مرت قبل أيام – في 28 أكتوبر – ذكرى رحيل طه حسين، فيستعيد محرر (الكلمة) هنا ذكريات لقاءاته القليلة معه، في مزيج من استعادة أطياف ما مضى ودروسه، والتأسى على ما صار إليه واقعنا بعد انفراط عقد الكثير من القيم التي أرساها هذا الرائد الكبير في واقعنا الثقافي والوطني معا.

ذكريات شخصية مع طه حسين

صبري حافظ

 

 

أعود هنا إلى الذكريات الشخصية التي جمعتني بتلك القامة العملاقة التي أحسب الآن وقد مر بنا كل ما مر، أنني كنت محظوظا حينما حظيت بتلك اللقاءات القيلة معه. خاصة وأنني التقيت به ثلاث مرات، لاتزال كل منها محفورة في ذاكرتي، وكأنها حدثت بالأمس. والواقع أنني، حينما أستعيد سنوات الشباب الأولى في الستينيات، أشعر بأنني كنت محظوظا حينما تعرفت في شرخ الشباب على جل كتاب مصر الكبار وقتها من توفيق الحكيم ويحيى حقي، حتى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم ومحمود البدوي وسعد مكاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم، وتعلمت منهم الكثير. وتعددت لقاءاتي بهم عشرات، بل مئات المرات. لكنني لم ألتق بطه حسين إلا ثلاث مرات.

فقد قدمت من قريتي، بعد اكمال الثانوية العامة في مدرسة قويسنا الثانوية، إلى القاهرة لأتوجه مباشرة – بعد أن استقر بي المقام في حجرة صغيرة في روض الفرج – إلى ندوة نجيب محفوظ التي كانت تعقد في «كازينو أوبرا: أو كازينو صفية حلمي كما كان يعرف وقتها» صباح كل جمعة. كنت قد اكتشفت أعمال محفوظ الأولى في مكتبة المدرسة الثانوية التي كان نهمي للقراءة قد دفع المدرس المسؤول عنها لتكليفي بدور في تنظيمها والإشراف عليها. وكان لمكتبة المدرسة تلك فضل تخريجي من مدرسة أرسين لوبين وشرلوك هولمز وسلسلة الامباشى عكاشة والشاويش درويش المماثلة وغيرها من الروايات البوليسية، إلى مدرسة محمود كامل المحامي ومحمود تيمور. لكن اكتشافي لـ(زقاق المدق) وأعمال نجيب محفوظ الثلاثة التي كانت في مكتبة المدرسة فتنني وجعلني أبحث عن أعماله الأخرى، وأتتبع أخباره. فعرفت بنبأ ندوته الأسبوعية المفتوحة صباح كل جمعة في ذلك المقهى الشهير. كان محفوظ وقتها قد فرغ من الثلاثية، وأنفق سنوات عديدة في تأمل التغيرات الجديدة قبل أن يكتب (أولاد حارتنا) التي تابعتها في عامي الأول من التردد على ندوته في القاهرة. أقول كان اكتشافي له، هو الذي دفعني إلى التوجه لندوته قبل أن أتوجه إلى قاعات دراستي الجامعية.

ندوة نجيب محفوظ والتقويم الأدبي:

وقد فتحت هذه الندوة عالما كاملا وساحرا لشاب طُلعة لم يبلغ العشرين بعد. فيها تعرفت على أكثر أبناء جيلي من الذين عُرفوا فيما بعد باسم جيل الستينيات من كتاب وشعراء، وعلى غيرهم ممن سبقونا إلى الكتابة بجيل أو جيلين، وكان عدد كبير منهم يتردد على ندوة نجيب محفوظ تلك. وصحبني عدد منهم إلى ندوات أخرى كانت تعج بها القاهرة في هذا الوقت من مطالع الستينيات، وتنظم ندواتها الأسبوعية في أمسيات مختلفة، إلى الحد الذي يمكن معه القول بوجود تقويم أدبي أسبوعي، يمكن أن تجد فيه ندوة منظمة أو مفتوحة كل يوم من أيام الأسبوع. كانت هناك «رابطة الأدب الحديث»، التي تعقد ندواتها كل ثلاثاء وينظم العمل فيها مصطفى السحرتي، والتي كانت تتردد في قاعاتها أصداء صولات محمود أمين العالم وجولاته فيها قبل اختفائه القسري وراء القضبان عام 1959، وكان هناك «نادي القصة» الذي سعى يوسف السباعي لاستقطاب أعلام جيله من الكتاب فيه، وكانت سلسلة (الكتاب الذهبي) التي تصدر عنه، توشك أن تكون صك الجودة وتمرير الأعمال القصصية والروائية الجيدة إلى الجمهور الواسع. وكان يقيم ندوة أسبوعية كل أربعاء يناقش فيها كما يقول عنوانه مجموعة قصصية أو رواية جديدة في كل مرة، فضلا عن أنه كان يعقد مسابقة سنوية للقصاصين الجدد، تقدم ميدالية ذهبية للفائز وجائزة مقدارها خمسون جنيها، وما أدراك ما الخمسون جنيها في هذا الوقت، حينما كان إيجار الغرفة الشهري التي استأجرتها في حي روض الفرج لا يزيد على الجنيه الواحد إلا قليلا.

وكانت هناك «الجمعية الأدبية المصرية» التي تعقد ندواتها كل أحد، وتضم جيلا أكثر شبابا من الناشطين في الرابطة والنادي، وكان أبرز أعلامها عبدالقادر القط ومحمد النويهي وصلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد وماهر حسن علي وأحمد كمال زكي وعبدالغفار مكاوي، وكانت هناك «جمعية الأمناء» التي تمحورت حول شخصية أمين الخولي الآسرة. بالصورة التي كانت تجعل القاهرة، لشاب قادم من أعماق ريف المنوفية، تبدو وكأنها محفل أدبي يومي مترع بالمعارف وتنوع المشارب والاتجاهات، ولا يكف عن الجدل والنقاش اليومي حولها. بل إنني وبعد حياة طويلة في المؤسسة الجامعية الغربية، بمحاضراتها ومؤتمراتها، أستطيع القول بأن ما كان يدور في تلك المحافل كل أسبوع لا يقل جدية وعمقا عما تنظمه كثير من تلك الجامعات الغربية. وإن تفوقت عليها ندوة نجيب محفوظ خاصة بسبب تنظيمها – فقد كان نجيب محفوظ والمقربين منه يقررون الكتاب الذي ستدور حوله المناقشة سلفا في الأسبوع التالي – وكانت شخصية صاحبها وسرعة بديهته، وقدرته على اكتشاف من قرأ الكتاب ومن يريد المشاركة في النقاش دون أن يقرأه، تجعل الجميع يقرأون الكتاب سلفا، أو يكتفون بالاستماع الصامت لنقاش من قرأوه. لأن من كانوا يترددون عليها كانوا يفعلون ذلك بدافع الشغف الحقيقي للمعرفة وحب الأدب، وليس من أجل الحصول على مؤهل دراسي.

وما أن بدأت الكتابة في الصفحة الأدبية لجريدة (المساء) وملحقها الأسبوعي، وكان يشرف عليهما رائد كبير ذو بصيرة ثاقبة هو عبدالفتاح الجمل، ثم بعدها في مجلة (الآداب) البيروتية التي كان يرأس تحريرها سهيل إدريس، حتى استقطبني كبير آخر هو يحيى حقي للعمل معه في مجلة (المجلة) منذ عام 1963. حتى اتيح لي – عبر هذا كله – أن اتعرف شخصيا سواء في ندوة نجيب محفوظ، أو في الصفحة الأدبية بـ(المساء) ومكتب عبدالفتاح الجمل المفتوح في صالة دورها العلوي الفسيحة، أو فيما أود أن أسميه بصالون يحيى حقي اليومي في مكتبه بمجلة (المجلة) كل كتابنا الكبار منهم والشبان. وحينما شاركت عام 1970، عام ترك يحيى حقي لمجلة (المجلة) مُكرها – وبعد مؤامرة دنيئة حاكتها سهير القلماوي لطرده منها – في تأسيس الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة) التي كانت تصدر من مؤسسة (الأهرام)، أتاح لي العمل فيها التردد يوميا على صالون أدبي يومي آخر، هو مكتب توفيق الحكيم في الدور السادس في مبنى (الأهرام). وهكذا اكتملت معرفتي الحميمة بكل كتاب مصر الذين قرأت جل أعمالهم، وأنا لازلت في بداية الشباب، باستثناء طه حسين وعباس محمود العقاد.

كان أولهما قد اعتزل العمل العام وحتى التدريس في الجامعة – جزئيا – حينما وفدت إلى القاهرة، ثم كليا بعد أن أصبحت ناقدا شابا فاعلا في الحياة الثقافية. وكان ثانيهما لايزال يعقد صالونه الشهير صباح كل جمعة، وفي نفس الوقت الذي كانت تنعقد فيه ندوة نجيب محفوظ. وكان هناك من أصدقاء الشباب شاعر من جيلينا، هو الحساني حسن عبدالله – كان من المقربين ليحيى حقي في (المجلة) من مريدي العقاد والمترددين على صالونه بانتظام. وقد حاول أكثر من مرة أغرائي بالذهاب معه، ولكن لم تكن لدي أي رغبة، بعد كل ما قرأت للعقاد وسمعت عنه، في الذهاب إليه أو حضور صالونه، برغم إغراءات الحساني المتعددة، لأن الذهاب إلى صالونه كان يعني الغياب عن ندوة نجيب محفوظ التي تعقد في نفس الوقت. ولأنني كنت فكريا وموقفيا ضد ما آل إليه أمر العقاد في تلك المرحلة الأخيرة من حياته، وخاصة عداوته السافرة للشعر الحديث الذي كنت شديد الإعجاب به. ولم تطل مقاومتي التي لم تستغرق أكثر من عام من معرفتي بالحساني، إذ سرعان ما غادر العقاد نفسه عالمنا. وإن كان الحساني قد أخذني فيما بعد إلى شقته قبل أن تتبدد مكتبته. وهي الشقة التي كان يعقد صالونه في صالتها الواسعة، وكانت غرفة مكتبه الكبيرة فيها أقرب إلى صومعة الراهب بمكتبتها المهيبة.

