مقدمة:
مثل التراث السردي بمختلف أنواعه الإبداعية القديمة مادة رئيسية استحضرها الكتاب والشعراء لإنتاج نصوصهم الجديدة إذ وظف في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر حتى أصبح كل نص امتصاصا لنصوص أخرى سابقة أو راهنة. وحين ننزل ظاهرة التفاعل النصي في إطارها الزمني فإنها تبرز بشكل أوضح بعد نكسة 1967 التي مثلت منعطفا جذريا في مسار تطور الرواية إذ استحضر عديد الروائيين في نصوصهم شكل الأساطير أو الخرافات أو الحكايات الشعبية ناقلين أجواءها العجائبية "فتتدخل بعض قواعد النوع القديم في الخطاب، [و] تبرز من خلال أشكال السرد أو أنماطه أو لغاته أو طرائقه"[1]. في حين استلهم آخرون بعض الوقائع والشخصيات التاريخية ومنحوها دلالات جديدة تتقاطع مع تحديات اللحظة الراهنة وفي هذا السياق تبرز ثلاثية "أرض السواد"[2] لعبدالرحمن منيف نموذجا دالا على علاقة الرواية بالتاريخ.
- تحديد المفاهيم:
بالرغم من أن كلا من التاريخ والرواية خطاب سردي فإنه توجد فوارق بينهما فالتاريخ خطاب يسرد الأحداث المنتمية للتجربة الإنسانية سواء كانت ماضية أو حاضرة و" يسعى إلى الكشف عن القوانين المتحكمة في تتابع الوقائع"[3] ويعالج كذلك قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية بأسلوب تقريري ووفق منهج علمي يعتمد على الوثائق ولذلك يفترض أن تتسم الكتابة التاريخية بالموضوعية والحياد وتنبني على الرؤية الواحدة للمؤرخ.
أما الرواية فهي جنس حديث تخييلي تهتم بتصوير الذات والمجتمع وتتميز بطاقة كبيرة على استلهام الخطابات الأخرى وتشربها ومنها المادة التاريخية التي يمكن أن "تترك بصماتها وآثارها في الحاضر والمستقبل وتسهم في تشكيل السلوك الإنساني عامة والفعل الإبداعي ومنه الأدب خاصة"[4].
غير أن هذا التفاعل لا يفقد الرواية هويتها السردية التخييلية باعتبار أن الروائي يتعامل مع هذه المادة "وفق مرجعياته الفنية فيغيّر ويعدّل في تلك الوقائع ويقدم ويؤخر مما يجعله متحررا من قضية الأمانة العلمية باعتبارها شرطا من شروط عمل المؤرخ"[5] لأن علاقته بالعمل الفني وجدانية تتحكم فيها الانطباعات الذاتية. وبهذا المعنى يضفّر المؤلف عمله الروائي بالتاريخ ويعيد قراءة الوقائع والأعلام ويرهّنها لمساءلة الحاضر فيحرص على تذويب الحدود الفاصلة بين الخطابين ويضفي صبغة تخييلية على العناصر المرجعية كأن يعمد إلى تنظيم الأحداث التاريخية دون اعتبار تسلسلها المنطقي إذ يمكن أن تتداخل الأزمنة أو يخلق شخصيات متخيلة إلى جانب الشخصيات الحقيقية في تركيب جديد "هو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال، والتاريخ المدعم بالوقائع"[6] ..
وبما أن تخييل التاريخ هو "المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية"[7] فإنه يفيض عن مفهوم الرواية التاريخية الكلاسيكية التي يغلب عليها هاجس التسجيل وأحادية القول[8] وينسحب على الروايات التي ظهرت خاصة بعد نكسة 1967 و"أحدثت خلخلة في الأبنية الحزبية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وفي منظومة القيم الفنية والمعايير الجمالية"[9] وتميزت بمجموعة من الخصائص منها كسر التسلسل المنطقي للأحداث وتعدد الأصوات الخ. ومن النماذج الروائية الدالة على هذا النوع نستحضر "ثلاثية غرناطة" (1994-1995) لرضوى عاشور و ثلاثية "أرض السواد" (2002) لعبدالرحمن منيف
- المرجع التاريخي في أرض السواد:
تمتد ثلاثية "أرض السواد" على ما يقارب الخمسمائة والألف صفحة وفيها يعود بنا منيف إلى فترة من تاريخ العراق تتعلق بالربع الأول من القرن التاسع عشر ليطلعنا على المواجهة المفتوحة بين والي بغداد (داود باشا) والقنصل البريطاني (ريتش) علاوة على الأخطار الداخلية والخارجية التي كانت تتربص بالعراق. وتحضر في الرواية عناصر تاريخية تتوزع بين العتبات والمتن محيلة على البعد المرجعي في هذه الرواية.- العتبات النصية:
تعد العتبات النصية نافذة رئيسية لولوج عالم النص الروائي وفك أسراره فهي مفاتيح أولية تفضي إلى تجنيس النص وتشد انتباه القارئ وتخلق لديه أفق انتظار محدد يسمح له بالتأويل وبناء فرضيات لاستباق المعنى وقد اعتنى منيف بهذه المصابات النصية وضمنها إحالات تاريخية تشد الرواية إلى المرجعي:
- العتبات النصية:
- العنوان (أرض السواد): "السواد هو نقيض البياض، [..] وسواد الناس: عوامهم. والسواد: جماعة النخل والشجر"[10]. ويرجع ياقوت الحموي تسمية العراق بالسواد " لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر وكانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمونه سوادا "[11]. "أرض السواد" إذا هي تسمية عربية قديمة للعراق أطلقها الفاتحون المسلمون على الأراضي الزراعية الموجودة بين نهري دجلة والفرات بسبب خضرتها الكثيفة التي تميل إلى السواد. وتوحي هذه التسمية كذلك بمدلولات نفسية واجتماعية اقترنت بالحزن (اللون الأسود) الذي خيم على حياة الناس في العراق خلال فترات تاريخية عديدة بسبب تحالف القوى الأجنبية الغازية والسلطات الحاكمة المستبدة والطبيعة (الفيضان خاصة).
- الإهداء: يحيل على رؤية المؤلف الذاتية ويحمل مدلولا عاطفيا فهو ليس "هامشا اعتباطيا وسريعا، بل يمكن اعتباره مفتاحا مهما من مفاتيح النص"[12] ويتنزل في رواية "أرض السواد" في إطار رغبة منيف في الاعتراف بفضل الآخرين عليه: "إلى نورة، أمي، التي أرضعتني مع الحليب حب العراق".
