يكشف الباحث المصري هنا عن الدلالات الثقافية والسياسية الكامنة في تمثال مختار الأشهر، بمناسبة مرور قرن على نسخته الباريسية الأولى، 1920، وكيف أنه قد حول النحت إلى طاقة تشحن جموع الشعب بقيم الانتماء والاستقلال الوطني والكرامة، وترفد الذاكرة التاريخية للأمة، بسلاح حضاري راقٍ من أسلحة التحرر والاستقلال.

تمثال نهضة مصر: أمثولة الهوية الوطنية

قراءة ثقافية في الذكرى المئوية لثورة 1919

طارق النعـمان

 

لَقَد بَعَثَ اللَهُ عَهدَ الفُنونِ وَأَخرَجَتِ الأَرضُ مَثّالَها

(أحمد شوقي)

مدخل: في معنى الذكرى
إن مفهوم الذكرى أو إحياء الذكرى بمرور فترة زمنية معينة، عقد أو ربع أو نصف قرن، يوبيل فضي أو ذهبي أو ماسي، أو قرن كامل من الزمان، على حدث من الأحداث أو على مولد أو رحيل شخصية ما، هو مفهوم احتفالي وشعائري بامتياز. ذلك أن أفعال التذكر الجماعية هي أفعال طقوسية وشعائرية تُعبِّر عن حاجة ماسة لاستدماج هذا الحدث أو هذه الشخصية ضمن مكونات الوعي الخاصة بالجماعة المحتفلة والمحتفية، سواء بالقبول أو بالرفض، سواء للتمجيد أو للتنديد.

وبالطبع، فإننا اليوم، ونحن نحتفل بالذكرى المئوية لثورة 1919، نريد أن نبعث ونستدعي ونؤكد القيم التي قامت ثورة 1919 لتعبِّر عنها وتنادي بها. وهي قيم التحرر والحرية، قيم العزة والكرامة والشرف الوطني، قيم المواطنة والمساواة وعدم التمييز على أساس دين أو طائفة، أو عرق، والندية على مستوى العلاقات الدولية، وإن كان يمكننا أن نضيف إليها بعدًا آخر، لم تهدف إليه الثورة إلا أنها قد تمخضت عنه، وهو عدم التمييز أيضًا على أساس النوع الاجتماعي.

وهي جميعًا قيم تتسم بأبعادها الإنسانية وبالتقدم والرقي؛ خصوصًا أن هذه القيم لا تفتأ تنفلت وتتراجع، وتتفلت وتتساقط من أيدينا ما بين لحظة وأخرى؛ ومن حين إلى حين؛ على نحو أشبه بريطة في التراث العربي أو بينلوبي في الأوديسا، والتي لم تفتأ كل منهما أن تنقض غزلها كلما أوشكت أن تتمه أو تهيأ للآخرين أنها قد أتمته. ومن ثم فإن الحاجة إلى إعادة شحن الذاكرة بهذه المعاني والقيم تمثل مغزى أساسيًا من مغازي مثل هذا الاحتفال. هذا فضلاً عما تتيحه عمليات التذكر من إمكانيات لإعادة القراءة؛ ومن ثم إعادة المراجعة والتقييم، وتعميق الفهم تجاه الأحداث والأشخاص الفاعلين والمُحركين للأحداث، بما يتيح رؤية أكثر عمقًا للماضي والحاضر؛ ومن ثم القدرة على تدبر واستكشاف واستشراف المستقبل.

وإذا كانت الاحتفالات تمثل طقوسًا وشعائر للتذكر ولتنشيط الذاكرة؛ فإن الآداب والفنون، على مدار التاريخ، كانت ولا زالت هي الأخرى تمثل مجلى آخر من مجالي تخليد الأحداث والشخصيات المؤثرة في الذاكرة التاريخية للأمم. ولا أدل على ذلك من تمثال ’’نهضة مصر‘‘ لشاعر وقصاص فن النحت الحديث محمود مختار، وما مثلته ولا تزال تمثله سردية هذا التمثال.

1. مختار وسردية التمثال:
وفق ما يرويه لنا بدر الدين أبو غازي، فإن بواكير فكرة التمثال وإرهاصاته الأولى أخذت تتشكل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الثورة تتأجج في نفس مختار من أجل بلاده المنتهكة والمستلبة من الاحتلال، وهو ما جعله يريد أن يقيم صرحًا لبلاده .. شيئًا آخر غير التماثيل التي استلهمها من التاريخ مثل تماثيل ’’خالد بن الوليد‘‘ و’’علي بن أبي طالب‘‘ و’’طارق بن زياد‘‘، ولذا فقد ’’نحت تمثالاً لمصر الثائرة وهي تتأهب للمعركة وتتهيأ لنضال المستعمرين وسجَّل في ملامحها وفي تحفزها لاستلال السيف من غمده ملامح الثورة الناشئة‘‘ (انظر أبو غازي، مختار، ص 32) ولكنه عاد بعد هذا التمثال يفكر في أمر آخر، هناك وراء مطلب الحرية دافع قوي هو اليقظة‘‘ (المرجع السابق، ص 277)

وهكذا، فإن هذا التمثال، كما يبدو، لم يُشبع ما في نفس مختار من مشاعر متأججة وأحاسيس متدفقة تجاه أحداث ثورة 1919، خصوصًا في ظل كونه بعيدًا عن وطنه إبان نشوب الثورة، وهو الثائر بروحه وطبعه، حتى من قبل أن تندلع الثورة، إذ لم يتوانَ ذات يوم حين رأى حكمدار القاهرة الإنجليزي يداهم المتظاهرين عن أن ينقض على حصانه ليسقطه من عليه، ويُعتقل ويُسجن على إثر هذه الواقعة، وهو لم يزل طالبًا بعد في مدرسة الفنون الجميلة. (حول ثورية مختار، انظر أبو غازي، ص ص 20-21). في ظل هذا يمكننا أن نتخيل ما كان يعتمل في وجدان مختار من مشاعر خاصة بثورة 1919. ومن ثم بزغت فكرة تمثال ’’نهضة مصر‘‘؛ وهنا يترك مختار منصبه وعمله كمدير لمتحف جريفين في باريس ليتفرغ لتجسيد هذه الفكرة التي ملكت عليه روحه ووجدانه وكل وجوده وكيانه على مدار عامين على نحو ما يمكن أن نستشف من عبارات صديقه ومعاصره في باريس مجد حفني ناصف، الذي يقول لنا:

’’تغلغلت الفكرة في صدر مُصوِّرنا فوضعها على الورق ثم صوَّرها صغيرة ثم كبَّرها حتى استقر قرار فكره على أن يكون حجمها هكذا، وكلما أراد أن يخط خطًا انبعث في مخيلته أثر من آثار جلال النهضة، يحاول مُصوِّرنا أن يترجم عما في فكره من الخيال فيظل يحذف ويضيف ويضغط ويُضخِّم، يرى أن هذه الهيئة من الطين لا تنطق بما في نفسه فيهدمها ثم يعيدها فإذا ابتعد عنها وقد أنهك العمل قواه العقلية والجسمية ووجد أنه ينقصها شيءٌ من الرونق والحياة حمل ذراعُه رأسَه ثم استند إلى منضدة ينظر إلى ما صوَّر وهو باهت؛ هكذا يبقى بقية النهار، فإذا استفاق جر أرجله إلى مخدعه فلا هو مستيقظ نشط ولا هو نائم مستريح. هنا تتضارب في نفسه مضارب شتى من الخيال فيبكر لتصويرها إلى ما قبل الغروب وهو مأخوذ بالأمل. يروقه ما صنع فيركب عربة وتراه بشوشًا خفيف الروح عليه مخايل الثقة بالنفس، ولكنك لا تلبث في اليوم التالي أن تراه مكتئبًا وهكذ وهكذا حتى تم له ما أراد، وإن ما يقع للشاعر في قصيدته أو الموسيقار في أغنية وضعها هو الذي وقع لمُصوِّرنا عامين.‘‘

(أبو غازي، مختار، ص 278)

لقد استثارت مقالات مجد حفني ناصف خيال الأمة المصرية واستنفرت طاقاتها الكامنة في تجسيد وتخليد لحظة يقظتها ونهوضها، خصوصًا أنه أشار في المقال الأخير إلى ضرورة اقتناء تمثال مختار بمعرفة البلديات ووضعه في ميدان عظيم من كل بلد، كما أنه قد توافق في هذه الأثناء أن سافر الوفد المصري برئاسة سعد زغلول إلى باريس للدعوة للقضية المصرية، وتعرف أعضاء الوفد على مختار من خلال الجمعية المصرية التي كانت غالبيتها من الطلبة المصريين، وقد شاهد أعضاء الوفد التمثال قبل أن يعرضه، فنال أعجابهم جميعًا، و’’أدركوا أن هذا الشاب المجهول هو من دواعي فخرهم وأنه بجهوده الصامتة يؤدي للقضية المصرية أجل الخدمات ومن واجبهم أن يُمهِّدوا له الطريق ليأخذ مكانه اللائق في بلاده.‘‘ (المرجع السابق، ص 279)

 

النسخة الباريسية من التمثال التي عرضها بمعرض الفنون بباريس ونال عليها الجائزة عام 1920.

