بعد انفجار هائل ثَقَبَ كوكب الأرض، بسبب انفلات سباق التسلح، وجد بطل قصة "دوران" نفسه طريدًا بين الكواكب، رغم سلامة أوراقه الثبوتية، يرفض كوكب "زحل" استقباله-هو المطرود من "المشترى"-بسبب اعتبارهم أن أي قادم من كوكب الأرض هو خطر كوني محتمل. مزج ٌملهم، بلغة متقشفة، بين الإمكانات السردية للديستوبيا، والخيال العلمي.

دَوَران

محمد إبراهيم نويا

 

المقاعدُ مُريحةٌ جداً؛ معْ أنَّ الرحلة لَنْ تَتعدى الثانيةَ الواحدة بِسرعة الضوء، حدّث نفسه ثمَّ نَظرَ إلى المُسافر الذي يُجاورِهُ المقعد وسأله بابتسامة:

  • هل كَوكبُ زُحَلْ بعيدٌ كما يقولون؟
  • أهذه المرةُ الأولى التي تُسافرُ بها؟
  • زرتُ بعضَ الكواكبِ القريبة؛ لكنّها الأولى إلى زحل.
  • مِنْ أيِّ كوكبٍ أنتْ؟
  • مِنَ الأرض، هلْ سَمِعتَ بِها؟
  • لا عَليك، المُهم أن تبدأ فور وصولك مباشرة؛ بِدراسةٍ مُكثَّفة لِلُغةِ الوَمضْ إن كنت تخطط للإقامة, بالإضافة إلى أنّك لن تستطيع العمل بلغتك الكلامية هذه فهيَ لم تعد مستخدمة, على أي حال استعد؛ سَننطَلِق.

أُغلق حِزامَ الأمان أوتوماتيكياً وَسارَ المَكوك الفضائي وفي لَحظة خاطِفة وَصلَ عبرَ بَوابَةِ الزَّمن، خَرجَ جميع المسافرين واصطفّوا بِطابورِ التدقيق، أخَذَ يَتأملُ ما حوله مُنبهراً وَيُطلقُ خَيالَهُ في تَفاصيل المحطة، تراءى أمامه ناطحات السحاب والأبراج العالية الفَخمة رائعة التصميم، والطقس المعتدل, واللون الأخضر الذي أصبحَ مؤخراً يَحنُّ له كثيراً، تذكر أول مطارٍ دولي أرادَ العبورَ مِنهُ إلى دولة مجاورة وشقيقة طلباً للرزق، كانت القيود والإجراءات معقدة لأنَّ اسمه الثلاثي تطابقَ مع اسمٍ لشخص مطلوب؛ حينها أوقفوه بغرض التحقيق لأكثر من اسبوع للتأكد من هويته، شريطٌ كامل من ذاكرته غير الرقمية تدافعَ في لحظتها إلى أنْ قطاعه الرجلُ الآلي المَسؤول طالباً أوراقه الثبوتية, على الفور أعطاهُ جَوازَ سفرِه وَبطاقة هَويته، تمعن بهما فتَغير اللونُ الظاهر في عينيه وأطلق صافِرة مُدوّية فاجتمعَ رِجالٌ آلِيّونَ آخرون، تَفحصوا أوراقه وَطلبوا مِنه أن يصطحبهم إلى غرفة جانبية، تَبِعهم وقد بدأ القلق يَنسابُ داخله, سألوهُ بعد أن ثبتوا على رأسه آلة صغيرة كخوذة الجندي تقوم بتحويل أية لغة الى نبضات كهرومغناطيسية:

  • أنت من كوكبِ الأرض، لِمَ قدمت إلى هُنا وكيفَ وَصلت؟

بارتباك بدأ يَشرحُ لَهم طَريقة هُروبهِ الطويلة مُنذُ خروجه من مَوطنهِ عَقب الأحداثِ الدَّامية، وَسفره إلى كوكبِ المُشتري الذي مَكثَ فيهِ لبعض الوقت, قاطعوه بِسؤالهم:

