هذه المقالة هي نصٌ داخل نص. يأتي الكاتب فيها على سرد تفاصيل سيرة المقابلة التي أجراها مع يوسف إدريس، ويموضع مجريات الواقعة ضمن سياقها الزمكاني الثقافي العام والشخصي حتى النفسي. ثم يطلق القارئ حراً مع المقالة المستعادة التي مابرحت تخاطب الحاضر وندوبه البليغة.

يوسف إدريس.. قصة حوار عمره 29 عاماً

سعد القرش

 

نوع نادر جدا من الموهوبين مثل يوسف إدريس لا يحتاج الحوار معهم إلى مناسبة، فأي رأي يدلي به هو عنوان قضية كبرى. حتى من دون كلام ستنجذب إليه الأعين، وتتجه إليه الأضواء، أمثاله يصنعون الضوء.

ربما وجدتها حيلة لمقابلة رجل جرى اسمه على ألسنتنا في المرحلة الثانوية مرتبطا بمعاركه مع الشيخ محمد الشعراوي، ومع ترِكة أنور السادات، وهو ينشر خارج مصر فصول كتابه «البحث عن السادات»، فاستاء حسني مبارك، وسخر في إحدى خطبه من ذلك «الزبون»، متعاليا على تسمية يوسف إدريس، مقذوف اللهب الذي يجرؤ على الصدام مع السلطتين الدينية والسياسية.

وفي الجامعة شغلتني أعماله، وأعدت قراءة عدد خاص أصدرته مجلة «أدب ونقد» عنه، في ديسمبر 1987، بمناسبة بلوغه الستين. ورأيته مرة واحدة وهو يدخل ندوة بمعرض القاهرة للكتاب، وكاد يتعثر في طريقه إلى المنصة، لا أتذكر هل كانت ندوته، أم جاء مجاملة لنزار قباني في أمسيته الحاشدة؟

في يناير 1991 كان قد مضى شهر على انتهاء خدمتي العسكرية، وبترشيح من سليمان الحكيم بدأت عملا «بالقطعة» في صحيفة «الأنباء» الكويتية، في فترة اللجوء المتقشف، بعد غزو الكويت. ثم رأى الأستاذ السيد حجازي الذي يحرر موادّ الصحيفة كاملة (بضع صفحات من دون ألوان) أن أحمل عنه شيئا من هذا العبء، فقال إنه اقترح اسمي للعمل في «الديسك». سألته عن معنى هذا «الديسك»، فأعطاني قلما أحمر، وقال: «سأعطيك مواد للزملاء، من أخبار وتقارير وحوارات، بعضها سيحتاج فقط إلى عناوين، والبعض إلى كتابة مقدمة وضبط الصياغة، والبعض ستعيد كتابته من الألف إلى الياء».

وكان مشوار الوصول إلى «الأنباء» على النيل في العجوزة طويلا ومريحا، في أتوبيس 800 من العباسية حيث أقيم في غرفة مشتركة، فوق سطح عمارة على بعد خطوات من الميدان. وكنت في الوقت نفسه أعرف محمد الشاذلي في مكتب «الحياة»، واقترحت عليه أن أجري حوارا مع يوسف إدريس، فتحمس على نحو تخيلت معه استحالة الأمر، ولم أكن لأخسر شيئا ولو باتصال من تليفون عمومي، بميدان طلعت حرب.

عرفته بنفسي، ولم أجرؤ في التليفون، أو حين قابلته، على القول إنني أكتب القصة القصيرة. وسألني: «الحياة؟ من رئيس تحرير الحياة؟». لم أستعد لمثل هذا السؤال، ولا أعرف أحدا في «الحياة» إلا محمد الشاذلي، وليس لي دخل ثابت يتيح لي رفاهية شراء صحيفة لا أقرأها إلا حين آخذ نسخة من المكتب، كلما ذهبت في مرات قليلة لاقتراح موضوع لأنجزه.

أنا تقريبا بلا عمل، وخذلني أحدهم فقاطعته إلى الأبد؛ لأنه بخل عليّ باتصال تليفوني بصديق له في الأهرام. وسألتني فريدة النقاش: «تحب تشتغل في الشعب؟». كانت صحيفة «الشعب» لسان حال حزب «العمل» قد حادت عن نهجها الاشتراكي، وأصابها مسّ سلفيّ إخوانيّ، ولكني لا أستطيع الرفض، فقالت السيدة فريدة النقاش إنها الآن لا تتكلم مع عادل حسين رئيس التحرير، ووعدت بالاتصال بالمستشار طارق البشري ليكلمه بشأني. في وقت لاحق توثقت علاقتي بالبشري، ثم انقطعت العلاقة تماما.

