قبل سنوات
عملت مع عجوز إيطالي اسمه أنجلو
في مطعم صغير في بون
كانت تديره ـ بإذن الله ـ سيدة محجبة من شمال أفريقيا
كان دأبها أن تستغلنا على أكمل وجه!
أنجلو كان يصنع البيتزا الإيطالية بمهارة فنان،
وأنا كنت أبيع الكباب التركي المغشوش بكسل واضح!
طوال الوقت كان العجوز يدندن بأغان إيطالية،
لم أكن أفهم من كلماتها شيئاً.
وفي أوقات الفراغ
كان يتحدث دون انقطاع عن إيطالياه العظيمة والساحرة!
كان يتحدث عن جودة نبيذها، عن جمال نسائها، عن طيبة شعبها، عن جمال موسيقاها، عن روعة سينماها، عن تفوق كرة القدم فيها، عن لذة طعامها، عن طبيعتها الخلابة، عن دفء طقسها، عن شواطئها اللازوردية... حتى أنه كان يتحدث عن ذكاء المافيا الإيطالية باعجاب أيضاً!
كان لا يغلق فمه، ويحدثني دون انقطاع،
عن فلورنسا ميكيل أنجلو،
عن جنوة كريستوف كولومبوس،
عن فيرونا روميو وجولييت،
عن باليرمو التي تجذب السواح كالمغناطيس،
عن فينيسيا الطافية كأعجوبة على سطح البحر،
عن ميلانو وكادرائيتها الشامخة،
عن تورينو وفن الروكوكو،
عن تريستي وقلعة ميراماري،
عن بيزا وبرجها المائل،
عن نابولي وأعمدتها الروخامية
وعن روما التي لا تضاهيها في الجمال أية عاصمة في العالم!
كنت أقول له مازحاً:
كف عن سرد هذا الخراء يا أنجلو
وعد فوراً إلى إيطالياك التي لا يضاهيها أي شيء في الوجود كما تقول،
قل لي ماذا تفعل هنا بحق الجحيم؟!
كان يغمغم بالإيطالية كعادته:
Sì, sì, tornerò molto presto
طبعا كنت أخمن ما كان يقول.
تغيرت الأحوال والظروف،
وتركنا العمل عند السيدة الجشعة التي من شمال أفريقيا
والتي كان دأبها أن تستغلنا على أكمل وجه.
ومضى كل واحد منا في حال سبيله.
قبل أيام التقيته صدفة في شارع بيتهوفن
لقد أصبح عجوزاً طاعناً في السن،
غزا الشيب رأسه وملأت الأخاديد وجهه
وبدا مهلهلاً،
تعباً،
يجرجر خطاه ببطء
ويعرج قليلاً من قدمه اليسرى.
تقدمت منه بفرح كبير وصافحته بحرارة
تذكرني على الفور،
وعانقني كصديق قديم
مع إبتسامة عريضة ظهرت على وجهه.
سألته بخبث:
هل عدت إلى إيطالياك العظيمة والساحرة أيها العجوز المجنون؟
أجابني مبتسماً:
بحق الجحيم كف عن هذا الخراء يا صديقي
لن أعود إليها أبداً، فكل الأمكنة في الخراء سواء!
قهقهنا قهقة عالية كسابق عهدنا
ثم دعته وأنا أتساءل:
هل يا ترى سألتقي به مرة أخرى
وأشاكسه، ثم نقهقه عالياً كما قهقهنا الآن؟
بون 2015