يمكن قراءة هذه النصوص كتأمل للمسافة ما بين الرغبة وتحقيقها، بين ذاكرة الطفل الذي رأى أخته الطفلة تموت وتُحملُ إلى المقابر في نعش غريب لا ينسى، وبين ما تبقى في ذاكرته فعلًا عنها، بين المهاجر الهارب من تناقضات لا تحتمل، وعدم قدرة البائعة على فهم نطقه الرخو رغم دراسته للغتها، أو الباحث عن الأمان في المساحات الرمادية، كذلك الطالب الذي صارح زميلته المسيحية-على خلاف دينه- بحبه ورفضها له فيستيقظ من نومه المضطرب، ويخرج حاملًا سكينًا.

أربع قصص

أحـمـد فـاروق

 

نعش

في هذه المدينة ذات الساحل الاصطناعي تشكل على نحو عابر الثقب الأسود لحياتي. كان انفجارا مكتوما، أشبه بفرقعة صغيرة أسفل ناقوس زجاجي وهو ما سيجعلني لاحقا أشبه بقنبلة موقوتة غير قادرة على الانفجار أو سيحول سيرتي الذاتية إلى سلسلة من الانفجارات المكتومة.

كانت المدينة نموذجية تشبه على نحو ما يوتوبيا توماس مور، بطابع بروليتاري، كل شيء هادئ، الرجال كلهم موظفون في هيئة قناة السويس ويذهبون لأعمالهم على ظهور الدراجات، الصباحات مكللة بروائح الخبز الطازج وأقراص الفلافل الساخنة، البيوت فسيحة ولها عبق أزمان مرت ولم تنقض بعد. السعادة كانت طابعا مميزا للمدينة، التي لا هم لأهلها سوى مجاملة بعضهم بعضا بالرقص على أنغام السمسمية في الأفراح التي تقام في نواد اجتماعية مفتوحة. لكن مسحة من غبرة الصحراء الصفراء كانت تعكر صفاء المشهد من حين لآخر.

كنا نازحين هناك لأجل ما، هروبا من ملاحقة أصحاب الديون في القاهرة، لا أذكر تماما إن كان أبي معنا أم لا. أذكر بيت الأصدقاء الذين ربطنا بهم وشاج أوثق من أي رباط عائلي وعمي الذي لم تربطني به صلة دم لكنه كان كذلك. كان بيتهم عبارة عن صالة دائرية تحيطها غرف النوم وغرفة أخرى ذات أبواب زجاجية تقود إلى بلكون شتوي، كانت له أرضية من بلاطات زجاجية تكشف نوعا ما بلكون الجيران أسفلنا، كان مكانا سحريا بحق يذكر ببلقيس التي كشفت عن ساقيها، وفي آخر ممره الزجاجي يطل المرء على الشارع ويكتشف براح المدينة. على الطرف في آخر الشارع كانت مساكن عمال السكة الحديد الملاصقة لشريط القطار وفي الأفق البعيد مقابر المدينة التي استقر فيها جثمان أختي التي كانت تكبرني بسبعة أعوام. لم يبق لي من ذكراها إلا القليل. كانت لها عيناي وشفتاي وضفيرتان أشبه بجدائل النخل. ربما كانت في الثانية عشرة من عمرها وكنت في الخامسة، حينما وقفت في صالة البيت الدائرية وقالت لأمي إنها تشعر بدوخة، ثم انهارت ولم أتذكر بعدها سوى أنني نظرت من البلكون الزجاجي وكان ثمة نعش لم أر مثله في حياتي قط، كان نعشا مزودا بأربعة أرجل ومقبضين من كل طرف وفيه حُمل جثمان أختي إلى المقابر البادية في الأفق البعيد، لا أدري ان كانت كل نعوش المدينة مصممة على هذا النحو، أم أنه كان نعشا يسهل عبور طفلة لم تر الكثير من بؤس الحياة إلى عالم أفضل.

 

ملاك يحرس شبحًا

هنا في الغربة رغم اتقاني للغة وفهمي لما يدور من حولي يخرج صوتي دائما ضعيفا مرتخيا، حتى عندما أذهب لشراء علبة سجائر أو أي شيء آخر، أحيانا يرد البائع أو ترد البائعة بجفاء وقسوة بأنهما لم يفهما شيئا وعلي أن أكرر، أحيانا يرأفان بي وتكون آذانهم على استعداد لاستقبال الاهتزاز الرخو لأحبالي الصوتية مرة أخرى.