ثم أخذت تتوالى مقالات عديدة لكل من حافظ عفيفي وأمين الرافعي، وويصا واصف، وواصف بطرس غالي تدعو للاكتتاب من أجل تمويل صنع تمثال ’’نهضة مصر‘‘. وفي ظل هذه الدعوات المُفعمة بالحرارة والزاخرة بالحماس، وما تم ترجمته ونشره من إشادات بتمثال مختار في ’’الفيجارو‘‘، و’’المجلة الحديثة للفنون‘‘ وسواها، أخذ المصريون يرون في تمثال مختار سفيرًا لقضية التحرر والحرية، وإنهاء الاحتلال، وأنه حُجة ناطقة على جدارة مصر بالحرية والاستقلال، وأنها أمة حية ونابضة ومتفجرة بالطاقة والحيوية وقادرة على وصل ما انقطع مع تراثها الحضاري العريق. بعبارة أخرى، وعلى حد ما تشير بث بارون؛ فإن الحماس لنجاح وإنجاز مختار في فرنسا قد أطلق حملة من أجل أن يتم نحت التمثال بالحجم والمواصفات التي تجعل منه أثرًا تذكاريًا. (Baron 2005: 67)

ولعل هذا هو ما حدا بالكثير من المصريين البسطاء والفقراء من صغار عمال وباعة جائلين وفلاحين وسواهم إلى أن يتبرعوا بقروشهم القليلة مشفوعة بخطابات تُعرب عن مدى أسفهم وأساهم لعدم قدرتهم على التبرع بالمزيد وتعكس إلى أي مدى يتماهون مع كل ما هو مُضمَّن في هذه الرسالة العالمية الناطقة باسم مصر، والمَمْهُورة باسم شعبها، على النحو الذي تُجسِّده سردية التمثال. ولا شك أن بعض هذه الرسائل المُصاحبة للاكتتاب تعكس وتُصوِّر وتُجسِّد ما كانت عليه المشاعر الوطنية في هذه المرحلة من تاريخ مصر من حرارة وحماس وتأجج واتقاد؛ إذ نجد عُمالاً، طلابًا صغارًا، أطفالا من البنين والبنات، وسيدات يتماهون جميعًا مع فكرة مختار وما تمثله فكرة مختار، لقد أصبح التمثال هكذا أيقونة للهوية المصرية التي بذل المصريون الكثير من التضحيات بحثًا عنها وفي سبيل إنجازها.

ولكيما نُدرك هذا يمكننا مُطالعة بعض رسائل المُكتتِبين، فهذه رسالة ’’الشحات إبراهيم الكيلاني‘‘، وهو أحد الفعلة البسطاء بهندسة السكة الحديد بالزقايق، وقيمة تبرعه ستمائة مليم: ’’إنني رجل فقير جدًا أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل ويوميتي 70 مليمًا ومتزوج بيتيمة الأب وأم زوجتي تبيع ترمسًا ولي شغف بقراءة الصُحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنتُ جالسًا أقرأ جريدتكم الغَرَّاء بكيتُ بكاءً شديدًا فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فأخبرتُها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم فقالت زوجتي إنها تتبرع بمائة مليم أيضًا وقالت أمها مثلها وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أمَّا أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تمتلك إلا 50 مليمًا فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفَّرت له 50 مليمًا فأحضرتْهم فأصبح المجموع 600 مليم، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر وتتوسطوا في قبوله، ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإني أدعو جميع الفعلة زملائي في الزقازيق وخلافها وأدعو أيضًا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر‘‘ (المرجع السابق، ص 281)

كما نجد صوتًا نسائيًا يُعبِّر على أجلى ما يكون عن مُساهمة المرأة الخلاقة في النهضة: ’’سيدي الفاضل مدير الأخبار: إن المرأة المصرية التي كانت لها يدٌ تُذكَر في تشجيع النهضة الوطنية في مصر لا تستطيع أن تُحْجِم عن البذل في سبيل إقامة تَذكار يُخلِّد ذكرى النهضة، ولا شك أن السيدة برهنت في الحركة الأخيرة على مبلغ شعورها بالواجب وإدراكها لمعنى التعاون، لا شك في أنها ستقوم بتأدية ما هو مفروض عليها لتنفيذ هذا المشروع الجليل الذي سيكون شاهدًا على أن المصري والمصرية متكافئان في تقدير الواجب وتشجيع العاملين، وإني أرسل إليكم مع هذا خمسة وعشرين جنيهًا آملة أن يكون ذلك فاتحة اكتتاب كبير تقوم به سيداتنا العاملات حتى تُبرهن المرأة المصرية مرة أخرى على أنها لا تتردد في الاشتراك في كل ما يعود على مصر بالنفع والخير. حرم حسن الشريف‘‘ (المرجع السابق، ص ص 281-282).

وهنا بالطبع ووفق الكيفية المستخدم بها دال ’’النهضة، في كلا الرسالتين يمكن للمرء أن يدرك بسهولة أن هذا الدال مُستخدَم وكأنه مرادف للفظ ’’الثورة‘‘. كما يصف أحد التلاميذ الصغار في رسالته هذا الاكتتاب بالقداسة إذ يقول إنه يريد أن يفتتح حياته ’’بالاشتراك في هذا الاكتتاب المُقدِّس‘‘ بنصف ما يملك وهو خمسة وعشرون قرشًا، ويُقسم بوطنية مختار، وهو قسم كما تعلمون عظيم، أنه لو كان يملك مئات الجنيهات لاكتتب بنصفها كذلك. وفي ظل هذه الأجواء الحافلة بالحماس والحرارة الوطنية يعود مختار من باريس إلى مصر ليُنجز مشروعه الذي لم يعد مشروعه وحده، وإنما مشروع الأمة بأسرها. وتبلغ اكتتابات المُكتتبين ستة آلاف وخمسمائة جنيه اقتطعها الكثير من فقراء هذه الأمة من قوتهم اليومي من أجل تحقيق وتجسيد الرمز، رمز نهضتهم. ويتم الترخيص من الحكومة بإقامة التمثال في ميدان المحطة في مدخل العاصمة، بقرار من مجلس الوزراء في 25 يونيو 1921 وأن يكون إنشاء القاعدة وإقامة التمثال تحت إشراف وزارة الأشغال. (انظر المرجع السابق، ص ص 276 – 283)

نعم لقد رأى المصريون في تمثال نهضة مصر خطابًا منشورًا أو رسالة مفتوحة للعالم أجمع عن جدارة مصر واستحقاقها للحرية والاستقلال؛ وكأنهم بشكل لا واعٍ كانوا يدركون أن كل من يرى من أصحاب الضمائر الحرة هذا الإبداع المصري المُعبِّر عن إرادة نهوض مصر لا بد من أن يقر بأحقية وجدارة مصر في الحرية والتحرر. لقد أدرك المصريون أن التمثال ما هو إلا تكثيف لكل آمالهم وطموحاتهم، ولكل أحلامهم وتطلعاتهم نحو المستقبل بقدر ما هو تلخيص جامع ومكثف لتراثهم الحضاري العريق الذي أخذوا ينفتحون عليه من جديد في ظل ما كان يظهر من كشوف أثرية متتابعة.

لقد كان مختار وكل المتحمسين للمشروع يدركون أن ما يصنعه مختار ليس مجرد تمثال أو عمل فني، بل إنه، ومن اللحظة الأولى، يصنع أثرًا خالدًا، يصنع عملاً هو، من لحظته الأولى ومن قبل أن تمر عليه السنون، أثر بكل معنى الكلمة، عمل مصنوع من لحظته الأولى ليدخل التاريخ بمعناه الفني والإنساني والسياسي والحضاري، أثر يُضاف إلى ثروات مصر الرمزية ورأسمالها الرمزي والثقافي. (حول مفهوم الثروات الرمزية، انظر Bourdieu 1996: 141-173 )

لكن إن كانت هذه هي مشاعر الغالبية العظمى من جموع المصريين، فقد كان هناك بالتأكيد من لا يريدون لمصر أن تنهض وألا تكون هنا في الزمان والمكان، وأن تظل على حد عبارات السياب ’’هناك في جانب التل تنام نومة اللحود‘‘ (السياب، أنشودة المطر، ص 124)؛ ومن ثم كانوا يناهضون ويعرقلون إنجاز هذا المشروع، خصوصًا أن هذه النهضة ــ الثورة، أو الثورة ــ النهضة اقترنت بعدوي القصر اللدودين: (الوفد وسعد زغلول) وقد كانوا بالطبع من أشد المتحمسين لمختار ولمشروع التمثال. ومن ثم فقد كان من المُقدَّر حتمًا على مختار ومشروعه أن ينال جزاءه من هذه الكراهية المُضمرة للوفد ولسعد من جانب القصر، ومن جانب كل الحكومات الموالية للقصر.

وهكذا لم يحل كل هذا الحماس من قِبل كل فئات وطبقات الشعب والصفوة دون الكيد السياسي من جانب القصر وحكومات القصر؛ ومن ثم لم تتوانَ كل الحكومات المُناهِضة للوفد، وعلى رأسها حكومة زيور باشا (1924-1926) عن أن تُعوِّق وتُعطِّل المشروع من خلال سخافات وتفاهات بيروقراطية عديدة، وهي سخافات من قبيل التلكؤ والتباطؤ في اعتماد المبالغ المالية المطلوبة لاستكمال المشروع بعد أن نفد مبلغ الاكتتاب، وإيقاف صرف مكافأة مختار أكثر من مرة من قِبل وزارة الأشغال، ومن العجيب أنه قد تم قطع المكافأة في إحدى هذه المرات بسبب سفر مختار إلى باريس وكأنه ليس فنانًا، وإنما، على حد رده على الوزراة، موظف في وزارة الأشغال تغيَّب عن العمل؛ ومن ثم وجب عليه الخصم نتاج تغيبه، في حين أنه قد سافر لأمور متعلقة بتمثال النهضة، ولكي يعرض تمثاليه ’’لقية في وادي الملوك‘‘ و ’’كاتمة الأسرار‘‘ في معرض الفنانين الفرنسيين، إلا أن المفارقة أنه بينما كانت الحكومة المصرية تقطع عنه المكافأة بحجة تغيبه كانت وزارة الخارجية الفرنسية تعد المذكرات للإنعام عليه بوسام جوقة الشرف تقديرًا لإبداعه. (انظر المرجع السابق، ص 48)

ومن التجليات الأخرى للفجاجة البيروقراطية التي مارستها الحكومة مع مختار مطالبته بتقديم شهادتي حُسن سير وسلوك، مما دفع مختار إلى الرد بخطاب لاذع في سخريته، (انظر أبو غازي، مختار، ص 50). والمؤكد أن مواقف وزارة الأشغال مع مختار في زمن زيور لا تدعو لشيء سوى السخرية، والسخرية اللاذعة والمرة. وكما يتضح فإن الكراهية الدفينة للوفد ولسعد من قِبل الملك فؤاد كانت بالتأكيد هي السر في ممارسة حكومة زيور الموالية للقصر، ممثلة في وزير الأشغال ’’حسين سري باشا‘‘، وموظفي وزارة الأشغال، لإبداعاتهم البيروقراطية العديدة والعتيدة من أجل تعطيل إتمام المشروع، خصوصًا أن الملك فؤاد كان قد قابل مختارًا بعد عودته إلى مصر، وطلب منه أن يصنع له تمثالاً نصفيًا؛ إلا أن مختارًا لم يستجب للطلب الملكي، وكأنه كان يستشعر في أعماق وجدانه نوعًا ما من تضارب المشاعر والانقسام الوجداني ما بين تجسيد وتخليد رمز نهوض الأمة وتطلعاتها وأحلامها، وتخليد ملك أقل ما يُقال عنه إنه لا يرتقي إلى مستوى طموحات أمته وشعبه.

