«كشك اعتماد» ديوان حديث للشاعر والناقد المصري المبدع د. وليد الخشاب، صدر عن دار المرايا بالقاهرة سنة 2019؛ وينسج الشاعر رؤيته المتجددة للوجود من داخل الحياة الأخرى الخفية الكامنة في بنية الصور المقطعة التي تشبه المشاهد السينمائية المتلاحقة في الوعي المبدع؛ ورغم أن هذه الصور تتعلق – في الخطاب الشعري – بالحنين إلى الماضي؛ فإنها تشير أيضا إلى حياتها السردية الأخرى في لحظة الحضور التي تتصل بالماضي، بينما تسخر من مركزيته عبر تقنية التداعي النصي الحر؛ فبنية الصورة تتصل بما يتجاوزها من علامات مستدعاة من فضاءات أخرى، وأزمنة متنوعة، كما تستعاد من منظور مختلف يسخر من مركزية الانطباعات، والتأملات التي اقترنت بلحظة الحضور الأولى؛ وما قد تحمله من دلالات البهجة، والحماسة، وأصالة الفعل باتجاه التحول المستمر، وثراء المدلول، ووفرة الأسئلة، وحالات الاستنزاف والتجاوز للبنى التصويرية المستقرة في الذاكرة.
يحيلنا خطاب وليد الخشاب – إذا – إلى استعادة مشروطة للصور؛ إذ يوحي الصوت المتكلم للقارئ بكل من فعلي التذكر، والإنتاجية النصية التي تكشف عن صيرورة العلامات والصور في سياق جمالي إيحائي آخر مملوء بالفجوات، والتداعيات الحرة، والمزج بين الذكرى، والحلم، والصور السينمائية / اليومية المقطعة التي تقبل إعادة التشكيل والمونتاج في وعي ولاوعي المتكلم، والقارئ معا.
هل تشكل هذه الصور المتلاحقة سيرة شخصية متجددة في تحولات المنظور، واحتفاء النص بوهج الحضور الجمالي المغاير؟ أم أنها تحاول أن تجسد التجلي الظاهراتي للماضي في بنى وعلاقات تأويلية / سيميائية جديدة، دون أن تعود – بصورة مركزية – إلى الحنين أو التذكر؟
توحي نصوص وليد الخشاب بكل من دلالتي الإحالة إلى فترات تاريخية قد تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ثم التحولات الثقافية الثمانينية، والتسعينية، وأثرها في تشكيل وعي مبدع يحتفي بالحداثة، وأحاسيس السخرية، والتجاوز ما بعد الحداثية، كما توحي النصوص أيضا بالارتباطات التفسيرية الحرة اللامركزية بين الصور، والمشاهد القديمة التي قد تنفلت من سياقها باتجاه اللعب، والتحول، واستنزاف المدلول أو تأجيله في ذلك السرد الشعري / السينمائي الذي يشبه لغة الكاميرا في اتصاله بهوية الصوت المتكلم من جهة، والإحالة الجمالية إلى حياة العلامة الخاصة وبنيتها الفريدة من جهة أخرى.
تأتي الصورة - في خطاب وليد الخشاب الشعري – كمفتتح للإنتاجية النصية في حضور آخر مغاير، يحتفي بالبنية الإيحائية المجازية عبر الإحالة الذاتية إلى جماليات الدوال، وتحولاتها، وعلاقاتها المتشابكة اللامركزية في فعل التداعي النصي الحر؛ ومن ثم يذكرنا بتصور جان بودريار حول تطور النظر إلى الصور من حالة التأمل إلى التفاف الصور حول نفسها؛ حيث يتموضع الدال في موقع يتجاوز المدلول المتعين عبر هذه الإحالة الذاتية إلى بنية الصورة. (1).
يؤكد بودريار – إذا – جماليات التشكيل الذاتي للصورة، وإمكانية تحولها عبر حركة الدوران حول الذات أو حول البنية التكوينية للدال؛ وسوف نعاين هذا التجلي الذاتي للصور المقطعة في حياة الحضور النصي الآخر للعلامات في فعل الكتابة، دون مركزية للإحالة إلى الماضي مع الإشارة إلى هذه الإحالة نفسها أيضا، ولكن في سياق يحتفي بهذه العلاقات المتشابكة الجديدة بين المشاهد التي تصنع الفجوات – في بنية النص – لتؤكد تعدديته الذاتية ما بعد الحداثية؛ ولتحتفي بكل من التحول، واللعب كبديلين عن مركزية الحدوث الأول، و الاتصال التاريخي المستقر بين العلامات، والصور.
