أعطي الكلام في الرواية لكل من جمعتهم الرحلة، وكل بدوره. بذلك كان الكاتب يواكب الميل الروائي المتجدد لتوزيع سلطة الكلام على الشخصيات، تلك التي يخضعها الكاتب عادة إلى سرده، على الرغم من أن تلك الإتاحة ليست إلا استبدالا شكليا طالما أن الشخصيات ستنطق، لا بدّ، بما ينطق به كاتبها.

كتابة الفاجعة … هل هي ممكنة؟

حسن داوود

 

أولئك الذين استبدت بهم رغبة الرحيل إلى إيطاليا كانوا يعلمون أنهم لن يعودوا أبدا إلى قريتهم. ذلك كان باديا في تحضيرهم لمستلزمات السفر وتكاليفه حيث، مثلا، باع أبو حسن بيته وأثاث بيته. الشقيقتان التوأم خولة وخلود سرقتا كل مدخرات الأهل، والأصدقاء الثلاثة صبحي وناجي وباجيو فعلوا ما يماثل ذلك. ثم أن هؤلاء جميعا غادروا من دون كلمة وداع لأحد. وهم بدوا بذلك كأنهم جماعة واحدة خطّطت معا لهجرتها، رغم أنهم متشكلون من حلقات منفصلة إحداها عن الأخرى.
هم أبناء قرية واحدة اقترب كاتب الرواية من تعيين اسمها بذكره أنها في «عكار»، المنطقة الأكثر فقرا في لبنان، وهي قريبة من مدينة حلبا مركز المنطقة. لكن في السفر لهم مآرب مختلفة، وإن كان الفقر هو الجامع بينها. فالشبان الثلاثة قرّروا المغادرة تخلّصا من الخيارات الضيقة أمام طموحاتهم. الشاب «حسن» كان مدركا أنه سيظل يعمل في الحقل طيلة ما تبقى من حياته. الشقيقتان تواطأت إحداهما مع الأخرى على الهروب مدركة أن ميولها المثلية، إن افتضحت، ستؤدي بها إلى ما لا تحمد عقباه. المهم أن الرحلة بدأت في الطائرة، التي أوصلت راكبيها إلى تونس.
من هناك كان ينبغي أن يستأنفوا رحلتهم بالقارب، القارب إياه الذي جرى وصفه، أو وصف ما يماثله، في الكثير من التغطيات الصحافية التي ظهرت في وسائل الإعلام كلها.
وعلى غرار الفاجعة المتكررة، التي جرت تغطيتها في الإعلام، انتهت رحلة هؤلاء، ومعهم راكبون آخرون كانوا قد انضموا إليهم آتين من بلدان أخرى. لم يكن للمخيلة الكتابية إذن أن تبذل جهدا كثيرا في توزيع النهاية على نزلاء القارب، الذين تحولوا جميعهم إلى ضحايا. ذاك أن المأساة التي جرت على هؤلاء كانت قد جرت مرارا في رحلات سبقت. ثم هناك البحر المتسع إلى ما لا نهاية، حيث لا ظهور لمعْلم يدل على أن يابسة هناك. ثم العطش، ثم المغامرة بشرب الماء من البحر. ثم الموج الذي ارتفع فجأة، ومن دون توقّع مِن تجار الرحلة، وحطّم القارب بعد أن انثقب وسطه وراح يتسرب إليه الماء. ثم هناك الضحية الأولى، الطفل الذي مات في حضن أمه التي رفضت أن تُلقى جثته في الماء. ثم تواتر مظاهر الفاجعة وتعقدّها بما يقتضيه تصعيد الذروة الروائية. من ذلك تعاقب الموت على من سبق لنا، نحن قارئي الرواية، أن سمعنا منهم سرد بعض ما كانوا قد عاشوه، أو حلموا بعيشه.

ففي الرواية أعطي الكلام لكل من جمعتهم الرحلة، وكل بدوره. فكانت خولة مثلا، التي يوضع اسمها عنوانا، تعرّفنا أن الكلام، في هذا الفصل الصغير، انتقل إليها من ناجي، أو من أختها خلود الذي وضع اسمها، أو اسمه، في أعلى الفصل الذي سبق… وهكذا. بذلك كان الكاتب يواكب الميل الروائي المتجدد لتوزيع سلطة الكلام على الشخصيات، تلك التي يخضعها الكاتب عادة إلى سرده، على الرغم من أن تلك الإتاحة ليست إلا استبدالا شكليا طالما أن الشخصيات ستنطق، لا بدّ، بما ينطق به كاتبها. وعلى أي حال ليست هذه الصيغة مبتكرة، فهي بدأت منذ عقود كثيرة وتعدّدت في ما يصعب حصره من الروايات. كان الغرض من ترك الشخصيات تروي نفسها بنفسها هو الذهاب إلى مزيد من العمق في معرفتها من داخلها. لكن هل أمكن لروائينا أن يبلغ ذلك؟
الأغلب أننا كنا إزاء شخصيات هي أقرب إلى العمومية. أقصد أن الفتاة المثْلية، إحدى الشقيقتين، جاءت مثالا لمن يعانين ما تعانيه في بيئة مشابهة، وكذلك هو حال الشبان في الهرب من الضيق الملازم للفقر، لا شيء استثنائيا في ذلك الجمع الذي فرّقته الرواية بتعدّد سارديها. لم يصل أيّ من هؤلاء إلى التفرّد، بل إلى الاختلاف، عن عيّنته الاجتماعية أو الشخصية. ولنضف إلى صعوبة تحقيق ذلك العمق هو أننا، هنا في رواية «زبد أحمر» إزاء متكلمين عديدين، حيث من المعلوم أن المصائر التي تسعى الروايات إلى بلوغها تدور عادة على شخصية واحدة.
هي شخصيات عمومية أو شخصيات نموذجية أنيط بها، رغم ذلك، أن لا تكون ممثلة إلا لنفسها. أحسب أن ذلك قليلا ما يصحّ في الأعمال الروائية التي تتخذ أكثر الأحداث دراماتيكية وراهنية موضوعا لها. هي، في الغالب، ستقصر عن بلوغ الفجيعة أو المأساة التي حدثت واقعيا، وما ستحققه لن يتعدى التذكير بأن هذه وقائع حدثت وأننا ندوّنها ها هنا.
٭ رواية سليم اللوزي «زبد أحمر» صدرت عن دار «نوفل» في 278 صفحة- 2020.

 

جريدة القدس العربي