مثلما أن عنوان العمل، أي عمي إبداعي، هو عتبة الدخول الرئيسية لذلك العمل، كذلك أول عمل إبداعي للمبدع، يكون هو بمثابة العنوان لإبداعه. لذا كان كتابنا "بواكير القصة المصرية القصيرة"[1] والذي تناول المجموعات الأولي لكتاب كانت لهم بصمات علي مسيرة القصة المصرية القصيرة، وكان كتابنا "بواكير الرواية في القرن الجديد"[2] الذي تناولنا فيه الأعمال الروائية الأولي لمبدعيها في عالم الرواية، والذين دخلوا إلي عالمها مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وكيف أنها حملت الكثير من عوالم تلك الفترة التي تشبه فترة الحمل، قبل أن تتم عمليات الولادة في بدايات العقد الثاني منه، والتي عُرفت بالربيع العربي.
خاصة وأن العمل الأول يحمل من مخزون التجربة الحياتية، والقرائية، أكثر مما يحمله أي عمل تال، حتى وإن استفاد، أو لم تنقطع الصلة بينه وبين تلك الفترة. إلى جانب أن التجربة الأولي كثيرا ما تحمل من البراءة، التي تجعله أقرب إلي الإبداع، وسماته لدي كاتبه، والتي تكشف عن رؤي ما يحمله من رؤية للمستقبل، أو الحلم به. وكذلك انعكاسات الحياة من حوله علي لوحة حياته الإنسانية.
لذا كانت قراءة "ساعة بغداد" للعراقية "شهد الراوي"، ليس لكونها أول عمل إبداعي لها، وفقط، ولكن لأنها – في حدود ما قرأت، والذي أزعم أنه غير قليل- أول عمل يتناول الأحداث الكبيرة برؤية طفولية، وهو ما يعكس تأثير الزمن، الذي ربما، اختارت الكاتبة عنوانه "ساعة بغداد"[3]، حيث يستمر تأثير وضغط الحاضر علي المستقبل، وأن آثاره تمتد لسنوات، وبالتأكيد تلعب دورا ، غير مُنكَر، علي رسم معالمه، الخارجية والنفسية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، تري أن صفحة الطفولة، صفحة بيضاء، لم يخط عليها الزمن خطوطه، حيث تبدأ الخوط، كما لو أنها منحوتة علي الورق، ولا تستطيع أي ممحاة أن تزيلها، وحتي إن أزالت ظاهرها، فإنه يستحيل إزالة آثارها، وهو ما تؤكده كل الدراسات النفسية التي تتناول فترة الطفولة عند الإنسان.
- جانب أنها لم تنتهج –مثل الكثيرين-، الذين تناولوا الحرب وأثارها المدمرة، ولكنها اختارت، فترة السكون – الظاهري- فترة الحصار ، الذي كانت آثاره النفسية، اكبر كثيرا من آثاره المادية، بضياع، ومحو، فترة الطفولة التي هي بذرة التكوين، ومخزن الذكريات، والأحلام البريئة، الخالية من كل تعقيدات الحياة، وتدميرات الطائرات والدبابات، وبطش القوة العسكرية. وقد جاءت (ضربة البداية) في الرواية، هي اجتماع الساردة وصديقة عمرها "نادية" – ضمن آخرين كثيرين - بأحد ملاجئ الإيواء ساعة إغارة الطائرات المعادية، فاجتمعت الطفولة، وتأثير الحرب النفسي عليها، وهو ما انحفر في أعماقها، ولازمها، كجزء من تكوينها.
فإذا كان الكثير من الروايات العربية، من بلدان مختلفة، قد تناولت عمليات الهجرة، حيث اصبح معظم الدول العربية دولا طاردة، إلا اياً منها – في حدود ما قرأت – لم يتناول تلك المشكلة بذك الإحساس الطفولي الذي عرضت به شهد الراوي، طفولة ساردتها، الطفلة، والتي تبدأ بتلك الرؤية الطفولية الساذجة، في نظر الكبار، لكنها الحقيقة في نظر الطفلة، عاكسة روح الطفولة تلك {ماما، ليش عيوني مو خضر مثل عيون نادية؟
- من تكبرين تصيرين مثلها.
ولا تلبث الساردة أن تنقل الخبر، الحقيقة إلي صديقتها "نادية" التي ترد عليها، والتي تكشف طبيعة الطفلة التي تحب أن تستاثر بميزة لا يتمتع بها غيرها، حتي لو كانت صديقتها المقربة:
{لا متصير، لأن أمك عيونها مو خضر}ص11.
وإذا كان الحُلم والخيال، قد لعبا دورا كبيرا في مسيرة الرواية، فقد أسست لها الكاتبة بالتركيز، كثيرا، علي مرحلة الطفولة تلك، والتي اصبحت جزءً من تركيبتها، ومنطقت الكثير من تصرفاتها، علي الرغم من تكرارها، أكثر من مرة، ب(أنني لا أحلم). غير أنها وإن لم تكن تحلم في النوم، فإنها تحلم كثيرا في اليقظة، وهو جوهر ما يصنع منها، شخصية فاعلة، أو حالمة بالتغيير، وبالرفض، ويخرجها عن أولئك الذين يرتكنون إلي القائم، والرضي بالواقع، كيف كان هذا الواقع. فتنزرع صورة التجمع في الملجأ، وتبدأ منها حلم يقظة، للجميع، وليس لذاتها فقط، لنبدأ التعرف علي الشخصية الإيجابية، في الساردة{في خيالي، أعدت الناس الذين شاهدتهم في الملجأ إلي بيوتهم في شارعنا، رتبت تلك البيوت في خطوط مستقيمة ورسمت منها سفينة كبيرة تشبه المحلة التي ولدنا فيها، ثم رسمت دخانا أبيض يصعد منه ببطء نحو النجوم}ص17. فهي إذن شخصية تحلم، في يقظتها باليوتويبا {أنا احب الأشياء التي أتخيلها أكثر من الأشياء التي أراها، والأشياء التي لا أراها أتخيلها}ص26.
وتبدأ معالم الرغبة في التغيير، برفض الحاضر (المبطن) في الظاهر، إذا ما أحلنا الكلمات إلي رموزها، والنظر إلي الأجيال بدلالاتها، حيث نجد الربط بين الجدة والحفيدة، التي تأمل فيها الجدة، لاغية وجود الأم، أو المرحلة الآنية في تسلسل الأجيال، حيث التجاهل، وما يعنيه من إلغاء الوجود، أو الرغبة فيه {كانت جدتي تحبني وتدللني، وتهتم بي كثيرا. كنت أتمني أن تكون هي أمي وفرحت كثيرا عندما أخبرتني سرا بقي بيننا إلي الآن: حملتك في بطني هذا، قبل أن تولد أمك منه}ص24. فإلغاء وجود الأم، رمزيا ، أو القفز فوق زمنها، يُنشئ العلاقة المباشرة بين الجدة والحفيدة، والرغبة في عدم وجود المرحلة الوسطي، التي هي الأم.