وتوحي عتبة العنوان / كشك اعتماد بالمزج الشعري بين الحياة الصاخبة في الفضاءات الصغيرة أو الشعبية، والاتساع في الرؤية الجمالية التي تجمع بين فضاءات محلية، وعالمية، وخيالية وفيرة في منطق التداعي النصي في الوعي المبدع؛ فاعتماد شخصية هامشية عابرة تجلت كعلامة في السرد الشعري في مسافة بين الحضور، والغياب، والتجلي كعلامة في نسيج المشاهد التي تلتقطها عين الشاعر، والتي تشبه منظور الكاميرا؛ ومن ثم يحيلنا الشاعر منذ البدايات إلى العابر المتحول الذي يحمل أيضا بذور حياة سردية وشعرية أخرى في الوعي، وفي النسيج الدينامي المتغير للدوال؛ فصوت اعتماد الخاص يغيب في تجليها كدال تصويري مؤجل في الخطاب الشعري.
يحيلنا الشاعر – في قصيدة النوستالجيا – إلى فعل الحنين إلى الماضي، بينما يأتي هذا الفعل نفسه في سياق الاحتفاء بلحظة حضور جمالي آخر ممتدة، ومنشقة عن البنى التاريخية المستقرة؛ ومن ثم يأتي الحدث اليومي – في هذا الخطاب الاسترجاعي – بصورة تختلط بالعابر والحلمي، والجمالي؛ وكأن صور الذات، وصور الآخرين تقع ضمن علامات الكتابة، وصيرورتها.
يقول:
"موسيقى الآبا / تهمس السبعينات في أذني / لا تسألي عما فات / يا هند / ولا عما هو آت / اليوم ممتد للأبد ...
دائما يخطئ الناس نطق اسمي / لا أدري لماذا / لم أعرف في حياتي "خالد" إلا صديق الطفولة / كنت في السادسة من عمري وكان في الخامسة / لم أدخل بيتهم منذ وجدت ثعبانا في الحديقة"(2).
يحيلنا الصوت إلى فعل الحكي، والعودة إلى الماضي الذي يشكل الهوية بينما يشير – في الوقت نفسه – إلى حياة أخرى تمتزج فيها العلامات المتباينة في لحظة الحضور؛ مثل علامات موسيقى فريق الآبا التي ميزت جيل السبعينيات، ومشهد الثعبان في الحديقة الذي يمزج الذكرى بمنطق الحلم وجمالياته، كما يوحي اسم هند ببتداخل أخيلة الحضور مع نظائر الاسم في التراث العربي؛ إذ وجدت لدى عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد؛ فثمة وظائف أخرى تمنحها الكتابة – إذا – للعلامة مغايرة لوظيفة الاستعادة، أو وظيفة الحنين إلى الماضي.
ويتتبع المتكلم حكاية علاء الدين، والمصباح السحري بما تحمله من دلالات بهجة الطفولة إلى تجليه كعلامة لمقهى، أو مطعم؛ وكأن الذكريات تكشف – ضمن بنية الخطاب – عن تعددية القوى الاجتماعية، والثقافية المتصارعة، والخفية فيما وراء الخطاب، كما تؤكد اتجاه الديوان الجمالي في احتفائه بسيمياء التحول في بنى الصور، والدوال؛ فعلاء الدين الذي اقترن بالجن، والكهف الغريب في ألف ليلة، يستعاد هنا بصورة تجمع بين مشاهد السينما وحكايات الأم، وتجليه كعلامة تجارية في السوق.
يقول في نص جنة الطفل:
"علاء الدين صديقي / ينسل من صوت أمي / حين تحكي لي حكاياتها / ويتجسد في ليل غرفتي / يوم دخلت السينما إلى الحياة / شاهدت علاء الدين الروسي / كان له صديق يعمل بهمة / ليصنع له المعجزات / وشاهدت علاء الدين هوليوود / كان لصا لطيفا في بغداد / يسرق التفاح والخبز / وقلوب الأميرات / صحوت يوما لأجد علاء الدين / وقد صار إنسانا من كارتون / يصاحب الجن الأزرق / ... فقد العالم سحره / عندما صار علاء الدين / مقهى قبالة نادي الصيد / يقدم السندوتشات والشيشة / للقابعين في سياراتهم"(3).