لكن ظلت لدي رغبة حقيقية في التعرف عن قرب على طه حسين، ولم يكن هذا بالأمر اليسير أو الهين في ذلك الوقت. وحينما انتقلت في أوائل عام 1966 للعمل موظفا في «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية» منيت النفس بأنني سأراه عن كثب في الاجتماع السنوي للمجلس، والذي كنت اسمع من الزملاء – في أمانة هذا المجلس العامة التي عملت فيها – عن صولاته وجولاته فيه. والواقع أن العمل في سكرتارية المجلس الدائمة في هذا الوقت حيث كانت تعقد اجتماعات جل اللجان، ويفد عليه لحضورها أبرز الكتاب والمثقفين، كان نوعا من الامتداد الطبيعي للتقويم الأدبي الذي أشرت إلى ندواته وجمعياته المتعددة. بل كانت تدور بين موظفيه مرويات كثيرة كان لها حضورها القوي الذي تحولت معه إلى تاريخ شفهي يستحق الكتابة لما كان يدور في قاعاته.

وكنت أعلل النفس بأنني سأشاهد طه حسين في الاجتماع القادم لهيئة المجلس، فقد كان الموظفون يحيطون وقوفا بجدران قاعة هذا الاجتماع السنوي المهيب. لكن ضربة النكسة المصمية ألغت هذا الاجتماع، وما أن عاد للانعقاد بعدها، حتى كان طه حسين قد أقعده المرض، وقرر الاكتفاء برئاسة لجنة واحدة من لجان المجلس، كانت تجتمع مرة في السنة في بيته «رامتان» في حيّ الهرم. عندها قررت العمل بدأب وإصرار على الانتقال من الإدارة التي أعمل فيها في المجلس، إلى تلك التي تنظم أعمال اللجان، وخاصة اللجنة التي يرأسها طه حسين، والقيام بدور سكرتير تلك اللجنة كي تتاح لي، ليس فقط فرصة رؤيته عن كثب، ولكن أيضا فرصة زيارته في بيته.

المثقف والمؤسسة وسجالات الاحتواء:
وكان «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية» وقتها هيئة مستقلة تابعة لرئاسة الجمهورية. أقامته حكومة عبد الناصر بعد ما دعته بانتصارها على العدوان الثلاثي، للاستفادة من قوة مصر الناعمة مع بداية مشروع عبدالناصر العربي. ولم يكن مجرد مؤسسة تابعة لوزارة الثقافة كما أصبح الآن خلفه «المجلس الأعلى للثقافة»، والذي أحالته فترة سيطرة فاروق حسني على مقدرات الثقافة المصرية، وإدارة جابر عصفور له، إلى أداة لتدجين المثقفين، وإدخالهم إلى الحظيرة – حسب تعبير فاروق حسني الأثير. وكان أعضاء المجلس وقتها من كبار مثقفي مصر المشهود لهم بالمصداقية والنزاهة واستقلال الرأي مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ويحيى حقي، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وإبراهيم بيومي مدكور، وزكي نجيب محمود، وعبدالرحمن الشرقاوي، وحسين فوزي، وسليمان حزين، ومحمد عوض محمد، وعائشة عبدالرحمن وأضرابهم.

وكان هذا المجلس يجتمع مرة أو مرتين في العام. وكان الموظفون الذين سبقوني للعمل – والذين يقومون بوظائف السكرتارية المختلفة لتلك الاجتماعات – يروون الكثير عن صولات هؤلاء الكبار ومقاومتهم لمحاولات الدولة المختلفة للتدخل في أمور الثقافة أو التأثير عليها. وكان لكل من طه حسين وعباس محمود العقاد صوت مسموع في رفض تدخل «دولة العسكر» في أمور الثقافة، وهو الأمر الذي شاقني كمثقف شاب ومعارض لها، في زمن عبدالناصر الذي كان الخوف ينتشر فيه مع الهواء في كل موقع – حسب تعبير نجيب محفوظ الشهير في إحدى رواياته. وإن لم تكن دولة العسكر – ولا هذا التعبير عنها والذي صكته ثورة 25 يناير في مصر لها – قد كشفت عن أقبح وجوهها منذ استلام السادات دفة الحكم فيها. ناهيك عن أن قوميساري الثقافة لهذه الدولة في مرحلتها الأولى إبان حكم عبدالناصر – ثروت عكاشة ويوسف السباعي – كانا مثقفين يدركان قيمة الثقافة الحقيقية وموقعها، ويعرفان قيمها وقاماتها، ويحرصان على كبرياء تلك القامات. ولا يمكن مقارنة من تولى تلك المهمة بعدهما – منذ عصر السادات الكئيب وحتى الآن – بهما بأي حال من الأحوال.

وهنا أفتح قوسا لأذكر فيه واحدة من مرويات الموظفين الذين سبقوني للعمل في سكرتارية المجلس الأعلى تلك، والتي تحولت إلى تاريخ شفهي يستحق الكتابة. حدث مرة أنه في يوم انعقاد هيئة المجلس – والتي تضم أكبر الهامات الثقافية في مصر، وتنعقد مرة في السنة، ويرأسها وزير أو نائب لرئيس الوزراء عادة، وكان في هذه الفترة ضابطا سابقا هو كمال الدين حسين –  أن تأخر الوزير عن موعد الاجتماع. وأكتمل حضور أعضاء هيئة المجلس في الساعة المحددة لاجتماعه. وجلس كل منهم في المكان المخصص له وفق ترتيب محسوب. فطلب عباس العقاد من طه حسين أن يرأس الجلسة، ويفتتحها فقد حان موعدها. فرد طه حسين: فلننتظر قليلا حتى يأتي السيد الوزير. فقام العقاد من مكانه رافضا الانتظار حتى يجيء الوزير، وأتجه إلى المكان الذي كان مخصصا للوزير على يمين الأمين العام – يوسف السباعي – وهو يقول إذن سأفتتح أنا الجلسة. فيرد طه حسين: وإذا ما حضر السيد الوزير؟ فيرد عليه العقاد: فليتبوأ مكاني! مشددا على كلمة "يتبوأ"  حتى لا يفوت على أحد مراده منها. فيرد عليه طه حسين ساخرا: أتظن أن باستطاعته أن يتبوأ مكانك؟ أو أننا سنرضى أن يزيحك عن مكانه الذي تريد أن تضع نفسك فيه؟

وهو الرد الذي أربك العقاد قليلا، ولكنه مضى في الطريق من مكانه إلى المكان الذي خصص للوزير. فهبّ يوسف السباعي قائما من مكانه في نوع من الحركة التي تحول بين العقاد والوصول لمكان الوزير، وتكأكأ حوله عدد من الموظفين بإشارة خفية منه كي يصعّب الأمر على العقاد. وقال السباعي: إن أردت أن تبدأ الجلسة يا أستاذ عباس فلتبدأها من مكانك، وحينما يصل السيد الوزير سأبلغه بما فاته. وعاد العقاد لمكانه فقال طه حسين موجها كلامه له: دعنا نتمسك بسيادتنا على القرار، وليس على شكليات المراسم. فهذا هو عملنا الذي ارتضينا أن نجيء هنا من أجله. ولحسن حظ الجميع وصل الوزير في تلك اللحظة. وكانت هذه القصة تروى عن حصافة يوسف السباعي وقدرته على التعامل الذكي مع تلك القامات الأدبية السامقة، والتي تربت في عهد من الليبرالية والجرأة على مواجهة السلطة.

ولما انتقلت للعمل في سكرتارية «المجلس» الدائمة منيت نفسي بأنه ستتاح لي فرصة رؤية طه حسين وهو يمارس دوره الثقافي ذاك في اجتماع المجلس القادم. لكن الظروف السيئة أدت إلى اعتقالي في أكتوبر 1966، وقبل اجتماع «المجلس الأعلى» السنوي بأسابيع، وكان هذا الاجتماع – كما ستتكشف التواريخ فيما بعد – هو آخر اجتماع حضره طه حسين في مقر مبنى السكرتارية الدائمة للمجلس، والتي كانت تقع وقتها في شارع حسن صبري بالزمالك، في قصر قديم من قصور أفراد أسرة محمد علي تم تأميمه ضمن موجة الاستيلاء الأولى على ممتلكات الأسرة العلوية. لأن النكسة وقعت بعد شهرين من الإفراج عني وعودتي للعمل عام 1967، وتوقف بعدها المجلس عن الانعقاد لعامين تدهورت فيهما صحة طه حسين، فلم يحضر جلساته حينما عاد للانعقاد عام 1969.

ومع أنه لم يعد قادرا على الحضور لمبنى سكرتارية المجلس بحي الزمالك وسط القاهرة في جلساته السنوية العامة، فإنه لم يتخل عن رئاسته لواحدة من لجانه المهمة. وهي لجنة جوائز الدولة التي تجتمع مرة واحدة في السنة، لتقرر ما هي الفروع التي ستقدم فيها جوائز الدولة التشجيعية كل عام: في مجالاتها الثلاثة من الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية؛ حيث لم يكن يعلن عن جميع الجوائز كل عام كما أصبح الحال في عصر استخدام الجوائز لإدخال المثقفين في الحظيرة – كلما زاد العدد كلما كان أفضل – في زمن فاروق حسني، وما بعد فاروق حسني. وكانت اللجنة تنعقد في بيته، ولابد أن يحضرها أحد موظفي سكرتارية «المجلس» ليسجل وقائع المحضر ويجلبه للإدارة في اليوم التالي، وكأن اللجنة انعقدت في مبنى المجلس كالمعتاد، وبحضور أحد موظفيه كبقية اللجان الأخرى.

وكان رئيس إدارة شعبة اللجان، هو من يقوم بسكرتارية هذه اللجنة، ليس فقط لأهميتها، ولكن أيضا لأهمية رئيسها وما يترتب علي ما تقرره من إجراءات. وحاولت إقناع رئيس إدارة الشعبة بأن يترك لي سكرتارية هذه اللجنة، مع أنني كنت أرفض القيام بأعمال سكرتارية اللجان بالنسبة للجان المجلس المختلفة. ووافق بعد إلحاح شديد، وكلفني بسكرتارية تلك اللجنة عام 1970؛ لأنه وجد في حماسي الشديد للقيام بهذا العمل تخففا من عبأين: عبء العمل في المساء، لأنها كانت تجتمع مساء، وعبء الذهاب إلى منطقة "الطالبية" بحي الهرم البعيد حيث بيت طه حسين الشهير (رامتان) الذي تجتمع فيه.