وفي ذلك الوقت سألني رجاء النقاش: «تحب تشتغل في المساء؟ انس جنون سمير رجب، سافرت معه مرة، وفوجئت بأنه مسكين»، وأبديت رفضا صامتا، فقال: «عبد الوهاب مطاوع صديقي، أكتب له رسالة وهو يرى الأفضل لك، في مجلة الشباب أو الأهرام المسائي».

وكنت أجلس على يمين رجاء النقاش في مكتبه بدار الهلال، فتوقف عن الكتابة، وأشار إلى الكرسي المقابل لي، البعيد عن مجال رؤية الورقة، وقال: «اقعد هنا أحسن»، وأكمل كتابة رسالة هي جواز مروري إلى «الأهرام»، ولا أعرف مضمونها إلى الآن.

ظروف صعبة لشاب يعيش على الحافة، بحد أقصى من الكبرياء وأدنى من الحياة، ولا يحتمل بذخ الذهاب إلى مكتب الحياة، في جاردن سيتي، لقراءة الصحيفة، فمن أين لي أن أعرف اسم رئيس تحرير صحيفة تصدر في لندن؟ لا أدري كم ثانية مضت على سؤال يوسف إدريس لي عن اسم رئيس التحرير، كان لحظة تشوّش أنهتها إجابتي: «جهاد الخازن»، من دون أن يتأكد لي أنه فعلا رئيس التحرير، أو أن يوسف إدريس لا يعرفه، ولعله يعرف ويريد اختباري. وأعطاني موعدا، بعد غد في الثانية عشرة. ولكن مَن يمكنه الرهان على ضبط موعده في زحام القاهرة؟ تأخرت ساعة كاملة، ربما لحسن ظني بكفاءة الأتوبيس الذي تلكأ من ميدان العباسية إلى «الأهرام»؟ وقبل دخول المؤسسة هيأت نفسي لأقسى خسارة: لا حوار.

بعد مروري بعدة صدمات حيوية، هيأت نفسي على توقع الأسوأ، فإذا حدث فلا أفاجأ به. وقدّرت أن لقاء خسرته لإجراء هذا الحوار لا يمنعني أن أصعد وأسلم على يوسف إدريس، وأعتذر إليه وأنصرف، قبل أن أسمع ردّه أو تعنيفه، فما أعرفه عنه أن أعصابه عارية.

وصلت في الواحدة تماما، وكان على باب المكتب، طاووس يسد فراغ الباب، وطرف حذائه معلّق في الفراغ، فوق عتبة الباب مطلا على الممر. وقفت أمامه، ونظرت إليه، في عينيه مباشرة، وألقيت التحية وعرفته بنفسي، ولم أنتبه إلى ردّه أو أنتظر ردّ فعله، فواصلت كلامي وأنا في الممر وهو يطل من أعلى: «تأخرت ساعة، وجئت لأعتذر وأمشي، فلا داعٍ لأن تتعصب». كدت أميل بزاوية لأرجع، فمدّ يده وابتسم، وقال كأنه يكلم نفسه، أو يلومني: «ساعة؟ ساعة كاملة؟ كنتُ على وشك الخروج».

سألني في البداية: «لوحدك؟». لوحدي؟ كدت أقول له إنني أيضا كاتب قصة قصيرة، ونشرت قبل التخرج في صحف ومجلات منها «الجمهورية» و«أدب ونقد» و«القاهرة» و«إبداع» وهو أحد مستشاريها، ولا يلزمني أن يكون معي زميل آخر. واستفهمت عن سؤاله بنظرة، فقال إنه ظن أن يكوني بصحبتي مصوّر. أوضحت أنني أتعامل معهم «بالقطعة»، من الخارج، وأنهم لم يقترحوا عليّ وجود مصور، وأنا لم أطلب. واستغرق الحوار ساعة بالضبط، وقال لي في نهايته إنه الأفضل على الإطلاق. الآن أعتبره الأفضل لي.