وفي مقابل هذا بالطبع كانت تربط مختارًا بسعد وبالزعماء الوفديين علاقات وثيقة. وهكذا ظلت سياسة التلكؤ والمُماطلة مستمرة حتى فاز الوفد في انتخابات عام 1926، وشُكِّلت وزارة برئاسة عدلي يكن أغلب وزرائها وفديون. لكن على الرغم من كل ذلك، وكل ما عناه مختار من أجل إتمام تحفته الفنية هذه نجده يسمو ويعلو على كل هذه السخافات، وعلى أي نزعة ذاتية؛ ولعله هنا تحديدًا يجدر بنا أن نستمع إلى صوت مختار وكلماته، وهو يُوجِز لنا في عبارات كاشفة وبالغة الدلالة والتكثيف، وهو على وشك الانتهاء من إنجاز النسخة المصرية من التمثال في يناير عام 1927، سردية هذا التمثال الأيقونة وقصته التي ليست في الحقيقة سوى سردية فرعية على السردية الكبرى، أو السردية الإطار، أي سردية ثورة 1919 التي تولدت منها هذه السردية وسرديات أخرى عديدة سواها؛ إذ يسأله مندوب ’’البلاغ‘‘:

عد بنا إلى الوراء يا أستاذ واسردْ عليَّ بالاختصار تاريخ التمثال.

فقال:

ـــ كان ذلك في سنة 1920. وكنتُ حينذاك بباريس حيث اشتركتُ في المعرض العام. وليس الاشتراكُ فيه أمرًا سهلاً؛ لأن اللجنة صارمة جدًا في أحكامها، ويكفي أن أقول لك: إن الذين يتقدمون إليه لا يقل عددهم عن خمسة آلاف أو ستة آلاف، واللجنة تختار منهم ستين أو سبعين حفارًا تمنحهم الجوائز. ومجرد الاشتراك في ذلك العرض يُعد فخرًا كبيرًا للفنانين مثلنا. وقد لفت التمثال لما عرضتُه هناك أنظار اللجنة، وكان لي شرف أن أُنتخَب من بين الفائزين، ولا يسعني إلا أن أشكر الأمة المصرية التي قابلت هذا الخبر بالابتهاج، ومنذ ذلك الحين تكوَّنت فكرة إقامة التمثال في مصر، تخليدًا للنهضة القومية المباركة، وتشجيعًا للفنانين المصريين‘‘ ...

ـــ وإلى من يعود الفضل في تحقيق هذه الأمنية؟

ـــ لا أستطيع أن أجيبك على هذا السؤال وأن أحدِّد فضل هذا أو ذاك من أبناء وطني، فإن الأمة كلها اشتركت مع الحكومة في تحقيق هذه الأمنية. ولم يبقَ هناك فنانٌ يُدعى مختار أراد الناس أن يساعدوه، بل تحولت المسألة إلى فكرة وطنية، وإلى مساعدة الفن المصري. فتمثال نهضة مصر ليس مِلْكًا لأحد ولم يقم بصنعه فرد واحد، بل هو مِلْك لمصر ومصر كلها صنعته وسترفعه على قاعدته.‘‘ (المرجع السابق، ص 309، التشديد من عندي)

إن عبارات مختار هذه حافلة بالكثير والكثير من الدلالات والمعاني والقيم، إذ إنها بداية تنم عن تجرد قلما يُتاح أو يروق لذات مبدعة أن تتحلى بمثله أو أن تمارسه. كما أنه يُدرك ما للأمة المصرية من دور محوري في إبداع هذا التمثال، لا من حيث ما تم التبرع والاكتتاب به من أموال المصريين الفقراء المتحمسين للفكرة إلى حد الشغف والعشق والتقديس، بل من حيث ما قامت به كل فئات وأفراد الأمة من انتفاض ونهوض وثورة وما بذلته من تضحيات كانت وراء إلهامه بفكرة التمثال، إذ إن المُضْمَر في خطاب مختار، لكنه المؤكد، أنه لولا سردية الثورة ما كان التمثال وما كانت سردية التمثال. ’’فتمثال نهضة مصر ليس ملكًا لأحد ولم يقم بصنعه فرد واحد، بل هو ملك لمصر ومصر كلها صنعته وسترفعه على قاعدته.‘‘ هكذا نعود إلى أقنوم ’’الكل في واحد‘‘ الذي تجلى في عودة الروح لدى توفيق الحكيم. وكأن تمثال ’’نهضة مصر‘‘، وفق عبارات العبقري المُبدِع مختار، ليس عملاً فرديًا، بل إبداع جماعي أبدعته ثورة 1919 عبر وسائط عدة منها مختار نفسه الذي تلقى وحي الأمة فصاغ الفكرة في هذا النموذج المُصغَّر، ثم عادت الأمة لتتبنى الفكرة وتدعمها ماديًا ويقوم هو بتنفيذها مُجَدَّدًا في صيغتها الأكمل في مصر.

لكنه هنا لا يكف أيضًا عن الإبداع والتحدي لنفسه كيما يبلغ بالفكرة آفاق الكمال، لا من خلال إعادة النظر في تمثيل الفكرة ولكن من خلال إعادة النظر في المادة المُجسِّدة للفكرة؛ إذ يختار مختار حجر الجرانيت ليكون المادة التي يُجسِّم ويُجسِّد من خلالها الفكرة في نسختها المصرية. وحين يسأله مندوب البلاغ:

ـــ ولماذا وقع اختياركم على حجر الجرانيت الذي يصعب نحتُه والذي يُقال إنه من أصلب ما يُوجَد من الحجارة؟

يُجيبه هكذا:

ـــ وقع اختيارنا عليه لأن قدماء المصريين كانوا يصنعون تماثيلهم منه، فأردنا أن نربط الماضي بالحاضر، وكأننا الآن نعود إلى ألفي سنة إلى الوراء، ونقطع الجرانيت من المكان الذي كان أجدادنا يقطعونه منه لصنع تماثيلهم. (أبو غازي، مختار، ص 309) ولكيما ندرك ما يعنيه النحت في الجرانيت، دعونا نستعرض ما يسرده لنا مندوب البلاغ ’’نهض الأستاذ مختار وتناول ’’الأزميل‘‘ أو ’’الأجَنَة‘‘ التي اشتغل بها واقترب من التمثال وضرب ضربتين متواليتين فتطاير الشرر من الحجر وانكسرت ’’الأجَنَة‘‘ ثم التفتَ إليَّ وقال:

ـــ هذا ما يجري لنا منذ ابتداء العمل، يوجد عندنا هنا حَدَّاد لا عمل له إلا صنع ’’الأجَنَات‘‘ هذه التي تنكسر بعد ضربتين أوثلاث.‘‘

(أبو غازي، ص 310)

أما عن علاقة النسخة المصرية بالنسخة الباريسية، فيسأل مندوب البلاغ مختار:

ـــ هل أدخلت على النموذج الذي عرضتَه بباريس تعديلاً ما؟

ـــ كلا؛ فإن هذا التمثال الكبير ليس إلا صورة طبق الأصل للتمثال الصغير الذي عرضتُه بباريس ونلتُ الجائزة عليه. على أن هناك بعض تعديلات فنية طفيفة أدخلتها عليه وهي لا تُغيِّر شيئًا في أصله. (أبو غازي، ص 310)

وأخيرًا، وبعد هذا اللقاء تأتي جولة أخرى من جولات البيروقراطية المصرية الأصيلة، إلى أن يترأس النحاس الوزارة، فتتدافع عجلة العمل ويتم إنجاز التمثال، إلا أن الملك يؤجل رفع الستار أكثر من مرة، إلى أن يتعطف ويتكرم ويوافق على تحديد يوم الأحد الموافق العشرين من مايو عام 1928؛ فتجتمع رموز الصفوة المصرية في ميدان محطة العاصمة، ميدان السكة الحديد، ليشاركوا في حفل رفع الستار عن هذه التحفة الجرانتية التي استغرق الانتهاء من تشكيلها، بفضل الأيادي البيضاء للبيروقراطية المصرية العريقة، ثماني سنوات كيما تتحول من آفاق الأمل والطموح والرغبة لأمة حالمة ومناضلة إلى واقع مرئي وملموس يجسد آمال وأحلام هذه الأمة في النهضة والنهوض. وقد كان ممن حضروا من رموز النخبة وممثليها مليك البلاد آنذاك الملك فؤاد، وأعضاء البرلمان، ورئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا الذي ألقى كلمة الاحتفال، وأعضاء الحكومة، فضلاً عن جموع الصحفيين والمراسلين، والمندوب السامي البريطاني لورد لويد، وبالطبع، وعلى رأس كل هؤلاء جميعًا، خالق العمل ومبدعه محمود مختار؛ فضلاً عن إلقاء قصيدة شوقي التي نظمها بهذه المناسبة. (انظر رزق، نهضة مصر، جريدة الأهرام، بتاريخ 28 فبراير، عام 2002)

 

2. تمثال نهضة مصر التشكيل والدلالة:
لقد اقترنت ثورة 1919 من خلال تحفة خالد الذكر محمود مختار بمفهوم النهضة على نحو ما يشير اسم تمثاله (نهضة مصر) الذي أتى ليُجسِّد دلالات ومعاني يقظة ونهضة مصر والمصريين. واللافت أن تجسيد نهوض مصر هذا يُعبَّر عنه من خلال وقفة امرأة فلاحة ترفع طرحتها عن وجهها بيدها اليسرى بينما تضع يدها الأخرى على تمثال أبي الهول في حركة واحدة تجمع ما بين دلالة الاحتواء لهذا التراث المصري الخالد والتواصل معه، وإمكانية اقتياده أيضًا نحو آفاق المستقبل الواعدة، وهي في هذا منتصبة، ممشوقة القوام، وعيناها تتطلعان إلى الأمام، وإلى الأعلى، ليجمع التمثال في إهاب واحد ما بين الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل داخل وحدة واحدة متجانسة ومتكاملة في تشكيلها الجمالي وتكوينها التاريخي على حد سواء.

