ أصوات المكائن في المعمل، حتى أصوات المدافع والرصاصات العالم توقف. جثتْ على ركبتيها. أمسكتْ بيد زوجها وانتشلت ما بقي من أمل. عادا إلى المنزل بخطواتٍ ثقيلةٍ ونظرات حزنٍ وألم بانت على ملامح زوجها. كانا قد فرّغا جزء من غرفتهما الوحيدة لابنتهما. وبدآ بتحضير ملابسها وسريرها الذي تبرع به جارهما النجار، في منتصف الطريق تذكرت القماش الملوث بالأحمر. مسحتْ دموعها. وكسرتْ الصمت الذي صاحبهما طول الطريق:

- أذهبْ أنتَ. سأعود بعد قليل!

قالت لزوجها عادت، وبنظراتٍ حذرة وخطوات خفيفة كي لا يلاحظها أحد ذهبت لتأخذ القماش الأحمر، لكن هنالك صناديق كثيرة وبسبب الصدمة وزحام الأفكار نسيت أين وضعته بالتحديد، هل هو في هذا الصندوق كبير الحجم والذي تبدو عليه أثار السنين واضحة.. لا لا ليس هذا. بحثتْ قليلاً، ثم تذكرتْ: أنه في ذلك الصندوق الصغير المركون في زاوية المخزن وعليه كتابة لم تكن مفهومه لها فهي لم تكن تتقن القراءة جيداً، لم تكمل الصف الثالث عندما توفي والدها، ولم تكن عائلتها تمتلك نفقات الدراسة.

فتحت الصندوق

- ها هو

ابتسمت ابتسامة ممزوجة بعلامات الاستفهام. أخرجته وخبأتهُ تحت بدلة العمل، وأسرعت خارجةً، ستعطيه لجارتها كي تخيط منه فستاناً أحمرَ.

في اليوم التالي كانوا جميع الناس مجتمعين قرب منزل سما، جارهم النجار، صديقات سما من المعمل، أهل المحلة الذين استيقظوا على صوت قذائف، واحدة منها سقطت على غرفة "سما" فهدتها، ولم يعثروا في الأنقاض والأشلاء على شيء سوى قطعة القماش الأحمر.