ثم يتجسد العيش في أحلام الآخرين، وما يُخرج الساردة من الهم الشخصي، إلي الهم العام. فها هي تعيش حلم الآخرين، حلم صديقتها "نادية: {قبل أن أغمض عيني، رأيتها تبتسم وهي نائمة، تحرك شفتيها ببطء كأنها تتحدث مع نفسها. اقتربت منها وأنا مندهشة ووضعت وجهي مباشرة أمام وجهها، شاهدت أطيافا ملونة تتحرك حول جبينها، خيالات لم أر مثلها من قبل تظهر وتختفي ثم تعود، كنت في هذه اللحظة أري أحلامها، وهذه أول مرة في حياتي أدخل فيها أحلام أحدهم، في هذا الوقت كانت تحلم بي أنا.
أمسكت بيدي وطارت بي عاليا فوق بيوت بغداد القديمة، رحنا نرتفع في الهواء، ونرتفع ونرتفع حتي صرنا مثل نحلتين صغيرتين لا يراهما أحد}ص12.
وتحكي الساردة ل"نادية" حلمها (حلم نادية) التي ترد عليها:
{-يا مكروهة ليش تبوكين أحلامي؟
-لأن آني ما أعرف أحلم}ص15. وكأني بها أراها تعني (لا أعرف أحلم لنفسي.. وإنما حلمي للآخرين.
وتكبر الساردة قليلا، إلا انها لم تغادر الإحساس الطفولي، ولم يغادرها الإحساس بالغير، والتعايش مع همومه، حتي في الجانب العاطفي، فكان يكفيها، أن تعيش مع قصة صديقتها التي سبقتها إلي ذلك الإحساس الجميل. حين يفاجئها زميلها "فاروق" يقول لها أحبك {بقيت ساكتة ولا أعرف ماذا أقول له، نسيت حينها لماذا أتيت للدكان في هذا الوقت، حاولت أن أتذكر، لكنني كنت أرتجف وأكاد أبكي، ركضت نحو بيتنا من دون أن أشتري شيئا، ومن دون أن أرد علي فاروق..... لم أتمكن تلك الليلة من النوم مبكرا، تقلبت في فراشي أحاول أن أطرد هذه الفكرة من راسي، لكنني حتي أكون صادقة معكم، كنت سعيدة في داخلي، بقيت أتخيل "فاروق" وهو يكرر امامي أنا احبك.. لااعرف لماذا اختارني أنا وقال إنه يحبني، لم أكن قد تحدثت إليه، ولم أكن مهتمة به .. كنت فقط مستمتعة بقصة نادية وأحمد}ص64.
- تبدأ الدائرة في الاتساع، حيث يبدأ الوطن في غرس سلوكه (العسكري) في وجدان الطفولة، حيث يرتبط العَلَمُ وتحيته بالرصاص، حين تمسك "مروة" صباح كل خميس بالبندقية، وفي تحية العلم { كان منظر "مروة" وهي تمسك بالبندقية وتطلق الرصاص في الهواء يستفزني شخصيا، لا أعرف إن كان ذلك قد أعجبني، أم أنا منزعجة منه، ولولا بعض مظروفات بندقيتهاالتي كانت تتقافز أمام عيني وتخيفني لما كنت اهتممت بتاتا بالأمر، يحدث ذلك كل يوم خميس في مراسم تحية العلم التي تجري في مدرستنا... أنا لا أفهم لماذا يجب أن نطلق الرصاص .. لماذا يجب أن يكون مع العلم دائما صوت للرصاص}ص64. حيث تبدو روح الرفض للقائم، والمتبع، في استهجان ما يحدث، لمجرد أنه يحدث أمامها، أو تجاهل وجوده، وكأنها الرغبة – من جديد – في محو وجوده.
وتتكثف أفعال الحاضر، وتأثيره أيضا علي الطفولة، وكأن الوطن يرعي تلك الطفولة، بالغرس في وجدانها ذلك التقديس (المرفوض) للشخص، وكأنه يحولهم إلي آلات تمجد وتقدس ذلك الجالس علي كرسي الرئاسة، مهما كانت خطاياه.
ففي رحلة للممدرسة إلي بناية الساعة التي اسمها (ساعة بغداد){تجولنا في القاعات والحدائق، ثم أخذونا إلي المتحف الذي فيه واجهات زجاجية نظيفة، يعرضون فيها هدايا يقدمها الناس إلي رئيس الجمهورية، يقدمون إليه سيوفا تراثية وبنادق قديمة ولوحات فنية ويكتبون له قصائد عن سيرته. .... بعض النساء الفقيرات، ليس لديهن ما يقدمنه هدية إلي الرئيس، قصصن ضفائرهن وكتبن عليها أسماءهن ووضعنها في المتحف.. دقت الساعة العاشرة صباحا...
بين الشعب وبينك.. عهد وشوفته بعينك}ص28. وكأنه الروتين اليومي الذي يتغني بالرئيس.
وبرغم هذا التقديس ، المرفوض - ضمنيا – يبدأ ظهور الخطايا التي ارتكبها النظام، فيبدأ الحصار، الذي اعقب تلك المغامرة المتهورة، وغير المحسوبة، التي ارتكبها النظام، بغزوه للبلد الشقيق، الكويت، بعد مغامرة أخري استمرت ثماني سنوات في حرب إيران. يبدأ الحصار، وتنعكس آثاره علي تلك الطفولة التي لم تغادرها الساردة {أمس، سمعت أمي بالمصادفة تتحدث إلي أم نادية عن الحصار، لكنني لم أُصغ إليهما جيدا، لقد سمعت كثيرا هذه الأيام كلمة الحصار وكرهتها، بسبب هذه الكلمة وحدها يجب ألا نطلب من أهلنا الكثير، وأن نتحمل مزاجهم. بسبب الحصار فقدت أمي الراحة التي تعودت عليها وصارت تشكو الملل، ولا تحب أن نطلب منها شيئا، حتي إذا كان ذلك الشئ بسيطا، ولا يكلفها سوي كلمة واحدة، تخيلوا أن أمي صارت تتعب حتي من كلمة واحدة. أصبح أبي كثير الصمت ويسرح في أغلب الأوقات وهو يتأمل سقف الصالة كأنه يشاهد المروحة للمرة الأولي. صار خروجنا من البيت قليلا، لم نذهب في هذا الصيف إلي بحيرة الحبانية، ولم نخرج في نزهات بعيدة}ص48.
