تبدأ أحداث رواية "غيوم فرنسية" (دار ابن رشد- القاهرة) للكاتبة ضحى عاصي في زمن الحملة الفرنسية، على مصر (1798 – 1801) وتحديداَ مع عودة نابليون بونابرت إلى فرنسا تاركاً القيادة لكليبر الذي سرعان ما تم اغتياله على يد سليمان الحلبي. وتتوالى الأحداث لتنتقل من مصر إلى فرنسا بعد خروج عدد من المصريين مع جنود الحملة، ومن ثم تركز عاصي على تتبع مصائرهم، في ذروة الثورة الفرنسية وحتى هزيمة جيش نابليون في روسيا، وكان بين قادته مصري يدعى فضل الله الزيات وصل إلى رتبة الكونويل ولقي حتفه متجمداً من البرد، وهو المصير ذاته الذي انتهى إليه عشرات الآلاف من جنود ذلك الجيش. ثم تنتهي الرواية بالعودة إلى بدايتها، حيث يولد لفضل طفل تسميه أمه بالاسم نفسه "فضل"، وحين يشب عن الطوق، يعرض عليه ضابط فرنسي كان صديقاً لوالده أن يصطحبه معه إلى فرنسا، متوسماً فيه أنه يمكن أن يعيد سيرة والده لجهة الحنكة العسكرية لكنها ترفض ذلك وتصر على أن تبقى وولدها في مصر التي باتت تحت حكم محمد علي الذي تبنى فكرة إنشاء جيش قوامه من أبناء البلد، بعدما تخلص من المماليك في مذبحة شهيرة.
ومعظم هؤلاء المصريين الذين تتبع الرواية مصائرهم في فرنسا، كانوا جنوداً في فيلق أسَّسه القبطي الثري المعلم يعقوب، ودرَّبهم ضابط فرنسي يدعى فابيان، لمؤازرة الفرنسيين في مواجهة رموز السلطة العثمانية المملوكية في مصر، على أمل أن يساعد ذلك في إنهاء ما كان يمارس ضدهم من تمييز على أساس ديني. وحين التحق "فضل" بذلك الفيلق الذي انصبَّت مهامه على التصدي لمختلف صور مقاومة الاحتلال الفرنسي، اعترضت زوجته "محبوبة" وباتت تشعر نحوه بجفاء حتى أنها قالت له حين حاول استرضاءها: "لا تلمسني بيدك الملوثة بالدم" صـ 37
ومع ذلك أصرَّ "فضل الله الزيَّات"، على استمرار عمله العسكري ضمن ذلك الفيلق غير آبهٍ بأنه إنما يقتل إخوةً له في الوطن لمجرد أنهم من دين آخر ويصرون على مقاومة الغزاة الفرنسيين، وحين قرر الفرنسيون العودة إلى بلادهم أصرَّ كذلك على ترك زوجته "محبوبة بنت جرجس غزال" والسفر معهم على أمل أن يعود إلى مصر ضمن حملة فرنسية جديدة تجابه ظلم المماليك والعثمانيين. وحين تعترض "محبوبة" على ذلك يقول لها: "لم يأت المسيح ليعلمنا أن نرضخ للظلم".
شخصيات تروي
السرد في البدايات كان بصوت "فضل الله الزيات"، الذي كان يعمل قبل انخراطه في السلك العسكري نجاراً في ورشة قبطي آخر متعاطف مع الفرنسيين يدعى "عبد الملك"، يسافر أيضاً مع "يعقوب"، ويتخصص في اللاهوت ويضع فيه كتباً عدة. ثم سرعان ما يتوزع سرد فصول الرواية بعد ذلك على "فضل الله" و"عبد الملك" و"منصور حنين"، و"زهرة"، وغيرهم من شخصيات هذا العمل والذين قُدِرَ لهم العيش في فرنسا في ظل سنوات ملتهبة بالثورة والأحلام الإمبراطورية التوسعية في أوروبا في ظل صراع شرس على المصالح في القارة العجوز وفي المستعمرات خارجها بين الفرنسيين والبريطانيين على وجه الخصوص. وعلى سبيل المثال يسرد القس "عبد الملك" اللحظات الأخيرة في حياة يعقوب الذي اشتد عليه المرض قبل أن تصل السفينة التي خرجت به هو وأتباعه من مصر، إلى شواطئ فرنسا، ويوصيه برعاية ابنته وزوجته، ويسلمه سندات ديون على الحكومة الفرنسية بقيمة مليون و500 ألف فرنك. ولكن يلاحظ أن ضحى عاصي لم تتبع بعد ذلك مصير تلك الزوجة وتدعى "مريم" ولا مصير ابنتها، ولا حتى مصير سندات الدين تلك.