إلا أن اللافت هنا هو اختيار مختار لتجسيد نهضة مصر من خلال هذا التمثيل الاستعاري المتمثل في صورة امرأة شابة منتصبة القامة، امرأة فارعة، عفية قوية، حاسرة الوجه ترتدي ثياب فلاحة مصرية ترفع طرحتها بوقار وجلال وثبات بيدها اليسرى لتواجه العالم وتتطلع إليه، بينما ينسدل الجزء الأيمن من عباءتها، أو بالأحرى مَلَسَها على ظهر أبي الهول وتضع يدها اليمنى على رأسه، بكل ما يرمز إليه أبو الهول من عقل وقوة، وعمق حضاري.

لكن دعونا نتوقف بداية تجاه دلالات اختيار مكونات العمل الفني، إذ لدينا أبو الهول كتيمة فرعونية قديمة يُعاد توظيفها في سياق جديد وحديث ليؤكد من خلالها وعبر ما تنطوي عليه من تركيب لمجازين مُرسلين هما جسد أسد، ورأس إنسان ليرمزا من خلال مزجهما معًا إلى كينونة جديدة لا نظير لها في الكائنات، كينونة تمثل القوة الفيزيقية في قمة عنفوانها، والعقل القادر على إدارة هذه القوة وتوجيهها، فضلاً عن الوضعية التي يتخذها جسد أبي الهول والتي هي أشبه ما تكون بوضعية التحفز الدالة على النهوض واليقظة من خلال امتداد القائمتين الأماميتين وتحديد وتجسيم وإبراز المخالب. والأسد وفق الأسطورة الفرعونية هو حارس وحامي البوابات (انظر تيبو، موسوعة الأساطير الفرعونية، ص 28) فضلاً عن ترصيع تاج أبي الهول بهذا الحضور الدال لأفعى الكوبرا بكل ما لها من رمزية على السيادة والقوة والقدرة على الانقضاض وبصق السم في وجوه الأعداء، إضافة إلى هذه القدرة على تغيير الجلد والتحول والتجدد، والمرونة، كما تشير إلى التوقد والحيوية والطاقة القتالية، ولذا ’’كان ملوك مصر يضعونها دائمًا فوق جباههم‘‘ (انظر المرجع السابق، مادة حية حامية ص 133، ومادة كوبرا ص 273). كما ترمز الحية الحامية وفق الأسطورة االفرعونية إلى العنف الدفاعي الكامن بالمبدأ الأنثوي، وعن مقدرتها على الفتك أو الحماية (انظر نفسه، ص ص 133-134).

والمؤكد أن مختار لم يستنسخ أبا الهول بالصورة التي هو عليها إلى اليوم، وإنما أعاد تشكيله في منحوتته؛ ولا أدل على ذلك من اعتراض الأديب عبد القادر المازني على تحوير مختار وإعادة تشكيله لتيمة أبي الهول الفرعونية؛ إذ نجد المازني، في مقاله الشهير الذي نشره في جريدة السياسة الأسبوعية بتاريخ 9 يونيو 1928، أي بعد أقل من عشرين يومًا على رفع الستار عن تمثال ’’نهضة مصر‘‘، يعقد مقارنة بين أبي الهول الفرعوني وأبي هول مختار منتصرًا فيها للأول على حساب الثاني دون أدنى اعتبار للسياق التاريخي والموضوعي الخاص بكلا العملين، وبشكل يبدو غريبًا على ما نعرفه عن المازني من حساسية ومن انتصار للجديد والتجريب، حيث يقول بعبارات واضحة لا لبس فيها:

’’كلا، تمثال مختار على براعته لا شيء حين يقيسه المرء إلى أبي الهول الفرعوني، فإنه على هذا الوجه من الكآبة والجد والتشوف والصبر والجلال والنبل، ما ليس له شبه في وجه الإنسان ـــ وهو حجر ولكنه فيما يبدو للعين يُفكِّر، ينظر إلى الدنيا حوله، ولكن نظرته تتخطاها إلى الفراغ الذي يلفها في طياته، وتتطلع إليه فيخيل إليك أنه يرد عينه إلى الماضي متجاوزًا محيط الزمن وأمواج أجياله وقرونه أو متراجعًا بها ومُطبقًا بعضها على بعض حتى تعود وقد امتزجت وآضت مدًا واحدًا عند أفق القدم، نعم يُفكِّر أبو الهول هذا في الحروب التي دارت أرحاؤها في الأزمنة الغابرة، وفي الدول التي شهد قيامها وسقوطها، وفي الأجيال التي رأى مولدها وراقب نهضتها ولاحظ فناءها، وفي المسرات والأحزان والحياة والموت والرفعة والذلة التي دارت بها آلاف من السنين البطاء.

ودعْ ما أرادوا أن يرمزوا له به، إن كانوا قد قصدوا إلى شيء من ذلك. فما أراه أنا إلا تجسيدًا لتلك الملكة الإنسانية التي يسمونها ’’الذاكرة‘‘ في صورة بارزة محسوسة، وما من أحد عرف أي شعور تُحرِّكه في النفس ذكرى الأيام السوالف، وماذا ترسم على الوجه، إلا وهو يستطيع أن يقرأ ذلك كله في هاتين العينينِ اللتين يديرهما أبو الهول فيما عرفه وشهده قبل أن يُولد التاريخ ... والمرء ينظر إلى أبي الهول الساهد ويفكر في آلاف السنين التي قضاها هنا على حافة الصحراء فلا يستغرب ولا يخالجه شيء من الشعور بالتنافي بين هذه الدهور الطويلة وبين مقامه هذا، و ذلك أن ربضته تشيع في النفس معنى الاستقرار التام. وقد أحسن القدماء بإيثار الربوض له، فإنه جِلسة مريحة تقترن في الذهن بمعنى الاستمرار، وليس كذلك «النهوض» كما هو مُصوَّر في تمثال مختار، والمرء خليق حين يعود إليه مرة بعد أخرى أن يحس أن لهذا الوضع ما بعده، إما أن يثب إلى الأرض، وإمَّا أن يعود إلى الجثوم والراحة والسهوم مرة أخرى، أما البقاء هكذا يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا في عقب عام، فليس من السهل على العقل أن يأنس إليه ويقتنع به‘‘ (أبو غازي، مختار فنان الثورة، ص ص 325-326، وكذلك المازني، صندوق الدنيا 50-51)

لقد غير وحوَّر إذًا مختار في تشكيل تيمة أبي الهول الفرعونية؛ إذ غير وضعيته من وضعية الربوض والقبوع التي هو عليها في ساحة الأهرامات إلى وضعية التحفز والتوثب والانتصاب الواعدة بإمكانية الانقضاض، إضافة إلى ما أضفاه على جسد الأسد من رشاقة وانسيابية يؤكدان معنى التحفز وإمكانية الانقضاض سواء من خلال المادة المستخدمة الجرانيت المصقول أو التشكيل ذاته. إلا أن المؤكد أن هذا التغيير ليس على هذا النحو الذي يصفه المازني وينتصر فيه لأبي الهول الفرعوني على أبي هول النهضة، والذي يصل فيه إلى وصف تحفة مختار بأنها لا شيء إذا ما قورنت بأبي الهول الفرعوني، خصوصًا أن المازني يختزل حتى دلالات أبي الهول الفرعوني المتعددة في دلالة واحدة وحيدة لا يجاوزها ولا يبرحها وهي دلالة الذاكرة والشاهد على الزمن، في حين أن هناك العديد من الدلالات التي يمكن قراءتها في نص أبي الهول الفرعوني، ومن بينها على سبيل المثال الحصر، دلالة حارس الأهرامات وملوكها، بكل ما تنطوي عليه هذه الحراسة من رمزية، فضلاً عن كونه أمثولة لتمثيل قوة الدولة المصرية ذاتها بما هي هذا المزيج من القوة الفيزيقية الحية في أجلى صورها الرمزية والعقل الإنساني المُخطِّط والمُدبِّر وسائس هذه القوة، وهي دلالة مُضمَّنة أيضًا في توظيف مختار للتيمة.

يُضاف إلى ذلك أن حِجاج المازني كله مبني على فرضية ضمنية تقتضي أن يكون أي توظيف لتيمة أبي الهول الفرعونية مجرد استنساخ للتيمة، وهو ما يعني مصادرة حق الفنان في الخيال والتلاعب بدلالات التيمة وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع موضوعه ومنظوره الجمالي. إلا أن أهم ما في إعادة تشكيل مختار لنص أبي الهول النحتي هو، كما سبق القول تغيير وضعيته من وضعية الربوض والقبوع التي هو عليها في ساحة الأهرامات والتي تتناسب وتتوافق تمامًا مع موقعه من مقابر الملوك الفراعين الجالس والرابض من أجل حمايتها وحمايتهم، إلى وضعية التحفز والتوثب والانتصاب الواعدة بإمكانية الانقضاض والحركة المُجسِّدة لتيمة النهوض والرغبة في الحركة والاندفاع إلى الأمام وإلى المستقبل. وهو ما يتوافق ويتجاوب مع ما أضفاه مختار على جسد الأسد من رشاقة وانسيابية يؤكدان معنى التحفز وإمكانية الانقضاض سواء من خلال المادة المستخدمة الجرانيت المصقول أو التشكيل ذاته.