ثم تبدأ آثار الحصار في التزايد، فتبدأ الهجرة، هروبا من المعاناة ، وشظف العيش، بل صعوبته، ولم تزل ساردتنا تحمل تلك الروح الملازمة لها، رغم وصولها للمرحلة الثانوية في دراستها {هذه أيامنا الأخيرة مع ست راجحة وست اثمار ومدرستنا الثانوية التي عشنا فيها أياما صعبة، تصادفت مع سنوات الحصار أمامنا صورة مستقبل مفتوح علي احتمالات كلها ليست سعيدة، من علي مقاعد الدراسة اختفت وجوه أليفة من طفولتنا، غادرتنا وجدان، غادرتنا تبارك، غادرتنا سمية، غادرتنا ريتا، وجوه كثيرة أخذها الغياب وسط الدموع.. من قطار المدرسة ترجلت أسماءٌ كثيرة في محطات كثيرة، تغيبت إحداهن ويتواصل الغياب ثم يأتي الجواب لقد هاجرت مع أهلها}. ولم تكن تلك الآثار هي ما ظهر علي المدرسة فقط، وإنما ضاقت الحياة علي الأسر، وأصبح الجميع يئن تحت وطأة ذلك الحصار، وانسداد أذن النظام وغروره، عن تلك المعاناة الإنسانية {خير دليل علي صحة تكهنات المشعوذ هو دكان أبي نبيل الذي اصبح فارغا، اختفت منه مواد كثيرة، فرغت الرفوف العالية وتجمع الغبار فوقها، ولولا الحصة التي يتسلمها من الحكومة ليوزعها بيننا كل راس الشهر لانتهي الأمر بإغلاق هذا الدكان منذ وقت طويل.. صارت الشوارع تَعِبة وفيها حفر كثيرة والسيارات التي تمشي فيها صارت قديمة وتهشم زجاجها، ظهر التعب علي وجوه الآباء، وراحت الأمهات يصنعن البدائل لكل شئ لم يعد موجودا.. ولأننا لم نعد نشتري ملابس جديدة، كان من الأفضل أن نستخدم القديمة ونعيد خياطتها ونلبسها كأنها جديدة }ص91.
وتغيم الرؤي في وجوه الجميع، ولا يُري في المستقبل إلا الظلام والفراغ والضياع، فتختلق الساردة، بخيالها الذي لم يفارقها، قصة ذلك المشعوذ، الذي جاء بعد العديدات من ضاربات الودع، وقارئات المستقبل، الذي لم يكن في احتياج لقراءة، إلا أن المرأة، برمزيتها الأسرية، لا تتخلي عن فضولها في رؤية (الحاضر) وما سيؤدي إليه.
{غالبية نساء شارعنا مولعات بقراءة الطالع وجلب الحظ، وعلي الرغم من أن معظمهن من المتعلمات ويحملن شهادات في الطب والكيمياء والقانون والتاريخ، فإن الفضول في معرفة أحداث المستقبل وقراءة الغيب، ليست سهلة مقاومته من قبل النساء في محلتنا}ص71.
ورغم أن "برياد" الكلب هاجم كل من دخل الشارع مدعيا قراءة الغيب، إلا أنه استسلم لذلك الرجل الذي اخبرته "أم مناف" لتعرف حقيقته، ومدي قدرته علي قراءة الغيب، فأخبرها بتفاصيل من حياتها الزوجية، فآمنت به كل النساء، وتجمعن في حديقة "أم نور" حول الرجل يتسابقن في معرفة المستقبل، وكانت أولهم "شروق" – ولنلحظ هنا دلالة الإسم، وعلاقته بالمستقبل – فضغط علي كفها ثم خاطب الجميع {ليس لأي منكن مستقبل في هذا المكان... ثم اصدر حشرجة من صدره وواصل: عاجلا أم آجلا، ستغرق بكن هذه السفينة} ص73. ليتساءل الجميع أي سفينة؟ . ليدخل الرجل في شرح طويل ينتهي بنصيحة، لابد أنها ترسخت في أذهانهن، وظلت تطاردهن مع مرور الزمن والأحداث {منذ هذه اللحظة أنصحكم، منذ هذه اللحظة بالذات، أن تفكروا في قدركم الشخصي فقط، هل تفهمون؟ فكروا في قدركم الشخصي فقط، من استطاع منكم أن يترجل من السفينة هذه الساعة فليترجل فورا.. المحيط الذي تمضون فوقه يبدو لكم هادئا، .. والله ليس هادئا أبدا، إن الإعصار يلوح في الأفق والعواصف قادمة لا محالة.. اقفزوا إلي قوارب النجاة التي تنتظركم واذهبوا بعيدا من هذا المكان}ص75.
ويتعدد ظهور (المشعوذ)، بصور عدة، وكأنه النذير المُنبئ عن الخراب القادم، الذي يستشعره الجميع، وقد غابت شمسهم، بعد تلك الليلة التي تجمعت فيها السيدات، ففي مرة ظهر لشروق كسائق حافلة، واختفي. وفي مرة ظهر بصورة مخالفة، بدون لحية ويرتدي نظارة سوداء ويحمل عصا طويلة وتحت إبطه كتاب مهترئ الغلاف. واختار بيت أم مصطفي التي يعرف أنها ستهاجر مع عائلتها. وليخبرها أنها ستهاجر مع عائلتها سنوات طويلة بالأردن. وقال لأم نادية ستهاجرين إلي سوريا، بينما ابنها سيهاجر إلي إستراليا. وتوجه إلي أم الساردة وأخبرها {إن ابنتك ستحمل معها المحلة أينما ذهبت وتحميها من النسيان}ص109. ثم يوجه حديثه للجميع:
{علي قوارب النجاة، ستمضون ما تبقي من حياتكم تأرجحكم الأمواج العاتية في عرض المحيطات، لا شواطئ قريبة تلجؤون إليها، ولا مرافئ صديقة تتوهج مناراتها في لياليكم. حتي البلاد البعيدة التي ستطؤها أقدامكم، ستعاملكم سلعا روحية مركونة في مستودع النسيان، سيطول عليكم ليل البكاء ..}ص111.
لنعود إلي تلك الإشارة التي جاءت مع البداية، والمحددة للزمن {تعرفت إلي "نادية" في كانون الثاني عام 1991 حين كانت سماء بغداد تحترق بالطائرات والصواريخ}ص15. والتي تحدد بداية لرحلة من الغربة عاشها، ويعيشها العراقي، موضحة في استكمال العراف {الغربة ليست أمرا هينا، لكن السماء كتبتها عليكم، ولا مفر من هذا القدر، ستعيشون غرباء سواء أبقيتم هنا في هذه المحلة أن هاجرتم إلي المدن البعيدة، لقد بدأت رحلتكم مع العذاب فاستعدوا لها}. يقول الرجل قولته وينصرف . لتثرثر النساء وتقول إحداهنـ تلك المقولة التي يرددها الحكام العرب، ويصبونها صبا في الآذان، عندما يواجهن من يري في الأمور غير ما يروا {هذا الرجل جاسوس، لديه أجندة خارجية ويريد أن يخيفنا، إن هدفهم إفراغ البلد من الطبقة الوسطي}ص79.
