في عام 2020 يكمل جمال عبدالناصر خمسين عاما من الصمود، في قبره، أمام ضحايا الاستلاب الإنجليزي، وأسرى المازوشية، فلا ينالهم ملل أو يأس في ثمانية مواسم، وفقا لهذا التسلسل: ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، إعلان الجمهورية، استقلال السودان، تأميم قناة السويس، فشل الوحدة المصرية السورية، ثورة اليمن، هزيمة 1967، موته في سبتمبر 1970. ولم يكن ينقص مصر الآن إلا قطعان أصابهم الاستلاب العثمانلي بحنين مريض يتجاوز سراب استعادة الخلافة، إلى استدعاء رجب طيب أردوغان، والترحيب بجيشه في أرض عربية، عابرا البحر من تركيا إلى ليبيا مباشرة، فلا يمرّ بفلسطين المحتلة، ولا يمس أمن العدو الإسرائيلي، فهو حليفه الاستراتيجي عسكريا واقتصاديا.
الحضور التركي، وقد جرى تلبية لطلب حكومي ليبي، له طعم الاحتلال طويل الأمد، ولن يكون استثناء وخروجا على سنة أسلافه، منذ السفاح سليم صاحب المجازر البشرية في مصر. وبحكم عقدة النقص الحضاري، كان الأتراك آلة عسكرية، تضمن ضخ الأموال والمواهب البشرية في اتجاه واحد أطال عمر المشروع الاستعماري. وبحكم حداثة العهد بالحضارة، لم يتمتع الغزاة الأتراك بحد أدنى من الذكاء؛ فيستروا تلك العورة بإقامة مشروع ينسب إليهم في بلاد أخضعوها لسيطرتهم، ولو كان تأسيس مدرسة أو بناء مستشفى لإرضاء العامة.
استلاب واحد كاف لمناهدة موسمية تشيع أجواء من الفكاهة، حول غبار يحلو لمستشرقين مصريين إثارته، كرها في ما يمثله عبدالناصر. ويكفي صدق الحسّ الشعبي لتدبّر ما قبل 1952، على مستويين: أولهما رسمي ينسف قشرة ليبرالية تريد نخبة تصديقها والتسلي بخرافتها، إلى أن يصدمها الملك بحلّ البرلمان، وتشكيل حكومة غير منتخبة، وكتابة دستور ملكي، ولا يفكر سعد زغلول أو مصطفى النحاس في دعوة الأغلبية الشعبية إلى احتلال الميادين؛ اعتراضا على "العزل". لم يحكم حزب الأغلبية إلا ست سنوات طوال 29 عاما، وفي عام 1925 عاش البرلمان بضع ساعات انتهت بكوميديا بطلها الملك فؤاد، إذ حل البرلمان مساء يوم انعقاده. وكان حادث 4 فبراير 1942 لحظة مواجهة الحقيقة، بحصار دبابات الاحتلال البريطاني لقصر عابدين، ووقوف الملك فاروق على بعد خطوة من العزل، لولا إذعانه لأمر السفير البريطاني مايلز لامبسون بأن يشكّل النحاس الوزارة.
أما المستوى الشعبي، فهو حقيقة أخرى، صفعة لا يصح لعاقل أن يستبدل بها صورا لشوارع القاهرة يروَّج لها باعتبارها أكثر نظافة من باريس. وخارج إضاءة الكادر، عانى الفلاح استعبادا فعليا على أيدي إقطاعيين مصريين. عبودية تتغذى على فقر وجهل وحفاء لم تقض عليه مكرمة الملك، وقدرها ألفان من الجنيهات، في 6 فبراير 1941، وأرسل بذلك ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا خطابا إلى رئيس الوزراء حسين سري، "لما كان كثير من أهل المدن والقرى يمشون (لرقة حالهم) حفاة الأقدام وفي ذلك من مضار صحية وأدبية رأى مولاي أعزه الله وأعز به البلاد أن يكون عيد ميلاده السعيد هذا العام ذا أثر كبير في القضاء على هذه الحال بالتيسير على أمثال هؤلاء ليحتذوا أحذية.. ولا ريب أن تسابق الموسرين من المصريين وغيرهم من مختلفي الهيئات في البذل لتعضيد هذا المشروع كفيل بدوام تمتع هؤلاء بذاك المظهر الحسن".