سلمت الحوار، وشغلني العمل في «الديسك»، فلم أذهب إلى مكتب الحياة، ولا أعرف هل نشر أم لا؟ لم أسأل، وقدّرت أنه لو نشر لأخطروني لأتسلّم المكافأة. ولم أستبعد أنه نشر، وانتظروا حضوري. وفجأة دخل يوسف إدريس المستشفى، وبدا الأمر خطيرا مع دخوله في غيبوبة، فكتبت الحوار من المسودة، وأعطيته للشاعر كمال عمار في مجلة «حريتي»، ونشر في 5 مايو 1991، وبعد أيام قابلني هناك زميل مبشرا: «ابسط، الريّس قرّر لك مكافأة!»، وأصابتني دهشة: «هل قرأ حسني مبارك حوار يوسف إدريس، فقرر مكافأتي؟»، ولكي لا أبدو ساذجا: سألته من يكون الريس؟ فقال: «الأستاذ سمير رجب». وتسلمت 35 جنيها أو نحو ذلك.

وفي 1 أغسطس 1991 توفي يوسف إدريس. لم تكن أصداء الرحيل، في وسائل إعلام صفوت الشريف، تليق بأهم كاتب عربي للقصة القصيرة، تأكد لوزير الإعلام القويّ أنه سيربح أخيرا معركة مع كاتب صاحبته العواصف.

لم يجرؤ الوزير على تحدي يوسف إدريس حيّا، فكظم أحقاده حتى الوفاة، لينتقم من يوسف؛ لأنه في ظل الهجوم المحموم على صدام حسين كتب مقالا عنوانه «ليس صدام وحده المجرم»، ففي العالم العربي قادة مجرمون. ولم يدرك يوسف إدريس مسلسل السقوط، في عام 2011، باندلاع الثورات العربية التي أهلكت من هلك عن بينة. ربما لو شهدها لأضافها إلى نهاية مشروع مسرحيته «يوم الحساب».

* * *

قبل مرضه مباشرة.. يوسف إدريس يدافع عن نفسه:

لست كاتبا حرفيا ولا محترفا.. وإنما أرى الأشياء بطريقة مختلفة

لم تعبث بي السلطة في أي وقت.. وإنما عبثت بها كثيرا!

لم أكن حجر عثرة أمام أي كاتب بعدي

لم يحدث أن أثير الجدل الفكري الثقافي حول أديب ـ بعد أبي الطيب المتنبي ـ كما أثير حوله ـ ومع يوسف إدريس. ففي قصصه، كما في مقالاته الساخنة، مغامرة وجرأة على إلقاء الحجارة في المياه الراكدة، وقدرة كبيرة على تحدي المألوف وتحدي الآخرين.

قبل اللقاء كنت أهاب عصبيته، لكني وجدته وديعا أليفا، مما شجعني على طرح بعض الأسئلة القاسية، وهو يبتسم قائلا في هدوء الواثقين: اسأل كما تشاء. ألقيت السؤال بعد الآخر في ملعبه، محاولا مداراة ألسنة اللهب المشتعلة، فكان بتلقائيته المجنونة والمعهودة أكثر صراحة مني، إذ أمسك بالنيران الملتهبة ورماها في ملاعب «الآخرين»، مدافعا عن مرماه باستماتة الفنان، دون أن يحرق شيئا أو أحدا.

* قلت له: منذ أكثر من عامين وأنت تعلن التفرغ للكتابة الإبداعية، ويمرّ العام تلو الآخر ثم تفاجئ القراء على صفحات «الأهرام» بمقال أو قضية عامة، فما الجديد الذي تقدمه بعد انتهاء أزمة الخليج؟

** أكاد أنتهي من مسرحية «يوم الحساب»، وقد بدأت في كتابتها منذ عامين، ولكن الظروف التي مررنا بها، ككتاب ومواطنين، تمنع الإبداع، لأن العملية الإبداعية من أدق وأعقد العمليات التي يقوم بها البشر، فهي تخضع لكثير من الأسس الحياتية التي يجب توافرها حتى تتم.

هل من الممكن وأنت تسير في شارع مزدحم بالمظاهرات والهتافات والرصاص أن تميل إلى إحدى الزوايا لتكتب قصة؟! إن هذا ما حدث لي بالضبط، إذ كيف أتمكن من الانتهاء من عمل فني في «قلب» أزمة الخليج؟ إنني ألتمس الكثير من العذر للمبدعين العرب، فهم يبدعون ضد تيار الواقع، ولا يجدون فرصة أو شيئا من الراحة من الأزمات المتوالية، حتى يتمكنوا من تخيل عالم آخر.