ويسود المحلة حزن وغم: {المشعوذ في الحقيقة ليس مسؤلا عن هذه الكآبة، إنه فقط قال لنا إنكم غير سعداء، هو مثل الطبيب الذي يقول لك إنك مريض ويجب أن تأخذ العلاج المر فورا}ص89.
وتتوالي عمليات الهجرة، وتبقي البيوت ، تُصفر من الخواء والفراغ، فيتولي "عمو شوكت" أمر تلك البيوت. حيث يتولي العم "شوكت" بعد أن هجرته زوجته، ومن كانت تنهره عندما يعض الصغيرات عضات خفيفة لعمل الساعة علي معصمهن. تولي أمر مراعاة بيوت من هاجروا وتركوا بيوتهم وحدائقهم التي يعبث فيها الزمن والنسيان. وفي أحد البيوت عثر علي "مرياد" ذلك الكلب الصغير الذي اصبح مثل ظله. وفي بيت آخر عثر علي صورة عائلية، حركت الدمع في مآقية {تذكر أنه الآن بلا عائلة، ولا بنات صغيرات يعض علي معاصمهن، كان أحوج ما يكون في هذه اللحظة إلي أن تخرج له من هذه الصورة فتاة صغيرة ونحيفة تشبه "باجي نادرة" وتقول له: لا تبك يا بابا}ص86.
ويستمر الحصار في فرض ضغوطه علي العراقين، ففر الكثيرون هربا، وتشتت الأسر، وتفرقت علي مساحة الأرض، في الغربة، بينما من أصر علي البقاء، أو لم يجد للهروب وسيلة، فلم يكن أمامه إلا السرقة، أو الموت، حيث يسود الشعور بالتعاسة {وفي الحياة التعسة لا يحب الناس بعضهم، حتي إنهم لا يحبون أنفسهم}ص140.وفي الحصار {شاهدت بنفسي امرأة تنتحر وهي ترمي نفسها في نهر دجلة من علي الجسر .. ويقول الناس ، إنها وأطفالها لم يذوقوا الطعام منذ ثلاثة أيام، وإن زوجها مسجون لأنه صار لصا.. بقيت هذه الحادثة في ذاكرتي كأنها فكرة الحصار كاملة}ص140.
ويمر الزمن، ويستمر الحصار الذي بدأ بقرار الأمم المتحدة – بضغوط من أمريكا- في 6 أغسطس 1990، حتي بدأت (عاصفة الصحراء) أو حرب تحرير الكويت في 17 يناير 1991، والذي بدأت علاماته تظهر، ونذيره يعلو في السماء. حيث حصلت كل من نادية والساردة علي الثانوية العامة، وإلتحقت الأولي بجامعة بغداد، والثانية بالجامعة التكنولوجية، وبدأ التباعد بينهما، كما تم قبول أحمد في قسم الهندسة المعمارية في جامعة الموصل، وفاروق في كلية التربية الرياضية بجامعة بغداد، وكانت {هذه السنة هي سنة ألأناشيد الحماسية الجديدة،أو (عام الحسم) كما يسمونه، بدأت أجواء الحرب تفرض نفسها من جديد علي حياتنا، هذه الحرب ليست كالحرب السابقة[4]، لأنها حرب تحمل الموت والخراب وبعض الأمل أيضا، بنهاية الحصار الذي هو أكثر قسوة من الحرب نفسها، هو الموت البطئ، الذي نعيشه دقيقة بدقيقة}ص139.
ويبدأ كابوس الحرب، وتعلو علاماته في السماء، منذرة بالموت، بعد الخراب والضياع، حتي وإن كان بالموت الخلاص {الموت هو الغياب الطويل الذي لا لقاء بعده، قد يذهب الميت إلي الجنة لكن الذي يهاجر من بلده فإن الجحيم تذهب وراءه}ص49. وبينما يستعد العالم، برئاسة أكبر قوة تدميرية في العالم ، بينما الصلف والغطرسة تواجهه بالأناشيد {في التليفزيون طائرات عدوة علي متن بوارج حربية عملاقة وجنود من كل دول العالم في طريقهم إلينا ونحن نستقبلهم بالأناشيد الحماسية وبالياس والانتحار من علي الجسر إلي المياه الباردة}ص142. كإشارة لتلك التي انتحرت في المياه الباردة، بعد أن ظلت لثلاث ليالٍ دون طعام، هي وأطفالها. ولتستمر الكاتبة في تأثير الهم العام، علي مفردات وحياة الهم الخاص.
غير أن خيطا رفيعا تُسربه الكاتبة بين كابوسية ذلك الإحساس، وكأنهاتسعي للخروج من كابوس الحصار، ومرارة القادم من دمار، مستمدة إياه من روح المستقبل، حيث تمثله الساردة، ورفيقاتها، أو جيلها، بأعمارهم الخضراء. فنعيش قصة حب "نادية" مع "أحمد" وقصة الساردة و "فاروق" وقصة "ميادة" والطبيب، والتي كانت وراء مقتلها علي يد أخيها الهارب إلي الأردن، وقصة "شروق" و"خليل" والتي ظلت معلقة دون نهاية واضحة. حتي وإن لم تكتمل كل تلك القصص، حيث إنتهت علاقة "نادية" وأحمد" بالفراق بعد أن تزوج "أحمد في الغربة، وانتهت قصة ميادة بالقتل، وانتهت قصة "شروق" بالغموض المنفتح، كذلك قصة الساردة، بعد أن هاجرت أسرتها إلي الأردن، وظل فاروق أملا تراه في حلم اليقظة. إلا أن تلك القصص ظلت محفورة في النفوس الطفلة، بتجاربها البريئة، حين كانت المدارس تُخرج التلاميذ للتظاهر ضد الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ومجلس الأمن وأمريكا وإسرائل. إلا أن {أنا ونادية، نستغل هذه المناسبات لنلتقي فاروق وأحمد اللذين تخرج مدرستهما أيضا ونلتقيهما في حديقة الزوراء أو في حدائق ساعة بغداد. الحب دائما يؤسس عالما آخر بعيدا عن الورق، الولادة والموت والحب، هذه الأشياء الثلاثة لاتهتم للواقع}ص92. أو بمعني آخر (لا تهتم بالحصار، ولا تعبأ بالحرب).
وفي إحدي الخروجات، وجد الأحباب باب حديقة الزوراء مغلقا، فهتفت نادية { تبا للحصار الجائر. وهي تركض بلهفة باتجاه أحمد، نادية تستخدم الحصار الدولي لكسر الحصار العائلي، الحصارات أنواع، يكسر بعضها بعضا}ص97.