يتهيأ لي أحيانا أن ثمة ملاكا يحرسني ليدرأ عني كل الأخطار، فلا يجعلني مثلا أتضور جوعا أو أقضي ليلة في العراء، يتتبع خطواتي وفي لحظات الخطر يضمني فلا أدرك خراب العالم من حولي، وفي بعض الأوقات يظلل المدينة بأجنحته التي تبدو للعيان وكأنها سحابة رمادية تغيم فيها الرؤية فلا ينتبه لي أحد سواه. محصنا من دمار العالم أسير في بقعة رمادية، الآخرون أيضا يسيرون ورؤوسهم مدفونة في معاطفهم كالقنافذ أو كسلاحف تسير على قدمين. في هذه الأجواء الرمادية تتعزز شبحيتي، وتتحول المدينة إلى مدينة أشباح لا يرى الناس فيها بعضهم البعض.

يالها من مأساة! بعض الكتاب يميلون لهذه الحالة الرمادية، ميلانخوليا تلائم شاعرا حزينا يرتدي معطفا ثقيلا وسط ندف الثلج وينفث دخان سيجارته في شارع خال، يا لبؤس الأرصفة الواسعة، على الناحية الأخرى يمر شخص وحيد أيضا، إذا ناديت عليه فلن يسمع.

هل هذه هي الغربة؟

تلك صورة يمكن لصلاح عبد الصبور أن يكتبها في قصيدة مقتبسا وليم.بتلر ييتس ليقول في النهاية إن "الإنسان هو الموت". زُينت للشاعر خيلاء الكآبة.

لست شاعرا وملاكي يحرسني أينما ذهبت، ملاكي هذا هو ماكينة الهروب التي ركبتها من بلادي إلى هنا، براق سرى بي ليلا إلى حيث أكون وحيدا وبعيدا عن صخب العالم. بعيدا عن مواجهات كثيرة أخافها وترتعد منها فرائصي (الفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف أو بين الثدي والكتف ترتعد عند الفزع). يمكنني أيضا أن أطلق على ملاكي لقب "معلم الخوف" أو "الخوف" ذاته.

 

غربتي أرض لا أحد فيها
تجنبت كثيرا الحديث عن الغربة أو الاغتراب، رغم أنني أعيش منذ أكثر من ثماني سنوات بعيدا عن بلدي، ربما لحساسية ما لدي ضد التعامل مع الأشياء برومانسية، حيث أن الغربة تعني ضمنيا حنينا إلى مكان أصيل ولست واثقا إن كنت أدرك معنى حقيقيا للأصالة، أنا هنا في مكان اخترت المجيء إليه بمحض إرادتي، أي أنني اخترت هذه "الغربة"، ربما للتعرف على شيء جديد وبالأساس للهروب من قيود اجتماعية تكبل شخصا مثلي يرغب في الحياة بحرية أكبر. هنا وجدت هذه الأرض الواسعة من الحرية، لا رقيب ولا قيود اجتماعية، ما الذي ينقص إذن؟

الغرباء كُثر، فهناك المنفيون الذين لا يستطيعون العودة إلى بلادهم لأنهم مطاردون سياسيا وكانوا يحلمون ببناء وطن جميل، ولا يزالون يحلمون في المنفى أو تكسرت أحلامهم وصارت أشعارا حزينة، هناك من أتوا بحثا عن الرزق، تاركين الحياة الرخوة رغم شظفها في بلادهم، ومستسلمين لصرامة ماكينات المصانع التي تدر الربح الوفير هنا، هؤلاء لا يكفون عن المقارنة بين أجواء بلادهم الحارة وصقيع هذه البلدان الشمالية، لا يملون من الحديث عن طزاجة الأطعمة في البلد الأم ولذتها، تتلذذ ذاكرتهم بروائح الأطعمة التي تملأ أنوفهم في لحظات الحنين، هؤلاء وآخرون يستطيعون أيضا محاكاة العيش في بلدانهم بتكوين جيتوهات صغيرة أو العيش في أحياء كاملة لا يسكنها سوى بني جلدتهم ولا يتحدثون سوى لغتهم. هؤلاء وآخرون يعيشون الغربة أحيانا بشكل صدامي، حينما ترمقهم نظرات أهل هذا البلد بازدراء أو حين يعتدي عليهم يمينيون متطرفون، هؤلاء وآخرون قد يلجأون بعد تجربة مريرة أو تجارب مع معادين للأجانب إلى وصف أهل هذا البلد كافة بالعنصرية، كثير منهم يصاب بالفصام، منهم من يقتل ابنته التي تربت في هذا المجتمع الغريب ونشأت على عاداته لأنها قد فقدت بكارتها قبل الزواج، منهم من يخاف على بناته فيحجبهن في سن الثامنة، للغربة أراض كثيرة يتجمع فيها الغرباء ويتحدثون بلسان واحد، اسمي جوقة لأننا كثيرون.