على أية حال كان "عبد الملك" يرى في "يعقوب" مخلصاً مثله مثل المسيح: "تبعت يعقوب لأنني وجدت معه إجابة أو حتى شبه إجابة عن سؤال كان يؤرقني: هل لنا نحن رجال الإكليروس دور أكثر إيجابية غير اللجوء إلى العظات في القداس الإلهي؟ دور يسعى إلى مواجهة البؤس والظلم الهائل بدلاً من تحملهما أملاً في الخلاص؟ فتح يعقوب لي باباً آخر للخلاص، ولكنه مات قبل أن نمر منه" صـ 65 ثم يتولى "فابيان" سرد الفصل التالي مباشرة مناجياً نفسه، وهو على متن السفينة المتوجهة إلى فرنسا: "لقد حمتني الطبيعة من أن أدرك أنني كنت مسؤولاً عن ذبح ثلاثة آلاف أسير. لم أتخيل أن يختارني بونابرت للحديث مع الحامية العثمانية (في الناصرة) التي أعلنت استعدادها للتسليم مقابل عدم قتل جنودها. ماذا كان عساي أن أفعل وليس لديَّ ما يكفيهم من الطعام؟ ثم إن أنا أطلقتُهم فسينضمون إلى قوات والي عكا ... سأعود إلى ليون، ولكن مع مَن سأشرب قدحَ نبيذ ولمَن سأحكي؟".
كان هناك أيضاً "مصطفى الفرشوطي"، ومن اسمه يتبين أنه لم يكن قبطياً، وهو كان تاجراً من صعيد مصر يجيد التحدث بالفرنسية، ولذلك عمل مترجما مع حملة نابليون، وعلى متن السفينة ذاتها كان هو الآخر غارقاً في مونولوغه: "لا أخاف البحر، فهو جزء من عالمي، من خلال رحلاتي التجارية من دمياط إلى الشام واسطنبول ونابولي". وكان "منصور حنين"، هو الأقرب إلى "مصطفى" من بين ركاب السفينة، فقد كان من أهل بلده؛ فرشوط، ويعمل أيضاً مترجماً مع الحملة الفرنسية بتوصية من "يعقوب"، الذي ترجع أصوله إلى الصعيد، فضلاً عن أنهما كانا يؤمنان بأن فيلق يعقوب هو "نواة أول جيش مصري (من المسيحيين والمسلمين) في العصر الحديث" صـ74. و"عبد الملك"، ما أن وصل إلى فرنسا، حتى حاول اجتذاب فرنسيين إلى الأرثوذسكية ومنهم جندي في جيوش نابليون يدعى "لوسيان"، لكنه راح يسخر من اسمه الذي يتضمن "عبودية لغير الله"، ثم ترك له قلباً بشرياً في علبة من الكريستال، قبل أن ينضم الى الحروب النابليونية في أوروبا، وودعه قائلاً: "حافظ على هذا القلب ولا تعطه إلا لمن يدافع عن حق المقهورين ويؤمن بالحرية والمساواة" ص170.
يمر الوقت ولا يعود "لوسيان"، ولكن كما يقول "عبد الملك"، "عاد التقويم القديم كما عادت فرنسا إلى دينها الأصلي، دين المسيح ... لم يتمكن الدين الثوري؛ دين الاحتفالات العشارية من أن يحل محلَّ المقدسات التي كانت مسيطرة بعمقٍ على أحاسيس فئات شعبية بأكملها" صـ 192. وبحسب تأملات "عبد الملك" أيضاً فإن كثيرين ممَّن آمنوا بالثورة "كفروا بها وآخرون ممَّن كانوا معادين للكهنوت رجعوا إلى إيمانهم ورحبوا بالاتفاق الذي عقده بابا روما بيوس السابع مع نابليون. حتى الكنائس التي وضعت بعد الثورة مباشرة لافتات تحمل اسمها الجديد (معابد المنطق)، تخلَّت عن هذا المنطق وعادت إلى منطقها القديم". تلك التأملات وغيرها سيضمنها "عبد الملك" كتاباً أسماه "ميطانية باريس"؛ "باريس، هذه المدينة التي سعَت إلى كل ما كنت أحلم به ولم أكن أدركه عندما تمردتُ وسافرتُ مع يعقوب ... باريس التي جدَّدت روحها وذهنها وانتفضت ضد كل ظلم".