وتصبح ساعة بغداد (حدائقها) هي ملتقي العاشقين الساردة وفاروق. تلك الساعة الرمزية التي تحدد سير الزمن، الذي هو وعاء الأحداث، فتأوي العاشقين الصغيرين في مرحلة الطفولة، وتبقي رمزا للدمار الذي ألحقته أمريكا بالعراق {توقفت الساعة عند الخامسة وست دقائق وأربعين ثانية فجرا، بعد أن قصفها الأمريكان ودمروا المبني الذي تقف شاخصة فوقه، نهبت محتويات متاحفها الداخلية كلها بعد شهر من تدميرها، سالت الدقائق من عقاربها علي الأرض وتعطل الزمن تماما}.
وتبقي رمزا لاختلال الوقت وتداخل الأزمنة في عراق ما بعد الدمار{بعد سنوات تقرر الحكومة إصلاحها، لتقف الساعة من جديد بوجوهها الأربعة، وصارت كل واحدة من هذه الساعات الأربع في واجهاتها، تشير إلي وقت مختلف} ص265.
وتلعب الكاتبة دور الجبرتي في تسجيل مآساة العراق في روايتها "ساعة بغداد" في حلها وترحالها، حيث ذهبت – الكاتبة – بعد العراق إلي سوريا، ثم لتقيم بالأمارات المتحدة، وتذهب ساردتها إلي الأردن، بعد أن كانت – الساردة- قد بدأت رحلة التدوين منذ فترة طويلة بالعراق، ومحققة لنبوءة المشعوذ يوما حين اتجه إلي أمها قائلا {إن ابنتك ستحمل معها المحلة أينما ذهبت وتحميها من النسيان}ص109. فقد كانت تعمل علي تسجيل التاريخ، وكأنها تحفظه من النسيان، {خرجنا صباح أحد الأيام وكتبنا علي البيوت، أسماء ساكنيها القدماء، وتاريخ مغادرتهم الدار، والدول التي يعيشون فيها الآن، ثم نقلنا ذلك في السجل. علي جدار بيت "عمو شوكت" مثلا كتبنا: هذا بيت عمو شوكت، غادرت زوجته باجي نادرة إلي كردستان بعد حرب الخليج الثانية، وهو يعيش حاليا في بيت أم ريتا، منذ أن سرق لصوص مجهولون أثاث هذا البيت.. وهذه أول مرة يجري فيها تدوين تاريخنا الشخصي كجيران بعد أن أصبحت ذاكرتنا مهددة بالزوال}ص203.
ومن هنا كان إختيار "الساعة" أو الزمن، من جانب الكاتبة رمزا للأجيال، أو رمزا لمرور الزمن الذي من داخله تتقلب الأمور وتتبدل ، ساهم فيها عوامل تركيب شخصية الساردة، برؤيتها الخاصة، والمُستَخرِجة للهم العام، من خلال الهم الخاص، ورفضها نسيان الماضي {أنا "المستقبل" أعيش الآن ولادة متواصلة من رحم الماضي}ص239. خاصة عندما استنكرت محاولات التجميل التي ترفضها:{(الميك آب) ممارسة عدوانية ضد ذكرياتنا، مجرد وسيلة باهتة للمصالحة مع الحاضر أو وسيلة غبية لتشويه الماضي، أو بالأحري هي سلاح ناعم لتأجيل غدر المستقبل}ص160.
{أنا اخاف من غياب الماضي، أخاف المجهول، المستقبل مفتوح علي كل الاحتمالات، وكل الاحتمالات في الأفق هذه الأيام تخيفني، ليست هناك معجزات يحققها المستقبل، إنه شيخ مريض يستند إلي عكاز الماضي ويتقدم نحونا}ص162. ولتصبح "ساعة بغداد" تاريخ جيل كامل عاني ويلات الحرب والحصار ثم الحرب من جديد، فكانت جناية الماضي علي المستقبل.
التقنية الروائية
اعتمدت الرواية، لا علي قصة محددة، نستطيع تبين معالمها، وإنما جاءت عرضا، جوهريا، لتلك الفترة الناتجة عن قرار الأمم المتحدة، بقيادة، وإيعاز من أمريكا، رقم 661 في السادس من أغسطس 1990، والفارض حصارا حديديا علي العراق، بعد غزوه للكويت قبلها بأربعة أيام فقط، ورفض صدام الاستجابة لعديد النداءات التي حذرته من تلك الغزوة، متسلحا بالغطرسة التي عُرفت عنه، ومتجاهلا تلك المعاناة التي سيعانيها شعبه. والتي عبرت عنها الكاتبة برفض ذكر اسم الراوية، رغم تحديد اسماء كل شخوصها، وكأنها تضع من الساردة إطارا عاما، لكل العراق، بينما تعرض تلك المآسي الفردية، والشخصية، التي تشكل في مجموعها، الصورة العامة، وكأنها تستخرج الخاص من العام، بصورة إبداعية محسوبة، ومُقدرة.
وبذلك يتركز زمن السرد بضعة شهور من بدايات العام 1991 والتي شملت جزءا من ذلك الحصار(6 أغسطس 1990)، وبدايات ما عُرف بعاصفة الصحراء (17 يناير – 28 فبراير 1991)، والتي تعرضت فيها العراق لهجوم عدد من الدول، بزعامة أمريكية، كانت هي الأساس للتواجد الأمريكي في العراق، والذي استمر إلي الآن. وهو الأمر الذي يوحي بتكثيف الفعل في الرواية، وما يزيد الضغط بالإحساس، بمدي جناية الحكام علي الشعوب، فيثير الضغط مرارة تعتمل في النفوس، ذلك الضغط الفاعل، وهو ما يعبر عن الوظيفة الأساسية للإبداع.
وإذا كان الكاتب في روايته الأولي، عموما، يتعجل الوصول إلي تلك الرؤية التي يسعي لها، وهو ما قد يُفقده الكثير من التأني في رسم الشخصيات، أو منح الأحداث فرصتها كي تكشف عن مضمونها، إلا ان شهد الراوي، تمهلت كثيرا في الكثير من تفصيلات فترة الطفولة، الأمر الذي قد يؤدي إلي تصور قد لا يكون إيجابيا تجاه العمل. إلا أن الصبر والانتظار، والمتابعة، سيكشف أن ذلك لم يكن عبثا من الكاتبة، التي تمهلت، لتصنع قاعدة راسخة، لتلك الفترة، لتبني عليها بناءها الراسخ، وشخصياتها المنحوتة من طين الوجع، وانهيار ذلك البنيان. فالنظرة إلي إنهيار بنيان خراسني، لا بد أن تختلف عنها، إذا ما كان ذلك البنيان، طيني.
فنظرة إلي "عمو شوكت" الذي كان أحد صُناع تلك الطفولة، ومن حفر أثره علي جلودها، سنعلم مدي تأثير الزمن عليه، من جانب، والذي يؤكد توفيق الكاتبة في اختياره كعنوان للرواية عامة. وللحصار، من جانب آخر، وتضافره مع الزمن، في عملية إنهيار البنيان.