تقوم بنية الإهداء في الرواية على اسمين: نورة والعراق. الأول يحيل على علاقة دموية تجمع بين منيف وأمه، والثاني يدل على ارتباطه الوطني الشديد بالعراق، ومن ثم يرشح الإهداء بدلالة عاطفية تكشف عن رؤية منيف الذي يبدو مشدودا أكثر للعراق كاشفا عن حبه وتعلقه بأرضه وأهله.
- التصدير: لم يكتف الروائي بهذه المصاحبات ذات الإحالات المرجعية فقط، بل توسع في تكثيف هذه الدلالة من خلال التصدير الذي احتوى مقتطفات من نصوص شعرية تتعلق ببلاد الرافدين وتستحضر الحضارات التي تعاقبت على أرض العراق في العصور القديمة مثل حضارة سومر وآكاد وبابل. وتتراوح هذه الاقتباسات بين الإحساس بالقوة والضعف لتكشف عن أحقاب متباينة من تاريخ العراق فالقصيدة الأولى تمجد الحضارة السومرية وتكشف عظمتها:
"يا سومر، أيها البلد العظيم بين جميع بلدان العالم
أنت مغمورة بالنور الثابت الراسخ الذي ينشر
من مطلع الشمس إلى مغربها النواميس الإلهية بين جميع الناس
إن نواميسك المقدسة، نواميس سامية لا يمكن إدراكها"[13]
في حين يحيل المقتطف الشعري الثاني على الدمار الذي خلفه البابليون في العراق ويكشف عن الإحساس بالألم والحسرة:
" وجاء الغرباء ودمروا أور، فقال الشاعر:
أيها الرب، أنانا، لقد دمرت المدينة
كقطع الخزف المهشمة ملأ أهلوها جنباتها
هدمت أسوارها وناح الناس"[14]
ولئن رثى المقطع السابق حال العراق وأهلها ودل على أن هذا البلد كان منذ القدم هدفا لأطماع أجنبية ، فإن المؤلف اختار في نهاية التصدير مقتطفا شعريا يحمل الأمل والانتصار وربما أراد من خلاله أن يشير إلى أن العراق سيظل قويا وعزيزا:
"ترتدي النور
وتحني رؤوس المتكبرين
قوية في أياديك، ورحب هو صدرك
وما أن تشع عظمتك الرهيبة
فإن المسيء والشرير لا بد أن يرتميا
في أصداع الأرض"[15]
لقد تضافرت العناصر الموازية للمتن (العنوان، الإهداء، التصدير) لتشد محتوى الرواية إلى مكان محدد لا يخطئه القارئ: إنه العراق.
- المتن الروائي:
المكان: العراق مادة للحكي
انطلاقا من النواة العامة ذات المرجعية التاريخية التي كشفت عنها العتبات النصية، سيأخذ الخطاب الروائي في التوسع ليرسم الراوي العليم العراق بمكوناته الطبيعية والبشرية خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر وتحديدا في السنوات الأولى من ولاية داود باشا (1817- 1831). ومن ثمة لن يكون العراق مجرد وعاء لاحتضان الأحداث فحسب، بل سيغدو المادة الرئيسية للحكي إذ سيصف الراوي مدنه بخصائصها الجغرافية والمناخية وينقل عادات سكانه ومعتقداتهم علاوة على الصراعات والمؤامرات التي كانت تحاك ضده في تلك الفترة.
فالأمكنة المرجعية في "أرض السواد" متعددة تجسدت من خلال فأسماء المدن العراقية (بغداد، الموصل، السليمانية، كركوك) وقد احتفى بها الراوي احتفاء كبيرا وتوسع في وصف مكوناتها الطبيعية كالماء والخضرة والأشجار والبساتين والآثار والمقاهي والأسواق. ففي فصل الربيع تبدو مدينة الموصل "مكان السحر الحقيقي. الطبيعة التي ظلت متوارية، كامنة، طوال الشهور السابقة، تخلت فجأة عن اتزانها [...] فالألوان تنفجر كل لحظة [..]. أما البرودة القارية فتتحول في هذا الفصل إلى عبق فياض"[16]. وفي موسم المطر تفيض الأنهار فتتغير حالة البشر والطبيعة إذ قلما يمضي الربيع "دون أن يخلف جروحا عميقة في الجسد والروح، إذ ما تكاد الأنهار في الأماكن الأخرى تهدأ بعد أمطار الشتاء [..] فإن نهري العراق (دجلة والفرات) يفاجئان الإنسان"[17] فيجرفان المزروعات والحيوانات والمنازل.
وبالإضافة إلى هذه الأمكنة المرجعية التي تشير إلى المدن العراقية بخصائصها الطبيعية والبشرية الحقيقية يطرح الراوي أمكنة مرجعية خادمة لمسار أحداث الرواية وشخصياتها مثل "السراي" و"الباليوز" و"قهوة الشط". فالسراي بناية متهالكة يقيم فيها الوالي داود باشا وقد كانت: "قديمة متآكلة، وكأن الزمن يصرخ من كل جنبة من جنباتها"[18] في حين أن الباليوز، مقر إقامة القنصل البريطاني ريتش، يوجد "ضمن الخضرة التي تلتف عليه، رشيقا ببياض أسواره"[19].
ويجسد التعارض الدلالي بين المكانين طبيعة القوى المتصارعة في تلك الفترة فحالة الوهن التي كانت تعاني منها السراي ترمز إلى بداية انهيار الإمبراطورية العثمانية؛ في حين تدل "الخضرة" و"الرشاقة" في الباليوز على تصاعد القوة البريطانية في بداية القرن التاسع عشر بعد تراجع الحضور الفرنسي في المنطقة، إثر هزيمة نابليون بونابرت.
وقد كانت المواجهة المفتوحة بين داود وريتش في الأمكنة المغلقة (السراي والباليوز) مدار أحاديث البغداديين في الأمكنة الشعبية مثل "قهوة الشط" "بموقعها المتميز على نهر دجلة"[20] وهي مكان مفتوح فيه "مقدار كبير من الكلام، والذي يتخلله الاختلاف، مقدار أكبر من الأحلام والغضب. ثم هناك مقدار من الجنون."[21] ولذلك يحملها الراوي دلالة تاريخية ورمزية تشير إلى سلطة شعبية مهمشة وموازية للسلطتين المحلية والأجنبية.
