ليست رواية شخوص، فهي لم تهتم بمصائرهم، وما جرى لهم، وليست رواية أحداث تاريخية، فالتاريخ سلسلة من الأحداث المتتابعة المتدافعة، التي لا تنتهي، وإنما هي رواية رؤية وتبصر وتفكر، رواية وطن لا يتوقف عند شخص، ولا يزعزعه حدث، رواية هوية تاهت وما زالت تائهة، وإن كانت الرواية اتخذت من الجزائر فضاءً مكانيًا لها، فكل بلداننا العربية جزر وجزائر.

وقفة الماضي، وصفحة الحاضر، وصفعة من المستقبل!

قراءة في رواية «الديوان الإسبرطي»

محمد منصور الهدوي

 

فازت رواية "الديوان الإسبرطي" للكاتب الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي بالجائزة العالمية للرواية العربية 2020 في دورتها 13، وتتميز بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتلال الجزائر روائيا ،ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية،وأن الرواية دعوة للقارئ إلى فهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته، على نظامها السردي التاريخي العميق، وتتقاطع حيواتهم مع الوجود العثماني والفرنسي،ويشير غلاف رواية "الديوان الإسبرطي" إلى حادثة المروحة الشهيرة التي اتخذت ذريعة لغزو الجزائر .

جولة على هامش موضوعها ومضمونها
الرواية العربية- البوكر، ليست رواية شخوص، فهي لم تهتم بمصائرهم، وما جرى لهم، وليست رواية أحداث تاريخية، فالتاريخ سلسلة من الأحداث المتتابعة المتدافعة، التي لا تنتهي، وإنما هي رواية رؤية وتبصرة وتفكر، رواية وطن لا يتوقف عند شخص، ولا يزعزعه حدث، رواية هوية تاهت وما زالت تائهة، وإن كانت الرواية اتخذت من الجزائر فضاءً مكانيًا لها، فكل بلداننا العربية جزر وجزائر؛ كانت الجزائر البداية، ولم تسلم غيرها من المصير ذاته، وما زالت تعاني من الويلات وآثار ما حدث، فما حدث طفرة جينية، لن تزول إلا بطفرة جينية أقوى!

عبر خمسة أصوات (شخوص) وخمسة أقسام (جولات) تناولت الرواية نهايات الوجود العثماني في الجزائر، وبدايات الاستعمار الفرنسي، اعتمد "عيساوي" في روايته التي تندرج تحت صنف الروايات التاريخية، على أسلوب سردي بحت، بأصوات متعددة، أرَّخ فيه لأحوال مدينة الجزائر، العاصمة، في الفترة الزمنية الممتدة من 1815، الموافق لهزيمة نابليون في معركة واترلو الشهيرة، حتى 1833، والتي توافق إنهاء اللجنة الإفريقية الفرنسية من أعمالها التفتيشية على الجزائر، وما تخلل تلك الفترة من غزو واحتلال فرنسا للجزائر. وقد اختار عيساوي خمس شخصيات مختلفة، لينير ما حدث من جميع الجوانب، لئلا يكون القارئ أسير رؤية أحادية، وهذا يُسجل للكاتب الذي وظف تقنية تعدد الأصوات على رواية تتناول أحداثًا تاريخية، وفي هذا تأكيد على ضرورة قراءة التاريخ من مصادر مختلفة، وعدم الاقتصار على وجهة نظر واحدة، ومع كل ذلك تبقى هناك زوايا مظلمة، وقد تبقى مظلمة إلى الأبد.

واستند على سجلات وخرائط سلفه «بوتان» جاسوس نابليون، الذي رصد فيها كل صغيرة وكبيرة في الجزائر، فأكمل عليها، وسجّل كل شيء عن القبائل والكتائب والقلاع والأسلحة، والأشجار والأعشاب ومنافعها، والمساجد والأحياء والمسافات، والخيول وكل ما يخطر ولا يخطر على البال، تمهيدًا لحلمه باحتلال الجزائر، ونجح في إقناع القيادة الفرنسية بذلك، فكان القائد الفعلي للحملة والموجه لكل حركاتها، وتحديد أماكنها، ونجحت خطته، وأصبح نافذ الكلمة في الجزائر، ينفذ ما عزم عليه من انتقام، فبطش ونكّل ونفى وأبعد، ولم يلتفت إلى أي اعتراض أو احتجاج، ولم يسلم منه رفيق دربه في السفينة ديبون، فطرده من مكتبه، ومنع دخوله ثانية.