وهذه متعة لا يتمتع بها إلا الكتاب خارج العالم العربي، أما الكتاب العرب فإن بعضهم منفصلون عن حركة الحياة، وهؤلاء لا قيمة لإبداعهم، والبعض الآخر متصلون بحركة الحياة، وهنا تنشأ مشكلة أو كارثة على الإبداع، لأنها توقفه، ولا أعتقد أن الذي يسبح في محيط هائج ويحاول إنقاذ نفسه من الغرق، ويرى حوله أمته يغرق منها الكثيرون.. لا أعتقد أن يتوفر له «خلوّ البال» الذي يتيح له أن يكتب «عن» الواقع والحياة، بينما هو غارق «في» هذا الواقع، ويناضل بكل ما يملك ليلتئم مع الحياة.

* وهل تعالج مسرحية «يوم الحساب» هذا الالتئام مع الحياة؟

** إنها -حقا- تجسد هذه المشكلة، وأرجو أن يتاح لي بعض الوقت وبعض الهدوء حتى أفرغ منها، ولكن هل أجد وقتا بلا منغصات أو كوارث في وطننا العربي؟ إنني نوع من الناس لا ينفصل عن مجتمعه، وحياتي مرتبطة بحياة أهلي تماما، وأكاد أتبع حكمة سيدنا عمر حين قال: «والله لو تعثرت دابة في بغداد لأحسست أنها خطئي، وخشيت أن يسألني عنها ربي». وهكذا تراني في أزمة مضاعفة، أزمة على المستوى الشخصي، وأزمة أفدح على المستوى العام الذي أعيشه وكأنه أزمة شخصية.

أنا وأبو علاء المعري

* ألا ترى أنك أضعت جهدك ووقتك، أو وزّعت هذا الجهد، في مجالات فنية مختلفة؟ بدأت بالقصة القصيرة ثم الرواية ثم المسرحية ثم المقالات السياسية والاجتماعية، ولو ركزت اهتمامك في فن معين لكانت الفائدة أكبر على المستويين العام والشخصي؟

** كأنك لا تعرف معنى الكتابة الحقيقية، ولا معنى أن يكون الإنسان كاتبا، فسؤالك يتضمن الاعتراف بأن الكتاب «حرفيون وصناع» للقصة أو الرواية أو المسرحية. ولست كاتبا حرفيا ولا محترفا، لكنني أزعم أنني أرى الأشياء بطريقة مختلفة، حيث تسيطر عليّ الرؤية لعالم مختلف، ولهذا فإنني ـ في كل ما أكتبه ـ أطمح إلى تقريب هذه الرؤية إلى الناس من حولي، ولا يهمني في قليل أو كثير أن يقال إنني جددت في القصة القصيرة أو في الرواية أو المسرحية، بقدر ما يهمني ـ في نهاية الأمر ـ أن تصل رؤياي كاملة إلى عصري.

الذين يتحدثون عن ضرورة تفرغ الإنسان لنوع أدبي، ويتميز فيه، آراؤهم آراء تلامذة، آراء أناس يتصورون الفن والأدب كأنه مدرسة، فيها من ينبغ في الحساب، ومن ينبغ في الجغرافيا، وإن على من ينبغ في الجغرافيا أن يحبس نفسه فيها، ليصبح الجغرافي الأول في الدنيا.

وهذا فكر متخلف لا يفهم ضرورة وجود الكاتب أصلا في الحياة، فالكاتب لا يوجد لينبغ، ولكنه مثل الشاعر أبي العلاء المعري، حين جاء ـ في عزّ سيادة الأفكار الإسلامية الجوفاء ـ ليعبر عن إحساسه هو بالدين الإسلامي، ولولا هذه الصفة فيه ما كان قد أصبح شاعرا كبيرا وخطيرا في تاريخ الأدب العربي. ولا أقول هذا رغبة مني في أن أوصف بالنبوغ، ولكن النبوغ الحقيقي هو أن يحقق الإنسان ذاته ورؤياه في عمر كامل، ثم يتولى من يجيء بعده محاسبته عليه، مهما يكن رأي معاصريه فيه.