- الشخصيات التاريخية:
يستهل الراوي نصه بتوطئة عنوانها "حديث بعض ما جرى" هيمن عليها السرد التاريخي للوقائع وتقديم الشخصيات التي كانت تتنازع على ولاية بغداد قبل وصول داود باشا إلى الحكم : "لما حضرت سليمان الكبير الوفاة، بعد أن ظل واليا لبغداد اثنتين وعشرين سنة، جمع أولاده: سعيد وصالح وصادق، وجمع معهم أصهاره الأربعة: علي باشا وسليم آغا وداود آغا ونصيف آغا، واستدعى أيضا محمد بك الشاوي، وزير باب العرب، ليكون شاهدا. [..] وفي لحظة ما بدأ سليمان باشا كلامه، خرج صوته حزينا مختنقا "إن الله حق، والموت حق، ولا بد لكل إنسان أن يموت" أغمض عينيه [..] وتابع بعد فترة صمت ثقيلة "لقد حانت نهايتي. سأترككم أترك الأمانة بين أيديكم"[22].
في هذا المقطع يذكر الراوي شخصيات تاريخية هي سليمان باشا الكبير وأولاده الثلاثة وأصهاره الأربعة ويسرد في مواضع أخرى من التوطئة الأحداث التي تلت موت سليمان الكبير كالاقتتال الدموي بين الآغوات والباشوات من أجل الوصول إلى السراي إذ قْتل خمسة ولاة في مدة زمنية لا تتجاوز الخمس عشرة سنة[23].
وتخبرنا كتب التاريخ أن الوالي الأخير (سعيد ابن سليمان) كان "تحت رعاية أمه (نابية خاتون) حتى ذلك العمر. إذ لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين . ثم لم يكن مستقلا في رأيه وعمله وكان محبا للأنس والطرب ومفرطا في العشق للنساء"[24] فترك للآخرين إدارة شؤون الولاية والاستيلاء على الأرض والخيرات مما أدى إلى تمرد العشائر ولم يستطع سعيد باشا القضاء عليها إلا بالاستعانة بداود باشا الذي كانت تعاديه نابي خاتون، زوجة سليمان الكبير ووالدة سعيد فطلبت منه أن يعزله من منصب نائب الوالي ففعل.
فرّ داود من بغداد "كي يعتزل في أحد الجبال المحصنة وتبعه أعوانه وبعض المتبرمين والناقمين على سوء معاملة سعيد باشا"[25] وبدأ يفكر في الاستيلاء على الحكم. حاصر بغداد فارتفعت الأسعار وتدهورت أحوال الناس وارتفعت الشكوى إلى أن اندلعت الثورة في المحلات وعمت الفوضى وكثر السلب والنهب، و"حينئذ كتب أعيان بغداد وعلماؤها إلى داود يحثونه على الإسراع لدخول بغداد"[26] فتم له ذلك بفضل مساعدة "خالد أفندي الذي بذل الجهد اليسير في توجيه الإيالة لداود."[27].
يوظف الراوي لسرد هذه الأحداث تقنية التلخيص إذ يذكر الولاة الذي سبقوا داود باشا ويعرض الوقائع التاريخية الكبرى عرضا مجملا. وبالتالي يهيمن على هذه الافتتاحية الأسلوب التسجيلي للوقائع التي تمهد للحدث الرئيسي ومداره مسيرة داود باشا: أصله الجورجي وتكوينه الديني ووصوله إلى الحكم ومقاومته للحضور الإنجليزي والقبائل المتمردة في الجنوب والآغوات في الشمال ورغبته في تحديث العراق واستقلاله.
كان داود باشا يحلم بعراق مستقل وقوي لذلك سعى إلى تحديثه متخذا من تجربة محمد علي في مصر (1805-1848) نموذجا له إذ ظل يخاطب نفسه باستمرار: "راح يتحول العراق إلى جنة، ومثل ما سوّى والي مصر، راح نسوي الجيش، السلاح، المعامل، المدارس، الجوامع."[28] ولذلك بنى جيشا قويا ووطّن القبائل المتمردة ودعاهم إلى "الكف عن الغزو والبدء في الزراعة"[29] بعد أن أصلح قنوات الري والتفت إلى الشمال ليصد التهديد الإيراني والآغوات، ولم يغفل كذلك عن مراقبة القنصل البريطاني ريتش الذي أضعف سيادة العراق بتعبئة الجواسيس وبرع في نهب ثرواته (الآثار والتحف والمخطوطات القديمة) إيمانا منه بأنه "لا يمكن فهم هذا الشعب دون فهم تاريخه، وباعتبار أن التاريخ المتداول، المكتوب، يشوبه التزوير والتحريف، يجب علينا أن نقرأ هذا التاريخ من خلال الآثار، من خلال الشواهد الحية"[30].
- الزمن التاريخي:
تنفتح الرواية بحدث وفاة سليمان باشا الذي "ظل واليا لبغداد اثنتين وعشرين سنة"[31] ثم يجمل الراوي الفترات الزمنية التي غطت حكم الولاة الذين سبقوا داود باشا لينقلنا إلى الحدث الرئيسي المتعلق بمسيرته. ويوظف الراوي بعض الإشارات الزمنية العامة مثل اليوم والشهر والسنة[32] ليسرد الأحداث المتتالية سردا خطيا كحديثه عن الغزو الوهابي للعراق: "وفي السنة التالية حاصر الوهابيون النجف."[33] أو قوله:" لم يمض شهر على تسمية التوتونجي واليا حتى انفجر الوضع."[34] وهو ما يعني أن فترة حكم هذا الوالي كانت قصيرة.
وفي بداية الفصل الأول من الرواية يشير الراوي للأحداث بالأيام فيطلعنا على استعدادات داود للاستيلاء على الحكم "ليل الخميس، التاسع عشر من شباط" و"يوم الجمعة، العشرين من شباط "حين قال له محب الدين همسا: "حان وقت السعد يا باشا، وبغداد منذ اليوم لك، فإذا أصبحت الشمس في برج الزوال، صل ولا تتأخر في الدخول، ادخل بغداد آمنا، ادخلها دون تأخير". ولما كبر المؤذن معلنا منتصف النهار، ما أن انتهت الصلاة، حتى دقت الطبول إيذانا بالدخول. فامتطى الباشا حصانه وهمزه. وبلمح البصر أصبح الباشا في بغداد"[35]. ومن ثمة يمكن أن نحدد تاريخ دخول داود لبغداد يوم الجمعة، العشرين من شباط سنة 1817.