لكنه كان حريصا على أن ينبهني إلى عدة أمور: أولها أهمية هذه اللجنة، وأهمية رئيسها طه حسين، وهو أمر لم أكن في حاجة إلى من ينبهني إليه، فوعيّ بأهميته هو دافعي الأول كي أقترب منه وأتعلم منه. وثانيها أن الدكتور طه حسين شديد الدقة في مواعيده وحريص على الالتزام الدقيق بها، ومن هنا ضرورة الذهاب مبكرا، وقبل موعد الاجتماع بربع ساعة على الأقل. وثالثها أن آخذ معي جدول أعمال الجلسة، الذي دعي وفقا له الأعضاء إلى هذا الاجتماع، ومحضر اجتماع الجلسة السابقة. والواقع أنني درست الأمر جيدا، وقرأت محاضر اجتماعات السنوات السابقة، لا محضر الجلسة السابقة وحدها. واكتشفت أنها مصاغة بعناية بالغة، ومكتوبة بلغة صافية سلسة ضاعفت من إحساسي بفداحة المسؤولية التي سعيت تطوعا إلى تحملها وآدائها.

وحان موعد الجلسة التي سأحضرها في يوم خريفي صحو من عام 1970. ومع أنني كنت أسكن في حي المنيل، ولم تكن الرحلة إلى حي الهرم بأتوبيس النقل العام وقتها، تستغرق أكثر من عشرين دقيقة، فقد خرجت قبل الموعد بساعة تقريبا. ووصلت إلى الشارع الذي يقع فيه البيت الجميل مبكرا جدا، وتعرفت على مكان البيت فيه. وكانت المنطقة شديدة الاختلاف عما هي عليه الآن، وتمتد من ورائها المزارع في كثير من المواقع. منطقة هادئة مليئة ببيوت تحيطها حدائق واسعة كبيرة مليئة بأشجار معمّرة. وكان أهم ما يشغلني وقتها، هو كيف سأخاطب طه حسين. هل أقول له يا سيادة الدكتور، أو يا سعادة البك. وكنت اسمع وقتها وطوال سنوات من عملي إلى جوار أستاذنا الكبير يحيى حقي أنه يستخدم «سعادة البك» حينما يريد التبجيل، فقررت استخدامهما معه.

في بيت طه حسين:
وقبل الموعد بعشرين دقيقة اقتربت من البيت وضغطت على الجرس، ففتح لي سكرتيره، فريد شحاتة – وكان في حلة كاملة مثلي فقد حرصت على ارتداء أفضل ما لدي – الباب فعرّفته بنفسي، وكان ينتظرني وينتظر هذا الاجتماع. فأدخلني إلى غرفة مكتب فسيحة ومحاطة جدرانها جميعا بمكتبات رصت فيها الكتب بشكل أنيق. فقد كنا في الزمن الذي كانت تجلد فيه الكتب ويكتب على كعوبها المتماثلة اسم المؤلف وعنوان الكتاب واسم صاحبه/ أي حائزه. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها بيت أديب كبير، باستثناء شقة يحيى حقي التي كانت جميلة وبسيطة، ولكنها مليئة بالكتب أيضا، وإن لم يكن فيها الكثير من الكتب التي أعيد تجليدها. وشقة يوسف إدريس المترفة المطلة على النيل، والتي لم يكن فيها كثير من الكتب.

أما بيت طه حسين فقد كان فيلا باذخة ذات حديقة واسعة، لاحظت جمالها والاعتناء ببستنتها وأنا أدور حول البيت قبل دخوله، وكان الممشى بين الباب الخارجي وباب البيت الداخلي محاطا بأحواض الزهور. فيلا ذكرتني بالقصور التي كنا نراها في الأفلام السينمائية لأحمد بدرخان. فإذا كانت شقة يحيى حقي تتميز بالتوازن الجميل بين المكتبات المليئة بالكتب، ولوحات كبار الفنانين المصريين المعروضة على الجدران. فإن بيت طه حسين كان مختلفا، ينطق بالبذخ والثراء والذوق الأوروبي الرفيع. أخذت أدير نظري في حجرة جلوسه الواسعة، وجدرانها المكسوّة بالمكتبات والصور، وأرضه المغطاة بالسجاجيد الفاخرة والأرائك الوثيرة، بينما كانت النافذة المفتوحة على الحديقة تتيح لخضرتها أن تكون جزءا من المشهد قبل أن يوشحها الظلام. وعرض عليّ فريد شحاتة القهوة أو السجائر، فرفضتهما بأدب شاكرا، ولكنه أصر وجاءني بفنجان من القهوة.

وما هي إلا دقائق قليلة – وقبيل عشرة دقائق من موعد الاجتماع – حتى جاءت السيدة سوزان، زوجة الدكتور طه حسين به، وكان يتكئ عليها في طريقه إلينا، فوقف فريد شحاته، ووقفت معه وقد هلّ علينا الرجل الذي طالما تمنيت رؤيته. كان برغم انحناء ظهره قليلا طويلا مهيبا وبلا «كرش» رغم تقدمه في العمر. وكان في كامل أناقته، بحلة كاملة وربطة عنق أنيقة. وإن كان يتكئ عليها وهي تقوده إلى كرسي بعينه أجلسته عليه، وغطت ساقيه ببطانية صغيرة أنيقة، مع أن الجو لم يكن باردا، ولكن كان به شيء من البرودة الخفيفة. ووضعت يديه فوقها، فلاحظت بدايات تشنج أصابع يديه وقتها بشكل خفيف. وما أن جلس حتى هُرعت إليه كي أسلم عليه، وقدمت له نفسي كالموظف الذي جاء لكتابة محضر الجلسة، مناديا إياه بيا سعادة البك، فتركته زوجته وانصرفت. وبادر الدكتور طه حسين فريد بالعربية الفصحى: هل قدمت قهوة للأستاذ يا فريد؟ فأجاب بنعم، فعاجله: وهل قدمت سجائر للأستاذ يا فريد؟ فرد عليه بأنني لا أدخن.

بعدها طلب مني طه حسين أن أقرأ عليه جدول أعمال الجلسة التي جئت من أجلها ففعلت. وما أن انتهيت منه حتى طلب مني ألا أدون شيئا أثناء الجلسة، وسوف يملي عليّ محضر الجلسة بعد نهايتها وانصراف أعضاء اللجنة. فتنهدت الصعداء، وأدركت في سريرتي السر في بلاغة محاضر الجلسات السابقة التي قرأتها قبل حضوري. وإن حرصت على أن أدون بعض الملاحظات في ركني البعيد لعلني أحتاجها، مطمئنا نفسي بأن الدكتور طه حسين لن يراني.

وكان أول من قدم من أعضاء اللجنة الدكتور مهدي علام الذي توجه إليه بـ«يا معالي الباشا»، فأحسست بالخجل الشديد لأنني تصورت في غفلتي أن سعادة «البك» التي بادرته هي أرفع لقب ممكن. وسلم عليه وقبّل يده، فازددت ارتباكا أو انزواء في مقعدي البعيد خجلا مما فعلت. لحظتها تذكرت بوضوح أن طه حسين الذي تولى وزارة المعارف في آخر حكومات الوفد عام 1950 حصل بسبب المنصب على الأقل – وربما حتى قبله – على لقب الباشاوية، فهو بحق «معالي الباشا». وأعقبته الدكتورة سهير القلماوي التي نادته بنفس اللقب «يا معالي الباشا» وقبّلت هي الأخرى يده، واستبقى الدكتور طه يدها بين يديه قليلا وهو يتحسسها بود، فقد كانت ابنته بأكثر من معيار. وكان تقبيلها ليده هي الأخرى قد جعلني ازداد ارتباكا. وتحول ارتباكي إلى رغبة في أن تبتلعني الأرض كما نقول، حينما قدم حسين مؤنس فسلم عليه وقبل يده هو الآخر. لكن ما خفف شيئا من ارتباكي بعدها أن الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور محمد عوض محمد والدكتور سليمان حزين، برغم أنهما نادياه أيضا بـ«معالي الباشا»، لم يقبلا يده. ومع أنني نشأت في الريف، حيث يقبل الأدني يد من هو أعلى منه سنا أو مقاما، فقد رباني أبي صبيا على ألا أقبل يد أحد سوى جدي. لكنه سرعان ما حررني من واجب تقبيل يده قبل أن أشب عن الطوق.

وسرعان ما تحول اللقاء ودائرته تزداد اتساعا، حتى أكتمل أعضاء اللجنة، إلى لقاء للجدل فيما يدور في الواقع الثقافي وقتها من أخبار، وكانت ثمة أنباء عن محنة تبديد مكتبة عباس محمود العقاد وبيعها، والتصرف في شقته التي أراد مالك العقار استردادها. وكنت قد قرأت كما قرأ الجميع وقتها في الصحف كيف أن مالك الشقة ألقى بالكتب على السلم، وتبدد كثير منها. وهو الأمر الذي انزعج منه طه حسين كثيرا. وذكّر المشاركين بالكثير من التفاصيل حول حياة عباس العقاد، ومن رباهم من أبناء أسرته – وخاصة ابن اخيه عامر العقاد الذي كان يقيم معه قبل وفاته. وآلمه أنهم عجزوا عن الحفاظ على مكتبته. أكان يشعر أو يحدس بما سيجري لمكتبته هو – ولبيته الجميل أيضا – بعد عقد واحد من الزمان؟ ولكن هذا أمر آخر قد نعود إليه فيما بعد.

وكان أكثر ما لفت انتباهي هو أن طه حسين، وهو من جيل جدي الذي ولد هو الآخر في عام ميلاد طه حسين 1889، يتحدث مثله، ويموضع كل شخص في قلب خريطة علاقاته الاجتماعية الواسعة. من تزوج؟ ومن صاهر؟ ومن زامل في مقاعد الدراسة؟ وماذا جرى لأبنائه؟ ومن أخلص له؟ ومن تنكر له؟ ... إلخ هذه الشبكة الاجتماعية التي يرتد عبرها الشخص – أثناء أي حديث عنه – وكأنه يتجسد أمام المستمع حيا وباعتباره جزءا من نسيج اجتماعي واسع ومتشابك. وطال هذا الحديث العذب الذي لم أكن أريد له أن ينتهي. فقد كان يفتح أمامي أبوابا من المعرفة لم تتح لي في الندوات الثقافية، الكثيرة التي حضرتها؛ والتي كانت لها في جل الأحيان أجندة ثقافية متشابهة: عدد من المتحدثين حول موضوع بعينه، ثم نقاش حول ما ورد في أحاديثهم من آراء. أما هذا الحديث الحر في بيت طه حسين فقد كان من نوع آخر، لم أصادفه في تلك الندوات، ولا حتى في القراءات المختلفة لأعمال طه حسين، أو حتى لأعمال عدد من تلامذته الذين كانوا أعضاء في هذه اللجنة.