كان العم "شوكت" يعمل مديرا في البنك المركزي، وكانت تُعرض عليه عشرات الملفات التي يضع توقيعه عليها، أما وقد أحيل إلي المعاش، فاصبح بلا فائدة، كما يتصور، ويستعيد ذكريات الأيام الأخيرة له في العمل ، حيث { في السنوات الأخيرة، شحت الأوراق الرسمية التي عليه توقيعها وتراكمت العملات النقدية أكداسا عالية تثير اشمئزازه، تغيرت العملة وقيمتها، وتبدلت أوراقها ورائحتها، اختفت العملة المعدنية، اختفي الربع دينار، اختفي النصف دينار، اختفي الدينار نفسه، الدينار العراقي اختفي وصار ذكري من زمن آخر}ص124. فقد اجتمع الزمن (الخروج للمعاش)، والحصار (ما آل إليه حال الدينار) في رسم الصورة البائسة، والتحول الجذري في أحد أهم شخوص الرواية.
فقد راح "عم شوكت" بعد خروجه للمعاش، وخروج سكان المحلة من بيوتهم، راح يكتب علي ورق الكرتون علي بيوت الجيران (البيت للإيجار) (البيت للبيع).
ويرتبط الزمن، الرمزي، كذلك بالتصرفات الشخصية، التي أبدعت الروائية في نسجها. حين كان "عمو شوكت" يصنع الساعات علي سواعد البنات الصغيرات و{كان يعرف أننا نتألم قليلا لحظة انطباق الأسنان علي لحونا الطرية، لكنه ألم يتسبب بلذة للطرفين، لذة نحسها من دون أن نتمكن من الاحتفاظ بها} ويمر الزمن، وتنمحي تلك الساعات علي الجلود الرقيقة {ظلت هذه الساعات التي محاها الزمن تدور في أعماقنا}ص197. فلم تكن تلك الآثار هي التي انمحت، وإنما بهتَ "عمو شوكت" الذي كان حينها مثال الآناقة والنشاط والحيوية، والمرح الذي به يصنع تلك الساعات. ليصنع الزمن أفعاله عليه. وهجر سكان (المحلة) بيوتهم، فبهت الزمن، وتغيرت حال "عمو شوكت" حتي أن "مروة" عندما عادت في زيارة لها، وراحت لتلقي التحية علي "عمو شوكت"{اقتربت منه تلاطفه بمودة واحترام، حاولت أن تذكره باسمها، بعضات يده علي معصمها، لكنه كان ساهيا عنها، وضعت في جيبه مبلغا من المال، سقطت من عينها دمعة، أخرجت منديلها وجففتها}ص197. ثم تأتي الحرب، لتقف في صف الزمن، وتساعد في محو آثار الطفولة {جاء المارينز علي مستقبلنا وحطموا نوافذه، لقد خربوا كل شئ، خربوا حياتنا نحن الأطفال الذين كبرنا في هذا المكان ومسحت دباباتهم آثار طفولتنا من الشوارع}ص197.
وكان "عمو شوكت" قد صادق ذلك الكلب الصغير، الذي يعرف الكثير مما سيحدث، وفقد "عمو شوكت" القدرة علي الكلام، فاستعاض عنها بالعض علي شفتيه. ذهب "عمو شوكت" إلي بيت أم أحمد، وعض علي شفتيه عضات كثيرة، وعلي يد أحمد، الذي ترجم العضات لأمه. { انصرف "عمو شوكت" ووقف أحمد يشرح لأمه معناها، دخلت البيت ولملمت أغراضها، خرجت تدير المفتاح بسرعة في الباب وغادرت مع ابنها من دون أن ينتبه إليهما أحد}. بعدها{ جاء المارينز الأمريكان عند حلول المساء، وداهموا البيوت بعد أن طوقوا المنطقة كلها}198. فهل وجدوا في البيت غير رسائل الحب السرية؟ ، وفق ما توقعت الساردة، بان الهدف لم يكن غير ذلك، خاصة بعد زيارة "مروة، حيث تأتي "مروة" التي كانت تحب "أحمد" في الصغر، بينما كان هو يحب "نادية"، وتخبرهم –مروة- بأن المارينز سيبحثون في البيوت المهجورة عن المسلحين، ثم تٌسر بأنهم يبحثون عن "أحمد" لتقول الساردة { لقد كان قلبك الصغير من يبحث عن أحمد يا مروة، حين كنا نعيش مراهقتنا... واليوم تأتين بأكبر قوة عسكرية في التاريخ لاصطياده من جديد... هذا هو الحب لا يأتي بالقوة، حتي لو كانت أكبر قوة عسكرية في التاريخ. الحب يأتي من مكان آخر لا يمكن لكل تكنولوجيا المارينز أن تعثر عليه}ص196.
ويمتزج الهم الشخصي، بالهم العام، ويلتحم به، إلتحاما، عندما تهدد الحرب التاريخ الشخصي بالانسحاق، في تعبير الساردة النابض بالوجع، والموجع بالألم، وبما يوحي بعجز الإنسان الفرد عندما يري كل ممتلكاته تلتهما النار، عندما تستعرض حياة المحلة، قبل أن يمر الطيار الأمريكي ليمسح المنطقة ويصورها، تمهيدا لتدميرها، وكأنه يوشك علي حرق الهواء الذي نتنفسه، حين تصل إلي { مالا يعرفه الطيار الأمريكي أن هذا المكان هو أول كوكب هبطتُ عليه أنا من اللاشئ وأسست حضارتي الشخصية، في هذا المكان نمت أكثر من 7300 ليلة، وصحوت أكثر من 7300 مرة، وسمعت اسمي يتردد فيه أكثر من 7300 مليون مرة. ايها الطيار، من لطفك لا تحلق فوق الماضي، إنك تصور خطواتي في الطريق وتحصي أنفاسي في الهواء، وتعرقل ظلي عن ممارسة هوايته في ملاحقتي}ص211.
إخترعت الساردة اسماء جديدة لأساتذتها بالجامعة ، محورة عن سكان قريتها المتخيلة من رواية ماركيز "مائة عام من العزلة"، التي كان موفقا تضفيرها في الرواية. حيث كان التشابه كبيرا بين مدينتها الفاضلة ، وتلك التي حلم بها "خوسيه أركاديو ب"ماكوندو" مركيز كمدينة فاضلة، تلك التي تحلم بها الكاتبة في بغداد. إلي جانب دخول"اورليانو بويندا" العديد من الحروب ليجد في النهاية عدم جدواها، فينزع للسلام، الذي رأته الكاتبة في الحب، في مواجهة دخول صدام الدموي للحروب تلو الحروب، فلم يأت من ورائها إلا الدمار والخراب ، والشتات. فساعدت تلك الإشارة في تعميق الرؤية، حد التماهي فيها.. وكأنها تزرع ماركيز برؤيته في أرض العراق.