يشكل الشاعر النسيج التصويري - في بنية الخطاب – عبر التناص الإنتاجي لحكاية ألف ليلة في سياقات زمنية، ومكانية متنوعة، ومتعارضة أحيانا؛ فيمكننا معاينة بهجة الطفل، وتطور الصورة السينمائية ، ولعب العلامات الأسطورية في أفلام الكارتون التي تشبه الحلم، وتتعارض جذريا مع حتميات الواقع في مشهد المقهى؛ ومن ثم تتصل هذه الصور الجمالية / السردية المقطعة لدال علاء الدين بالقوى الاجتماعية، والثقافية المتعارضة فيما وراء الخطاب؛ ومنها قوى فعل الحكي، فعل الحكي الشعبي الشفاهي، وقوة العاطفة الإنسانية، وعلاقتها بالقدر، وقوة الخيال، وقوة السوق، وقوة التطور الثقافي للميديا، والصور، وأثرها في الوعي، والإدراك.
وتتسع العلاقة بين علامات الحلم وعلامات الواقع، وإشارات السخرية ما بعد الحداثية - في الخطاب الشعري – في نص مدرستي؛ فالذات تتذكر الماضي بينما تطرح التساؤلات حول منطقية الحدث، أو منطقية البهجة الأولى؛ وكأنها توحي للمتلقي بأنه يمكن قراءة هذه الأحداث في سياق جمالي تستنزف فيه العلامات نفسها، وتسخر من حضورها الأول؛ كما يوحي النص أيضا بتعددية القوى الثقافية المنتجة لخطاب المتكلم؛ إذ يحتفي الخطاب بصيرورة الحياة بينما يشير إلى المحاكاة الشكلية الفنية لمنطق الصراع الإنساني، ومعارك التاريخ بصورة تعيد التساؤل حول مشاعر الحماسة الإنسانية في وعي الطفل.
يقول في نص مدرستي:
"في مدرستي / كان البقاء للأقوى / يدق الجرس فنأخذ الحوش أخذ البرابرة .. / ونجري جميعا صوب الكرة اليتيمة / أربعون منا يحمون الباب الحديد مرماهم / ونحو أربعين أو خمسين / يتخذون السلالم مرمى / كنت بدينا أخاف المزاحمة / وآكل سندوتشي في صمت ونهم / يوما اقتربت مني الكرة فركلتها / فإذا بالحديد يصدح / سجلت هدفا في الباب فزأر نصف الملعب ... صرت فجأة لاعبا"(4).
يبدأ الخطاب في المقطع السابق بالإشارة إلى صراع تمثيلي شكلي، ولكنه يتضمن – في بنيته - قوة الصراع التاريخي الإنساني، وأصداء المعارك القديمة المستدعاة من الذاكرة الجمعية، بينما يشير أيضا إلى صيرورة الحياة نفسها، وما تحمله من بهجة طبيعية تتجاوز منطق الصراع باتجاه حالة الأداء التمثيلي الجمالي، دون تعارض جذري بين الذات، والآخر.
وينطوي المشهد السابق على اتساع دلالة الحلمي بداخل اليومي / المستعاد في ذلك العدد الوفير من الأطفال، وفي أخيلة الباب، والسلم في الوعي، واللاوعي؛ وكأن المتوالية السردية تنطوي على كل من اللعب، والصراع، والفعل الجمالي، والاندماج الأدائي بحركة الحياة؛ ومن ثم يؤكد الخطاب التجانس بين العلامات في موضوع السخرية من مركزية الصراع باتجاه التفاعل التصويري الحر بين القوى المنتجة للخطاب، والاحتفاء بالفعل التمثيلي الذي يشبه تداعيات الكتابة في لحظة الحضور، وفي هوامشها المحتملة في فعل القراءة.