الجسد والرأس
أما "الكولونيل فضل"، فحصل في يوليو (تموز) 1806 على نيشان "صليب الليجيون دونور"؛ مكافأة على دور فرقته التي كانت في طليعة الجيش الذي كان يحارب الروس في الجبل الأسود. ثم انضم الى لجنة أنشئت خصيصاً بغرض تطوير القتال خارج أوروبا: "الجسد يتبع الرأس. كنا جسداً لنابليون لتحقيق حلمه، ألا يمكن أن تنقلب الصورة فأكون أنا الرأس التي تدبر وتقود جيوش نابليون لتحقيق حلمها؟" صـ 201. بعد الوصول إلى فرنسا يهيم منصور حنين" بحب "زهرة" وهي فتاة فرنسية نشأت في مصر كجارية في أحد قصور أثريائها، وغيرت دينها من المسيحية إلى الإسلام. صار اسمها "مدام دو برجون" عندما تزوَّجت من الكونت رينيه دو بورجون بعد أن أشهر إسلامه، ولكنها بعد أن ترمَّلت ترفض الزواج من "منصور حنين" لأنه أصرَّ على عدم تغيير دينه.
ويجد القارئ صعوبة في التمييز بين "زهرة" تلك، وشخصية أخرى تدعى "جين فلوري" (كان اسمها في مصر سعيدة) التي بعد أن عادت إلى فرنسا مع المعلم يعقوب اضطرت إلى العمل في مغسلة. ارتاحت "جين" إلى شخص يدعى "ألبير" وقالت له: "إنني تائهة. لا أستطيع تحمل كل هذا العبء. لم اعتد أن أفكر لنفسي ولا أن أقرر لها أو اختار. أشعر بالغربة وبالرغبة في أن أعود إلى حياتي التي ألفتها، إلى بيتي الذي أعرفه؛ بيت إبراهيم بك الألفي". صـ 173. هو يصغرها في العمر بسنوات عدة ومع ذلك يطلب منها الزواج، فيما شقيقته مارتين اشتغلت مغنية أوبرا في إيطاليا باسم "ماري فالكور"، وانتهى بها الحال نزيلة في مستشفى للأمراض العقلية في باريس لأنها نشطت في المطالبة بحق المرأة في الحصول على الطلاق متى أرادته! وتلك الصعوبة ترجع إلى أن سرد فصول الرواية مسند إلى شخصياتها، ما أدى إلى تداخلها، بحيث بات من الصعب على القارئ تحديد كنه السارد في بعض الأحيان. وهناك أمر آخر يتعلق بكثرة الأخطاء اللغوية، وذلك بالطبع تُسأل عنه دار النشر، قبل الكاتبة.
تنتهي الأحداث في فرنسا، عندما جهَّز نابليون نصف مليون جندي (نصفهم من الفرنسيين)، لإجبار قيصر روسيا على وقف التجارة مع بريطانيا. في 24 يونيو (حزيران) 1812 تحركت تلك القوات صوب حدود الامبراطورية الروسية. غلبهم الانهاك بعد مسيرة سبعة أسابيع. في 14 سبتمبر (أيلول) وصلوا إلى موسكو واحتلوها لخمسة أسابيع قبل أن يضطروا للانسحاب منها ليهزمهم الصقيع شرَّ هزيمة. وفي الأخير مات "فضل" متجمداً في نهر تريزينا على بُعد أميال من البر الفرنسي. أما "عبد الملك"، فواصَلَ العمل على اللاهوت وكان من تلاميذه شامبليون، الذي نجح لاحقاً في فك طلاسم اللغة المصرية القديمة. يئس عبد الملك من ملاقاة الشخص الذي ينبغي أن يسلمه القلب الذي أعطاه إياه "لوسيان"، فقرر أن الأفضل له أن يركز في عمله اللاهوتي، "حيث روحُ الرب هناك حرية".
في الختام تعود الرواية إلى مصر، حيث "محبوبة" ووالدها "جرجس"، في ظل ازدياد الظلم العثماني لأهل البلد من مسلمين ومسيحيين على حد سواء، وانعدام الأمل تماماً في عودة أي ممن رحلوا إلى فرنسا، وكذلك في أن يعود الفرنسيون بحملة جديدة تضع حداَ لذلك الظلم، ومن ثم لا يتبقى إلا أن يعتمد المصريون على أنفسهم في السعي نحو واقع أفضل.
عن إندبندت عربية