وقد استمتعت كثيرا بهذا الحديث، وبعد أن كنت أقلب نظري في رفوف الكتب التي كان مقعدي قريبا منها في بداية الجلسة وأنا أنتظر، استغرقتني متابعة ما يدور أمامي من مشهد كنت أدرك أن الدهر لن يجود بمثله، وإن كان كريما معي وجاد به مرتين بعد ذلك. وكنت سعيدا بوجودي فيه، رغم هامشية هذا الوجود. فقد فتح أمامي جوانب من أبواب العالم الجامعي وما به من بعثات، وأحاديث عن خبرات وتواريخ في بلدان أوروبا المختلفة، لم تكن حتى ذلك الوقت واردة بالنسبة لي. وما عزز من استمتاعي بحديثهم أن أيا منهم لم يكن يعرف عني شيئا، ولم يعرني أي منهم التفاتا، فلست بالنسبة لهم سوى الموظف الذي أوكل له المجلس كتابة محضر الجلسة، فبقيت أنا والمقعد الذي أشغله سواء.

ولكني كنت أعرف قدر كل منهم وأدرك قيمته. ومع أنني كنت قد عرفت عن قرب جل كتاب مصر الكبار. فقد كنت ابن الساحة الثقافية والأدبية وحراكها الحر المفتوح، برغم التضييق على الحريات في زمن عبد الناصر واستبداده الذي أحاط الفضاء العام بقضبان السجن المرئية منها وغير المرئية. فإن حراك المجتمع الثقافي، كان بسبب الاستبداد والتضييق على الحريات محدودا. فلم تتح لي معرفة هذا المزيج من الأكاديميين والفاعلين في الحقل الثقافي الذين كانوا قد كرسوا وجودهم في المجالين الجامعي والثقافي، قبل زمن عبد الناصر، وفي سنواته الأولى، ثم انسحبوا فيما يبدو من الحقل الثقافي؛ باستثناء سهير القلماوي، التي كنت أنفر منها لجنايتها على يحيى حقي. فقد عملت بدأب شرير على «تطفيشه» من مجلة (المجلة) منذ تعيينها على رأس الهيئة المصرية العامة للنشر؛ وحتى نجحت في دفعه للاستقالة منها عام 1970، وهو نفس العام الذي التقيتها فيه لأول مرة في بيت الدكتور العميد. وهو النفور الذي تضاعف بعد ذلك، حينما اصطفتها «الطالبة» جيهان السادات أستاذة لها مع بداية عصر التدهور والهوان. فازدادت سهير سطوة ونفوذا، وتآكل في الوقت نفسه ما كان لها من رأسمال ثقافي رمزي محدود، باعتبارها تلميذة العميد.

لكن أكثر ما أثّر عليّ في تلك الجلسة هو هذا المناخ الحميمي المترع بالود والتبجيل للدكتور طه حسين. كان الجميع يجلّونه بشكل لا تخطئه عين من يراقب كيمياء التفاعل بينهم، كما كنت أفعل عن بعد. وكان هو بدوره يحبهم حب الأستاذ الحق لتلاميذه النابهين، ويحدب عليهم حدب الأب على أبنائه الذين كبروا فآخاهم، ولا يخفي اعتزازه بهم وتقديره لأفكارهم ورؤاهم. وكان هناك نوع من التجاوب والتقارب الفكري بينهم؛ فهم جميعا أبناء المرحلة الليبرالية في التاريخ المصري، التي ازدهرت فيها الثقافة بشكل ملحوظ، وكان للمثقف بها دور وكلمة مسموعة.

وكانت الموضوعات التي تهمهم، وكنا وقتها في السنة الأخيرة من حكم عبد الناصر، تختلف كثيرا عن تلك التي تهمني وتهم جيلي من شباب الكتاب وقتها؛ والتي كنا قد بدأنا بالفعل نعبر عنها في صفحة (المساء) الثقافية، ثم على صفحات مجلة (الآداب) البيروتية، قبل أن نطرحها في مصر نفسها باستحياء على صفحات (المجلة) إيام يحيى حقي، ثم بقوة مع (مجلة 68). فقد كان همّهم الشاغل على ما أذكر في تلك الجلسة هو تراجع دور المثقف في الواقع وتآكل تأثيره وتدهور مكانته. وكانوا جميعا شديدي الحساسية لتآكل استقلال الجامعة، ولكل ما يشكل اعتداءً – مباشرا كان أو غير مباشر – على مكانة المثقف واستقلاله، أو يساهم في تآكل دوره، أو يفلّ فيه. بينما لم نع كشبان مدى العواقب الوخيمة لتآكل هذا الدور وقتها. وإن عانى أبناء جيلنا منها طوال ما بقي لهم من حياة بعد تلك السنوات، فقد حرم أكثر أبناء جيلي موهبة وأشدهم حرصا على استقلاله من أي دور عام، حتى مات الكثيرين منهم كمدا. لأننا كنا غارقين بحق في مشاكل الحرية المفقودة، وإرهاف قدراتنا النقدية والتعبيرية في هذا المناخ الخانق، ومتغيرات الكتابة وحساسيتها الجديدة والمختلفة. وكان جيلنا لا يزال بعيدا عن مواقع السلطة، ولا يعرف الكثير عن أساليبها الجهنمية في احتواء من يعملون معها.

كما كان طه حسين حريصا على أن يسمع أخبارهم، وأن يعرف ما يدور في حياة كل منهم. وأكبرت قدرته على تذكر أسماء أبنائهم، وأحفادهم بصورة مدهشة. وكان أكثرهم مهابة بعد طه حسين وتأثيرا عليّ، فقد كنت أراه للمرة الأولى، هو الدكتور محمد عوض محمد الذي كنت أعرف بعض ترجماته عن الأدب الألماني فهو مترجم (فاوست) لجوته، ثم بحثت بعد التقائي به عن كتابيه المهمين عن (النيل) و(السودان). فقد كان جغرافيا من طراز نادر، وأديبا متمكنا وقادرا على أن يحيل الجغرافيا إلى أدب رفيع، كما فعل تلميذه النجيب جمال حمدان من بعده. وجاء بعده في التأثير علي، الدكتور إبراهيم بيومي مدكور والذي لازلت أعتبر كتابه (دروس في تاريخ الفلسفة: لتلاميذ السنة التوجيهية) والذي ألفه مع يوسف كرم وكان من كتب وزارة المعارف المدرسية المقررة منذ عام 1950 أحد أهم الكتب الواضعة لخريطة مسار الفكر الفلسفي وتطوراته، بأسلوب يجمع بين العمق والسلاسة. أما ثالث من ترك انطباعا جميلا علي وقتها، فقد كان لغرابة المفارقة، جغرافي آخر، هو سليمان حزين، فما الذي جرى للجغرافيين بعد نهاية تلميذهما النابه، جمال حمدان، المؤسية؟!

وشرّق بالجمع الحديث وغرّب، ولكنه كان يعود دوما إلى طه حسين الذي كانت له تلك الكاريزما الخاصة الهادئة. وكان طه حسين يتكلم الفصحى دوما، لا يبدو في حديثه أي أثر للعامية حتى عندما يميل الحديث إلى الشؤون الشخصية لأي من الحاضرين. بينما كان حديث بقية الأعضاء قريب مما ندعوه بعامية المثقفين. وكانت زوجة الدكتور طه حسين فيما بدا لي واعية بأهمية الاجتماع، برغم عدم وجودها فيه، تدير جانبه الاجتماعي عن بعد، فقد أرسلت النادل النوبي الذي كان يرتدي زيا رسميا أبيض، بحزام عريض أزرق، لكل من وفد إلى البيت بالمشروبات. وما أن مضت الساعة الأولى في جدل ونقاش طليّ حتى وجدناه يجئ مرة أخرى يعرض على الجميع، دورا ثانيا من المشروبات، دون أن ينساني بالطبع، وهو الأمر الذي كنت أتوقع حدوثه، كشخص ثانوي لا أهمية له في تلك الجلسة. لكن تعريجه عليّ في كل مرة بعد الفراغ من الضيوف الأساسيين، ترك أثرا في نفسي لم ينمحِ، وجعلني أشعر بلمسات زوجة الدكتور طه حسين الراقية، ووجودها غير المرئي معنا.

أقول شرّق بالجمع الحديث وغرّب، ولكن طه حسين كان فيما بدا لي حاضر الذهن طواله، لم تجعله طلاوته الشيقة ينسى أنه يرأس جلسة لجنة حكومية، وأن على جدول أعمالها أكثر من أمر عليه أن ينجزه. وهو ما قام به بيسر بارع، وفي زمن قصير كان حريصا فيه على استطلاع رأي أعضاء اللجنة، وعلى معرفة اقتراحاتهم المختلفة في كل أمر من الأمور المعروضة عليها. وبدأ الجمع في الانفضاض، حتى انصرفوا جميعا. بعدها التفت إليّ الدكتور طه حسين، وكأنه كان يراني طوال الوقت، قائلا: ألم أطلب منك ألا تدون شيئا يا أستاذ؟ فقلت على الفور وكأنني أصحح خطأي الأول: نعم يا معالي الباشا! فقال وكأنه لا يريد التريث عند هفوتي، وقد وصلتني الرسالة بأنه يعرف أنني لم ألتزم حرفيا بما طلب، وقال: اعرض عن كل ما دونته واكتب!