ويمزج الشاعر بين الفضاءات، والأزمنة من خلال الصور المقطعة التي تشير إلى المحلي، والعالمي؛ وتذكرنا بتصور إيهاب حسن حول التفاعل بين السياق المحلي، والسياق العالمي في نصوص الأدب، وفي ممارسات ما بعد الحداثية، وما بعدها؛ فخطاب وليد الخشاب يجمع مثلا بين علامات فضاءات سينما أوديون، وسينما كايرو، وحي الزمالك، بينما يشير إلى صخب الحياة العالمية داخل هذه الفضاءات السيميائية؛ فالسينما مفتتح للصور الافتراضية، والحكايات الخيالية، وشارع سليمان مثلا يشير إلى نكهة البن البرازيلي، وتخزينه، وخصوصية صناعته، وطهيه، بينما يتضمن حي الزمالك طبقات الصور القديمة لدخول الأيوبيين لمصر في وعي، ولاوعي المتكلم؛ يقول في نص ازدواج المدن:
"كنت أظنهم العمالقة السبعة / ظللت طيلة الفيلم أنتظر أن يظهروا وقد ملأوا الشاشة / من أعلى رؤوسهم / إلى أخمص أقدامهم / خالتي توهجت عيناها / اشترت تذاكر "دكتور زيفاجو" / من السوق السوداء / لترى عمر الشريف بالألوان / ... لاعبي الكرة الزنوج / وفي شارع سليمان / كانت مخازن بنهم مكانا سحريا ... / لم أفهم كيف زحف سلاطين الأيوبيين من قلعة الروضة إلى الزمالك"(5).
يحاول المتكلم أن يكشف عن الحياة التصويرية، واليومية الصاخبة، والكامنة في لقطات الأماكن، والأزمنة المتفاعلة في السياق النصي طبقا لمنطق التداعي الحر، والتقاط الذكريات عبر منظور الكاميرا؛ ومن ثم تستعاد روائح الحياة الصاخبة، وتتداخل، وتعكس قوى صعود عصر الصورة، والتجلي الجمالي للذات والآخر في فعل الفرجة، وتأويل التاريخ من داخل بنية المكان، وصمته الصلب المؤجل في حياة علامات الذاكرة الجمعية المتحولة.
ويذكرني النص السابق بتصور دريدا حول التحول، والاستبدال في بنية العلامة؛ ففضاءات السينما، ومخزن البن، وحي الزمالك تنطوي على استبدال زمني، وإعادة تشكيل للماضي مرة أخرى في طبقات المكان؛ في صمته، وفي صخبه أيضا.
ويستعيد الشاعر مشاعر الحماسة التي ارتبطت بالقضايا، والأسئلة الإشكالية في الوعي في سياق التجاوز، والسخرية، وحالة الأداء الجمالي / اليومي المتكررة في الديوان؛ يقول في نص فردوس الحب وأعراف السياسة:
"ماذا يفعل المرء / إذا اعتمل في نفسه الصراع / بين القلب والعقل / هل يشاهد فيلما ليوسف وهبي / منساقا وراء العاطفة والوجدان / ويزيح التراب عن ديوان إيليا أبي ماضي؟ / أم يحتسي القهوة في صمت / وينصت لصوت العقل والحكمة؟ / آخرون قبلنا شغلتهم تلك القضايا / مثلما شاب شعر أجدادنا / وهم محتارون بين التراث والحداثة"(6).
يبدأ الخطاب بطرح الإشكالية المتعلقة بالقضية الفلسفية، وبالسؤال، وينتهي – بصورة دائرية أيضا – بالسؤال، وإجاباته المحتملة المؤجلة، بينما ينحاز لحالة الأداء، واللذة العقلية، وقوة التأمل الذاتية الداخلية، ولكن بصورة شعرية أدائية تتداخل مع اليومي، وتعيد تشكيله جماليا؛ وتحيلنا الذات |لى قضية الحداثة وإشكالياتها المعرفية، بينما تحيلنا إلى روحها الفردية التي تذكرنا بتراث روسو، وفولتير، ولكن في سياق يحتفي بشعرية الحياة.
لقد قدم وليد الخشاب – في ديوانه – تأملا عميقا حول بنية الزمن، وتراوحها بين استعادة وهج الماضي، دون مركزية، والثراء التصويري / الدلالي في لحظة الحضور.
*هوامش الدراسة:
(1) Read, Jean Baudrillard, Revenge of Crystal, Selected Writings on Modern Object and Its Destiny 1968 – 1983, Edited and Translated by Foss and Julian Pefanis, Pluto Press, London. Sterling. Virginia in association with the power institute of fine arts, University of Sydney, 1999, p. 90.
(2) وليد الخشاب، كشك اعتماد، دار المرايا بالقاهرة، ط1، 2019، ص-ص 5، 6.
(3) وليد الخشاب، السابق، ص-ص 28، 29.
(4) السابق، ص-ص 51، 52.
(5) السابق، ص 78، ص 80.
(6) السابق، ص-ص 110، 111