أما عن فترة ولايته التي امتدت بين سنتي 1817 و1831، فإن الرواية لم تمض إلى نهايتها إذ توقفت عند سنة 1821 وهو تاريخ مغادرة ريتش للعراق إذ يقول:" لقد حصلت أمور عديدة في الفترة الأخيرة أشعرتني بالضيق وبالعجز عن مواصلة مهامي، وهذا ما جعلني أقرر المغادرة"[36]. وبالتالي يمتد الزمن التاريخي في الرواية تسع عشرة سنة بدايتها تاريخ وفاة سليمان باشا الكبير سنة 1802 ونهايتها رحيل القنصل البريطاني ريتش عن العراق سنة 1821 مرورا بفترات حكم الولاة الذين سبقوا داود باشا (1802- 1817) ورغم طول هذه المرحلة في زمن الحكاية فإنها حضرت في مدخل الرواية من خلال صفحات قليلة. في حين فصل الراوي القول في فترة حكم داود باشا رغم قصر مدتها (1817- 1821) وبسط مادة الفصول فمثلت بؤرة السرد في الخطاب؛ وهو ما يعكس رؤية منيف وسعيه للكشف عن مشروع هذا المصلح الذي تمحور حول تحديث العراق واستقلاله ولذلك اختار المؤلف أن يختم نصه بلحظة تاريخية مشرقة تجسدت في دفع القنصل البريطاني لمغادرة بغداد دون أن تمضي بنا الرواية إلى آخر ولاية داود باشا، وهزيمته ضد العثمانيين سنة 1831 على يد قوات السلطان محمود الثاني[37].
نستنتج مما تقدم أن عناصر الحكي في "أرض السواد" ذات خلفية تاريخية رسمت صورة واقعية عن عراق القرن التاسع عشر وما عاشه من انكسارات وانتصارات أثناء ولاية داود باشا.
- التخييل التاريخي:
لم يتعامل منيف مع هذه الوقائع والشخصيات التاريخية من وجهة نظر المؤرخ، بل من منظور الروائي إذ سلط عليها ضربا من التنظيم والتحبيك (mise en intrigue) وأعاد تشكيلها فنيا حتى تتلاءم مع طبيعة الكتابة الروائية القائمة على التخييل وذلك بخلقه لشخصيات متخيلة مجاورة للشخصيات التاريخية مما وسم الرواية بالتعدد اللغوي والصوتي وتنويع الصيغ والرؤى السردية والتصرف في الأحداث. وهذا يعني أن كل " مادة واقعية حين تجري في زمان ومكان محددين، تختلف وتتعدد الخطابات في رصدها والتعبير عنها إذ يتعامل كل واحد منا معها، بطريقته الخاصة وبحسب ما تمليه مقتضياته التعبيرية والبنيوية"[38]. وبالتالي تصبح تلك العناصر المستلهمة من التاريخ مادة تخييلية داخل نسيج النص الروائي حتى وإن ظلت في جوهرها مشدودة إلى مرجعية واقعية.
وعلى هذا الأساس تمحو "أرض السواد" "الحدود بين الرواية والرواية التاريخية، مؤكدة وجود الرواية دون نعت أو صفة فلا فرق بين الرواية والرواية التاريخية إلا في منظور مأخوذ بالتصنيف والإحكام، فكلاهما يقرأ التاريخ في أحوال البشر، ويتأمل معنى التاريخ في مصائر الإنسان، حالف حركة التاريخ أو غرّد عليها"[39].
3-1) الشخصيات المتخيلة:
تحضر في الرواية شخصيات متخيلة عديدة (الأسطة عواد، الأسطة اسماعيل، الحاج صالح العلو، عبود الحاج قادر، الحاج علاوي، بدري صالح العلو، حسون، سيفو المحمود، أم قدوري، فطيم زوجة سيفو وغيرها). وتحتضن هذه الشخصيات "التاجر والعسكري والجاسوس والجندي والعاشق والمحاسب وصاحب المقهى والمترجم النميم واليهودي والآغا الأخرق والطفلة المشلولة والعجوز الثكلى."[40] وبذلك فهي تجسد نسقا اجتماعيا موازيا للشخصيات المحيلة على السلطة مثل داود باشا والآغا سيد عليوي[41] والأجنبية (القنصل ريتش) وزعماء القبائل البدوية المتمردة على غرار قاسم الشاوي وحمودي ثامر[42].
تتعدد الحكايات المضمنة داخل هذا النسيج الاجتماعي الواسع مثل حكاية أهل العراق مع فيضان النهرين (دجلة والفرات) وحكايات الجواسيس (الخدم، الخصيان، الحرس، البغايا وبعض الآغوات) وحكايات حريم الباشا والعاملين في السراي وحكاية حسون صريع الغرام الذي تعلق " بزوجة رتيش"[43] وحكاية العسكري بدري مع الراقصة نجمة[44] التي انتهت بقتله مما خلف حالة من الحزن العميق لدى سكان محلة الشيخ صندل. وعلى هذا الأساس لم يقتصر الراوي على سرد الوقائع التاريخية في السراي والباليوز بل يأخذنا إلى داخل القصور وبيوت الدعارة والأماكن الشعبية كالمحلات البغدادية والمقاهي والشوارع لينقل وجهات نظر هذه الشخصيات الشعبية التي أضاءت بعض الجوانب المخفية في الشخصيات والوقائع كظاهرة الجواسيس والدعارة ونهب ثروات العراق وخيانة بعض الآغوات.
وإضافة إلى ذلك لعبت هذه الشخصيات المتخيلة دورا في الكشف عن العادات البالية والأفكار الساذجة ففي مشهد لأحد عروض الحيوانات التي كان ريتش يستخدمها لترويض الوالي وتخويف أهل بغداد، ينقل الراوي العليم بواطن الشخصيات ويكشف عن ردود أفعالها الساذجة والعاجزة: "العيون تنفتح إلى أقصاها. الشفاه متهدلة. القلوب واجفة وقد استبدت بها الخشية. والصمت ممتد واسع. وما عدا الأنفاس السريعة التي تتصاعد، فإن رجال الباليوز لا يتوقعون صمتا مثل ذلك، ولا نظاما أشد صرامة مما يرون"[45].