الرواية رصدت تفاصيل الحياة اليومية بالجزائر في تلك الفترة، كما رصدت التنوع العرقي الثري بين قاطني المدينة، ما بين "المور"وهم أهل المدينة الاصليين من ساكني شمال إفريقيا، والأتراك الحاكمين، وفرقة اليولداش التركية العسكرية، والعرب، والأجانب أيضا، وكيفية التعامل بين تلك الأعراق. كما رصدت مساوئ وقوع الجزائر تحت الحكم العثماني والفرنسي على السواء، فالحكم التركي لم يكن همه سوى نهب ثروات المدينة، وإرسالها إلى الباب العالي في تركيا، دون الاهتمام بتطوير الحياة في المدينة، أو تحصينها، والحكم الفرنسي كان همه تغيير معالم المدينة، وطمس كل تفاصيل الحياة العربية والاسلامية والأصلية، بحجة إرساء معالم الحضارة الاوربية، وإزالة العقبات التي قد تكون حجر عثرة في سبيل ذلك التقدم والتطور.

ألقت الرواية الضوء على فسدة الضمائر، والمتقلبين على كل جناح، الأكالين على جميع الموائد، لا يهمهم أين الحق من الباطل، فكل ما يسعون إليه هو كيفية الاستفادة من الوضع القائم، وتقديم مصالحهم وانتفاعاتهم الشخصية، فجاءت الرواية مثل سلم موسيقي، شاملة لجميع الأصوات من جميع الفئات، مع عرض تخيلي ثري، لفترات تاريخية متلاحقة، بدون تجميل أو تشويه، لتلك الفترات، بشكل لا يخلو من التشويق، وحبس الأنفاس.

هندسة الرواية وبنيتها المتميزة
أجاد عيساوي هندسة الرواية وبناءها بحرفية ومهارة، وأحكم سيطرته على أحداثها وشخوصها وأزمنتها وأمكنتها، وكان عادلًا في منح فرص متكافئة لجميع الشخوص، لتوضيح وجهة نظرهم، حتى إن اضطروا لتكرار بعض الأحداث، فقد يتكرر الحدث، لكن تختلف زاوية النظر، وهذا ما قصده الكاتب ابتداءً. ووظف اليوميات والمذكرات في نسيج روائي متين بديع. وتميزت لغة الرواية بالشاعرية في كثير من المواطن، والجمال والروعة في جميع أقسامها، ولم يستخدم غير الفصحى، حتى في حوار الشخوص، مع اختـــــلاف المستوى المعــــرفي والإدراكي بالطبع، وهذه ميزة تُسجل أيضًا للكاتب، أن طوع الفصحى، ولم يلجأ للعاميات كما يلجأ كثير من الروائيين بمبررات غير مقنعة، تخرج أعمالهم من حيز الإبداع، إلى فوضى الكتابة. وتميزت جمل الرواية بالســــبك المحكم، والرصانة، ويصلح كثير منها للاقتباس، كجمل مستقلة ذات دلالات وأفكار ورؤى، ولا تخلو من الحكمة.

حفلت الرواية بوجبة معرفية وتاريخية دسمة، تستفز القارئ للرجوع إلى المصادر للتوسع، خاصة أنها تناولت أسماء حقيقية، يمكن الرجوع إليها بسهولة، مثل الباشا حسين، والآغا إبراهيم والآغا يحيى والباي أحمد والقنصل دوفال وقائد الحملة بورمون والأميرال دوبيري والحكام الآخرين كلوزيل وروفيغو وفوارول. أما الشخصيات الأخرى، فإن لم توجد على الأرض بذواتها، فبعضها تمثل نماذج حقيقية يسهل تتبعها، والشخصيات الآخرى لضرورات فنية، ولكنها شخصيات لها وجودها بشكل أو بآخر.

مثلما نجحت في إثارة عاصفة من الأسئلة، ونبش كثير من القضايا، ومنها: قضية التجارة بعظام الموتى لتبييض السكر، القرصنة في المتوسط، الحكم العثماني للجزائر ما له وما عليه، الاستعمار الفرنسي، دور اليهود في الجزائر ودورهم في الحملة الفرنسية، دور الاستشراق في الحملة الفرنسية، العلاقة بين الجزائر وفرنسا قبل الاحتلال، المقاومة والجهاد ضد فرنسا، مواقف المثقفين الفرنسيين من الاحتلال، وغيرها، وكل واحدة من هذه القضايا تصلح فضاء واسعًا وثريًا لرواية منفصلة، حتى إن كتب فيها من قبل.