ولا شك أن مقارنة من هذا النوع تُغفل في حقيقة الأمر السياق التاريخي واللحظة التاريخية والدلالات المُضمَّنة في كلا النصين التشكيليين، فضلاً عن هذا الاجتزاء من قِبل المازني لوحدة تمثال النهضة إلى الحد الذي لا يرى معه ضرورة ما لحضور المُكوِّن الثاني من مكونات هذا النص التشكيلي أصلاً على نحو صادم وفاجع؛ ولا يخلو، بالطبع من دلالة على موقف ضمني، أو لا واعٍ، من المرأة؛ إذ نجده على نحو غريب يصدم القارئ بقوله: ’’وهذه الفتاة المنصوبة إلى جانب أبي الهول لا أفهم معناها ولا أدري لماذا يقيمها المثال هناك ويضنيها بهذه الوقفة المتعبة؟ ولو كنتُ أنا مختارًا لاستغنيتُ عنها جملة ولاجتزأتُ بأبي الهول وحده؛ لأنه إذا كان المراد الرمز إلى أن مصر تنهض، فإن أبا الهول بمفرده حسبُ من شاء أن يرمز إلى ذاك. ولن يركب الجهل أحدًا فيتوهم أن المراد به رومية أو قرطاجنة، ففي نهوضه وحده ما يكفي رمزًا لنهوض البلاد التي اقترن اسمه بتاريخها.‘‘ (أبو غازي، مختار، ص ص 326-327، و المازني، صندوق الدنيا، ص 52)

وكأن المازني يريد من مختار أن يُعبِّر عن تيمة النهضة باستنساخ أبي الهول الفرعوني فحسب. ومع ذلك فإنه يمكن الرد على المازني بأن أبا الهول حاضر، وإن كان كتمثال نصفي لكن بوجهه الفرعوني، كمكون من مكونات تمثال مصطفى كامل؛ حيث يضع مصطفى كامل يده اليسرى على أعلى رأسه، ومع ذلك فما من أحد يمكنه أن يستشف من حضوره أي دلالة على النهضة أو النهوض، كما أنه توجد أيضًا صورة بارزة أسفل قاعدة التمثال الأمامية من البرونز لفلاحة شابة تستمع لمصطفى كامل وهو يخطب، ووجهها مكشوف وعلى رأسها طرحة، (انظر، الرافعي، مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، ص 298 وانظر أيضًا Baron 2005: 65) إلا أنه أيضًا ما من إمكانية لاستخلاص أي دلالة على النهوض أو الحركة أو التغير والتغيير، بل إن التمثال كله غارق في سكونية شاملة، لا مجال بحال من الأحوال لمقارنتها بكل ما في تمثال ’’نهضة مصر‘‘ من دينامية واحتشاد، وهي الدينامية التي دفعت شوقي إلى أن يُصوِّر هذه الحيوية في قصيدته عن التمثال، حيث يقول:

تَعالَوا نَرى كَيفَ سَوّى الصَفاةَ فَتاةً تُلَمـلِمُ سِربالَها
دَنَت مِن أَبي الهَولِ مَشيَ الرَؤومِ إلى مُقْـعَدٍ هاجَ بَلبالَها
وَقد جابَ في سَكَراتِ الكَرى عُروضَ اللَيالي وَأَطوالَها
وَأَلقى عَلى الرَملِ أَرواقَهُ وَأَرسى عَلى الأَرضِ أَثقالَها
يُخالُ لِإطراقِةٍ في الرِمالِ سَطيحَ العُصورِ وَرَمّالَها
فَقالَتْ تَحَرَّك فَهمَّ الجَماد كَأَنَّ الجَمادَ وَعى قالَها
فَهَل سَكَبَت في تَجاليدِهِ شُعاعَ الحَياةِ وَسَيّالَها
أَتَذكُرُ إِذ غَضِبَتْ كَاللُباةِ وَلَمَّت مِنْ الغِيلِ أَشبالَها
وَأَلقَتْ بِهِم في غِمارِ الخُطوبِ فَخاضوا الخُطوبَ وَأَهوالَها
وَثاروا فَجُنَّ جُنونُ الرِياحِ وَزُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزالَها
وَباتَ تَلَمُّسُهُمْ شَيخَهُم حَديثَ الشُعوبِ وَأَشغالَها
وَمَن ذا رَأى غابَةً كافَحَت فَرَدَّت مِن الأَسرِ رِئبالَها

(شوقي، الشوقيات، ص ص 571-572)

إن أبيات شوقي تنطق تمامًا بما في التمثال من حركة وحيوية وإيقاعات متنوعة ورمزية، إضافة إلى أنها تقيم هذا الحوار التفاعلي بين الفتاة وبين أبي الهول، كما أنها تُسقط خصائص أنثى الأسد (اللباة) عند غضبها على الفتاة، في الوقت ذاته الذي يؤنسن فيه الأسد الذي يبدو وكأنه يعي قول الفتاة فيستجيب لها بوضعيته الجديدة تلك، التي تنقله من آفاق الثبات والسكون والربوض إلى آفاق التحفز والانقضاض والحركة، كما أنها تقدِّم لنا أيضًا تأويلاً جديدًا وفريدًا للأسد البشري المتمثل في الرئبال أو في أبي الهول، تأويل يماثل بين هذا الرئبال وبين سعد زغلول، وكأن هذا الرئبال الذي ردته الغابة من أسره هو سعد الذي رده شعبه من منفاه، والحقيقة أن فهم شوقي لنص مختار النحتي يثريه ويضفي عليه أبعادًا تأويلية وأيقونية تتوافق تمامًا مع لحظة وأفق التلقي، على العكس تمامًا من تلقي المازني، إذ يرى شوقي التمثال وكأنه يحكي ويسرد سردية الثورة، في الوقت الذي يبدو فيه المازني غير قادر على إدراك ثراء النص التشكيلي وتعدد مستويات وطبقات الدلالة الكامنة فيه.

وإذا كان لنا أن نقارن حضور أبي الهول في كل من تمثالي مصطفى كامل والنهضة؛ فإنه يمكن القول إنه لا مجال للمقارنة كذلك ما بين وضع مصطفى كامل ليده اليسرى على رأس أبي الهول، وحركة احتواء يد الفلاحة اليمنى لأبي الهول في ’’تمثال نهضة مصر‘‘ بكل ما تتضمنه وتنطوي عليه من وحدة عضوية نعدم نظيرها مع تمثال مصطفى كامل على الرغم مما قد يبدو من تشابه ظاهري في ظل وجود نفس المكونات: أبي الهول والفلاحة الشابة، بل إن حركة وضع مصطفى كامل ليده على رأس أبي الهول تكاد لا تعدو كونه يستند على مجرد تمثال لأبي الهول وليس على هذا الرمز الجليل، بكل ما ينطوي عليه من معاني ودلالات، إذ يبدو أبو الهول مُقزَّمًا تمامًا مقارنة بوضعية مصطفى كامل، بينما لا تنطق ملامحه سوى بشكل من أشكال الاستحسان السلبي الذي تبدو ملامحه فيه أشبه بملامح طفل مبتهج لما يسمع، وكذلك هي الفلاحة يعلو ملامحها نوع من البهجة السلبية، وفيما عدا ذلك ثمة سكون يهيمن على تمثال مصطفى كامل فيما يخص كل من أبي الهول والفلاحة، وإن كان هناك ما هو حي وناطق في التمثال كله فهو مصطفى كامل نفسه دون ما سواه.

تمثال مصطفى كامل (Baron 2005: 66)

وهكذا يبدو التلقي الجمالي لتمثال نهضة مصر لدى المازني غريبًا؛ إذ يبدو فيه المازني غير قادر على تلقي تحفة مختار الفنية، وأسيرًا ومغلولاً في قيود الفن الفرعوني دون ما سواه، غير قادر على رؤية أي جمال فيما عداه. هذا في حين أن المكون الثاني من مكونات هذا النص التشكيلي البديع، المتمثل في الفلاحة يُجسِّد مكونًا من أهم مكونات الهُوية المصرية التي أراد مختار أن يُجذِّرها ويؤكدها من خلال هذه الفتاة التي لا يرى لها المازني ضرورة، والتي يرى أنه لو كان من مختار لمحاها محوًا واكتفى بأبي الهول دون ما سواه، وهو ما ينم عن رؤية ذكورية خالصة للهوية المصرية، وهي الرؤية التي يمكن أن نقول إن مختارًا كان يريد أن يزلزلها ويخلخلها ليس فقط من خلال نصه التشكيلي هذا، وإنما من خلال العديد من نصوصه التشكيلية الأخرى. لكن لنتوقف الآن إزاء الفلاحة وتشكيلها داخل الوحدة الكلية للنص التشكيلي.

إذ تبدو الفلاحة غاية في الرشاقة والسمو والسموق، والثقة في النفس، بتقاطيع تجمع ما بين الجمال والتصميم، والصرامة والعزم، وعينين تتطلعان إلى الأمام (المستقبل) وإلى الأعلى (أي إلى أهداف وغايات ومعاني وقيم عليا وسامية). ولا شك أن اختيار مختار لامرأة فلاحة وليس لأي امرأة أخرى من الأرستقراطية (الصفوة) أو من الطبقة الوسطى يحوي في ثناياه الكثير؛ إذ يعني ضمن ما يعني التخلي عن النموذج العثماني – التركي للمرأة بقدر ما يعني أن هذا النموذج العثماني التركي لا يمثل مصر كما لا يمثل نساءها اللائي يمكن أن يمثلنها، مثلما يعني أيضًا أن نهضة مصر لا بد لها من أن تنبع من أرضها وطينها وحقولها، ولا يمكن لها أن تكون إلا من خلال من ينتمون إلى أرضها ويرتبطون بها.