أضفت تقنية الحبكات المتوازية وتعدد الخطابات (الخطاب التاريخي (داود وريتش) والخطاب السردي (حبكات صغرى موازية للحبكة الرئيسية) وخطاب الشكوى والدعاء للشخصيات الشعبية وخطاب التملق والتزلف الصادر عن المنجمين والملالي والشعراء والعلماء.) حيوية على الرواية التي تحررت من التوثيق والرؤية الواحدة وهو ما يؤكد أن "الحاجة إلى التخييل وتوظيفه في سياقات المحتمل والممكن مسألة حيوية لتحقيق فنية الرواية من جهة، ولملء ثغرات وبياضات النص التاريخي الإخباري من جهة أخرى"[46]
-
- تعدد الصيغ السردية:
الصيغة هي "الطريقة التي بواسطتها يقدم لنا الراوي القصة"[47] وتضم صيغة السرد وهي حكي الأحداث وصيغة العرض أي حكي الأقوال وتتفرع كل صيغة إلى أنوع صغرى ففي السرد توجد "صيغة الخطاب المسرود الذي يرسله المتكلم وهو على مسافة مما يقول وصيغة المسرود الذاتي وتظهر لنا في الخطاب الذي يتحدث فيه المتكلم الآن عن أشياء تمت في الماضي "[48]. أما العرض فيحتوي على "صيغة الخطاب المعروض التي نجد فيها المتكلم يتكلم مباشرة إلى متلق مباشر وصيغة المعروض غير المباشر التي نجد فيه مصاحبات الخطاب المعروض [..] وصيغة الخطاب المنقول المباشر الذي ينقله متكلم غير المتكلم الأصل، وهو ينقله كما هو [..] وصيغة الخطاب المنقول غير المباشر التي لا يحتفظ فيها الناقل بالكلام الأصل، ولكنه يقدمه بشكل الخطاب المسرود"[49].
- تعدد الصيغ السردية:
وبالعودة إلى الرواية نلاحظ أنها تنبني على تعدد الصيغ السردية فالراوي يستخدم في التوطئة صيغة الخطاب المسرود بخصوصيته التاريخية ليسجل الوقائع ولكنه يخضع بقية فصول الرواية لتبدلات صيغية مختلفة: ومثال ذلك ينفتح الفصل الأول بمقطع يأتي في صيغة الخطاب المسرود عن داود وهو يستشير كبير المنجمين حول الوقت المناسب لدخول بغداد: "وفي ليل الخميس، التاسع عشر من شباط، اختلى داود باشا بمحب الدين المرادي، كبير المنجمين، ليقرأ له الطالع، وليستشيره حول أنسب الأوقات لدخول بغداد."[50] وينقلنا المقطع الثاني إلى كبير المنجمين من خلال صيغة الخطاب المنقول المباشر الذي ينقله الراوي دون تبديل:" وفي تلك الساعات، بين الأوراق والبخور والأوراد، ثم الاجتماع برهط من أصحاب البركات [..] قال للباشا، وكان صوته عميقا وفيه رنة خشوع: السعد ممتزج والبروج ثلاثة، فإن حان القوس، وكان بمنزلة الإكليل، ففي ذلك الوقت تسير.."[51]. وفي المقطع الثالث، يحضر الخطاب المسرود من جديد مع داود وهو يدخل بغداد ممتطيا حصانه. ويبدأ المقطع الرابع بالخطاب المسرود أيضا الذي يرصد موكب استقبال الباشا:" أحاط بداود باشا [..]: قادة الجند والمفتي والنقيب، ثم عدد كبير من الوجهاء وآغوات الكرد وشيوخ العرب، ثم عدد من العلماء والتجار، وأكبر من هذه الأعداد الحرس والجنود. وكان يحف الجميع، من كل ناحية، [..] حاملو البنادق والسيوف"[52]. وينقلنا المقطع الخامس إلى رصد حالة الناس وهم يهللون لمقدم داود من خلال الخطاب المسرود أيضا ولكنه يأتي في صيغة الخطاب المنقول المباشر:" الناس يرفعون أكفهم أو يهزون قبضات الأيدي ويرددون بأصوات متداخلة أقرب إلى التنغيم: مرحبا يا حامي البلاد، مرحبا يا منقذ البلاد، مرحبا وخير مقدم."[53] ومن صيغة المنقول المباشر يعود بنا الراوي إلى الخطاب المسرود ليسلط الضوء على ردود فعل داود باشا وهو "يرفع يده اليمنى بين لحظة وأخرى، والابتسامة الواسعة لا تفارق وجهه. كان يتلفت في كل الاتجاهات، وكانت نظراته كالريح تمسح كل الوجوه."[54]
وفي المقطع السادس يعمد الراوي من جديد إلى الخطاب المسرود ليستعيد فترة زمنية سابقة عن الحاضر ويستشرف المستقبل في نفس الوقت إذ يرصد حالة التعب والخوف التي استولت على أهل بغداد فـ"لقد باع الكثيرون أشياء عزيزة مرغمين. فعلوا ذلك وأمل شاحب يراودهم أن زمنا آخر، وسوف يستطيعون استردادها، أو شراء ما يماثلها."[55] وفي المقاطع اللاحقة يحضر الخطاب المسرود الذي يسترجع المظاهرات التي سبقت دخول داود باشا إلى بغداد ثم يعرض الراوي من جديد عبر الخطاب المسرود الذي يتضمن صيغة الخطاب المنقول المباشر أوامر داود للقضاء على سعيد باشا:" كان داود يقول، بعض الأحيان، أمام خاصته:"سعيد حقير ومغرور، لا يعرف صديقه من عدوه" وحين يتذكر بعض تصرفاته يضيف: "حاولت معه أكثر مما حاولت مع أي إنسان، [..] وقدحان الوقت لكي يدفع الثمن ويجب أن يكون ثمنا غاليا"[56]. ثم تنغلق الوحدة بصيغة الخطاب المعروض غير المباشر الذي يعرض الحوار الذي دار بين الباشا ونائبه الكيخيا، يحى بك حول حمادي الذي تعلق به سعيد باشا وصولا إلى حديث داود مع الآغا سيد عليوي حول ضرورة الاستعداد لتأديب سعيد: "قال داود باشا، وهو يغادر إلى الجانب الثاني من السراي: وتعرف، يا آغا، هذول الجماعة ما عاد تفيد بهم عصا موسى، وأنت عندك عصا فرعون.