ومن الأمور التي تُحسب للكاتب، أي كاتب، أن تتطور الشخصية في العمل، وفق ظروفها المكانية، والزمنية. وإذا كان الزمن في "ساعة" بغداد، يلعب دورا رئيسا في سير الأحداث، فهو ما انعكس علي الشخوص كذلك. بل علي لغة السرد أيضا.
فالساردة التي كانت الطفولة تنضح من رؤيتها للأشياء، وتُكثر من استخدام اللهجة المحلية، وتشعر بين الحين والآخر، بأن الغير لا يصدقها، هذه الساردة تصل إلي مرحلة الجامعة، مرحلة الحساب الدقيق للأفعال، مرحلة الرؤية المنطقية للأشياء. وهو ما يؤدي بالضرورة إلي إرتفاع الفكر، وتغير رؤية الأشياء. فتبحث –الكاتبة - عن المزيج الذي تقدم به الرؤية العلمية، او المنطقية، أو تبحث فلسفة الأمور، وكيف تقدمها عبر عمل إبداعي، يرفض المنطق المباشر، ويرفض العقلانية المباشرة، فتحلم، وهي التي لم تكن تحلم، وتعيش في أحلام صديقتها الطفلة "نادية"، تحلم أنه قد جاءت مشعوذة، لا مشعوذ، كي تسألها – في البداية- عن الحب، ولماذا أحبت فاروق بالذات، ولماذا صادقت "نادية دون غيرها؟ لتنفذ إلي السؤال الأكثر عمومية {ماذا لو أن الحرب لم تقع؟ وماذا لو أن الحصار لم ينفذ؟ كيف ستكون حياتنا؟ وكيف ستكون بغداد في هذه الحال؟}ص152. تلك الأسئلة التي تعلو علي مستوي الطفلة، التي كانتها، لتجيبها المشعوذة المفترضة، بما يناسب عقلية وصلت لمرحلة من الثقافة تتيح لها فهم فلسفة الأمور {أنتم ضحية الجغرافية أولا، لأن بلدكم ليس متوسطيا ويتنفس هواء البحر المتوسط، وليس صحراويا فيعيش رفاهية النفط، انتم في منتصف المسافة، يغمركم ضوء الشمس طوال السنة، لكن الضوء يشبه العماء المطلق، لأنه يمنع تراكم الأحلام .......... وثانيا فيما يتعلق بالتاريخ، فأنتم أبناء تاريخ طويل، غير متصل، بلادكم تعيش جزرا تاريخية مفصولة بعضها عن بعض... فقط تاريخ الألم هو النهر المتصل، فانتم والحزن صداقة أبدية، أنتم تتفننون في صناعة الأحزان وتجهلون ألف باء الفرح.
- وما الحل؟
- الجغرافية قدر لا مهرب منه، لكن التاريخ صناعة، تكيفوا مع الجغرافية وغيروا التاريخ.}ص153.
وإذا كان التوفيق قد حالف الكاتبة في الكثير من تلك الرؤي، إلا انه، كعمل أول لها، لا يخلو من بعض الملاحظات، فكثيرا ما تظهر بعض أخطاء البدايات في العمل الأول، ومنها صعوبة الحذف ، في مرحلة المراجعة، مع رغبة في كتابة كل شئ، يأتي علي فكر الكاتب، ورغبة في تضخيم حجم العمل، وكأنه محاولة لإظهار مقدرة علي الكتابة، في الوقت الذي أعلن فيه كاتب له قيمته، وهو أول من حصل علي البوكر في نسختها العربية، وهو بهاء طاهر، كانت عدد مرات مراجعته لعمله تصل لستة عشر مرة، وفي كل مرة، كان يتم فيها الحذف، وبعض التعديل، فكان هو بهاء طاهر. ونحن هنا أمام بعض من الإضافات التي لم تكن تصب في مسيرة الرواية، وما تعتبر معه في غير ضرورة مثل قصة هيفاء مع زوجها أسامة، التي تحولت لعشيقة، وهجرت بيت الزوجية، دون أن يكون حتي سبب تحولها ضغوط الحصار، وإنما تغير طبيعة الزوج، وما أدي إليه من كثرة الخلافات، الأمر الذي معه يصبح الخلاف عاديا، ويمكن أن يحدث في أي بيت، وليس في تلك المحلة تحديدا.
كذلك قصة "شروق" التي حذرها المشعوذ، من الزواج من ذلك الذي تحبه ويحبها، وعندما رأي إصرارها علي إتمام الزواج، حتي لو دام ليلة واحدة، فسوف تعيش أرملة، ويتيتم ابنها الذي لن يري أباه. وتمت الزيجة بالفعل. غير أن قصتها توقفت عند هذا. فبدت القصة مبتورة، خاصة أنها لم تأت سيرتها من بين الشخصيات الأخري في الجزء الثاني من الرواية "كتاب المستقبل". وعلي الرغم من أن قصصا أخري بالرواية لم تكتمل، مثل قصة "نادية وأحمد، أو ميادة والطبيب
أو الساردة وفاروق. إلا ان هذه القصص كان لها مدلولها، الذي يقف بها دون الاكتمال، كتعبير عن تفرق الأحبة، وتشتت الصحاب. إلا أن قصة شروق وحكايتها مع المشعوذ، ورغم تلك الرمزية التي قد فرضها الإسم. خلقت نوعا من الفضول لدي القارئ، خاصة أن نبوء المشعوذ (الرمزية أيضا) علي المستوي الجمعي، قد تحققت بما حدث للعراق، وتعرضت سفينته بالفعل للغرق. أي ان الجانب الجمعي في الحكاية، قد تحقق فيه الإشباع عند القارئ، بينما وقف الجانب الشخصي شاخصا بعلامة استفهام، دون إجابة.
وأيضا قصة ذلك الرجل المسن الذي وضع نفسه أمام الباص، يريد الموت والتخلص من الحياة، أن يرحمه الباص من الخجل. وما تم الحديث فيه عن الخجل، دون أن يساعد ذلك في إضافة إلي الرؤية الرئيسية، وما لو تم حذفها –أيضا- لما تغير في الأمر شئ.