وأخذ يملي عليّ محضر الجلسة منذ ديباجتها: انعقدت لجنة كذا في يوم كذا في ساعة كذا، ببيت الدكتور طه حسين (رامتان) وبرئاسته، وحضرها فلان وفلان (وكان يسبق كل اسم بلقبه، ويرتبهم ترتيبا له دلالاته من حيث الأقدمية والمكانة) وليس ترتيبا عشوائيا أو أبجديا كما يحدث في معظم محاضر اللجان المماثلة التي قرأت كثيرا منها أثناء عملي بالمجلس. واعتذر عن عدم حضورها فلان .. إلى آخر الديباجة السلسة التي أملاها عليّ بوضوح، وبلغة ارتقت فيها لغة الدواوين إلى أفق اللغة الأدبية الراقية. وهو الأمر الذي دفعني إلى أن أطلب من رئيس إدارة الشعب واللجان في المجلس، بعدما عدت في اليوم التالي للعمل، اعتماد لغة تلك الديباجة البليغة الوجيزة الناصعة في كتابة كل المحاضر. ثم بدأ ينتقل إلى نظر اللجنة في جدول الأعمال المعروض عليها، ويملي عليّ ما كان به نقطة بنقطة، وبنفس الترتيب والأرقام التي قرأتها عليه في بداية الجلسة، وقرار اللجنة في كل أمر. وقد تم هذا كله بطريقة تزري بكل ما دونته من نقاط لنفسي أثناء الجلسة؛ وكأنه يريد أن يعلّمني درسا، وأن يبلغني رسالة ضمنية بألا أخالف تعليماته في المرة القادمة. وهو ما فعلته في المرة التالية بعد أقل من عام. فلم أدون شيئا طوال الجلسة التالية، وانصب تركيزي على الاستمتاع بكل ما في الفضاء الذي يدور فيه هذا الاجتماع النادر واستيعاب تفاصيله.

تنويعات جديدة على لحن جميل:
لأنني حينما عدت في العام التالي في خريف 1971 إلى بيت «معالي الباشا»، وقد جعلتني الزيارة الأولى له أكثر شغفا به، وأشد ثقة بما ينتظرني فيه، فقد انقشعت توجسات المرة الأولى، بعدما بلورت نسقا خاصا من التوقعات. كنت في واقع الأمر مترعا بالشوق إلى تكرار تلك التجربة، وإلى معرفة ما سيدور بين أعضاء تلك اللجنة من نقاش حول متغيرات الواقع المصري، قبل ما سيقررونه في جدول الأعمال. وكانت قد جرت مياه كثيرة تحت جسوره، بعد رحيل عبد الناصر، وتخبطات العام الأول من حكم السادات. وما أن استقبلني فريد شحاته بطريقته الرسمية المعهودة، حتى توجهت بنفسي، بعد السلام عليه، إلى مقعد في جانب بعيد من الغرفة، دون أن يوجهني هو إليه كما حدث في المرة السابقة. فقد كان تنظيم المقاعد في الغرفة معد مسبقا للجلسة، وهو الأمر الذي لم أدركه في المرة الأولى. حيث تتحلق المقاعد الوثيرة حول مقعد الدكتور طه حسين الأثير والمميز. وكانت الغرفة برغم ما تزدان به من مكتبات مليئة بالكتب العربية منها والفرنسية تغطي معظم جدرانها، وعدد من الصور واللوحات، بها «فازتان» موزعتان بعناية على جانبي حلقة الاجتماع، وبكل منهما باقة جميلة من الأزهار، تختلف كل منهما عن الأخرى.

ثم جاءت السيدة سوزان بالدكتور طه حسين، في حلة كاملة أنيقة من أرقى أنواع الصوف، داكنة الزرقة، وربطة عنق حريرية لا تقل عنها أناقة، فتذكرت أنها حلّة مغايرة لحلة العام الماضي التي كانت من اللون البني الغامق، وإن لم تقل عنها بهاء وأناقة. وكانت حلة هذا العام من ثلاث قطع، أي كان يرتدي معها الصديري تحت الجاكتة، فقد كان في الجو بشائر برد خفيف. ولاحظت أنه قد تقوس قليلا، وأنه يتكئ على زوجته أكثر، ولكنه ظل فاره الطول، مهيب الطلعة. وما أن هلّ عليّ حتى نهضت للسلام عليه، وقدمت نفسي له بيا «معالي الباشا» هذه المرة، فإذا به يتذكرني سائلا: ألست نفس الموظف الذي جاء في العام الماضي؟ فأجبت نعم يا معالي الباشا! فقال أهلا وسهلا! وكرر نفس سؤال العام الماضي: هل قدمت قهوة للأستاذ يا فريد؟ فأجابه فريد بنعم، والتفت إلي وقال: هات ما لديك! فقرأت عليه جدول الأعمال، وسألني أتتذكر ما طلبت منك في الجلسة السابقة؟ قلت نعم يا معالي الباشا! ألا أدون شيئا وأن أنتظر حتى تملي عليّ معاليك المحضر بعد انفضاض الجلسة. فقال: جيد!

وأخذ أعضاء اللجنة يتوافدون واحدا وراء الآخر، يسلمون عليه جميعا وهم ينادونه كالمرة السابقة بيا «معالي الباشا»، ويقبّل بعضهم يده، بينما يكتفي البعض الآخر بالسلام عليه دون تقبيلها. وكان يتهلل لمقدم كل منهم ويحتفي به ويستطلع أخباره، دون أن يغفل من سبقوه، وقد نال كل منهم نصيبه من اهتمامه. ولاحظت هذه المرة أن لديه طريقة بارعة في إشراك الآخرين في الحديث الذي يريد أن يحتفي فيه بكل قادم على حدة. وبدأ الحديث بينهم كالمرة السابقة بالكثير من الأمور الخاصة والشخصية التي تتجلى عبرها حميمية علاقة كل منهم بطه حسين، وتفرد علاقته بهم. وعرج الحديث على آخر الأخبار الفردية حينما أشار طه حسين إلى موت المستشرق البريطاني الشهير هاملتون جب (1895-1971)، وكان أغلبهم يعرفونه، وتحدث البعض منهم عن ذكريات طيبة عنه، وعن زياراته المتكررة لجامعة القاهرة. لكن الحديث العام عما كان يدور في الواقع المصري وقتها، واستشراف ما ينوي السادات فعله، استأثر بالكثير من وقتهم.

فعلى العكس من اجتماع العام السابق والذي جرى في سبتمبر قبيل موت عبد الناصر، كان هذا الاجتماع على ما أظن في أواخر أكتوبر. لذلك حظي الاستفتاء الأخير، على دستور 1971 الذي أعده السادات، بقدر لا بأس به من تهكمهم وسخريتهم. وكان كل من إبراهيم بيومي مدكور ومحمد عوض محمد من أكثرهم استخفافا به، ونقدا لتكريسه المطلق للاستبداد العسكري، فلم يكن به أدنى أثر للفصل بين السلطات. وقد شاقني وقتها أن أتعرف على شكوكهم العميقة في سعى أنور السادات إلى تحرير مصر من قبضة الاستبداد الذي عاشته طوال فترة حكم سلفه، جمال عبد الناصر، كما كان يزعم بعدما أسماها بثورة التصحيح التي تخلص فيها من كل الناصريين واليساريين.

ولأن عددا منهم، وعلى رأسهم طه حسين نفسه، كانوا يعرفون أنور السادات معرفة شخصية، واحتكوا به في مناسبات عديدة، لم تنطل عليهم حيله التي كان يناور بها، وعبرها، في استخدام الدعوة للحرية للاستئثار بالسلطة. ولم يكن أي منهم، وعلى رأسهم طه حسين نفسه، متفائلا به بأي حال من الأحوال، فقد كان أنور السادات على رأس جريدة (الجمهورية) طوال السنوات التي كان طه حسين يكتب فيها بانتظام. وكان له معه فيها أكثر من موقف. وكان أهم ما بقي في ذاكرتي من إشاراته تلك هو تذكيره لهم بدور السادات في عملية التطهير التي قام بها رجال يوليو ضد الجامعة عام 1953، وكيف أنه كان مشاركا في علمية الإجهاز على قانون استقلال الجامعة (القانون رقم 96 لسنة 1935) الذي كان الجميع يعرفون فداحة العصف به. وهو الأمر الذي كان غائبا إلى حد كبير عن جيلنا من المثقفين واهتماماته. وإن كان سبب معرفتي بهذا الأمر هو عملي مع يحيى حقي، وحضوري في (المجلة) لأكثر من جلسة زاره فيها جمال حمدان،[1] بعدما سعى إليه يحيى حقي ليكتب في (الملجة) التي نُشر فيها منجما ما يمكن دعوته بالملخص الأول – أو التخطيط الهيكلي العريض – لكتابه العلامة (شخصية مصر) والذي صدر بعد فراغه منه في طبعة من كتاب الهلال.[2]

وقد لاحظت أن سهير القلماوي لم تشترك في حديثهم عن السادات، ولم تعبر عن أي رأي فيما كان يدور وقتها عما جرى لاستقلال الجامعة، مع أنها من الجيل الذي وعي ما جرى للقانون 96 لعام 1935 الشهير. ولا أعرف حتى اليوم إذا ما كان صمتها احتراما لاختلافها مع استاذها، أم موافقة ضمنية على ما كان يعبر عنه من هم أعلى منها قامة وقيمة. ذلك لأن طه حسين نفسه قد سرد شيئا من تجربته الشخصية معه من خلال عمله في جريدة (الجمهورية) التي رأس السادات تحريرها في فترة من الفترات، وكيف توقف في نهاية المطاف بسبب خلافه معه عن النشر فيها. وقد اتفق معه في الرأي السلبي فيه محمد عوض محمد وسليمان حزين اللذين كانا أكثر من حمل، مع طه حسين، على السادات وشككا فيه.

ولم يفتني رغم استغراقي في الاهتمام بحديثهم السياسي في الشأن العام وقتها، ملاحظة براعة طه حسين في تلمس المداخل، دون الانصراف عن الشأن العام، لاستطلاع آرائهم فيما ينطوي عليه جدول أعمال اللجنة من شؤون حتى استكمل كل بنوده، دون أن تفقد الجلسة شيئا من حميميتها وتلقائيتها وسلاسة الجدل الثري فيها. وقد وطد محمد عوض محمد مكانته عندي والتي خرجت بها من الجلسة الأولى، ودفعني بعدها إلى البحث عن بقية مؤلفاته لقراءتها. وما أن أوجز طه حسين لهم ما هو معروض على اللجنة وما خرجوا به من قرارات فيها، حتى أخذ أعضاء اللجنة في الانصراف. وبعدما غادر آخرهم، أقبل فريد شحاتة على طه حسين يسر له أمرا. ولم أسمع مما دار بينهما غير أمر طه حسين له: أدخلهما! ثم التفت إلي وقال: ابق مكانك! فسأستقبل ضيفين لأمر سريع، ثم أملي عليك المحضر.