قال سيد عليوي، وقد تهلل وجهه كله:
أمرك، مولاي، ولعيونك كل شي يصير"[57].
يتضح لنا من خلال هذه الأمثلة الدالة على تنوع الصيغ السردية أن الراوي لم يستعمل صيغة الخطاب المسرود لينقل بعض الوقائع المنشدة إلى الخطاب التاريخي (التسجيلي) فقط، بل يستخدم أيضا صيغ الخطاب المنقول والمعروض (المباشر وغير مباشر) بين الشخصيات فتعددت الأصوات والآراء مما أضفى حيوية على الأحداث وخلصتها من خطية السرد بواسطة المقاطع الاستباقية والاسترجاعية التي كشفت عن دواخل الشخصيات التاريخية ومواقفها وشدتها إلى رحاب التخييل فداود باشا كان يتطلع باستمرار إلى المستقبل بعيون حالمة مستخدما المونولوج الداخلي:" سوف يفعل داود ما لم يفعله غيره، سيفعل ما عجز عنه الأقدمون والولاة الآخرون، وسيلهج الناس، حتى بعد مئات السنين، بما سأفعل، وأشهد أيها الغروب على ما أقول [..] لا بد أن يصبح داود سيد البر والبحر"[58].
وفي مواضع أخرى يستخدم تقنية الاسترجاع ويتذكر الماضي البعيد ويستحضر صورة أمه وأفراد أسرته ومراحل من طفولته "الفقيرة والصعبة" ليكشف عن انفعالاته الذاتية:" ورغم أن تفليس تعاوده مرة بعد أخرى في ليالي السهد، ومعها وجه أمه بشكل خاص، ثم تتعاقب بعد ذلك الوجوه: جورجي عمانوئيل شفاي، أبوه، وشيو، أخوه، وديمتري، أخوه الأصغر، وتتراءى صورة الكلب الذي كان عندهم هنا"[59]. وتنتظم صيغ الخطاب وفق "أشكال ثلاثة هي التتابع والتضمين والتناوب."[60] فالتتابع يهيمن على الصيغ المختلفة ويؤطر الخطابات وفق نظام خطي، ويرد التضمين متداخلا مع الحكي مثل تضمين قصة "خلق آدم وحواء في سفر التكوين" في صيغة الخطاب المعروض[61] (أقوال الآغا سيد عليوي). أما التناوب فيحضر لنقل تعليقات الشخصيات الشعبية حول بعض الأحداث كحدث زيارة ريتش للسراي. يقول الراوي:" بعد أن وصلت الأخبار إلى قهوة الشط، قال عبدالله غبيشان:
عرس واوية، دنابك وكدش، عجم وهنود، وكأنه طهور ابن مهيد...[..]
رد عليه الأسطة إسماعيل، في محاولة لاستفزازه: على كيفك يا معود، كل اللي شافوا الموكب قالوا: عبالك موكب السلطان: مزامير وطبول، مزيقا وقياطين ونياشين .. هاي وين تلقى مثلها بغداد؟
خلينا من هذا الكلام، أبو حقي، كلها قشمرة، وضحك على الناس!"[62]
من هنا جاز لنا القول بأن الخطاب الروائي في "أرض السواد" يتميز بتعدد الصيغ السردية التي حررت المادة التاريخية من سلطة الراوي، وأعادت تشكيلها ودمجها في نسيج النص بطريقة فنية تخضع لمنطق الرواية باعتبارها "أداة جميلة للمعرفة والمتعة."[63] لا مجرد وثيقة تاريخية لتصبح تلك العناصر متخيلة ومنظورا إليها من وجهات ذاتية مختلفة.
-
- تعدد الرؤى السردية:
إذا كان تعدد الصيغ والأشكال السردية قد كشف لنا طرائق إيصال الخطاب الروائي في "أرض السواد"، فإن الرؤية السردية تحيل على مقولتي الراوي ومستويات التبئير فالمؤلف يخلق الراوي ليحكي عن نفسه أو عن غيره من الشخصيات فهو الذي يروي القصة ويرمز إليه بمجموعة من العلامات اللغوية التي تحدد شكله وقد يكون الراوي مشاركا أو غير مشارك في الحكاية. أما المبئر فهو "الذي يُتعرف عليه داخل النص السردي بالإجابة عن السؤال: من يرى؟ أو بالأحرى من يدرك؟ أو أين تقع بؤرة الإدراك؟ وتطلق على المبئّر تسميات عديدة منها الرائي والمدرك وذات الإدراك وذات التبئير ومركز توجيه القارئ"[64].
- تعدد الرؤى السردية:
واستنادا إلى الشكلين السرديين المرتبطين بموقع الراوي ومستويات التبئير التي يتم من خلالها إدراك الحكاية تتحدد الرؤى السردية كما يلي:
"رؤية برانية خارجية يكون فيها المبئر برانيا ويقدم المبأر (الشخصية، الحدث، المكان..) من الخارج: ناظم خارجي.
رؤية برانية داخلية: يكون فيها المبئر برانيا ولكنه يقدم المبأر من الداخل: ناظم داخلي.
رؤية جوانية داخلية: وفيه تمارس الشخصيات الحكي: الفاعل الداخلي
رؤية جوانية ذاتية وفيها تمارس الحكي شخصية مركزية: الفاعل الذاتي[65]
يلج القارئ عالم التخييل عبر الخطاب الذي يقدمه الراوي وفق منظور سردي (وجهة النظر أو الرؤية) ليحدد كمية المعلومات المقدمة ودرجة عمقها والمجالات التي تشملها وطبيعة وعي الذات المدركة أو الرائية. وبالتالي فإن للراوي والمبئر علاقة بتقديم المادة الحكائية والتصرف في أحداثها وعرضها من وجهة نظر وحيدة أو من وجهات نظر متعددة تجسم ما عرف بتعدد الأصوات أو الرؤى للحدث الواحد.
