يتقاسم معنا الشاعر المصري هنا بعضا من أسرار شجن الكلمات، قصائد قصيرة تكثف اللحظة الشعرية كي ينسج منها تفاصيل تتحلل خلالها الذات في القصيدة، حيث يصبح مفهوم الهوية تجلي مباشر لدلالات تصوغها عوالم النصوص حيث يتقاسم الشاعر مع القارئ بعضا من أسرار البوح المنسوج من ثنايا الذات وانجراحاتها.

ديوان قصير

صليل الكلمات

مصطفى جاد الكريم

 

-1-

سكونٌ موحشٌ ورُؤًى غريبًةْ

تُحرِّكُ صمتها سحبٌ مُريبَةْ

 

ستُمطرُ بَعْدَ حينٍ خَلْفَ وادٍ

ستَملَؤُ حضْنَهُ قصصٌ عجيبَةْ

 

سترويها صبايا كُلَّ يومٍ

لشيخٍ عُمْرُهُ صِنْوَ الخُصوبَةْ

 

سيسمَعُها بوَجْدٍ وانتباهٍ

لتحيا فيه آمالٌ رغيبَةْ

 

ستُنْعٍشُهُ وتَمْنَحُهُ صُكُوكًا

تُبارِكُ رَدَّ أملاكٍ سَلِيبَةْ

 

فيا عينانِ حُسْنُهُما حياةٌ

أَفٍيضَا الحبَّ فى مُهَجٍ رَطِيبَةْ

 

-2-
دِمَاءُ الذِّئْبِ فى فَكِّ العُقَابِ
وحَدُّ السَّيْفِ دَمْدَمَ فى الجِرَابِ

وحَسْمُ القَوْلِ أَخْفَقَ مِنْ قَرِيبٍ
وذَاقَ البُعْدَ فى وادٍ يَبَابِ

وَوَجْهُ الشَّرِّ وّاجَهَ وَجْهَ خَيْرٍ
وراهَنَ مَنْ أَقامَ عَلَى الغِيَابِ

وللكلماتِ إَذْ أَبَقَتْ صَليلٌ
يَبُوءُ مَنِ اشْتَرَاهُ بالاغْتِرَابِ

 

-3-
أىُّ صوتٍ مِنْ وَحْشَةٍ قَدْ صاحا
أىُّ قلبٍ مِنْ حسرةٍ قد باحا

أى يومٍ مِنْ صدمةٍ صار جُرْحًا
أى حزنٍ مِنْ يأسِهِ قد ناحا

أى قولٍ مِنْ بَذْلِهِ باتَ وَهْمًا
أى نجمٍ مِنْ غُرْبَةٍ قَدْ لاحا

أى دربٍ من ظلمةٍ فى ضلالٍ
أى فجرٍ من قسوةٍ قد راحا

أى حبٍّ من رحمةٍ مَرَّ طَيْفًا
أى عَزْمٍ عَنِ الهمومِ أَشَاحا

 

-4-
يَعُودُ بِىَ الزمانُ ولا أَعودُ
ويُفْلِتُ مِنْ قَوَافِيهِ القَصِيدُ

وأَبْحَثُ عَنْكَ دُونَ كَبِيرِ عَزْمٍ
وتَهْرَبُ أَنْتَ تَحْجِبُكَ السُّدودُ

وأَجْرِى لاهِثًا فى خَوْفِ طِفْلٍ
وأَرْقُبُ ذاهلاً لَيْلًا يَسُودُ

وأَبْكِى فى قُدُورِ الحُزْنِ دَمْعًا
فَيُغْرِقُ ما مَضَى الدَّمْعُ الجَديدُ

وأَسْبَحُ فى بحارٍ هائِجاتٍ
يُرَصِّعُ أُفْقَهَا البَرْقُ الرَّعِيدُ

وأَكْتُبُ مُخْلِصًا مِنْ غَيْرِ حِبْرٍ
فيَنْشُرُ قِصَّتِى الوَهْمُ البَعِيدُ

وأَسْعَى للنَّهَايةِ فى ثَبَاتٍ
كما ارتَجَفَتْ رياحٌ لا تَمِيدُ

 

-5-
أَلَا يا أيها القَلْبُ الذى فِيكَ قِصَّتِى
ويا أيها القَوْلُ الذى أَنْتَ أَوْبَتِى

ويا أيها الليلُ الذى طالَ نَوْمُهُ
ويا أيها الحُلْمُ الذى عاشَ غُرْبَتِى

ويا أيها الدَّرْبُ الذى جَابَ فى الذُّرَى
لِيَشْرَعَ فى هَجْرٍ ويَلْحَقَ مَوْجَتِى

إَلِيْكُمْ جَميعًا مِنْ جَمِيعِ قَصَائدى
و مِنْ كُلِّ أَوْهَامى عَظِيمَ مَوَدَّتى !!