ودخل علينا كل من الدكتور سهيل إدريس صاحب (الآداب) ومعه رجاء النقاش الذي كان بالطبع من أصدقاء سهيل إدريس المقربين في القاهرة، فقد كان أول مراسلي مجلة (الآداب) فيها. ويبدو أنه كان من نظم موعد اللقاء بينه وبين الدكتور طه حسين. وبعد أن سلما على الدكتور طه حسين، التفتا إليّ ورحبا بوجودي الذي فاجأهما. وشعرت في تلك اللحظة بشيء من الاضطراب خاصة وأن رجاء النقاش استخدم اسمي، وحاول الحديث معي لمعرفته الوثيقة بي في أمر كان بيننا، وإن حاولت إغلاق الموضوع بسرعة. لأنني أدركت أن معرفتهما بي لن تفوت على الدكتور العميد، وربما ستدفعه لتقريعي. وتبين أن الدكتور سهيل إدريس قد جاء يطلب التعاقد مع الدكتور طه حسين على طبعة جديدة من إسلامياته الشهيرة، التي أصدرتها (دار الآداب) في مجلد واحد، وفي طبعة بيروتية رائجة. هنا أتاحت لي الظروف أن أتعرف على اهتمامات طه حسين الثقافية العربية الواسعة، وأن أشاهد جانبا راقيا آخر من جوانب شخصيته، وهو يتفاوض على حقوقه الفكرية مع سهيل إدريس بطريقة ماهرة ومبتكرة. ويجبره بحصافة متناهية على أن ينصاع لكل شروطه، وهو الذي كان معروفا بصرامته وبخله كناشر مع الكتاب.

اهتمامات طه حسين العربية ومفاوضاته البارعة
وكانت «دار الآداب» قد نشرت إسلاميات طه حسين التي تشكل جزءا مهما من مشروعه الثقافي الكبير في مجلد واحد ضم: (على هامش السيرة) بأجزائها الثلاثة مع (الفتنة الكبرى) بجزأيها و(الشيخان) و(مرآة الإسلام). في نوع من طرح الدار ذات التوجه العلماني التنويري لكتب طه حسين، وخطابه العقلاني، في وجه صعود خطاب الإسلامجية المتخلف، الذي أتاحت له سبعينيات القرن الماضي، النمو والانتشار. وكأن «الآداب» كانت تحدس ما بدا في ذلك الوقت المبكر مع مطالع السبعينات خطورة زحف الإسلامجية الحثيث والمنظم – والمدعوم بأموال وأفكار السعودية الوهابية، وبسياسات التبعية التي خطط لها السادات ببراعة – وقتها على الواقع العربي. وأن وسيلة محاربة هذا الخطاب الكريه والمتشدد هي إتاحة الخطاب العقلاني المستنير عن الإسلام في مواجهته.

وبعد أن رحب الدكتور طه حسين بهما، وقدم لهما واجبات الضيافة، عرض عليه سهيل إدريس سبب مجيئه للحصول على حقوق طبعة ثانية من الإسلاميات التي نفدت طبعتها الأولى. فسأله طه حسين: وهل دفعتم شيئا عن الطبعة الأولى؟ فسرد عليه سهيل إدريس تفاصيل ما دفع، وكان إذا لم تخني الذاكرة (وهي بطبعها خؤون) ألف جنيه، وهو مبلغ كبير بمعايير ذلك الوقت. حيث كان يقرب من نصف قيمة جائزة الدولة التقديرية وقتها (2500 جنيه)، والتي كانت قيمتها تعادل ثمن شقة من أربعة حجرات تطل على نيل القاهرة. وأكد له فريد شحاتة الذي طلب منه الدكتور العميد ملف الموضوع، صدق ما رواه سهيل إدريس. فسأل الدكتور العميد: وكم ستدفع عن الطبعة الثانية؟ فعرض عليه سهيل إدريس مبلغا يعادل نصف ما دفعه في الطبعة الأولى، مبررا الأمر بأن الطبعة الثانية ستكون أقل بيعا وأبطأ توزيعا، بعدما تشبع السوق بمن اقتنى الطبعة الأولى، فكان تعليق الدكتور العميد على العرض الذي بدا أنه لم يعجبه: زِدها قليلا!

ولم ينتظر حتى يزيدها سهيل إدريس قليلا أو كثيرا، وإنما عاجله بالسؤال عمن يعرفهم من الكتاب اللبنانيين واستطلاع أخبارهم. بادئا بميخائيل نعيمة الذي لم يكن لدى سهيل إدريس الكثير عنه، فاستطرد الدكتور العميد في بعض ذكرياته معه. ثم عرج على توفيق يوسف عواد الذي تهلل سهيل إدريس لمّا سأله عنه، وأخبره بأنه عاد لكتابة الرواية، وأنه سينشر روايته الجديدة (طواحين بيروت) التي كتبها بعد ثلاثة عقود من روايته العلامة (الرغيف). كما سأله عن سعيد عقل، وعن منير البعلبكي صاحب (المورد) فأخذ سهيل إدريس يرد على أسئلته عنهم بشيء من الإيجاز، ثم يعود لموضوعه الأساسي الذي جاء من أجله. وهو ضرورة الحصول على موافقة الدكتور العميد على عقد للطبعة الثانية. ويبدو أن الدكتور العميد أحس بأن سهيل إدريس في عجلة من أمره، فكان يعيد عليه السؤال: وهل دفعتم شيئا عن الطبعة الأولى؟ فيكرر عليه الجواب. فيسأله من جديد، وكم ستدفع عن الطبعة الثانية؟ واستجاب سهيل إدريس لطلبه في المرة السابقة: زِدها قليلا! وعرض عليه مبلغا أكبر قليلا مما طرحه في المرة الأولى! فكان رد الدكتور العميد مرة أخرى: زِدها قليلا!

ثم سأله عن حسين مروّة، وهو الأمر الذي شاقني في مكاني البعيد، وعرفت منه أنه يتابع مشروعه النقدي، وبداياته الباكرة في التعامل مع التراث الإسلامي، والتي نتج عنها بعد ذلك بسنوات كتابه العلامة (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية). ثم سأله عن خليل تقي الدين وآخرين ممن لم أكن قد سمعت بهم من الكتاب اللبنانيين، فقد سمعت عن سعيد تقي الدين، ولكني لم أكن قد عرفت شيئا عن خليل تقي الدين وغيره من الكتاب الذين سأل عنهم طه حسين. وكلما شرّق الحديث وغرّب عن كتاب لبنان وأحوالهم الثقافية، كان سهيل إدريس يعود لطلب حقوق الطبعة الثانية. وكان الدكتور العميد يكرر عليه السؤال، وكأنه نسي جوابه عليه: وهل دفعتم شيئا عن الطبعة الأولى؟ ويعقبه بكم ستدفع عن الطبعة الثانية؟ فيعرض سهيل إدريس عليه رقما أعلى من الرقم الذي عرضه عليه في المرة السابقة، فيرد زِدها قليلا! وظل سهيل إدريس يزيد المبلغ الذي سيدفعه في كل مرة، وقد تكرر الأمر ثلاث مرات، قبل أن يصل إلى المبلغ الذي رضي عنه الدكتور العميد، فقال: هات الختم يا فريد! وجلب فريد ختما نحاسيا صغيرا من النوع الذي أعرفه جيدا لأنه ينتشر في ريف مصر لدى كل تاجر أو مالك للعقارات من الأميين. وقد أدهشني وهالني وقتها (وإن كان الأمر منطقيا فهو ضرير) أن اكتشف أن هذا المثقف الكبير الذي ملأ الدنيا كتابة وعلما وإبداعا وترجمة، يستخدم هذا الختم النحاسي الصغير، الذي يستخدمه الأميون، للتوقيع على العقد.

وقد أتاحت لي هذه الزيارة المفاجئة لسهيل إدريس ورجاء النقاش أمرين: أولهما التعرف على اهتمامات طه حسين الثقافية العربية الواسعة. فعلى العكس من حديث الجلسات مع أعضاء اللجنة، والذي تركز دوما على الشأن المصري، سواء الثقافي منه أو السياسي. كان حديث طه حسين مع سهيل إدريس عربيا خالصا، بل لبنانيا إلى حد كبير. وقد كنت أظن أن جيلي الذي نشأ في سياق انتشار الفكر القومي العربي – وبدأ النشر في مجلة (الآداب) لسهيل إدريس بتوجهها العربي والعروبي الواضح، ورؤية العالم العربي كساحة ثقافية واحدة نتعرف على كل المساهمين فيها في مختلف المجالات الأدبية – هو الجيل العروبي الأول. حيث أجبرتنا الرقابة الصارمة، في زمن الخوف الناصري، أن ننشر كثيرا من كتاباتنا في منابر الوطن العربي المختلفة، وأن نتعرف فيها على كتابها من جيلنا ومن الأجيال السابقة علينا. لكن حوار طه حسين الخصب مع سهيل إدريس عن كتاب لبنان كشف لي أن طه حسين يعرف كتاب عالمه العربي كما يعرفهم جيلنا وأكثر. وإن كان كثير من أعلام الأجيال التالية له قبل جيلنا، حسب خبرتي بعدد كبير منهم، لم يكن على نفس الاطلاع الواسع على ما ينجزه العالم الثقافي العربي كما هو الحال معه. مما أكد لي بحق أن طه حسين نسيج وحده في أكثر من مجال من مجالات الإبداع والانجاز الثقافي.