* هل أعتبر هذا ردا على جملة قالها لي الكاتب صالح مرسي تفيد بأنك تخليت عن واجب قومي، كنت تؤديه في فترات سابقة، بعد توقفك عن كتابة القصة القصيرة بعد «بيت من لحم» 1971؟

** أشكر الأستاذ صالح مرسي على ثقته، لكني أقول له إنني كتبت عددا من القصص يفوق ما كتبه كل من موباسان وإدجار آلان بو وغيرهما مجتمعين. ولا يعني هذا أنني كففت، ولكني في مرحلة أرجو أن يفهمها الأستاذ صالح، حيث لم تعد شهوة الكتابة، من أجل الكتابة، هي مطلبي، وإنما أكتب لأرتفع بنوعية ما أكتب إلى درجة لم أصلها من قبل. والتطور النوعي لا يتطلب كثرة الإنتاج، فما أكثر ما تتكاثر البكتيريا، وما أقل ما يتكاثر الإنسان.

لست حجر عثرة!

* يوجه إليك الروائي محمد جبريل اتهاما بأنك قضيت على جيل الخمسينات، جيلك، إذ حاولوا تقليدك ففشلوا. كما أن النقاد انشغلوا عنهم بمتابعة كل ما تكتبه.

** هذا اتهام ليس له ما يبرره، فلم يحدث أن قضيت على أي من أبناء جيلي، ولعلك تراهم نجوما الآن. صالح مرسي يكتب الرواية والدراما التلفزيونية، وعبد الفتاح رزق كاتب ساخر من هذا الجيل، وصبري موسى كاتب متفرد ولأدبه سمات خاصة منذ كتب «فساد الأمكنة»، وكذلك أبو المعاطي أبو النجا.

لا أفهم هذا التعسف في الحكم على الآخرين، وهذه النظرة الضيقة لظهور كاتب وكأنه سيقضي على كل من يجيء بعده. إن ظهور كاتب يمثل شمعة تنشر النور وتقلل الظلام أمام من بعده، ولم أكن ـ في يوم من الأيام ـ حجرة عثرة في سبيل ظهور أي كاتب أو انتشاره.

* بمناسبة قضية الانتشار، هل يحقق المقال لكاتبه انتشارا أوسع من القصة، إلى حد أن أصبحتَ، على حد تعبير الأديب سعيد الكفراوي، «قارئ بيانات وتصريحات، ونافخ لهب إلى الدرجة التي تثبت أن الرجل (أنت) يعاني من أزمة إبداع حقيقية». (مجلة «أدب ونقد»، العدد 34، ديسمبر 1987).

** أعاني بالفعل من نفس الأزمة التي كان يعاني منها عمالقة التنوير، كما نسمهيم الآن، أمثال: العقاد والمازني وطه حسين، بل إنني أعاني أكثر منهم، لأن هؤلاء الأدباء كانوا، حتى في عصرهم، يحظون بالاحترام والتقدير على الجهد الذي يبذلونه في الأخذ بيد العقل المصري والعربي، حتى أننا سمّينا الدكتور طه حسين «عميد الأدب العربي»، وأحمد شوقي «أمير الشعراء»، وهما في الأربعينيات من العمر.

ولم أطالب بأن أتوّج عميدا للأدب الحديث، ولا أميرا للقصة القصيرة، ولكني، في الوقت نفسه، أطالب بأن يبتعد الكتاب المجيدين، أمثال سعيد الكفراوي، عن هذه النظرية الحرفية لوظيفة الكاتب، وكذلك التعامل بالمنافسات الحرفية، فلسنا حرفيين، وإنما نريد أن نغير العالم. وإذا لم يحظ الكاتب بأي كلمة طيبة، أو صفة حميدة، فعلى الأقل يجب أن ننظر إلى عمله بحيدة وتقدير.

البيضاء.. بعد 30 سنة!

* لماذا أعدت نشر روايتك «البيضاء» بعد 30 سنة، بعد أن كان توقيت نشرها في سنة 1959، توقيتا سيئا ـ على حد تعبير الناقدة فريدة النقاش ـ لدى الشيوعيين المصريين؟

أعتقد أن موضوع رواية «البيضاء» كان أول اكتشاف مصري للمرحلة الستالينية في مصر. وقد بدأت نشرها في الجمهورية في سنة 1958، وهي الفترة التي استمتع بها الشيوعيون المصريون بنوع من عدم الاعتداء من قبل السلطات، ورأيت أنها فرصة مناسبة لأناقشهم فيما يفكرون وما يفعلون، ولم يكن ذلك النقاش متاحا من قبل لأنهم كانوا محلا للضرب والتنكيل. ولكن حدث ـ للأسف ـ أن تم اعتقال الشيوعيين في بداية عام 1959، فأوقفت النشر فورا؛ فلا أرضى أن أنتقد إنسانا في حالة السجن والتنكيل.