 

-6-
بَشِّرِ النَّفْسَ بأَحْلامِ المَسَاءْ
وَدَعِ القَوْلَ سَفيراً للعَناءْ

واحْفُرِ القَبْرَ قريباً دافئاً
واحْسِمِ الأَمْرَ فَإِنَّ الظَّهْرَ نَاءْ

واقْنِصِ الحُبَّ رقيقًا مُزْهِرًا
وابْعَثِ الذِّكْرَى رذاذاً فى الهَوَاءْ

واسْمَعِ النُّصْحَ بعقلٍ واجِفٍ
واشْغَلِ القَلْبَ بِنَجْماتِ الفَضاءْ

 

-7-

كَأَنَّكَ مُذْ رَأَتْكَ النَّفْسُ طَيْفًا
ظِلالٌ تستظلُّ بها الظِّلالُ

كَأَنَّكَ مُذْ ذَكَرْتُكَ مُنْذُ دَهْرٍ
جِبَالٌ تَنْتَحِى عَنْها الجِبَالُ

كَأَنَّكَ فى حَيَائِكَ مِنْ سُكُوتِى
جَمَالٌ يستغيثُ به الجَمَالُ

كَأَنَّكَ رِحْلَةٌ فى جَوْفِ وَادٍ
عَجِيبٍ لا يُلِمُّ بِهِ الخَيَالُ

 

-8-

يَرْصُدُ نَبْضُ القلبِ فى قَلَقْ

مَفَاوِزًا يغمرُها الغَسَقْ

 

يبحثُ عَنْ تائهةٍ مَضَتْ

خائفةً والسِّحر يَحْتَرِقْ

 

يَعْرِضُ حُبًّا فى جِرَابِهِ

على حبيبٍ شَأْنُهُ النَّزَقْ

 

يَطْلُبُ شوقًا ليس مُفْضِيًا

إلى ذُرًا يَرْمُقُها الحَدَقْ

 

يَسْلُبُ وَهْمًا كان باديًا

فى مشهدٍ للأمسِ مُخْتَلَقْ

 

يقتلُ وحشًا كان رابِضًا

خَلْفَ نياطِ الصَّدْرِ يَسْتَرِقْ

 

-9-

يدورُ بخاطرى القولُ الكَسيرُ

يُبَلِّلُ حَرْفَهُ يومٌ مَطيرُ

 

فيبحثُ عَنْ فَتًى قد كان يومًا

تُراثًا تَخْتَبى فيه النُّذورُ

 

ويُشْرِقُ فى مُخَيِّلَتى خيالٌ

أَضاءَ ظَلامَهُ شمعٌ غزيرُ

 

وتبدأُ قصةٌ سطرًا فسطرًا

فتهربُ مِنْ مُعَذِّبِها السُّطُورُ

 

وتَأْبَى كُلُّ ناصيةٍ كلامًا

مريرًا صَاغَهُ قلبٌ مريرُ

 

لَعَلَّكَ إِنْ رَضِيتَ فليس تَرْضَى

دروبٌ لا تُظَلِّلُهَا البدورُ

 

-10-

رَقَأْتُ بصَبْرِى دمعةً تترقرقُ

على قلبِ عُمْرٍ لَمْ يَزَلْ يَتَدَفَّقُ

 

تَحَبَّبَتِ الذِّكرى إِلىََّ بحُلْوِها

فيالكِ مِنْ ذِكْرَى بنا تَتَرَفَّقُ

 

وياللشباب الغَضِّ أين زهورُهُ

ويالرفاقِ العمر أين تفرقوا

 

فلم يبقَ لى إلا الكلامُ أصوغُهُ

عناقيدَ أَشْرِيهَا فَمَنْ يَتَسَوَّقُ

 

-11-

تظهرُ فى مراصدى قصيدةْ

نازحةٌ مِنْ نجمةٍ بعيدةْ

 

لَكْنَتُها طازجةٌ تُدْهِشُنِى

أَلْحَانُها فى أُذُنِى فَرِيدَةْ

 

ملفوفةٌ فى حُلُمٍ كأنَّها

مِنْ مُدُنٍ قديمةٍ جديدةْ

 

سابحةٌ فى فِكَرٍها مُقْلِقَةٍ

تهربُ مِنْها الجُمَلُ المُفِيدةْ

 

تَجْنَحُ صَوْبَ قَلَمِى عائِذَةً

تَأْوِى إِلَى كرَّاسَتِى سعيدةْ

 

-12-

كأنَّ القلبَ مَثْوًى للنُّجومِ

يُناجى نُورَها بَيْنَ الغُيومِ

 

يُطالِعُ فى مَطَالِعِها رِغَابًا

تَشَبَّثَ ظِفْرُها رَغْمَ الهمومِ

 

يُعَايِنُ فى تَأَلُّقِها حَنينًا

إِلى أَمَلٍ تَجَدَّدَ مِنْ قديمِ

 

يُؤَانِسُ فى تَزاحُمِهَا حُبُورًا

يَبُثُّ الحبَّ فى جُرْحٍ أَليمِ

 

ويَسْتَهْدِى بِها فَتُشِيرُ رَأْيًا

يُضيئُ بَدَاهَةَ العقلِ الحكيمِ

 

-13-

سلامٌ على قلبٍ يهيمُ بلا حبِّ

سَرَى شوقُهُ شرقًا إلى مُنْتَهَى الغَرْبِ

 