  • نَعلمُ ما حلَّ بِكوكَبكُم، فهلْ أنتَ من المسؤولين عمَّا حدث؟ وما هيَ الأسباب التي أدت إلى ذلك؟
  • لا ليس لي أيّة علاقة، لكنها الحرب التي دارت بين معظم الدول.
  • كُنتم تعيشونَ في أكثر من دولة, هل يعني هذا أنَّ ثمةَ أكثر من قانون لديكم؟
  • نعم كنَّا ما يقارب الألف وخمسمائة دولة، وكل واحدة تختلف في سياساتها وطرق إدارتها.
  • لكنكم تعيشونَ في كوكبٍ واحد فَلِمَ بدأت الحرب وكيف؟
  • لدينا مجلس دولي مشترك ونظامه يَسري على الجميع؛ إلا أنَّ الدول العظمى هي التي تتحكم به, وهي تُهيمن على الدول الأخرى الصغيرة، أغلبية الدول الضعيفة أنشأت اتحاداً بينها لتَمنع ذلك وتستقل بقرارها، لكن أكثر الدول سيطرة وعنجهية؛ قامت بإلقاء قنبلة متطورة ذات طاقة هائلة جداً على دولة فقيرة بهدف ردع الآخرين، مُصنعو السلاح لَمْ يُقدروا قوتها جيداً؛ فقد ثَقبت الأرض من جهة بعد أن أحدثت دماراً هائلاً في كل شيء، ثمَّ أخذت تخترق وتحفر إلى أن خرجت من جهة أخرى، أعقب ذلك انفجاراً كبيراً, جعلَ أجزاء الأرض تَنفصلُ عن بعضها البعض وتَنقسم إلى قطعٍ كثيرة تناثرت في الفضاء.
  • ماذا حلَّ بكَ وبالآخرين من أبناء جنسك؟

كارثة عظيمة، البعض في المناطق التي لم تُصبها القنبلة قذفتهم الأرض نحوَ السماء وظلُّوا هائمين فيها لفترة طويلة, بعضُنا استنجدَ بمركباتٍ مُسافرة وطلبَ اللجوء فيها، وآخرون حلّقوا لوحدهم إلى الكواكب المجاورة، أما البقية فهم في عِداد المفقودين.

  • أنت؛ ماذا كنتَ تفعل في المُشتري؟ ولِمَ خرجتَ مِنه؟
  • كانت حياتي جيدة ومستقرة بادئ الأمر, وعملي ممتازاً, لكن القوانين الجديدة أصبحتْ صَعبة على اللاجئين، وازدادت كلفة المعيشة وثمَّة مضايقات.
  • هل لك تواصل مع أي أحد من الناجين؟
  • نعم؛ في الفترة الاولى فقط كنت على علاقة مع بعضهم.
  • وَهمْ من ساعدوك صُعود المكوك المُتّجِه هنا؟
  • نعم، دفعتُ إلى أحدهم مبلغاً كبيراً من المال كنتُ قد ادخرته.
  • ما اسمه؟ وهل هو من مواطني زحل؟

لا أعرفهُ جيداً فهو يستخدم الألقاب المتنوعة، أعتقد أنه من المقيمين في المشتري.

  • على أي حال أوراقك سليمة، لكنها لا تخولك الدخول.
  • وما العمل الآن؟
  • الزم مكانكَ ريثَما نُبلِّغُ القائد الأمني المسؤول.

في هذه اللحظة أحنى رأسهُ ووضعَ كِلتا يَديه على وَجههِ وبدأ يَشعرُ بالخوف إلى أن رَجِعوا إليهِ وأمروهُ بِحزمِ أمتعتهِ والصعود في رحلة مكوكيَة مُغادرة إلى المشتري، سألهم مستجدياً ودموعه كادتْ أن تَنفجرُ من عينيهِ:

  • كيفَ أعودُ وقد فرضوا تأشيرةً مُسبقة لا أمتلكها؟
  • للأسف قانونُ المجرات الملتزمون به؛ يتعاملُ مع جميعِ النَّاجينَ من كوكبِ الأرض كمصدرِ خطرٍ وتهديدٍ كونيّ محتمل، ولا يُوجد أية طريقة نستطيع ادخالك بها.

بقوة صرخَ فيهم:

  • لا أستطيع، إلى أين أذهب؟

ناولوه أوراقه وسلموهُ أمتعته دونَ اكتراث ثم حذروه:

  • مهما حاولتَ فلنْ تَدخل، وإنْ بقيتَ هنا فلن تستطيع البقاء طويلاً.
  • لا بأس؛ افعلوا ما يحلوا لكم، لن أرحل.

بعدَ مُكوثهِ خارج الزمن بين البوابات؛ أخذ يَطرقُ الجدران بِقوةٍ وهوَ يَصرخ: انقلوني بسرعة أكبر من سرعة الضوء، أريد أن أرجع بعكس اتجاه الزمن.

 

قاص سوري مقيم في السودان