لقد كان بوسع مختار أن يختار ملكة من الملكات المصريات اللائي حكمن مصر في الماضي حتشبسوت (ت 1458) أو نفرتيتي (1338) أو سواهما، لتمثل مصر وترمز إليها، إلا أن مثل هذا الاختيار كان سيبدو مفارقًا بأكثر من معنى وأكثر من صورة، كما كان يمكنه أن يختار بعض النسوة اللائي شاركن في أول مظاهرة نسائية مصرية، إلا أن هؤلاء النسوة المدنيات المُنتميات إلى الشرائح العليا من البرجوازية كن ينتمين إلى أصول مختلفة ومختلطة، ولذا، وكما يبدو فإن مختارًا قد أراد أن يُقدِّم مصر الراسخة في الأرض وعلى ضفاف النيل، ولم يكن هناك ما يمكن أن يمثل هذه الصورة سوى الفلاحة المصرية المغروسة في طين هذه الأرض والنابتة منها ومن طينها، الفلاحة التي عايشها طفلاً ويافعًا على ضفاف النهر، والتي سبق لها أن رفعت هذه الحضارة على رأسها والمنوط بها اليوم أن تُعاوِد هذه الدورة مرة أخرى.

لعل هذا في تقديري هو ما حدا بمختار أن يختار الفلاحة المصرية رمزًا لمصر فضلاً عما يعنيه هذا الاختيار لها من رد اعتبار ورد شرف خصوصًا في ظل ما كان يُمارس على الفلاحات بشكل خاص من قِبل المُحتل من انتهاكات واغتصاب على نحو ما حدث في دنشواي وفي قرية العزيزية والبدرشين ونزلة الشوبك، وسواها. (انظر على سبيل المثال فقط، الرافعي، ثورة 1919 تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921، ص ص 293 -296، وانظر أيضًا محفوظ، بين القصرين، وحديث الشيخ متولي مع السيد أحمد عبد الجواد حول ما حدث في العزيزية والبدرشين، صص 542- 545).

وهكذا يجمع العمل بين مكونين ويجاورهما على نحو تفاعلي، وكأنه يصهرهما في وحدة واحدة: امرأة فلاحة ممشوقة القوام سامقة وشامخة ترفع عن وجهها طرحتها، وأبو الهول ينهض وكلاهما يتطلعان إلى الأعلى وإلى الأمام، وكأن هذ الأعلى وهذا الأمام المتمثل في التطلع إلى المستقبل هو ما يجمعها معًا ويؤلف وحدتهما. إن أبا الهول والمرأة يمثلان معًا مصر: أبو الهول الناهض يُوحي بإعادة ولادة المجد المصري القديم؛ بينما ترمز الفلاحة وهي تزيح طرحتها إلى تحرر مصر الحديثة، وإلى قدرتها على الرؤية الواضحة والصافية.

إن ارتباط المجازين معًا ـــ عبر حركة يد المرأة الفلاحة الحاضنة لرأس أبي الهول ـــ يصل الماضي بالحاضر كما يصل الأنوثة بالذكورة في وحدة واحدة لا يمكن أن تنفصل فيها دلالات النهضة المصرية عن الجمع في إهاب واحد ما بين معاني الأنوثة والذكورة، واجتماع الاثنين معًا في وحدة واحدة متفاعلة ومتكاملة ومتآزرة. وهو ما يعني ضمنيًا أنه لا يمكن للنهضة أن تكون دون هذا الحضور الأنثوي الخلاق والفريد. كما تجمع الفلاحة مجموعة من السمات اللافتة تتمثل في: الحيوية والطاقة والألق والبهاء والقوة، إضافة إلى نهديها النافرين المتفجرين بالجمال والنضارة والأنوثة والحياة، فضلاً عن ذراعها الأيسر الحاسر بكل ما لانحسار الثوب هذا عن الذراع من دلالة على العفوية والهمة، والنشاط والاستعداد للحركة والعمل؛ إضافة إلى تجسيم كل من تقاطيع وجه المرأة الفلاحة وما فيها من استدارات ناعمة تجسد معاني ودلالات الأنوثة، فضلاً عن انسيابية هذه الاستدارات التي تُجسِّم وتُجسِّد دلالات الشباب والفتوة والنضارة، وهي دلالات يوجزها ويُعبِّر عن بعضها مطران في قصيدته عن التمثال:

صَوَّرْتَ نَهْضَتَهَا فَجَاءَتْ آيَةً تَدْعُو إِلَى الإِكْبَارِ وَالإِجْلاَلِ
يَا حَبَّذَا مِصْرُ الفَتَاةُ وَقَدْ بَدَتْ غَيْدَاءَ ذَاتَ حَصَافَةٍ وَجَمَالِ
فِي جَانِبِ الرِّئْبَالِ قَدْ أَلْقَتْ يَداً أَدْمَاءَ نَاعِمَةٍ عَلَى الرِّئْبَالِ
بِتَلَطُّفٍ وَرَشَاقَةٍ بِتَعَفُّفٍ وَطَلاَقَةٍ بِتَصَونٍ وَدَلاَلِ
(مطران، الأعمال الشعرية الكاملة، ص ص 1079-1080).

وكذلك تبدو تقاطيع وجه الرجل ناطقة بالحياة والشباب والفتوة والقوة، فضلاً عما تعكسه من رجولة وشموخ وتحديد وتحدٍّ وعزم وتصميم وصرامة بما يليق بوجه ملك من ملوك مصر القديمة، وهو ما يومئ إليه هذا التاج الفرعوني على رأسه المزدان بأفعى الكوبرا بكل ما لها من دلالات رمزية سبقت الإشارة إليها.

إن الفلاحة تجسِّد فكرة الانغراس في الأرض والتمسك بها، وعدم القابلية للانفصال عنها. وهي كلها معانٍ وقيم ثمة حاجة ماسة لتأكيدها في ظل ما يمثله المحتل المغتصب للأرض. ولقد ظلت لهذا التمثيل، تمثيل مصر بامرأة فلاحة، أصداؤه في أعمال فنية أخرى، على نحو ما نجد في فيلم ثرثرة فوق النيل، وليس في الرواية، إذ تحول مقتل الفلاحة نتاج حادثة السيارة ليصبح تمثيلاً كنائيًا لما حدث لمصر مع هزيمة يونيو، حيث ظلت عبارة (الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا) تتكرر بشكل هستيري على لسان ’’أنيس‘‘ المسطول ثم على ألسنة بقية الشلة.

إن اختيار الفلاحة في منحوتة نهضة مصر لمختار تُحيل بشكل غير مباشر على مفهوم الوطن، من خلال إحالتها على الأرض واقتران الفلاحة بالأرض، كما تحيل على النيل من خلال اقتران الأرض بالنيل واقتران الفلاحة بهما معًا؛ ومن ثم تحيل على مفهوم الخصوبة والتجدد والحياة. وهكذا فإن مفهوم الوطن وليس مفهوم الأمة هو المفهوم المتجسد في منحوتة مختار. إنه الوطن الثابت والراسخ في المكان والحاضر والممتد في التاريخ والزمان، والقادر على استيعاب البشر منذ زمن أبي الهول وزمن الفلاحة التي تمثل هوية مصر الممتدة منذ هذا الزمن وحتى هذه اللحظة.

إن الفلاحة إذًا لا تشير إلى المرأة فقط، وإنما تشير إلى تيمة حافلة ومُحمَّلة بالكثير من الرموز والدلالات كما سبقت الإشارة. فالفلاحة هنا دال متعدد المستويات والدلالات؛ إذ بقدر ما يُحتفَي، في حضورها هذا، بالفلاحات والفلاحين كطبقة وجماعة تاريخية يُحتفَي أيضًا بالمرأة عمومًا، وبقدر ما يُحتفَي بالمرأة والفلاحين يُحتفَي كذلك بالأرض التي يمثل الاحتفاء بها في هذه اللحظة تحديدًا قيمة مطلقة من المهم التأكيد عليها في ظل حضور المحتل. فالفلاحة باختصار رمز مُركَّب يُحيل على هوية مصر الممتدة عبر ما يحويه داخله من اقترانات. هذا بالإضافة إلى ما تشير إليه بث بارون من تأنيث الهوية وتمثيل مصر بوصفها امرأة؛ (See Baron 2005: 57- 81) مما يجعل على المستوى اللاواعي اغتصاب الأرض من قِبل المحتل مُعادِلاً لاغتصاب كل نساء هذا الوطن، وهو ما يُحفِّز ويستنفر قيم الشرف بمعناها التقليدي الموروث على النحو الذي يُجسِّده بيت المتنبي الشهير:

لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ مِنْ الأذي حتَّى يُراقَ على جوانبِه الدمُ

كما يشير حضور أبي الهول هنا أيضًا إلى القوة التي يمكنها أن تصون هذا الشرف وتحميه. باختصار إن منحوتة مختار ليست شيئًا آخر سوى أنها أليجوري وأيقونة بصرية وسردية للهوية. ولعل من أبرز المفارقات التي انطوى عليها الوعي المصري الحديث في علاقته بالمرأة، أو لنقل الوعي الذكوري الحديث هو تمثيل مصر رمزيًا بوصفها امرأة، في الوقت ذاته الذي ظلت تتم فيه محاولات حجب المرأة وإزاحتها وإبعادها ومقاومة دخولها إلى الفضاء المُؤسَّسي والسياسي للدولة وإلى الفضاء العام بعامة. وهو ما يتضح، على سبيل المثال، في مقاومة التعليم الجامعي للنساء، ورفض حضورهن افتتاح البرلمان المصري في 15 مارس عام 1924على الرغم من كل ما قمن به من أدوار منذ اندلاع الثورة وحتى هذا التاريخ، ومقاومة حصولهن على حق التصويت والترشح في المجالس النيابية، حتى صدور دستور 1956، ناهينا عن عدم مشاركتهن في الحكومة حتى 25 سبتمبر عام 1962 حين تم تعيين حكمت أبو زيد كأول امرأة تشغل منصب وزيرة.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يختار مختار الفلاحة المصرية تحديدًا وهي تحسر طرحتها عن وجهها ليُعبِّر من خلالها عن نهضة مصر؟ هذا مع إدراك أن ثورة 1919 قد شهدت خروج المرأة المصرية للتظاهر وأن خروج المرأة المصرية اقترن بالثورة المصرية، وأن هذا الخروج كان في المدينة، وتحديدًا في العاصمة، في القاهرة. فلماذا لم يختر مختار امرأة مدينية؟ هل لأن النساء المدينيات آنذك كن مُنقَّبات غير حاسرات؟ أم لأنه كان يحاول أن يصل المدينة بالقرية والقرية بالمدينة أو على حد عبارات أحمد زكي أبي شادي:

ما كان تمثالُكِ المحبوبُ مِنْ حَجَرٍ بلْ كان مِنْ مُهجاتِ الرِّيفِ والمُدنِ

(أبو غازي، مختار، ص 397)

من خلال نقل تيمة وقيمة إنسانية وتواصلية حافلة بالحياة والحيوية من القرية إلى المدينة، من فضاء الحركة في الحقل إلى فضاء المدينة لينقل المرأة المدينية من عالم الحريم المغلق والمنغلق، وفضاء وعتامة وقتامة اليشمك والبرقع والحبرة المُخفِية والمُختزِلة لهوية النوع إلى تعبيرية الوجه الأنثوي وإشعاعه الإنساني النابت من الأرض والمُنتمي إليها.