أنا هنا لا أريد أن أتحدث عن تفردي عن الآخرين، لكنني جريت وراء الغربة، هناك بالألمانية تعبير مضاد لوجع البعاد، وهو الحنين للبعاد Fernweh، كان لدي حنين دائم للأرض البعيدة، حيث تتقلص الروابط، لا أريد أن أقول تنقطع الأوصال، وجئت هنا فوجدت أرضا خلاء لي وحدي وعلي أن أملئها بالأحباب الذين أختارهم. لم أصطدم بصورة حقيقية بعداء لي كأجنبي، لم أشعر أبدا باضطهاد أو انسحاق، لكنني أسير في الشوارع كشبح، في سنواتي الست الأولى عشت بقرية صغيرة بها طلاب كثيرون ومعظمهم من الأجانب، كانت أشبه ببقعة معزولة لها طبيعتها الخاصة، كان لي كثير من الأصدقاء، لكن تفرقت بنا السبل بعد أن أنهى كل منا دراسته وجئت أنا إلى مدينة كبيرة، كبيرة لكنها واضحة المعالم أعرف كثيرا من أزقتها، لكنني كما أقول أسير فيها كشبح، أجلس كثيرا في المقاهي وحيدا ....غير مرئي!

 

حب من وراء الأسوار
الصورة التي تزين شهادة الثانوية العامة هي لفتى أسمر في السابعة عشرة من عمره، اعتراه الذهول وهو يحدق في عدسة الكاميرا. يوحي البلوفر الذي يرتديه ومفرق شعره الذي كان آنذاك لا يزال كثيفا، وآثار شارب أخضر لم يُخَطُ بعد بأنه قادم من أعماق الريف، وهو ما تؤكده رداءة طباعة الصورة بالأبيض والأسود.

بهذا الذهول دخل الشاب القاهري المنشأ، الريفي المظهر إلى الجامعة في أواخر الثمانينات. دخل والخجل تاج ثقيل على رأسه يجعله دائم النظر في الأرض وليس في وجوه الآخرين وخاصة من "الجنس اللطيف" الذي لم يعتاد على الاختلاط به كثيرا، إلا في الأجواء العائلية الضيقة. لقد جاء من العالم الرمادي للمدارس الحكومية حيث الفصل بين الجنسين، وأرض المدرسة الرملية التي تشبه أرض معسكرات الجيش والجدران التي كُتب عليها إن "الرياضة هي الصخرة التي تتحطم عليها سفينة الشهوات"، رغم أنه لم تكن ثمة ممارسة حقيقية للرياضة، فقط كانت الشهوات تتحطم على وقع المارش العسكري اليومي لطابور الصباح وعسف المدرسين بمن لا حول لهم ولا قوة من التلاميذ. والآن صار العالم ملونا وزاهيا، لا وجود لرمل الحوش المدرسي الكريه وطوابيره، بل هناك شوارع مرصوفة وحدائق ذات نخل باسق وأزواج من العشاق يتهادون في طرقات الحرم الجامعي المهيب.

