هل تبكيك قصيدة؟ حين سُئلت هذا السؤال* لم تكن "لويز جليك" الشاعرة الأمريكية قد فازت بعد بجائزة نوبل في الأدب، ولم أكن قد قرأت لها " أبكى نعم، أخاطر بالفرح" في قصيدتها «زهرة اللبن الثلجية»* وهي زهرة من أصل أوربي تنمو في الشتاء المتأخر، وتكون علامة مبكرة على ميلاد الربيع، تتساءل الزهرة:
هل تعرفون ماذا كنت؟ كيف عشت؟
وما هو اليأس؟ إذن
ينبغي أن يكون للشتاء معنى بالنسبة لكم.
لم أتوقع النجاة
تقمعني الأرض
لم أتوقع الاستيقاظ مرة أخرى
حتى أشعر بجسدي في التربة الباردة
قادرة على الإجابة مجددًا
بعد زمن طويل، متذكرة كيف أتفتح ثانية
في الضوء البارد
في الربيع البازغ
خائفة أجل لكني معكم مرة أخرى
أبكى نعم، أخاطر بالفرح
في الرياح الباردة للعالم الجديد.
هكذا هو البكاء في قصيدة جليك، مخاطرة بالفرح، في الرياح الباردة للعالم الجديد، بتناقضاته الصارخة، التي أشارت إليها في كتابها" أصالة أمريكا" وكيف أنه بعد قرون من اكتشاف القارة الجديدة، لازالت هناك قبائل من السكان الأصليين، ترفض سردية العالم الجديد، وترفض أن يكون محو ذاكرتها هو الثمن.
يمكنني أن أجيب بلا تفكير، تبكيني أشياءُ شتَّى، قد يكون من بينها الشعر، لن تكون أي إجابة هنا كافية، لذلك قررت أن أجيبك عن السؤال بينما أسائل السؤال ذاته. دعني أخبرك أن أسوأ ما كان يحدث لي، أيام طقوس المشاهدة التقليدية، في دور السينما، هو أن ينظر أحدهم في وجهي، أثناء انعكاس الضوء، ويسألني سؤالًا لم أجد له أبدًا أي معنى: أنت تبكي؟ أو حتى لا يسأل، يكتفي بضبطي أبكي، أشعر كمن فوجئ بنفسه عاريًا أمام الأغراب.
لاحظت سوزان سونتاج في مقالها الشهير «انحطاط السينما» أن طقس المشاهدة التقليدية مهدد بالزوال، وأنه الطقس الذي بدونه سنكون قد فقدنا المعنى الأصيل لكلمة سينما. الآن في عصر الشاشات الكثيرة التي تحاصرنا بمختلف الأحجام، الشاشات التي ننظر فيها طوال الوقت، أثناء ممارسة أغلب وظائفنا، بتنا نرى فيها عمليات القتل الحي على الهواء، ما الذي بقي للشعر ليبكينا، وهل يُبكي الشعر حقًّا؟ وهل ما يبكينا هو الشعر ذاته أم ما وراء الشعر؟ الشاشات أم ما وراء الشاشات؟ وهل تبكينا المشاهدة الحية للواقع المأساوي دون شاشات، ودون تكثيف الشعر؟ وهل ينبغي أن نكون موضوعًا للمشاهدة، أو شطرًا في قصيدة لنحظى بالتعاطف. أبكي في مناسبات متعارضة، لذلك لن أسقط في فخ اعتبار بكائي معيارًا لأي شيء، ولكن لماذا البكاء أصلًا؟
لعله التماس مع حدودٍ قصوى ما، كنت تظن أنها من غير الممكن أن تُمَس، لإيمانك أنها عصية على التحديد، قد تبكي إذا ما وجدت أن هناك من فض سرَّها، وأنك عرفت في صمتٍ أنه يعرف، وأنكما لن تعودا في حاجة لأية تفاهماتٍ أخرى، لقد اجتزتما صحاري ومتاهات واخترقتما الجحيم، وصولًا لهذا التفاهم الصامت. هنا يحدث البكاء، لا لروعة النص، قصيدة كانت أو لوحة، فيلم، أو أمثولة، بل لاكتشافك وحدة المصير الإنساني، وأنك جزء من شيء آخر أكبر منك، ليس لهذا أي علاقة بالجودة أو إتقان العمل، هي خاصية قد تصلح لشخص، ولا تصلح لآخر، أظن أن لهذا علاقة بالمقدس، الإجهاش بالبكاء أثناء الصلوات، حيث تتوجه بالخطاب إلى المطلق الإلهي، يطفرُ الدمع كإجابة على أنسنة المقدس، يتحد مصيرك بالإلهي، تلامس الأبدية. تمتلك القصص الدينية طاقة تأثير هائلة، ليس مصدرها الإيمان وحده، بل أيضًا انشغالها الجذري بالتباينات الحادة بين مستويات الخطاب، المطلق والنسبي، الخالد والزائل، الطاهر والمدنس... إلخ، لا زال المثال الديني يُبكي على نطاقٍ واسعٍ، ربما هو أصل البكاء في تلقي أشكال النصوص الأخرى. عن الرجال الفارغين المحشوين بالقش، يقول ت. إس. إليوت «الرجال الجوف» * بترجمة لويس عوض: -
«بين التصور والخلق يسقط الظل.
بين القلب والقلب يسقط الظل.
ما أطول الحياة.
«بين الاشتهاء ولحظة التحقيق يسقط الظل.
بين القدرة والوجود يسقط الظل، بين الأصل والفرع يسقط الظل.
لك الملك يا رب
«لك الملك... ما أطول... لك الملك يا.