ويكشف خطاب رواية "أرض السواد" أن الحكاية قد اضطلع بسردها راو غير مشارك في الأحداث ولكنه عليم، وقد تجسد من خلال ضمير الغائب المفرد، وكانت رؤيته خارجية محدودة حين ينقل الحدث التاريخي فيحدده بزمن مرجعي من ذلك قوله: "لكن عصر الخميس، التاسع عشر من شباط أصبحت الدلائل ترجح أن داود سيدخل بغداد..." [66].
غير أن هذه الرؤية الخارجية سرعان ما تختفي فتتحول إلى رؤية برانية داخلية يكشف بواسطتها الراوي عن موقفه من الحدث أو الشخصية ليتلون السرد بمواقفه الذاتية فالقنصل البريطاني، مثلا، يقدمه الراوي من وجهة نظره الخاصة فيبئر من داخله ليجلي وجهة نظره الحاقدة تجاه البلاد والعباد:" قد تنقضي أعوام، عشرات الأعوام، ولا يأتي إلى العراق مثل كلوديوس جيمس ريتش. شخصية نادرة، تراث تراكم عبر الأيام والسنين. حالة من الغواية للسيطرة على الآخرين، فهو في نظرته للناس والبلاد مزيج من الكراهية ورغبة السيطرة، وقد انصهرا معا، بحيث لم يعد يعرف كيف التحما ثم اتحدا ليصبحا واحدا"[67].
وفي موضع آخر يكشف الراوي عن أحلام داود باشا بقوله: "ولأن العبء كبير، كانت تراوده أحلام لا تخلو من غرابة في بعض الليالي: ماذا لو كان العراق في مكان آخر من هذا العالم، ألم يكن حكمه أيسر؟ وماذا لو كان فيه بشر من طبيعة أخرى، ألم يكن ذلك أسهل؟ هكذا كان يحلم ويتمنى"[68].
من هنا يمكن القول بأن دور الراوي يتراوح بين السرد الموضوعي والسرد الذاتي الذي يكشف عن مواقفه المتعاطفة أو المعارضة للشخصيات (أهل بغداد، ريتش) ومن ثمة فهو راو غير محايد لأن وظيفته لم تقتصر على سرد الوقائع وتنظيمها فحسب، بل تحول إلى قناع سردي يعبر به منيف عن رؤيته الفكرية حول معاناة أهل بغداد لتصبح الرواية "تاريخ الذين لا تاريخ لهم، تاريخ المسحوقين والذين يحلمون بعالم أفضل "[69].
وفي مواضع أخرى عديدة من الرواية يتوارى الراوي العليم عن المشهد ليفسح المجال للشخصيات لتكشف عن انفعالاتها الذاتية ومواقفها الخاصة إذ تكثر في الرواية النعوت والصفات التي تسندها الشخصية لنفسها أو لغيرها لتعبر بها عن مواقفها: فريتش الذي يجسد صوت الغازي المتعالي كان يدرك "أنه يمثل دولة عظمى أو بكلمة أدق: أعظم وأقوى دولة في العالم"[70]. في حين يصفه داود باشا بـ"القنصل اللئيم" و"الغر" و"الثعلب" وأما سكان بغداد فكانوا يسخرون منه وينعتونه بـ "الأشيقر" و"الزعطوط" و"ابن الزفرة". وفي المقابل كان داود باشا يرى بأنه "سيد البر والبحر" و"البشير النذير" و"حامي البلاد ومنقذ العباد"، في حين يظهر من منظور الشخصيات الأخرى (ريتش والبدو) "عاشقا للسلطة" و"رجلا ماكرا وذكيا" بل هو "أمكر من إبليس و"ثعلب في جلد خروف".
ورئيس الانكشارية، "الآغا سيد عليوي" (شخصية تاريخية) جسد صورة للاستبداد الذي لحق بمؤسسة الحكم في بغداد العثمانية فقد كان يقول في سره وعلانيته: "أنا ربكم الأعلى" و"أنا الأمل والمرتجى" و"أنا البداية والنهاية" وكان عنيفا ودمويا إذ تخلص من سعيد باشا (الوالي السابق لداود) بطريقة بشعة حين داهمه ليلا وأخرج البلطة وضرب بها عنقه "ضربة عميقة، حتى بدا صوتها مثل خبطة في ماء عميق، أو في عجين لم يختمر. وهذه الضربة وحدها كافية، لكن سيد عليوي أتبعها بأخرى، فانفصل الرأس وتدحرج، كرّ إلى الجهة الأخرى من السرير، ثم سقط.."[71]. وبذل كشف منيف عن العنف الذي حكم سلوك السلطة وتفكيرها في "أرض السواد" فغاص في التفاصيل التي غيبتها الوثيقة التاريخية. أما البدو فإنهم، من وجهة نظر المفتي، "أهل الفتنة" و من زاوية نظر الوالي، "ماكرون كالثعالب" و"مخلوقات مليئة بالشر والقسوة" في حين اعتبر ريتش أن "الثأر جزء من تكوينهم"[72].
من هنا جاز لنا القول بأن عبدالرحمن منيف استخدم في ثلاثية "أرض السواد" الراوي العليم الذي وثق للوقائع التاريخية بموضوعية وقدم الشخصيات المرجعية وطاف بنا في أمكنة عديدة فبدا محايدا حينا ولكنه كثيرا ما كشف عن وجهة نظره تجاه الشخصية أو الحدث بالتعليق والنقد والسخرية أحيانا أخرى، فاسحا المجال للشخصيات المتخيلة لتعبر عن مواقفها النقدية من الأحداث ضمن مناخها الفكري وشروطها الثقافية. غير أن هذه الرؤى والمواقف المتنوعة ليست سوى أقنعة سردية وظفها منيف ليكشف بها عن موقف الذاتي من الوقائع التاريخية في بغداد العثمانية خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر فهو يستحضر من الماضي الفترات التي تتشابه مع الزمن الحاضر ومع اللحظات الصعبة التي كانت تمر بها العراق خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
خاتمة:
نستنتج مما تقدم أن الخطاب الروائي في "أرض السواد" ينهض على عناصر مرجعية تتجسد من خلال حضور بعض الشخصيات والأحداث التاريخية الكبرى التي عرفتها العراق في مطلع القرن التاسع عشر. ولئن ركز منيف على مسيرة والي بغداد داود باشا وكشف عن محاولاته لتحديث العراق وتثبيت مقومات استقلاله اقتداء بتجربة محمد علي في مصر ومشيرا إلى العوامل الخارجية والداخلية التي أجهضت على هذا المشروع، فإنه أخرج المادة التاريخية إخراجا فنيا يعكس رؤية جمالية تستوجبها الكتابة الروائية القائمة على التخييل.