إن التمثال بهذا المعنى كان يصب أيضًا بشكل رمزي وعلى نحو غير مباشر في إيقاظ الهوية النوعية للمرأة كنوع اجتماعي، وبوصفها أصل وعمود هذه الحضارة المصرية العريقة. ذلك أن تحويل المرأة الفلاحة في وقفتها المنتصبة الشامخة لكيما تصبح أمثولة كنائية لنهضة مصر وثورتها، في ظل مشاركة المرأة في الثورة، وفي ظل خروجها للفضاء العام، لهو نوع من أنواع التوكيد والحفر لهذا الخروج وإعادة كتابة وحفر لهذه المشاركة في الوعي المصري الجمعي، بعبارة أخرى إنه نوع من أنواع التطبيع البصري للحضور الأنثوي في الفضاء العام، أو لنقل إنه نوع من إعادة كتابة وحفر النوع الاجتماعي في ثنايا وتلافيف الوعي الجمعي المصري. كما أن اختيار أن يكون ميدان محطة مصر هذا المكان العتبي بامتياز والذي يمثل نقطة التلاقي ما بين الذاهبين والقادمين، ما بين الراحلين والعائدين، ونقطة الوصل ما بين المدينة والريف، والريف والمدينة، لهو أيضًا اختيار حافل بالدلالات والرسائل؛ إذ يجعله أشبه ما يكون بتمثال يانوس حارس البوابات والمداخل، وهو ما يتوافق أيضًا مع الدلالة الرمزية للأسد في الأسطورة الفرعونية بما هو حامٍ وحارس للبوابات.

وقد كان اختيار ميدان محطة مصر كفضاء لنصب التمثال اختيارًا نموذجيًا؛ إذ إنه مكان يتيح لكل قادم أن يكون أول ما يراه من معالم القاهرة هو هذا التمثال، مثلما أنه أيضًا آخر ما تقع عليه عينا المغادر لها. هكذا يلعب اختيار الموقع دورًا بالغ الأهمية في عمليات شحن الذاكرة الجمعية والوجدان الجمعي بالقيم والمعاني والدلالات المُضمَّنة في هذا العمل الفني البديع والرفيع الذي يجمع في إهاب واحد تاريخ وحاضر مصر؛ وما تتطلع إليه هذه الأمة المصرية من مستقبل. كما أنه على مستوى آخر يمكن القول إن جسد الأسد يشير على نحو مجازي إلى جسد الشعب في إشارة واضحة إلى القوة التي يمتلكها هذا الشعب والمُمَّثل والمُجسَّد من خلال جسد الأسد، وأن الرأس الإنساني المتصل والملتحم بهذا الجسد يشير إلى القيادة المُوجِّهة لهذا الجسد، وأن مصر تحتضن الاثنين من خلال حركة يد الفلاحة الحاوية والحاضنة للرأس.

إلا أن المفارقة المُدهِشة والعجيبة هي أنه في العشرين من مايو عام 1928 وفي اللحظة التي يتم فيها تمثيل مصر بوصفها امرأة تُمنَع النساء المصريات من حضور حفل رفع الستار عن التمثال، على نحو يكشف عن مدى المسافة الكائنة ما بين الوعي التقدمي للفنان الذي جسَّم وجسد آمال وطموحات الوطن في صورة امرأة، والوعي الرجعي للساسة والقائمين على إدارة شئون الحكم في البلاد الذين منعوا تمثيل المرأة في هذا الافتتاح لهذا العمل الفني البديع الذي تمثل المرأة كينونته وقوامه الفني، إلا أن المفارقة الثانية هي أن فلاحة مختار كانت، في تلك اللحظة التي كانوا يمارسون فيها هؤلاء الساسة ذكوريتهم البدائية والبغيضة، تعلو رؤوسهم جميعًا لتسخر منهم هازئة من سذاجة وبلادة مثل هذا المنع. وبالطبع؛ لم تكن سخرية فلاحة مختار هذه من حجب بنات جنسها سوى تجلٍ آخر من تجليات مكر الفن الذي يفوق دومًا مكر الساسة وقِصر نظرهم.

وهكذا يمكن القول إن مختارًا قد حوَّل النحت، من خلال تمثال نهضة مصر، إلى طاقة تعبوية عُظمى تشحن جموع الأمة بقيم ومشاعر الانتماء والشرف الوطني والكرامة الوطنية، كما حوَّله إلى وسيط من وسائط شحن الذاكرة التاريخية للأمة، وإلى سلاح حضاري راقٍ من أسلحة التحرر والاستقلال. لقد استطاع مختار من خلال تمثال ’’نهضة مصر‘‘، وكذلك من خلال الجداريات التي طعَّم بها قواعد تمثالي سعد زغلول في القاهرة والأسكندرية أن يرتقي بالفن من أن يكون مجرد أداة للتسلية والترفيه فحسب ليصبح وسيلة من وسائل الارتقاء بالحس الوطني والوجدان الجمالي في آن واحد وتكريس القيمة، وأن يحفر أيضًا عبر هذه الجداريات العديد من قيم ثورة 1919 التي أشرنا إليها في مفتتح هذه القراءة.

ولا شك أن المتأمل لمجمل إنتاج مختار النحتي يستوقفه بالضرورة هذا القدر اللافت من الحضور الأنثوي في أعماله، بقدر ما يستوقفه أيضًا أن الغالبية العظمى من هذا الحضور الأنثوي في تنويعاته المختلفة يتجلى ويتحقق عبر تيمة متكررة هي تيمة الفلاحة. ولعله يمكن القول إن أبا شادي يمكن أن يكون أول من رصد هذا البعد لدى مختار وصاغه شعريًا في إحدى قصائده العديدة عنه؛ حيث يقول:

والمرأة الحاكم الغلابُ في عِظَمٍ فإن تَهُنْ فمصيرُ الشعبِ للإحنِ
فمَا لغيرِ سواها دانَ غابُرهُ وإنْ بنا في غدٍ مجدٌ لها يَدنِ
أجْمِلْ بها فِنَّةً غنَّاءَ ساميةً ترُدُّ عنه عوادي الدَّهرِ والفتنِ
ما بجَّل الشعبُ أنثاه وقدَّسَها إلا وقدَّس معنى عزةِ الوطنِ
لِمَنْ نَكِدُّ إذا لم تبلُغي شَرَفًا في العيشِ والمجدِ معصومينِ عنْ ثمنِ؟
وما الحياةُ سوى حبٍّ ندينُ له بالسعي والجهدِ والإسعادِ والمننِ
فإن مضى الحبُ في تحقيرِ مطلعِه فما غنيُّ الورى في البعدِ عنْهُ غني
قِفي بقامتِك الهيفاءِ باسمةً للشعبِ، فاتنةً بالروحِ والبدن
ما كانَ تمثالُكِ المحبوبُ من حَجَرٍ بلْ كانَ مِنْ مُهجاتِ الرِّيفِ والمُدنِ

ولعل استعراضًا سريعًا لأعمال مختار يؤكد هذا أيضًا على نحو لا لبس فيهٍ، بعبارة أخرى، لقد كان مختار من خلال نماذجه النحتية النسائية يعيد كتابة الهوية المصرية بما يستعيد لها أبعادها الأنثوية وبما يحقق لها توازنها على مستوى النوع الاجتماعي. ولقد بنيتُ حكمي هذا من خلال رصد التماثيل الذكورية التيمة في مقابل التماثيل الأنثوية التيمة اعتمادًا على كتاب بدر الدين أبو غازي:

إذ كما يشير بدر الدين أبو غازي في كتابه العمدة عن مختار، فإن إعداد بيان شامل لكل تماثيل مختار ليس بالأمر اليسير، كما أن تحديد تواريخ هذه الأعمال هو أيضًا أمر تقريبي، وليس متاحًا بالدقة المطلوبة في العديد من الأحوال. هذا فضلاً عن أن بعض هذه الأعمال مفقود أو مجهول المصير (انظر أبو غازي، مختار ص 135)، إلا أننا يمكن أن نقدم هذا الرصد التقريبي وإن كنا نعلم أنه غير جامع وغير دقيق إلا أنه بالتأكيد يؤكد فرضيتنا رغم عدم دقته وشموله:

التماثيل الذكورية التيمة
عهد مدرسة القاهرة

(1) تمثال نصفي لمصطفى كامل (مجهول المصير)

(2) تمثال نصفي لمحمد فريد (مجهول المصير)

(3) تمثال نصفي لزميله محمد حسن

(4) التسول

(5) تمثال ابن البلد

 

عهد مدرسة باريس
(6) كليمنصو

(7) ويلسن

(8) تمثال خالد بن الوليد

من سنة 1927 إلى سنة 1929

(9) تمثال ثروت باشا (1927)

