أعظم ما يحققه فن الرواية هو أنه يعيد اكتشاف جوهر الإنسان ككائن معقد، ويعيد اكتشاف أمر آخر يقع في فئة البداهة المنسية، وهو أن ما بين الناس من مشتركات أكبر بكثير مما يفرقهم، بينهم ذكريات وذاكرة، حياة شاقة وموت يحوم، وعواطف لا يمكن أن نهرب منها، ولعبة تصنيفات مزعجة، نتمنى أن نحطمها
وهذه رواية تستحق الاحتفاء بها وبكاتبها، أولا لأنها جيدة فنيا، ومحكمة البناء والشخصيات، وثانيا لأنها تنتصر للمهمشين بصورة غير تقليدية، حيث توسع الرؤية لتشمل عالمين مختلفين تماما، أحدهما فى الشمال والآخر في الجنوب، ثم ترسم نماذجها الإنسانية باقتدار تمتزج فيه الجدية بالسخرية، والعبثية بالتأمل.
على خط جرينتش» للروائي الموهوب حقا شادي لويس، والصادرة عن دار العين، تبدأ بمغامرة غريبة، وتنتهى بنهاية أغرب، السارد المصري المسيحي الذى وافق، تورطا أو خجلا أو حتى تسليما، على مهمة إقامة جنازة لشاب سوري مسلم مات فى لندن اسمه غياث (لاحظ تناقض الاسم مع حياة الشاب ومعاناته)، ومحاولة نقل الجثة إلى القاهرة حيث أسرة اللاجئ، هذا السارد نفسه يتضح تدريجيا كم هو وحيد ومهمش في بريطانيا، رغم الجنسية البريطانية التي حصل عليها، ورغم سنوات عشر قضاها بعد هجرته، ورغم وظيفة ومقعد ومكتب في الحكومة المحلية، ومهمته، ويا للعجب، متابعة ملفات الباحثين عن سكن اجتماعي فى ظل ظروف تقشف وتخفيض مرتبات.
جنازة الشاب السوري إذن هي القصة الإطارية التي ستقود السارد إلى اكتشاف وضعه، ووضع كل المهمشين وغير المتحققين في مصر وفى بريطانيا، وهم في الرواية شخصيات طيبة وحكيمة وخارقة أحيانا، بمن فيهم غياث نفسه الذى تبدو قصة هروبه من الموت في سوريا معجزة حقيقية؛ حيث وصل سباحة إلى الإسكندرية فى صحبة دولفين طيب
يستدعى شادي بذكاء عالم السارد الوظيفي بشخصياته العجيبة، ويستدعى بديعة جدته العجوز الأسطورية، وخالته التي تستوعب العالم رغم جهلها، وابن خالته الذى قتل في حفر الباطن، يستوعب حتى صديقا قديما مصريا فقده، وصديقه أيمن الذى بدأت من خلاله حكاية جنازة الشاب السوري، ورغم أن السخرية حاضرة، ورغم ظلال عبثية واضحة لا تخفى على القارئ، إلا أنك تحب كل هذه النماذج الإنسانية الذين قد لا تراهم أبدا فى مولد الحياة
هؤلاء أقرب إلى معنى الإنسانية، وهم يحاولون التوازن بطريقتهم مع خلل الحياة، فالجدة تصنع حكايات موازية لحكايات الواقع، والخالة تفهم العالم، مع أنها لا تفهم مصير ابنها، والمهاجر النيوزيلندى الذى فشل فى أن يكون عازفا للكونترباص فى المهجر، أحب وظيفته في سد فجوات الجثث، وأحب هوايته مع تاريخ الفراعنة، والمهاجر النيجيري الذى لم يحقق مالا ولا منصبا، يحلم بمنزل له حمام سباحة، والمرأة السوداء تمارس تعصبا مضادا، وتدهن وجهها بالطباشير، واللاجئ العراقي صار مدمنا لجنازات عرب لا يعرفهم.
هذه اللوحة الإنسانية المذهلة لا تتأتى إلا لكاتب امتلك شخصياته وفكرته، وهذا التحول من السخرية إلى الجدية يليق حقا برواية فكرتها الأساسية عن هؤلاء العالقين على سلم الحياة، أو أولئك البين بين، أو الواقفين على خط جرينتش بالضبط، فلا هم في الشرق أو في الغرب، إنهم حرفيا على خط الزوال الافتراضي، ولعلهم المرشحون أكثر من غيرهم لكى يبتلعهم الزمن لولا الذاكرة، لولا الكتابة والسجل، لولا السارد الذى سيرفض بقوة أن يمحو اسم امرأة مريضة عقليا من السجلات، حتى لو كان في هذا المحو نجاته من الفصل.
ملاحظة وحيدة مهمة على هذا النص البديع: لقد نجح شادى لويس فى بناء الموقف المحورى، ونجح فى تطويره، ولكنه كان يبدأ بعض الفصول بمشاهد الذاكرة، دون أن يضفرها في مشاهد الحاضر، الحاضر العبثي هو الأساس، وفلاشات الماضي هى التى يجب أن تغذيه، حتى لا يفتر زخم الحكاية المثيرة للغاية، وشادي قادر فعلا على أن يفعل ذلك بصورة نموذجية، حيث استدعى مثلا زميلات مكتب الصحة النفسية، عندما عرف أن إحداهما سترافقه، وحيث استدعى حبيبته التى تركها، وهو واقف أمام البصل المتجمد الذى تركته، البدء بالماضي فى كل فصل لم يكن خيارا فنيا جيدا أبدا؛ لأنه كان يعيد السرد خطوات للوراء، بينما ننشغل بالحاضر، والحل الأفضل بالتأكيد هو أن يكون الحاضر محور البناء، والماضي مضفرا فى نسيجه.
جريدة الشروق المصرية