ومن مظاهر ذلك أن المؤلف خلق شخصيات متخيلة عديدة اضطلعت بأكثر من حبكة سردية بالتوازي مع الحبكة الرئيسية فتوالدت الحكايات داخل الرواية، وكسر التسلسل الزمني للوقائع التاريخية وحضرت الاسترجاعات والاستباقات، وتداخلت الأزمنة في لحظة واحدة. وعلاوة على ذلك تعددت الصيغ السردية، فحضر الخطاب المعروض والمنقول والمسرود الذاتي بكثافة وتواترت الرؤى التي سمحت للشخصيات بالإفصاح عن أفكارها ومشاعرها المتناقضة بكل حرية واستقلالية مستخدمة سجلات لغوية متنوعة، تتلاءم مع قناعاتها وأصولها الاجتماعية المختلفة. ومن ثمة عكس هذا التعدد اللغوي مختلف أنماط الوعي والمواقف الجدلية التي حررت العمل الفني من أحادية الصيغة والرؤية واللغة والأسلوب لتغدو "أرض السواد" رواية تفيض عن التاريخ ولا تذعن لقوالبه الصارمة والجافة رغم خلفيتها الواقعية.
أستاذ بجامعة تونس
يقطين (سعيد): الرواية والتراث السردي، رؤية للنشر والتوزيع، 2006. ص. 7[1]
[2] منيف (عبدالرحمن): أرض السواد، ثلاثة أجزاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، ط. 3، 2002
[3] إبراهيم (عبدالله): التخيل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2011، ص. 9
[4] ماضي (عزيز شكري): في نظرية الأدب، المؤسسة الوطنية للدراسات والنشر، بيروت، 2005، ص. 145
[5] م. ن. ص. 150
[6] التخيل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية، ص. 5
[7] م. ن. ص. 5
[8] نذكر في هذا الإطار روايات جورجي زيدان التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام (1891- 1914).
[9] الماضي (شكري عزيز): أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ع. 355، سبتمبر 2008، ص. 14
[10] ابن منظور: لسان اللسان، تهذيب لسان العرب، ج. 1، إشراف عبدأ علي مهنّا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، ص. 637
[11] الحموي (ياقوت): معجم البلدان، ج. 3، تحقيق فريد عبدالعزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت. ص. 309
[12] عبيد (محمد صابر): جماليات القصيدة العربية الحديثة، سلسلة النقد الأدبي (2)، وزارة الثقافة، دمشق، 2004، ص. 96
[13] أرض السواد، ج. 1، ص. 11
[14] م. ن. ص. 12
[15] م. ن. ص. 13
[16] أرض السواد، ج. 2. ص. 61
[17] أرض السواد، ج. 1، ص. 386
[18] م. ن. ص. 462
[19] م. ن. ص. 461
[20] ناجي (جواد): بغداد: سيرة ومدينة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص. 162
[21] أرض السواد، ج. 1، ص. 288
[22] م. ن. ص. 15
م. ن. ص. ص. 15- 30.[23]
[24] عزالدين (يوسف): داود باشا ونهاية المماليك في العراق، منشورات دار البصري، 1967، ص. ص. 29-30
[25] م. ن. ص. ص. 30-31
[26] أرض السواد، ج. 1، ص. 24
[27] داود باشا ونهاية المماليك في العراق، ص. 31
[28] أرض السواد، ج. 3، ص. 105
[29] أرض السواد، ج. 2، ص. 360
[30] أرض السواد، ج. 1، ص. 379
[31] م. ن. ص. 15
[32] م. ن. ص.ص. 16-24
[33] م. ن. ص. 19
[34] م. ن. ص. 21
[35] م. ن. ص.ص. 25- 26
[36] أرض السواد، ج. 3، ص. 303
[37] أرض السواد، ج. 1. ص. 50
[38] الرواية والتراث السردي، م. س. ص. ص. 140-141
[39] دراج (فيصل): الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2004، ص. 262
[40] الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربية، ص. 265
[41] رئيس الانكشارية في فترة ولاية داود باشا. قتل سعيد باشا وأمر رجلين بقتل الضابط العسكري بدري ثم تخلص منهما. استقطبه القنصل البريطاني ريتش ليتجسس على الوالي فزرع رجاله في السراي ولما اكتشف داود خيانته أعدمه. لمزيد التوسع انظر: أرض السواد، ج. 2، ص. 36 و583.
[42] أرض السواد، ج. 1، ص. 533
[43] أرض السواد، ج. 2، ص. 111
[44] أرض السواد، ج. 1، ص. ص. 403-413
[45] م. ن. ص. 273
[46] Ricœur (P.) : Temps et récit, T. 1, Seuil, Paris, 1983, p. 78
[47] يقطين (سعيد): تحليل الخطاب الروائي (الزمن، السرد، التبئير)، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997، ص. 134
[48] م. ن. ص.. 197
[49] م. ن. ص. 198
[50] أرض السواد، ج. 1، ص. 25
[51] م. ن. ص. 25
[52] م. ن. ص. 26
[53] م. ن. ص. 27
[54] م. ن. ص. 27
[55] أرض السواد، ج. 1، ص. 28
[56] م. ن. ص. 32
[57] م. ن. ص. 34
[58] أرض السواد، ج. 1، ص.ص 171- 172
[59] م. ن. ص. 302
[60] تحليل الخطاب الروائي. ص. 257
[61] أرض السواد، ج. 1، ص. 202
[62] م. ن. ص. 182
[63] منيف (عبدالرحمن): الكاتب والمنفى، هموم وآفاق الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المركز الثقافي العربي، 2001، ص. 43
القاضي (محمد) وآخرون: معجم السرديات، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، 2010، ص. ص. 369-370 [64]
[65] تحليل الخطاب الروائي، ص. 310
[66] أرض السواد، ج. 1، ص. 32
[67] م. ن. ص. 85
[68] م. ن. ص. 309
[69] الكاتب والمنفى، ص. 44
[70] أرض السواد، ج. 2، ص. 99
[71] أرض السواد، ج. 1، ص. 40
[72] م. ن. ص. 326