وبعد الخروتشوفية والجورباتشوفية أصبح نقدي للشيوعيين نقدا مهذبا جدا، وأحسب أن من يقرأ كتاب الأستاذ مصطفى طيبة عن تاريخي في الحركة الشيوعية، فسوف يرى أنني كنت على حق تماما في كل ما قلت، بل يمكن القول إنني كنت طليعيا جدا؛ حيث رأيت كل هذا الذي رأيته وكتبته في مرحلة مبكرة جدا أثناء ازدهار الستالينية، ولم أنتظر انهيارها لأقول رأيي.

وللأسف الشديد فإن الشيوعيين المصريين، والذين أصبح معظمهم شيوعيين سابقين، لم يفهموا، مثلهم مثل فريدة النقاش، ما كتبت، وأخذوه على أنه هجوم وخيانة بحساسية المضطهدين، ولو قرأوا «البيضاء» الآن لوجدوا أنهم أخطأوا في حقي خطأ كبيرا.

* في حوار مع الأديب خيري شلبي قال لي إنك كتبت روايتك «الحرام» عن عمال التراحيل من شرفة منزلك، ولذلك لم تعبر عن الواقع المأساوي للعمال، كما عبر عنه هو، خيري، في روايته «الأوباش».

** مما يسعدني جدا أن يكتب خيري شلبي أحسن وأعظم مما كتبت، ولكنني أسأله: كيف عرفت أنني كنت أجلس في شرفتي وأنا أكتب «عن» عمال التراحيل؟ إنني أتحمس لكل أصدقائى الكتاب، وخاصة حين يكتبون عن قضايا تناولتها قبلهم، حتى لو قالوا إنها أحسن مما كتبت، فليظلوا في طريق الإبداع، وليكتبوا أفضل مني، حتى لو جلسوا في شرفات فاخرة وكتبوا عن «الأوباش».

عن الروح المصرية

* يرى الروائي جمال الغيطاني أن قصصك «تكرار لتشيخوف، فهو ـ إدريس ـ لم يقدم جديدا غير التعبير عن الواقع المصري فقط، كما أنه يكتب بلغة عادية، وبدون أدنى اهتمام بها». (مجلة «الدوحة»، العدد 116، أغسطس 1985).

** أقول له: توقف يا جمال عند كلمة «الواقع المصري والروح المصرية» التي تزعم أنني أضفتها على القصة، ثم اسأل نفسك: أكان هذا عملا بسيطا وسهلا؟ وهل من الممكن أن ينجزه الإنسان وهو جالس على مقهى «ريش»؟ أم أن هذه قضية حياة؟

* بعد إغلاق المجلات الثقافية في أوائل السبعينيات، حاول جيل الستينيات التصدي لمذبحة الثقافة، في حين اكتفى الكبار، أنت ونجيب محفوظ، بأدوار المتفرجين. وكما قال الأديب إبراهيم أصلان إنكم كتبتم في كل المشكلات الحياتية إلا المشكلة الثقافية. (مجلة «الدوحة»، العدد 118، أكتوبر 1985) بماذا تبرر موقفك في السبعينيات؟

** كيف يتصور إبراهيم أصلان ـ وهو فنان حبيب إلى النفس ـ كالعامة أن يتمكن فرد واحد من القيام بكل الأعباء، ويضع الجميع فوق كاهله مهمة مقاومة الطغيان؟ هذه نظرة سائدة للأسف عند الشعب المصري كله. ودور الكاتب ينحصر في قدرته على الكتابة والنشر، ولسنا بلطجية نغير كل شيء بالقوة التي لا نمتلكها.