أشخاص الرواية وأبطالها
دون أن يعلم القاري في كل فصل يحمل عنوان الشخصية التي ترويه، هل هذا الراوي هو بطل الرواية؟ لأن كل شخصيات الفصول قامت بسرد فصولها بعدد متساوٍ في حصة الفصول الممنوحة لها، حيث يبدأ كل قسم من أقسام الرواية بفصل يرويه الصحفي الفرنسي "ديبون"، ثم يتلوه "كافيار"، ثم "ابن ميار" ثم "حمة السلاوي" وينتهي "بدوجة"، على النحو الآتي:

ديبون، المراسل والكاتب الصحفي لدى إحدى الصحف الفرنسية، والذي يتم انتدابه لمرافقة الحملة الفرنسية على الجزائر، لتوثيق يوميات الحملة، والتي صادفت هوى ما في نفسه، فهو المسكون بأحلام السذاجة، والمؤمن برسالة الحضارة الأوربية، في مهمتها لإنارة الدرب للمتأخرين حضاريا، ونشر تعاليم الرسالة المسيحية، والمتأثر لخسارة نابليون لمعركة واترلو.

كافيار، القائد العسكري السابق، والجندي المهزوم، الذي لم يستوعب ولم يقتنع، بجنون عظمة نابليون، ولم يتأقلم يوما ما على القبول بهزيمة معركة واترلو، وانهيار حلم السيطرة الفرنسية. أيضا هو الأسير السابق، الذي ذاق الامرين على يدي الأسر التركي، والمندهش من خضوع المور لهم بلا مبرر، بالإضافة لكونه الجاسوس والمنتقم، المدبر والمخطط لحملة الاحتلال الفرنسي، كبديل للحلم الفرنسي المنهار، والتجسيد الأمثل، لفكرة الاستعمار، كما يجب أن تكون.

ابن ميار: الموظف الحكومي، وكاتب الديوان الأميري، الواقعي، والمؤمن بفكرة السياسة، واللجوء على المفاوضات والمرافعات. ابن ميار لا يعرف لمصطلح اليأس او الاستسلام مكانا في قاموسه، والمستمر في محاولاته لفرض صيغة للتعايش السلمي، والحفاظ على حقوق المواطنين، طالما مازال حيا وفيه عرق ينبض، مثال للشخص الحالم، الذي غالبا ماتكون صدمته شديدة، عند تحطم أحلامه على صخرة الواقع.

حمة السلاوي: رمز الثورة، والمقاومة، المواطن البسيط، والدرويش الجائل، ليس في حياته سوى مبدأ واحد "ما أخذ بالقوة، لا يسترد الا بالقوة"، وأن السفلة لا مجال للحديث معهم، أو معاملتهم، إلا بأسلوب أكثر انحطاطا منهم، فهذه هي اللغة الوحيدة التي يعرفونها، ويرضخون لها. ليس له من مصلحة، ولا يلهث وراء فائدة ترتجى، إلا ان يعيش في سلام، والتنسم بهواء الحرية الذي اشتاق إليه، وبه يستطيع التعرف على مدينته.

دوجة: الخادمة، والصوت النسائي الوحيد، التي واجهت شظف العيش، وهرستها تقلبات الحياة، رمز المرأة البسيطة، الباحثة عن الحب، والساعية للتمسك به إلى المنتهى، حتى لو كلفها ذلك الانتظار العمر كله، والبقاء في محيط محتل، لتكون النتيجة الحصول على ماتريد.

أما العنوان فلم يخل من أسلوب شعري، وإحالة تاريخية، فمع القراءة سيكتشف القارئ، أن كافيار، مخطط الحملة، دون مذكراته أثناء فترة أسره في الجزائر، وكثف من جهوده في محاولة رصد ثغرات المدينة، ونقاط ضعفها، فاعتبر الجزائر أو المحروسة، كما كانت تسمى آنذاك، مثل اسبرطة اليونانية القديمة، وتقاطع مصيرهما في حالة الحرب، كما أنه أضاف لتلك المذكرات، كل التفاصيل المتعلقة بالحملة العسكرية، وما تحتاج إليه من مؤن وأسلحة وذخائر، وكل التفاصيل التي من شأنها إنجاح تلك الحملة، وإقناع النظام الحاكم في فرنسا، بجدوى تلك الحملة، فلفظ الديوان من مفرداته أيضا الدفتر فيم يخص تسجيل المعلومات العسكرية، لذا كان العنوان في النهاية، حاملا لوجه جمالي بديع، ودقة متناهية في رصد تقاطع المصائر، فيم يتعلق بالاحداث التاريخية. كما أن الرواية تقاطعات فيها مصائر الشخصيات مع مصائر الأحداث، مكونة للوحة سردية لمصير مدينة الجزائر.