كان أحيانا يختلس النظر إلى وجوه الجميلات، ويتعجب من هذا البذخ في "الماكياج" الذي يصبغ وجوه زميلاته حديثات العهد أيضا بالجامعة. العطور الأنثوية الفواحة كانت تدغدغ رغباته، هو الذي كان يظن دائما أنه قادر على التسامي والزهد وعلى أن يكون شفافا ونقيا مثل الهواء. خلال سنوات المراهقة الممتدة مر بدورات لا نهائية من الصراع بين هوى النفس الدنيوي "الدنيء" وبين الرغبة في السمو الأثيري، وحينما كان لا يقوى على الصمود، ويهوي صريعا للذاته كان يتوب بصيام أيام ثلاثة كفارةً لعثرته وتبرئةً لنفسه من خطيئة النظرة الثانية والثالثة والرابعة ومن آثام المشاهد العابرة في أفلام نام رقيبها، ومن رجس الأفلام الإباحية التي بدأ في مشاهدتها متأخرا مع أصدقاء الجامعة.

الآن وهو على عتبات الجامعة صار يمني نفسه بعلاقة حب عذبة، خصوصا وأنه لم يسبق له أبدا أن واعد فتاة من المدرسة المجاورة مثلا، أو أن هرب من المدرسة مثلما كان يفعل زملاؤه الذين زال عنهم الخوف وفتحوا صدورهم لمغامرات مثيرة في الأركان المنزوية للحدائق العامة أو في الشوارع الجانبية الهادئة للمنطقة التي يسكنها. فلقد حال خلقه "الملتزم" وقراءاته لملخصات دينية عن الكبائر والصغائر دون فعل ذلك. صدمة الاختلاط التي رافقت دخوله الجامعة لم تدفع به إلى التزمت كما كان متوقعا، بل صار أكثر تسامحا مع ذاته ومع الضعف الإنساني.

الآن يرغب في مخاطبة إحدى زميلاته، لكن جمالها الصارخ يصده ويرهبه ويأمر طموحه بالتواضع. تزداد قناعته بأن عليه أن ينظر إلى جوهر الفتاة لا مظهرها، فيبحث ويبحث حتى يقع في حب فتاة متفوقة، أجمع زملاؤه على انعدام مفاتنها، لكنه كان يبحث عن الجوهر فظل يحتفظ بحبه لها في قلبه عامين كاملين، ولما فتح الله عليه وباح لها بحبه، شعر براحة كبيرة رغم أنها قالت له بعد شكره على المشاعر الودودة إنها لا تشاطره إياها. هذه الراحة لا تدوم طويلا فبمجرد تجاوز اللحظة يبقى الألم في الصدر، وجع القلب الذي لا ينتهي إلا مع بزوغ حب جديد في الأفق، وقد كان، فبعد أن نضج وعيه قليلا وتفتحت عيناه على أفكار أخرى وقرأ بعض روايات جيل الستينات وقع في غرام فتاة على غير دينه وكان الله قد أفاء عليه ببعض الجرأة فصار طلق اللسان معها في أشياء كثيرة، لكن الخجل كان يداهمه حينما يقدم على مفاتحتها بحبه، فصار يستمتع بوجودهما معا متخيلا النضال الذي سيخوضانه من أجل حبهما وصار يعيش أحلام يقظة طويلة لم تقوضها إلا اللحظة التي اختلى بها فيها في يوم مطير عاصف ليكشف لها عن مكنون قلبه، إذ صارحته بوجود شخص آخر لولاه لاعتلى هو عرش قلبها. يومها ضربته الصاعقة، فرقد في الفراش أياما يهلوس. ولما أفاق من غيبوبته ذهب إلى المطبخ وأخذ سكينا خبأه في جيب معطفه وغادر البيت في عجالة.

 

*وُلد أحمد فاروق في الجيزة بمصر عام 1971. درس الإعلام في جامعة القاهرة والترجمة في كلية علوم اللغة والثقافة التطبيقية في غرمرسهايم/جامعة ماينتس في ألمانيا. يعيش في ألمانيا منذ عام 1996. صدرت له مجموعتان قصصيتان "خيوط على دوائر" مع خمسة كتاب آخرين 1995، و"صيف أصفر" 2006. من بين ترجماته عن الألمانية روايتا "سنوات الكلاب" لغونتر غراس و"ليبيديسي" لغيورغ كلاين، وكتاب "طفولة برلينية عند مطلع القرن العشرين" لفالتر بنيامين. صدرت له مؤخرا ترجمة كتاب "حلقات زحل" لـ ف. غ. زيبالد.