المنحة الملكية لم تقض على ظاهرة الحفاء، وفي كتابه "تاريخ ملكية الأراضي في مصر الحديثة 1805-1950"، يقول جابرييل باير إن الديمقراطية لم يكن لها "ما يذكر لأن من يتسلطون على البرلمان كانوا أصحاب الملكيات الكبرى، وكان من اليسير عليهم أن ينتخبوا، ويعاد انتخابهم بأصوات أولئك الجهلة من الفلاحين الأذلاء". ورسخ دستور 1923 مبدأ الطبقية؛ فالمادة 78 تشترط أن يكون عضو مجلس الشيوخ من الطبقة العليا، أو من "الملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مئة وخمسين جنيها مصريا في العام. من لا يقل دخلهم السنوي عن ألف وخمسمئة جنيه"، ثم نصت المادة 81 من دستور 1930 الملكي الانقلابي على أن يتوفر للمرشح لمجلس النواب "شرط نصاب مالي" يحدده القانون. وهذا كله ترف؛ فالأغلبية لا تملك إلا القدرة الجسدية، ولا تملك أحذية. وقد رأيت في قريتي بقايا الحفاة، والآن أرى بعضا من أبنائهم فرحين بأردوغان.
ساحات الحروب أبعد من حدود ميادين القتال، إنها تنطلق من الوعي، فبالاستلاب الوطني يصعد المستبد، وبالاستلاب الديني يُستدعى أردوغان الذي اعتبره يوسف القرضاوي جديرا بقيادة الأمة الإسلامية، وقبل الانتخابات الرئاسية التركية عام 2014، راهن القرضاوي على فوز الخليفة، لأن "الله معه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير". وليس القرضاوي استثناء، فأمثاله بيننا كثيرون في مقدمتهم سلفيون وظيفتهم دعوة المسلمين إلى الإسلام، ويتبعهم غاوون من السذج تعمى قلوبهم عن الصهاينة الذين لا يقطع أردوغان علاقة بلاده بهم، ويجيد تصدير خطاب دعائي يسمح لجمهوره بالنوم مطمئنا، ويستبشر بأن تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد مقدمة لاستعادة المسجد الأقصى.
كنت قد شاهدت فيلم "تأتون من بعيد"، وفيه تتقصى المخرجة المصرية أمل رمسيس جوانب من مسيرة الكاتب الفلسطيني نجاتي صدقي (1905-1979)، من فلسطين إلى موسكو للدراسة في جامعة الشعوب الشرقية، وإلى فرنسا مسؤولا عن صحيفة "الشرق العربي"، ثم مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية مع الجمهوريين ضد الجنرال فرانكو، ومنها إلى الجزائر لإنشاء إذاعة سرية موجهة إلى شمالي أفريقيا، ثم عودته إلى سوريا، واضطرته الحرب الأهلية في لبنان إلى الإقامة في أثينا حتى وفاته. وفاجأني إبراهيم العريس بإهدائي "مذكرات نجاتي صدقي" تقديم وإعداد حنا أبوحنا، وتتضمن ملحقا عنوانه "الحركة الوطنية العربية من الانقلاب الاتحادي حتى عهد الكتلة الوطنية" كان أطروحة أنهى بها صدقي دراسته الجامعية عام 1929.
فرّق نجاتي صدقي، وهو في الرابعة والعشرين، بين الاستعمار الصريح وتركيا التي "لم تكن دولة استعمارية بالمعنى المذكور... لم تكن سوى وكيل تجاري للدول الاستعمارية الأوروبية"، في اقتراب من مفهوم الدولة الوظيفية التي تنتعش بمدى كفاءتها في تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، وما تتطوع بأدائه من خدمات لأوروبا التي تخشى، حاليا، آثار الهجرة السرية.
حدد الميراث السلفي والتركي، في مناهج التعليم المصري، زاوية النظر إلى تركيا، حتى رأى كتاب تعوزهم البصيرة في غزو سليم لمصر فتحا. وبدلا من إعادة النظر في جناية العثمانيين على العالم العربي، وانتزاع اعتراف بجرائمهم، ترتفع هامات ترقبا لفتوحات أردوغان، ناسين أن "تركيا عرقلت تطور البلاد العربية الاقتصادي خلال خمسة قرون.. كانت عميلة لمختلف الدول الاستعمارية، تعيش مما كانت تتقاضاه من عمولات"، وهو ما انتبه إليه نجاتي صدقي في تفسيره لتهاون الدولة العثمانية في حق بلادنا، "ومساومتها الدول الاستعمارية على احتلال مصر عام 1882 وطرابلس الغرب عام 1912". وما كان لأحمد عرابي أن يهزم لولا الخيانة، وفتوى السلطان بعصيانه، فأصبح "الكافر ابن الكافر، الباغي وأتباعه من المفسدين"، كما نص بيان جعل الناس ينفضّون عن عرابي.
بيان عصيان عرابي تجتر مثله فضائيات لن يرحم التاريخ مموليها. ولعل اسمها الأدق "فضائحيات".