أضافَ إليه الكونُ ظُلْمَةَ سِرِّهِ

وضَمَّتْ إليه الرُّوحُ سَيْرًا بلا دَرْبِ

 

وقالَ لَهُ الإنسانُ أنتَ مًوَجِّهِى

فَتَاهَ وتاهَتْ خُطوةُ البُعدِ والقُربِ

 

تَأَمَّلَ فيما يَرْتَأِيهِ مُوَاتِيًا

فَأَقْفَلَ مَطْعونًا مِنَ الظَّمَأِ العَذْبِ

 

-14-

لَعَلَّكَ إِذْ أَوْغَلْتَ تَبْدُو مُوَاتِيَا

تُصَارِعُ أَحْلامًا و تُفْنِى مَآسِيَا

 

تُعَايِنُ ما أَسْلَفْتَ مِنْ يَدِ غِبْطَةٍ

تُؤَازِرُكَ الأَوْهَامُ فيها لَيَالِيَا

 

وَتَقْبَلُ ما يُنْسِيكَ ذِكْرَى عَنِيدَةً

وتَفْتَحُ ما يُؤْوِى سِنِينًا خَوَالِيَا

 

وتَخْلِطُ بالماضى مُيُولاً حَزِينَةً

طَفَتْ مُنْذُ أَجْيالٍ وذَابَتْ أَمَانِيَا

 

وأَقْفَرَ مِنْهَا الوَجْدُ يَرْعَى شَوَاغِلا

تُعَذِّبُ مَنْ يَرْضَى بها مُتَوَانِيَا

 

وتَمْسَحُ أَطْفالٌ ذُنُوبًا غَلِيظَةً

وَتَرْضَعُ مِنْ ثَدْىٍ تَوَثَّبَ طَاغِيَا

 

وتُكْتَبُ أَشْعَارٌ عَلَى حَائِطٍ الهَوَى

تَنِزُّ أَنِينًا يَشْتَفِى مُتَبَاهِيَا

 

-15-

تبدأُ القصةُ حين ينحنى الشعاعُ

فوق كَتِفِ السلام يبتغى الودادَ

من سلاسلٍ غليظةٍ عجيبة القَوَامِ

عند ساحةٍ بآخِرِ الطريقْ

 

يُغادرُ الطَّعينُ أرضَ سِحْرِهِ

وينتشى بلفتةٍ سجينةٍ على ذُبًابِ رُمْحِهِ

يقولُ فى عجالةٍ ملحمةً تقودهُ

إلى سريرِ فاتناتٍ صبرُهُ نَفَدْ

 

يصارعُ الوحشُ الحبيسُ نفسهُ

فتهزمُ الأنيابُ مِخلبَ

الهمودِ ترتجي الحُكَّامَ

إِعلانَ النبأْ

 

يسافرُ الأنيقُ فى بَهَائِهِ

إلى محطةٍ ترتبكُ الأنفاسُ

فيها تشتهى علامةً

تَتُوهُ بين فِتْنَةِِ

الظلامْ

 

يعودُ مِنْ تَجْوالِهِ

مغتربٌ تضمُّهُ حوائطُ

الأحلامِ مُنْذُ صارَ

قلماً وأصبحَتْ قِصَّتُهُ بَوَاحْ

 

-16-

يعبر فى مفاوز السنين

كلامك الحزين

تهرب منه أدمع لها طنين

يحضنها تساؤل رصين

تجمعها يد حنون

يخطفها على حصانه الأسود فارس عنين

تبذرها فى تربة الخلاص غربة اليقين

ينثرها على الجياع سارق أمين

يقتلها لكى يبدد الشكوك جفنها الطعين

 

-17-

يدخل فى دائرة المحال

جميع ما يقال

يخرج من قبضتها الجمال

وقمم الجبال

وما يضيئ فى الكهوف من ظلال

وقصة قد سردتها جدة

لحفنة من الأطفال

تبنى على ضفافهم

قصرا من رمال

يثبت أنما الواقع كالخيال

بل إنه أوضح منه

فى مفاوز المحال

 

-18-

أتيت منذ لحظة إلى الوجود

مررت بدروب وسدود

وخضت فى وحول وحدود

وقلت وكتبت ما أريد

وسمع الكون بلا ردود

وملأ اليأس حدائق الخلود

وفجأة

اقترب البعيد

وهمس الوداع بالنشيد

فارتجفت فى العين دمعة الجمود

 

-19-

الألم الدفين

يخرج من عباءة السنين

يطل باندهاشه الطعين

على سحابة مضت

تمطر فى الوديان لحنها الحزين

تضمها غلالة الزمان

فى إسارها المتين

 

-20-

فى قلبى سر..

من يعرفه يعرفنى..

يبصر ما تحت الأقنعة الحتمية..

حتم الموت..

وحتم الواقع..

 

فى قلبى سر..

من يلمسه يلمسنى..

يمسك ما خلف الوهم المتسلط..

 

فى قلبى سر..

من يكشفه يكشفنى..

يدرك ما بين سطور الزمن الغامض..

 

فى قلبى سر..

من يملكه يملك كل العالم..

دون صكوك.