أما الأمر الثاني فهو تلك البراعة الحصيفة في التفاوض على حقوقه. فقد لاحظت أنه في المرات الثلاث التي طلب من سهيل إدريس زيادة المبلغ الذي سيدفعه عن حقوق الطبعة الثانية، لم ينتظر حتى يسمع منه الرد بشأن تلك الزيادة، لأنه فيما يبدو لا يريد أن يدخل في سفاسف عملية «فصال» من أي نوع. فهو ليس في سوق يفاصل على سلعة. وإنما كان يدلف فورا إلى قضايا الشأن الثقافي العام، يشرّق فيها ويغرّب كما يحلو له، ولا يعود هو إلى موضوع الحقوق، إلا حينما يلح سهيل إدريس عليها من جديد. ثم يعود لتكرار السؤال بعد أن يرتد سهيل إدريس إلى الموضوع، وقد فهم بمهارته الخاصة في هذا السياق، فقد كان سهيل إدريس مشهورا بالبخل في مجال النشر، أن طه حسين يرفض ما يعرضه، ويترك له فرصه مراجعة الأمر مع نفسه. فكان يزيد المبلغ في كل مرة. وكان طه حسين يتيح له في كل مرة، وقد رفض المبلغ الجديد، خط الرجعة بطلبه الوجيز: زِدها قليلا! كي لا يخرج من الزيارة صفر اليدين.

وما أن ختم فريد شحاتة بختم طه حسين على العقد الذي جاء به سهيل إدريس معه، بعد النص فيه على مبلغ المكافأة الجديد حتى لملم سهيل إدريس أوراقه، واستأذن بالمغادرة مع رجاء النقاش الذي جاء به إلى بيت الدكتور العميد. وكان ما حدسته عند وصولهما صحيحا. وهو أن معرفتهما بي لن تمر مرور الكرام على فراسة معالي الباشا! فما أن غادرا، وحان دوري كي ينتبه لي الدكتور العميد، ويملي عليّ محضر الجلسة كالعادة، حتى بادرني بالسؤال: لماذا يعرفك سهيل إدريس يا أستاذ؟ فأجبت: لأنني أنشر أحيانا بعض مقالاتي في مجلته (الآداب). وبدلا من التقريع الذي توقعته أحسست بتغير نبرة صوته وهو يسأل بنوع من الشغف: أي مقالات؟ فقلت: إنني أكتب دراسات نقدية للأعمال الأدبية الجديدة في الرواية والشعر والمسرح. فسأل: هل درست عندنا في كلية الآداب مثل رجاء النقاش؟ فقلت له: لم يسعدني الحظ بذلك يا معالي الباشا! فقد درست الخدمة الاجتماعية في الليسانس، ولكن شغفي بالأدب وحبي المبكر للقراءة، هو الذي دفعني للكتابة النقدية. فغمغم: ما شاء الله! ما عمرك يا أستاذ؟ فقلت له أنني قد بلغت الثلاثين قبل شهور.

ويبدو أنني كنت حريصا على أن يعرف الدكتور طه حسين أنني لست مجرد موظف في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، أتى للقيام بعمله الروتيني، سكرتيرا لتلك اللجنة، ولكني أحد أحفاده الكثر الذين لا يعرف عنهم شيئا؛ فقلت وكأنني أقدم له مسوغات تجاسري على الكتابة الأدبية، ولكنني أدرس الآن الأدب والنقد المسرحي في قسم جديد للدراسات العليا في معهد الفنون المسرحية، يدرّسني فيه عدد من تلاميذ معاليك السابقين. فرد ولماذا لم تخبرني بذلك يابُني؟ ولم ينتظر مني جوابا، ولم يترك لي فسحة من الوقت لتأمل تغير اللقب الذي ينادني به لأول مرة: يا بُني! وإنما استطرد، دعني أملي عليك محضر الجلسة فقد تأخر بنا الوقت.

وأخذ يملي علي المحضر بنفس الديباجة وتسلسل البنود المطروحة على جدول أعمالها، وقرارات اللجنة في كل بند منها كما جرى في الجلسة السابقة؛ وكأن كل النقاش الطويل عن الواقع الثقافي اللبناني مع سهيل إدريس، وما دار في جدله الشيق معه من مفاوضات بشأن حقوقه، لم يكن غير جملة اعتراضية عابرة انتهت فور مغادرته. ثم عاد بعدما أغلق القوس على تلك الجملة الاعتراضية، ليكمل العمل الذي بدأت به الجلسة منذ وصولي إلى بيته بجدول أعمالها.

وما أن انتهى من إملاء محضر الجلسة وكل قراراتها عليّ، حتى وفدت زوجته السيدة سوزان كي تصحبه إلى الداخل، وكأنها كانت تستمع لإملائه عليّ وتتحين انتهاءه، وقد حدست أن الجلسة قد طالت به أكثر من اللازم وأرهقته. وقبل أن يغادر الغرفة معها، استدار إلي وقال: لقد تأخر بنا الوقت يا بُني! في المرة القادمة تعال مبكرا قليلا قبل موعد الجلسة، لأنني أحب أن اسمع شيئا عن مشاغلك واهتمامات جيلك من الشباب!

وكم سعدت بهذه الكلمات الأخيرة، وتمنيت لو لم تتدخل السيدة زوجته، وتركت لنا فرصة مواصلة الحديث. ولكن جاد الحظ بفرصة ثالثة، وأخيرة لاكتشاف جوانب جديدة في شخصية هذا الكاتب والمفكر الكبير الذي ترك بصمته على الثقافة المصرية والعربية.

دور المثقف والتفاعل بين الحضارات:

عندما انصرفت من بيت طه حسين بعد تلك الزيارة الثانية التي طالت، حين وفدت السيدة زوجته لإنقاذه من احتمالات أن تطول أكثر وترهقه، كانت تتنازعني مشاعر الفرح والاستياء معا. الفرح لأن الظروف أتاحت لطه حسين أن يعرف أنني لست مجرد موظف جاء لتدوين محضر الجلسة، وأنني أحد أحفاده المجهولين سعى للتعرف عليه، والاقتراب منه. والاستياء من قطع السيدة زوجته لأول حوار حقيقي بيني وبينه، كان يمكنه أن يمتد، وما أكثر شغفي بأن تطول بنا الحوارات في ذلك الزمن البعيد. لكن هذا الاستياء منها سرعان ما تحول إلى استياء من عجزي عن اهتبال الفرصة التي أتاحها لي الدكتور العميد، حينما طلب مني المجيء مبكرا في المرة القادمة، ولم أنتهز هذه الفرصة لأطلب منه موعدا خاصا، بعيدا عن مواعيد انعقاد اللجنة، أجيب فيه على ما كان يود أن يعرفه عن جيلي من ناحية، وربما استطعت أن أظفر فيها بحوار معه من ناحية أخرى.

فعلى العكس من نجيب محفوظ الذي كانت تعجبني دائما سرعة بديهته، فإنني من النوع الذي يعيد تمحيص ما دار بعد انصرامه، ويكتشف أنه كان باستطاعته دوما أن يقدم أجوبة أفضل، أو أن يتصرف بطريقة أحسن مما دار. وكلما تأمل الموقف أكثر كلما ازداد استياء من نفسه على ما قام به، ونقدا لها. وأخذت في طريق عودتي أُقرّع نفسي مغتاظا من تفويت تلك الفرصة النادرة التي لا يجود الزمن بمثلها. وأن عليّ أن انتظر عاما آخر حتى تتاح لي مثل تلك الفرصة من جديد، لو كان معالي الباشا لا يزال يتذكر ما دار، ومازال شغوفا بمعرفة أحوال جيلي الجديد. وحتى لا يفسد عليّ تقريع الذات غبطتي بما حدث، فقد عدت من جديد لتأمل ما دار في جلسة طه حسين مع سهيل إدريس، ومفاوضاته البارعة على حقوقه. وعندما تأملت تفاصيل الحوار الذي دار – بيني وبين نفسى على مهل – أدركت كم أن لاعتصام طه حسين بالحديث باللغة العربية الفصحى دوره المهم في الرقي بتلك المفاوضات ونجاعتها. ناهيك عن أسلوبه البارع في تلك المفاوضات والذي يدفعه بعد فعل الأمر الموجز: زِدها قليلا! إلى الانصراف مباشرة إلى ما كان يتناوله من شؤون ثقافية، وكأنه يضع تلك المفاوضات، ولا أقول المساومات، في سياق ثقافي أوسع. فلو دارت تلك المفاوضات باللغة العامية، سواء المصرية أو اللبنانية، لما كان لها هذا الوقع، وربما ما كانت لتنجح بتلك البساطة والسلاسة التي دارت بها بلغة طه حسين الفصحى والراقية.

وانتظرت عاما آخر، وقد كنت محظوظا حيث جادت عليّ الظروف بلقاء ثالث، وعدت إلى «رامتان» مرة ثالثة وأخيرة في خريف عام 1972، مبكرا وقبل موعد انعقاد الجلسة بساعة تقريبا. وأخبرت فريد شحاته الذي استغرب وصولي مبكرا جدا، بأن معالي الباشا طلب مني ذلك في المرة السابقة، حينما عرف بأنني أنشر مقالات نقدية في مجلة (الآداب) البيروتية. وكانت عودتي إلى «رامتان» يحدوها الشوق إلى ما قد تسفر عنه من حديث شخصي بين طه حسين وبيني من ناحية، وإن شابها، من ناحية أخرى، شيء من الأسف لأنني لن أرى الدكتور محمد عوض محمد الذي استأثر باهتمامي في المرتين السابقتين، لرحيله مع بدايات ذلك العام (1972). وطال انتظاري، لأن السيدة سوزان لم تأت بزوجها إلى غرفة الاستقبال التي تنعقد فيها الجلسة، وقد أخذت مكاني فيها مبكرا، إلا قبل موعد انعقاد اللجنة بربع ساعة كالمعتاد. ولاحظت أن الدكتور طه حسين بدا أشد انحناء وهزالا مما كان عليه في العام الماضي، وإن كان مازال في كامل أناقته ومهابته. في حلة رمادية كاملة وجميلة (من ثلاث قطع)، ورابطة عنق حريرية راقية.