فضلا عن وجود الكلب "برياد" والذي احتل مساحة ليست بالقليلة من صفحات، وأحداث الرواية، إلا أن وجوده لم يكن فاعلا. اللهم أن الجميع قد غادروا، وتركوه وحيدا، وهو الإحساس الذي كان يغني عنه هجرة الجميع وتبقي الساردة و"نادية" ليكتبا سجلا للمكان والناس، فأيضا إذا ما خلت الرواية من ذكر "مرياد"، لما تأثرت الرواية.خاصة ما جاء عنه في "الكتاب الثاني" والذي جاء بعيدا عن المنطق المقبول، حد الساذجة، حيث تم أنسنة مشاعره، كأن يكون الحديث عن الكلب {استطاع أن يخرج ببساطة من حلم لكنه تورط في متاهة، تورط في بيت واسع جميع أبوابه ونوافذه مغلقة، هو بيت أم علي بعد هجرتهم..... تحدث مع نفسه طويلا، تساءل عن مصيره، عن ماضيه ومستقبله، عن حياته بعد الموت} ثم يصيبه الأولاد بالحصي، وتحدث به الجراح الدامية، ف{ قرر أخيرا أن يموت..... نهض متثاقلا، سحل أقدامه المنهكة نحو الشارع العام، وقف قليلا يراقب السيارات المسرعة، ولما اقتربت منه شاحنة كبيرة دحرج نفسه تحت إطاراتها، وأنهي حياته}ص259. خاصة وأن هذا الجزء، جاء بالكتاب الثاني" من الرواية ، والمعنون "المستقبل" والذي أرادت الكاتبة فيه أن تتابع حياة شخوص المحلة، بعد رحيلهم وكيف تغيرت أحوالهم، واصبح هناك إنفصام بينهم وبين العراق، وهو ما كان يكفي فيه الإشارة إلي محاولة "بيداء" كتابة رواية عن موطنها الكندي الجديد، والذي تذكر فيها{لا أعرف شكل هذه الأرض، التي يكسوها الجليد، ولا لون العشب الذي كان يغطيها، لكنني أعرف أنني أولد من جديد علي أرض هذه القارة البيضاء البعيدة وراء المحيط، لا أتذكر كيف وصلت إليها، ولا البلد الذي قدمت منه إليها.... هذه الممحاة العظيمة التي تغطي وجه الحياة، وتمسح كل أثر في الروح للذكريات القديمة}ص253. فقد عبرت بالفعل هذه الكلمات عن ذلك الانفصال بين ما كان، وما هو كائن، والذي ينعكس علي الإنسان العراقي بعد تلك السنوات الجحاف. غير أن الكثير مما جاء في هذا الفصل، لم يُضف جديدا إلي مسيرة الرواية، بل العكس، فقد ساهم في تشتيت وضياع الإحساس المركز بالضياع والتشتت الذي نجحت فيه الكاتبة في الكتاب الأول "طفولة الأشياء الواضحة". وقد يكون مفيدا توضيح أحد أوجه التشتيت في قصة "حسام شقيق ميادة" الذي قتل أخته، وعاد إلي العراق مرة أخري في شكل جديد، بعد هروبه إلي الأردن، وبعد أن كان قد غير اسمه إلي (أبو سيف) في إشارة إلي دخوله للجماعات المتأسلمة، خاصة بذلك المظهر الذي دخل به المحلة، من سيارات مصفحة، وحراسة وغيرها، وما كان يقودنا إلي دخول ذلك التيار المدمر للبلاد العربية عموما. وتظهر له أخته "ميادة" التي قتلها، ثم يموت هو واقفا، وتم دفنه في أول حفرة صادفت حراسه، صنعها صاروخ امريكي. ثم {بعد أن اطمأنت ميادة إلي أن الزمن أنصفها، تمددت في مخدعها الأبدي، وعادت تحلم بالزواج من الدكتور توفيق، الذي ظل عازبا حتي الآن.. تحلم حلمها القديم..}ص248. فإذا كانت الكاتبة قد وفقت كثيرا في استخدام الحلم، وسيطرت كثيرا علي خيالها الخصب المنطلق، في الجزء الأول، إلا ان حلم "ميادة" بعد موتها بما كانت تحلم به في حياتها، أتصور انه جانبها التوفيق، ففي الحياة الأخري، وكما هو تصور الإنسان – العربي تحديدا- يكون له فيها حياة أخري، لها قوانينها ونظمها، والتصور انه ليس في حاجة إلي حلم الدنيا.
وهو الأمر الذي أري معه أن هذا الجزء "كتاب المستقبل" أضر بالرواية وتركيزها، وشتت الإحساس بضياع العراق، فأفقدها ذلك الضغط الذي تحدثنا عنه من قبل، وقد لا نستثني منه إلا محاولة "بيداء" في كتابة رواية، وما جاء فيه عن "ساعة بغداد، حيث يمكن القول بأنهما أضافا للرواية ، أو ساعدا في تعميق الرؤية. فإذا كان للخيال أن ينطلق، فإنه يظل محكوما بمنطق عقل القارئ، كي يصل للإقناع، خاصة إذا كان العمل يدور علي أرض الواقع، الذي يصبح هو الحاكم في كل ما يدور حوله. وما نستطيع معه القول، بان الجزء الأول، أو الكتاب الأول جاء من منطقة اللاوعي، فجاء عفويا وصادقا، وكان تأثيره النفسي أقوي. بينما جاء الجزء الثاني، أو الكتاب الثاني، من منطقة العقل، فكان تأليفا، حتي أن لغته أصبحت أقل تأثيرا، حيث جاءت أقرب إلي التقريرية، فخصم من مخزون ما صنعه جزء الرواية الأول.
خاتمة
رغم ما قد يظهر من بعض السلبيات التي تُؤخذ علي العمل، إلا أنه يحتفظ لنفسه بالشموخ الذي يقف به في مصاف رواية المرأة العربية، التي أصبح اهتمامها بهموم الوطن، أهم من اهتمامها بهمومها الشخصية كامرأة. ويكفي القول بأنه "ساعة بغداد" قد ركزت في حيز صغير مآساة واحدة من دول العرب، جني عليها حكامها. فنظرت للوطن علي أنه، هو الأنفاس وهو المكان، وهو الذكريات والطفولة ومناوشاتها، هو الحلم، وهو الأمنية. وعندما ينقلع الإنسان من ماضيه، وينزرع في بيئة غير البية، يصبح هناك كنبت شيطاني، في غير مكانه، وربما في غير زمانه. وإنهيار ذلك الوطن، ذلك الحلم الأخضر، واقتلاعه من أرضه ومن زمانه، هو ما أوجزته شهد الراوي في:
{ انا ونادية ولدنا في حرب السنوات الثماني، تعارفنا في عاصفة الصحراء، كبرنا في سنوات الحصار وحرب الخليج الثانية، تناوب علي طفولتنا بالصواريخ والأسلحة المحرمة جورج بوش، وابنه جورج دبليو بوش، في حين أن بيل كلينتون والعجوز مادلين أولبرايت تكفلا بتجويعنا، وعندما كبرنا كان الجحيم يجلس في انتظارنا}ص232.
فكانت النتيجة :
{توقفت الساعة عند الخامسة وست دقائق وأربعين ثانية فجرا، بعد أن قصفها الأمريكان ودمروا المبني الذي تقف شاخصة فوقه، نهبت محتويات متاخفها الداخلية كلها بعد شهر من تدميرها، سالت الدقائق من عقاربها وتعطل الزمن تماما}ص256.
Em:shyehia48@gmail.com