«بين الفطرة والحقيقة يسقط الظل،
بين الحركة والفعل يسقط الظل.
لك الملك يا رب».
ما يُبكي، ليس بالضرورة جديرًا بالبكاء، ينبع البكاء من الداخل لأسباب تخصنا، قالت «دورا مار» الموديل التي صورها بيكاسو باعتبارها «المرأة الباكية»، إن اللوحة لا تنتمي إليها، وأنها لم تعكس من شخصيتها شيئًا، وأن ما جاء بها مجرد أكاذيب تخص بيكاسو وحده. رغم ذلك صارت اللوحة أيقونة شهيرة عن البكاء، لقد بكت الموديل بعدها كثيرًا، وأصيبت بانهيار عصبي، حطمها الرسام، واختُصِرَتْ حياتها الغنية، هي المصورة الفوتوغرافية المتميزة، على اعتبار أنها فقط موديل لوحة «المرأة الباكية». ما الذي أبكى السيدة؟ من أبكاها؟ أهو الرسام، أم بكت فقط لأنها آلة معاناة، بوصفها امرأة وفقًا لبيكاسو.
هل كان بدر شاكر السياب يبكي وهو يقف على الخليج غريبًا لا يملك نفقة ركوب سفينة، توصله إلى الناحية الأخرى حيث العراق؟ ومواجهًا استحالة أن تكون الأرض متصلة كشريطٍ عريضٍ صالحٍ للسير، لا تقطعه مياه لا يمكنه عبورها؟
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار.
وهل كانت هذه الأمنية بكاءه الخاص؟ هل كنا أمام استحالة موجبة للبكاء، ألم يكن هذا غضبًا، غصةً تستلزم الغضب والتضامن، أو حتى اليأس؟ أهي أيضًا لوعة وغصة السياب؟ ألا يمكننا القول مع موديل بيكاسو إن هذا كذبٌ يخص السياب وحده، فهو في النهاية لم يمت غريبًا على الخليج، على الرغم من التسليم الجذري بأمنيته المذهلة، حول أجرة السفر وحول طوبوغرافية الأرض المستحيلة؟
لا حاجة للبكاء، تعني أن البكاء كان وشيكًا، وقبيل الانخراط فيه تبين أن لا حاجة له، لأنه ربما لن يفيد، أو أن الوقت قد فات، وأن الخسارة قد وقعت، ولن يعيد البكاء ما خسرنا، تقف الرغبة المختنقة في البكاء بالحلق مثل حجر، هذه هي الحال الآن بالشعر وبدونه، لا حاجة للبكاء، فقد فات أوان إصلاح ما تبدد، لقد ذهب إلى غير رجعة، ولم يعد من سبيل غير النظر في وجه الخسارة، وجه الموت، «ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر» صوت تميم بن مقبل شاعر الجاهلية ملتاعًا وقد حرَّم عليه ظهور الإسلام الاقتران بزوجة أبيه الراحل، هو المفتون بها، لوعة تميم لا يجدي معها بكاءٌ، في ظل القوانين الجديدة، صدمته كانت في زوال زمن حبه الخاص إلى غير رجعة، ربما الغصة هي الأثر الأبقى، والتعبير اليائس عن خسارة غير قابلة للتعويض، وهي أيضًا غصة محمود درويش:-
يا ليتني حجرٌ
كي أَحنَّ إلى أيِّ شيء
غير أن هناك درويشًا آخر، الناطق الشعري باسم القضية، أذكر أني ربما بعد تخرجي من الجامعة حصلت على «مديح الظل العالي» بصوته، مسجلًا على شريط كاسيت، أستمع إلى صوت درويش، أداءٌ فريدٌ يعي ذاته، لم يكن مجرد نجم سياسي. خروج المقاومة الفلسطينية المأساوي من بيروت بعد المذابح، جعل من صوته انعكاسًا تراجيديًّا لمأساة معاصرة، صوتًا لإنسانية مغدورة، وسيلتها الوحيدة هي المقاومة.
باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقًا
في الثمانينيات برز اتجاه قوي يستعيد خطابات جمال عبد الناصر بحنينٍ جارفٍ. أذكر في مؤتمر حاشد للناصريين بالقاهرة، كان الحضور يبكون بحرقة مذهلة، وهم يستمعون عبر مكبرات الصوت إلى خطابات الزعيم الراحل، كان التأثر باديًا في العيون الحمراء والدموع الغزيرة، كان ذلك من أثر الصوت الذي بدا أنه يخاطبُ حالةً تتجاوز الجميع، كان للصوت رنين من نوعٍ خاصٍ، رنين توجيه الخطاب للتاريخ، أمام حشد مهتاج، هذا بالضبط ما سمعته بصوت محمود درويش في مديح الظل العالي.
يشبه البكاء الغرق في مياه الخليج، والغرق قد يكون ذروة تراجيدية، أيضًا يمكن أن يكون نهاية للمعاناة ومجازفة بالشعر، بينما الرغبة في البكاء دون وقوعه، هي وقوف على الحافة، جرح مفتوح، مصير معلق على احتمالات لا نهاية لها.
هوامش
1-وجه لي السؤال في يونيو 2020 الشاعر المصري عماد فؤاد.
2-قصيدة زهرة اللبن الثلجية SNOWDROPS من ديوان The Wild Iris 1992 قمت بترجمتها وإضافتها لهذا المقال بعد فوز الشاعرة لويز جليك بجائزة نوبل.
3-مقطع من قصيدة ت. إس. إليوت "الرجال الجوف" ترجمة لويس عوض كتاب "في الأدب الإنجليزي الحديث"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية 1987.