لم تعبث بي السلطة

* هذا يطرح قضية أن تعبث السلطة بالكاتب، أو كما جاء في رسالة الشاعر نجيب سرور إليك، وقد نشرتها مجلة «أدب ونقد»، إذ اتهمك بأن السلطة قد عبثت بك.. فكيف كان ردك على رسالة نجيب سرور؟

** لم تصلني هذه الرسالة، وفوجئت بها منشورة، وقد وصلني غيرها وقمت بواجبي حيالها. ولكن هذه الرسالة بالذات لم تصلني، ولا أدري لماذا ضنّ بها عليّ صلاح عيسى وأبى إلا أن أراها منشورة؟

أما اتهام نجيب سرور فلا موضع له، فلم تعبث السلطة ـ أية سلطة ـ بي، والعكس هو الصحيح، فقد عبثت بالسلطة كثيرا. وقضية أن يعبث كاتب معروف بالسلطة ليست سهلة، فحين يبلغ كاتب درجة معينة من الشهرة والوجود العام، ينظر إلى كلماته بميكروسكوبات دقيقة.

وأن يستطيع الكاتب النفاذ إلى الحقيقة، وإلى قول رأيه من خلال تلك المرشحات، عملية تستدعي منه كل ما يمتلك من قوة وذكاء وخيال. ويجب ألا تنسى أنني كاتب في الجريدة الرسمية (الأهرام)، ولا أستطيع أن أكتب مثلا قصة أو مقالة وأوزعها في السر، كأنها منشور سري.

* ذكر المقالات يستدعي سؤالا عن مقالك «إني أتهم وأريد أن أنتقم» عقب اغتيال يوسف السباعي. هل تعتبره أسوأ ما كتبت، كما جاء في رسالة نجيب سرور؟

** لا أعتبره كذلك، وإذا كان المرحوم نجيب سرور يعتبر أن قتل كاتب أعزل، أيا كان توجهه السياسي، عملا بطوليا، فأنا أعتبره عملا جبانا حقيرا، ولا يمتّ إلى أي بطولة أو إنسانية.

* وهل ينطبق هذا الحكم على كاتب مثل سلمان رشدي وفتوى الخميني بقتله؟

** هذا موضوع سياسي وليس دينيا أو أدبيا، وسلمان رشدي هو البادئ. وقد قرأت كتابه (آيات شيطانية)، وكم استخسرت عبقريته الفذة حين يستعملها لتشويه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الإسلام نفسه.

ومهما يكن رأيي في البوذية أو ديانة شنتو أو اليهودية، فإن عليّ أن أحترم أية ديانة يعتنقها البشر لآلاف السنين، فإذا كنا نحترم البشر أنفسهم فلا بدّ أن نحترم عقائدهم الجماعية ولا ننقدها، مع الحرية التامة في أن تهاجم بعض اليهود وبعض البوذيين.

* لاحظت أنه لم يعد مستريحا، ليس تململا، وإنما قدرت أن ضيقا ما بدأ يتسرب إليه، ولا تخفيه ملامحه، فسألته: هل يرجع ما أراه من ضيق قسوة بعض الأسئلة؟

** هذه الأسئلة توضح ـ إلى حد بعيد ـ أن كثيرا من الكتاب يُسقطون مشكلتهم على شخصي الضعيف، ويحملونني كل «الحِمل»، وكأنهم غير مسئولين عن بعضه، في حين أنهم لو قاموا بمسئولياتهم فعلا، لأصبحنا حركة أدبية حقيقية، فلا يمكن لكاتب، مهما علا شأنه، أن يقوم وحده بكل العمل وكل المسئولية، ولو كان هؤلاء الأساتذة وغيرهم قد تصدوا لمسئولياتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ثقافتهم، لخفّ العبء كثيرا. ولكن تحميل الذنوب كلها لكاتب واحد ـ مهما تكن قدرته على التحمل ـ عملية مرهقة جدا، وغير مسئولة، وليتأملوا قول السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

آخر كلام

* هل تعتبر هذا الحديث المشجون أحد المنغصات التي قد تؤخر إتمام مسرحيتك «يوم الحساب»؟

** والله لقد سعدت جدا بهذا الحوار الذي تصورت أنت أنه نوع من المنغصات، وأعتبره نوعا من الجدل داخل العائلة، ولا بدّ أن يحدث، ولا بدّ أن أواجهه بالاحترام والتقدير. وقد جددت بحوارك ما يعتبره الناس أوجاعا، وهي عندى ليست كذلك، وإنما هي محفزات لي للاستمرار، حتى تكتمل الصورة عند الآخرين، وحتى أكمل رسالتي.

(نقلاً عن الأهرام)