(10) تمثال عدلي يكن باشا

(11) تمثال علي ابراهيم باشا

(12) تمثال سعد زغلول باشا

(13) رأس مسيو فيس

(14) رأس سري باشا

(15) رأس بدوي باشا (وقد حطمه بعد عرضه في معرضه بباريس)

(16) رئيس البشارين

(17) رأس مسيو مجليه

(18) المتسولون العميان الثلاثة

(19) حارس الحقول

من سنة 1930 إلى سنة 1933

(20) تمثال سعد زغلول بالإسكندرية

(21) تمثال سعد زغلول بالقاهرة

(22) 13 نوفمبر نحت بارز (جدارية على تمثال سعد زغلول بالإسكندرية)

(23) هتاف الجماهير ’’نحت بارز‘‘ (جدارية على تمثال سعد زغلول بالإسكندرية)

(24) أصحاب الحرف ’’نحت غائر‘‘ (جدارية على تمثال سعد زغلول بالقاهرة)

(25) فلاح في السوق

(26) شيخ البلد

(27) فارس وحصان

 

التماثيل الأنثوية التيمة
عهد مدرسة القاهرة

(1) خولة بنت الأزور

(2) الحب

(3) رأس جارية

(4) تمثال سيدة وعربة

(5) تمثال مصرية

(6) رأس زنجية

 

عهد مدرسة باريس

(7) تمثال عايدة

(8) البالرينا آنا بافلوفا

(9) أم كلثوم

مشروع تمثال نهضة مصر

(10) تمثال نهضة مصر

بعد تمثال نهضة مصر

(11) ملكة سبأ (برونز، 1922)

(12) التأمل (رخام)

(13) المباغتة (رخام)

(14) تمثال نصفي لحرم داود راتب بك (رخام)

(15) تمثال نصفي لفتاة

(16) السيدة ذات النقاب (برونز)

(17) اللقية (برونز، 1926)

(18) قارئة الأسرار (برونز، 1926)

(19) حاملة الماء (رخام)

(20) الفلاحة المرحة (جبس)

(21) على أثر التعب (بازلت، 1926)

(22) نحو ماء النيل (بازلت، وتوجد نسخة برونز بمتحف الفن الحديث، 1926-1927)

من سنة 1927 إلى سنة 1929

(23) الفلاحة (جبس، 1927)

(24) امرأة القاهرة (رخام، 1927)

(25) الأميرة (رخام، 1927)

(26) الأسى (بازلت، 1927)

(27) فلاحة جالسة (حجر)

(28) نحو ماء النيل (رخام)

(29) على شاطئ النيل (حجر)

(30) نحو الحبيب (رخام)

(31) إيزيس (رخام)

(32) يوم الخماسين (حجر)

(33) الإغفاءة (حجر)

(34) عند مدخل القرية (حجر)

(35) امرأة من الشعب (جرانيت)

(36) العودة من النهر (حجر)

(37) عروس النيل (حجر)

(38) أمام النيل (رخام)

(39) زوجة شيخ البلد (برونز)

(40) العودة من السوق (رخام)

(41) مدام أ.هـ (حجر)

(42) بائعة الجبن (برونز)

فتاة وضب (رخام)

(43) ابنة الشلال (برونز)

(44) عند لقاء الرجل (برونز)

(45) في الطريق إلى المزارع (رخام)

(46) الفلاحة تجر الماء (حجر)

(47) على شاطئ النهر (برونز)

(48) آخر شياطين الغابات (برونز)

من سنة 1930 إلى سنة 1933

(50) تمثال الوجه البحري (برونز)

(51) تمثال الوجه القبلي (برونز) ......تمثال سعد زغلول بالإسكندرية

(52) تمثال الوجه البحري (برونز تمثال سعد زغلول بالإسكندرية

(53) 13 نوفمبر ’’نحت بارز‘‘ (برونز) تمثال سعد زغلول بالإسكندرية

(54) الزراعة ’’نحت غائر‘‘ (برونز) تمثال سعد زغلول بالقاهرة

(55) تحية مديريات القطر ’’نحت غائر‘‘ (برونز) تمثال سعد زغلول بالقاهرة

(56) العدالة (برونز) تمثال سعد زغلول بالقاهرة

(57) الدستور (برونز) تمثال سعد زغلول بالقاهرة

(58) الإرادة (برونز) تمثال سعد زغلول بالقاهرة(78) فلاح في السوق

(59) ملكة سبأ ’’نحت غائر‘‘ (الأثر الأخير لمختار 1933)

(راجع أبو غازي، مختار، ص ص 135-139)

وقد تجاوب الشعر مع تمثال نهضة مصر تجاوبًا فعالاً ولافتًا، خصوصًا تمثيل مصر بوصفها امرأة، وتأنيث الهوية على هذا النحو، إذ نجد العديد من الصور الشعرية المؤكدة على جماليات هذه التيمة ودلالاتها؛ إذ نجد على نحو ما يرد في كتاب بدر الدين أبو غازي عن مختار أن أحد الفضلاء يرسل للأخبار هذا النص دون أن ينص على اسمه:

بلِّغوا العـالمَ أنَّا أمةٌ خلعتْ ثوبَ الهوى واللعــبِ
حدِّثوا التاريخَ عَنْ أبنائِها كيفَ راضوا اليومَ صعبَ المركبِ
وانظروا مصرَ وقَدْ صوَّرَها نابغُ الشَّرقِ لأهلِ المغربِ
هلْ يرونَ اليومَ إلا غادةً جمعتْ بين الحِجـا والأدبِ
كلَّلَ الطُّهرُ مُحيَّـاها وقـدْ وقفتْ وقفةَ مـقدامٍ أبي
وأبو الهولِ إلى جانبِها رافعُ الهامةِ شـاكي المَخْلَبِ
نهضتْ للمجدِ ’’مصرُ‘‘ في حمى كلِّ ليث من بنيها أغلبِ
أيْ سُراةَ النيلِ هذا يومُكم توِّجُوا بالفخرِ هـامَ الحِقبِ
صرخَ النيلُ بكم فاستمعوا وأجيبـوا بالرضا صوت الأبِ
وارفعوا تمثالَ مصرَ بينَنَا ترفعـوها فوق هام الشُّهبِ
(أبو غازي، مختار فنان ثورة 1919، ص ص 291-292)

إلا أن اللافت أنه على الرغم من هذا الإقرار بما تمثله هذه الغادة من عقل أو حِجا وأدب، فإن هذا الشاعر الفاضل المجهول الاسم لا يني يُذكِّر هذه الغادة في وقفتها ويُضفي عليها قيم الذكورة؛ إذ يصف وقفتها بأنها ’’وقفة مقدام أبي‘‘:

كلَّلَ الطُّهرُ مُحيَّاها وقدْ وقفتْ وقفةَ مـقـدامٍ أبي

وإذا كان يمكن القول إن اختيار الأماكن التي تُنْصَب وتُوضَع فيها التماثيل يعكس الكثير من الدلالات السياسية والثقافية ما بين العصور السياسية المختلفة، فمن المؤكد أن نقل تمثال نهضة مصر إلى ميدان جامعة القاهرة واستبدال تمثال القائد العسكري رمسيس الثاني به في عام 1955 في ميدان محطة مصر كان حافلاً بالعديد من الدلالات والمعاني والقيم وما طرأ على مفهوم النهضة ومعانيها ومفاهيمها من تحولات، بعد 1952، وهنا لا بد من أن نُذكِّر بأن مختارًا قد ضمن أحد خطاباته إلى وزير الأشغال ألا تنقل الحكومةُ التمثالَ إلى مكان آخر إلا بموافقته، وكأنه كان يقرؤ الغيب ويدرك بحدسه أن هذا سيحدث ذات يوم. (انظر أبو غازي، ص 289)

وأخيرًا، لا يسعني سوى أن أؤكد في ختام هذه القراءة على أن مختارًا كان ولا زال واحدًا من أبرز وأرقى صناع الوجدان المصري الحديث والمعاصر، ولذا فإنني أدعو وزارة الثقافة المصرية أن تقيم العام القادم (2020) مؤتمرًا عالميًا عن مختار بمناسبة مرور قرن على النسخة الباريسية من تمثال نهضة مصر.

 

المصادر والمراجع العربية

أولاً: المصادر والمراجع العربية

أبو غازي (بدر الدين): مختار فنان ثورة 1919، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2019.

الحكيم (توفيق): عودة الروح، مكتبة الآداب، الجماميز، القاهرة، 1935.

الزيات (نذير)، فن النحت، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق، ط2، 2000.

الرافعي (عبد الرحمن): مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، دار المعارف، القاهرة، 1984.

ــــــــــ: ثورة 1919 تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى 1921، دار المعارف، القاهرة، 1987.

شوقي (أحمد): الشوقيات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.

المازني (عبد القادر المازني): صندوق الدنيا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.

محفوظ (نجيب): بين القصرين، دار الشروق، القاهرة، 2005.

مطران (خليل)، الأعمال الشعرية الكاملة، جمع وترتيب ومراجعة وتقديم دكتور أحمد درويش، الكويت، 2010.

ثانيًا: المقالات

رزق (يونان لبيب): نهضة مصر، جريدة الأهرام، بتاريخ 28 فبراير، عام 2002).

 

ثالثًا: المراجع المترجمة

تيبو (روبير جاك): موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية، ترجمة عبد الله محمود، مراجعة محمود ماهر طه، المشروع القومي للترجمة (482)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004)

رابعًا: المراجع الأجنبية

 

Baron, Bethh (2005) Egypt As a Woman: Nationalism, Gender and Politics, Cairo: The American University in Cairo Press.

Bourdieu, Pierre (1996) The Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field. Translated by

Susan Emanuel. Stanford: Stanford University Press.

Werness, Hope B., Benedict, Scott Thomas, Tiffany-Lozano (2003) The Continuum Encyclopedia of Animal Symbolism in Art. London and New York: Continuum International Publishing Group.