أسلوب فذّ في سردية الأحداث التاريخية
وبسرد أنيق متعدد الأصوات والشخصيات وبناء روائي بارع متكامل الأركان، ينقل الأديب الجزائري الشاب أحداثا محلية في الجزائر العاصمة المضطربة بين الفرنسيين والعثمانيين في الحقبة بين عامي 1815 و1833 إلى مستوى عالمي، حيث يعرض الاحتلال الفرنسي للعاصمة الجزائرية "المحروسة" في ثلاثة أقسام (ما قبل الحملة، توجه الأسطول للجزائر، الاستسلام) ومن منظور خمس شخصيات أساسية تتشارك مكان وزمان الرواية.

نجحت في تقريب تاريخ الجزائر إلى الجيل الحالي، بطريقة سردية متناهية، مثخنة بالأحداث والوقائع التي عرفها تاريخ هذا البلد، وتم تقديمها من خلال نص سردي برع الكاتب في التفصل في تفاصيله، عبر بناء سردي محكم، متقن البناء ومتكامل الأركان،عيساوي أنشأ بناء مكتمل الأركان في روايته الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (مواقع التواصل) ،وفيما يعد نوعا من استخدام تقنية "الرواية داخل الرواية" اقتبس المؤلف اسم الرواية من كتاب "الديوان الإسبرطي" الذي يقرأه كافيار في أحداث الرواية التي يغلب السرد فيها على الوصف، وتتلاحق أحداثها التي تتكرر مشاهدها وتتعدد زواياها بحسب الصوت الراوي.

ولكونه يكتب عن مجتمع صوفي بامتياز، استخدم الأديب الجزائري رمزيات عدة في الرواية بينها دوجة التي استباح الرجال جسدها في المبغى كرمزية للجزائر التي اغتصبها الجنود الغزاة، وطائر اللقلق الأبيض الذي يرمز للثورة بينما يشير اختفاؤه إلى إقصاء الثوار عن عاصمة البلاد، ويقول العيساوي في أحد مقاطع الرواية "بعض الهزائم تبدو انتصارات في القلوب التي أظلمت بالخطيئة، وبعض الانتصارات تجلب الخيبة لحاملها".

لا يشعر قارئ رواية «ديوان الإسبرطي» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، أنه يقرأ رواية تاريخية، مع أنها اتخذت من التاريخ فضاءً لها؛ للطريقة التي تناول فيها عيساوي الحدث، وأخرجه من ملل التاريخ وجفافه، إلى متعة الرواية وشعرية اللغة وحيوية الشخوص، وسينمائية المشاهد والأحداث. فاستوت الرواية على سوقها ناضجة مكتملة عميقة، مُمتلئة ومَليئة وُمملِئة؛ بما ترسله من رسائل، وتثيره من أسئلة، وتنبشه من قضايا ما زال بعضها حيًا حتى اللحظة.

 

باحث وأكاديمي من الهند

 

الكاتب في سطور

ويُعدُّ الروائي عبد الوهاب عيساوي أول روائي جزائري يُتوَّج بهذه الجائزة المرموقة عبد الوهاب عيساوي روائي جزائري من مواليد 1985 بالجلفة، الجزائر. تخرج من جامعة زيّان عاشور، ولاية الجلفة، مهندس دولة إلكتروميكانيك ويعمل كمهندس صيانة. فازت روايته الأولى "سينما جاكوب" بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام 2012، وفي العام 2015، حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر، عن رواية "سييرا دي مويرتي"، أبطالها من الشيوعيين الإسبان الذين خسروا الحرب الأهلية وسيقوا إلى معتقلات في شمال إفريقيا. في العام 2016، شارك في "ندوة" الجائزة العالمية للرواية العربية (ورشة إبداع للكتاب الشباب الموهوبين). فازت روايته "الدوائر والأبواب" بجائزة سعاد الصباح للرواية 2017. فاز بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة 2017 عن عمله "سفر أعمال المنسيين".