وما أن أجلسته زوجته في مقعده الوثير المعتاد، ووضعت على ركبتيه بطانية صغيرة من الصوف، مدت فوقها يديه، حتى لاحظت ازدياد تشنج أصابع يديه عما كان من قبل، وارتعاشهما بشكل خفيف. ولما استوى على مقعده، بادر بتحيتي التي رددت عليها بأحسن منها، وبسؤال فريد شحاتة إن كان قد قدم لي القهوة أم لا، فبادرت أنا بالرد بدلا منه بأنه فعل وشكرته. وطلب مني معالي الباشا كالعادة أن أقرأ عليه جدول أعمال الجلسة ففعلت. ثم بادرني بالسؤال عما أكتب في مجلة (الآداب)؟ ولما أجبته بأنني أكتب النقد الأدبي في أكثر من منبر عربي خارج مصر، في لبنان وسوريا، وحتى في العراق. كان سؤاله وماذا عن مصر؟ هل نشرت شيئا في مصر يا بُني؟ فقلت له نعم يا معالي الباشا! وأخبرته أن كثيرا من كتاب جيلي من الشبان ينشرون في مصر في الصفحة الأدبية لجريدة (المساء) القاهرية، وأحيانا في مجلة (المجلة) التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي. فقال عندئذ: هل نشر لك يحيى حقي مقالات نقدية. قلت نعم يا معالي الباشا! نشر لي عددا كبيرا من الدراسات على مدار الأعوام الخمسة الأخيرة، بل قربني من أسرة تحرير (المجلة) وكلفني بالفرز الأوليّ لما يرد لها من قصص. فرد تلك إذن شهادة لك بأنك شاب طلعة ولك مستقبل! فقلت لكننا ننشر في المنابر العربية أكثر بسبب ما تتيحه لنا من حرية في التعبير عما نريد. وأن الرقابة المباشرة منها وغير المباشرة في مصر هي التي دفعت الكثير منا إلى الكتابة خارج مصر.

هنا صدرت عن معالي الباشا تنهيدة عميقة حرى، وقال: يؤسفني أنكم مضطرون إلى خوض نفس المعارك التي خضناها من أجل حرية التعبير في مصر، ولكن في سياق أسوأ! وفي ظل وضع تتدنى فيه مكانة الثقافة ودور المثقف في مجتمعه. كنا نود أن تستفيدوا مما حققناه، وأن تبنوا فوقه، لتنطلق مصر إلى ما تصبو إليه. ثم سأل، وكأنه يريد أن يغير هذا الموضوع المؤسف، قلت لي أنك لم تدرس عندنا، فماذا درست؟ فكررت عليه ما قلته في المرة الماضية عن مسيرتي الدراسية، وأخبرته بأنني أكلمت مؤخرا دراسة عامين للتخصص في الأدب والنقد المسرحي، من نظام جديد للدراسات العليا في المعهد العالي للفنون المسرحية، أسسه وقتها الدكتور مصطفى سويف، حينما عهدت له وزارة الثقافة بإدارة أكاديمية الفنون. وذكرت له أسماء بعض من تلقيت دروسهم فيه وفي طليعتهم الدكتورة لطيفة الزيات، والدكتورة سامية أحمد أسعد، والدكتور شكري محمد عياد، والأستاذ بدر الديب وغيرهم ممن أظن أنهم تتلمذوا على يديه. فردد نعم ... نعم!

ثم أردف: إذن أنت تريد التخصص في النقد الأدبي، ومواصلة العمل فيه، فهل تجيد لغة أجنبية يا بُني؟ فقلت، بشيء من التلعثم، وقد أدركت أنه وضع يده على نقطة ضعف مهمة، إنني أحاول يا معالي الباشا أن أحسن لغتي الإنجليزية بالدرس والترجمة. وقد التحقت بقسم الدراسات الحرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لهذا الغرض. فقال من الضروري يا بُني أن تجيد اللغة في بلدها وبين أهلها، وأن تعرف ثقافتها وحضارتها بشكل جيد، كي تضيف شيئا لثقافتك. فاللغة الأوروبية مفتاح للحضارة الغربية، ولابد أن تعرف تلك الحضارة كي ترهف وعيك النقدي والعقلي بالأشياء؛ وكي ترى حضارتك بعيون جديدة. كنا نحرص يا بُني على أن نرسل النابهين من الشباب إلى أوروبا، كي يدرسوا فيها، ويكوّنوا عن طريق هذا الدرس المنظم عدتهم الفكرية والمنهجية. لأنهم بذلك يتعلمون اللغة، ويعيشون الثقافة معا، لكن هذا الأمر قد انحسر للأسف الشديد مع تفشي الفساد والقضاء على البعثات في السنوات الأخيرة، وهو أمر محزن.

هنا وفدت الدكتورة سهير القلماوي إلى البيت لحضور الاجتماع، فانصرف معالي الباشا عني إليها، مما زاد نفوري الطبيعي منها بسبب تعاملها السيئ مع يحيى حقي ودورها، في إخراجه من مجلة (المجلة) وتدميرها مع غيرها من منابر الثقافة الجادة في بدايات عصر السادات الكئيب. ثم توالى وفود بقية أعضاء اللجنة وانصرف انتباه معالي الباشا إليهم، وإلى ما ينتظرهم من أمور لإنجازها في تلك الجلسة. وإن بدأ الحديث كالعادة بالأمور العامة في حياة كل منهم وأخبار ما يدور في مصر من وجهة نظرهم. وكنا وقتها في خريف الغضب الفعلي، وليس ذلك الذي صك مصطلحه محمد حسنين هيكل – مهندس تمكين السادات من السلطة – بعدما غضب السادات عليه. كانت مصر كلها تعيش عاما من الغضب الكظيم من حالة اللا حرب واللا سلم التي أخذها السادات لها وقد تعلل بالضباب؛ بعدما انصرم عام الحسم (1971) كما سماه دون حسم. وخرج الطلاب إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة؛ واعتصموا في ميدان التحرير في بداية العام 1972. وتغنى بثورتهم أبرز شعراء جيلي مثل أمل دنقل في قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية»،[3] وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في أغنيته المشهورة «أنا رحت القلعة وشفت ياسين.»[4]

ولما تضامن الكتاب والمثقفون معهم، ووقعوا في مكتب توفيق الحكيم الشهير في مبنى (الأهرام) على عريضة مؤيدة لمطالبهم، وتدعوا إلى الإفراج عمن اعتقل منهم، عصفت بهم لجنة التنظيم، الذي كان السادات قد وضع على رأسها كادرا إسلامجيا معروفا هو محمد عثمان إسماعيل.[5] فقام على الفور بفصل العشرات منهم، وعلى رأسهم يوسف إدريس ورجاء النقاش وغيرهم من الاتحاد الاشتراكي، مما يفقدهم بشكل مباشر وظائفهم في أجهزة الإعلام الرسمية المملوكة كلية لهذا الاتحاد الاشتراكي. وبدأ أغلبهم وقد حرموا من العمل في مصر، أو الظهور في أي من المنابر الإعلامية، وضيّق النظام عليهم في رزقهم، في التشتت في المنافي العربية والغربية على السواء. كما أخذ السادات في إغلاق الدوريات الثقافية المختلفة التي كانت تعج بها مصر في ستينيات القرن الماضي. وتخلقت آليات ما دعوته في أكثر من مقال وقتها بالمناخ الطارد الذي أخذ يَدُعّ المثقفين العقلانيين واليساريين من مصر طوال سنوات حكم السادات.[6] بينما أُفسح نظام السادات المجال وأجهزة إعلام الدولة للإسلامجية يعيثون فيها فسادا؛ وينشرون بها الأفكار الوهابية البغيضة، ويقومون – بنشاط تزعمه محمد متولي الشعراوي ومصطفى محمود  وغيرهم – بغسل عقول المصريين من كل التاريخ العقلاني التنويري الذي زرعه فيها جيل طه حسين، والأجيال التي تلته. ويسدلون الحجاب على رؤوس النساء، وعلى عقول الرجال في الوقت نفسه.

ولم تكن حقيقة هذا الأمر بغائبة عن طه حسين، الذي لمست طوال نقاشاته في مفتتح هذه الجلسة شدة حساسيته لأي عصف بدور المثقفين، وأي تأثير سلبي على مكانتهم ودورهم في المجتمع. وعرج طه حسين بهم على قانون (رقم 49 لسنة 1972) لتنظيم الجامعات، وكأنه يقول لهم ألم أخبركم من قبل بدور العسكر في الإجهاز على استقلال الجامعة وحرية الفكر فيها. وشعرت وأنا أتابع مناقشاتهم (وكان فيهم من له ميول إسلامية واضحة مثل مهدي علام وحسين مؤنس، أو ميول انتهازية أوضح مثل سهير القلماوي التي صعد نجمها مع نظام السادات، وبالتالي يقدمون تبريرات متهافتة لما فعله السادات) وكأن طه حسين يواصل، وإن بشكل مغاير، تأكيده لما قاله لي قبل قدومهم، من أن على جيلنا أن يحارب من جديد نفس المعارك التي حاربها جيله: معارك العقل والحرية واستقلال المثقف. واستمرت الجلسة بأحاديثها الطلية كالعادة، وبتوجيه طه حسين لدفة الأمور فيها بحصافة، بعد اكتمال عدد حضورها إلى ما يتضمنه جدول أعمالها. ولم ينل الخلاف بينه في الرأي فيما يدور في الواقع المصري وبينهم من مناخ الحب والتقدير الذي يحيطونه به. وما أن انتهى من مناقشة كل البنود على جدول الأعمال، وتوصل مع اللجنة إلى قرارات بشأنه حتى كان الإرهاق قد بدا عليه، وازدادت ارتعاشات يديه، فأخذ الأعضاء في الانصراف.

وبعد انصراف آخرهم التفت طه حسين إليّ وأخذ يملي عليّ محضر الجلسة كالعادة. وما أن انتهى منها وبنفس حضور الذهن الذي اعتدته منه حيث جاءت قراراتها بنفس ترتيب البنود في جدول أعمالها، حتى توجه إليّ بالحديث من جديد. وقال لا تنس يا بُني ما قلته لك من ضرورة السفر إلى أوروبا لتتعلم فيها مع الدرس المنظم اللغة والثقافة معا! فقلت نعم يا معالي الباشا، ولكنه أمر صعب في هذه الأيام، أو بالأحرى مستحيل. فقال وفقك الله يا بُني!

ويبدو أن الله استجاب لدعوته لي، رغم استحالة السفر إلى أوروبا لأمثالي في ذلك الوقت. فما أن حان الخريف التالي عام 1973، وهو الخريف الذي فارق طه حسين الحياة فيه، حتى كنت في أوروبا بالفعل، وطلبوا مني أن أقدم في ندوة (seminar) الشرق الأوسط الأسبوعية الشهيرة وقتها في جامعة أوكسفورد ندوة عنه؛ بدأتها بأنه لولا دور طه حسين الكبير في الثقافة المصرية، وما أرسى فيها من قيم وركائز تعليمية، لما كنت أنا هنا الآن، أتحدث إليكم في هذه الجامعة. ولكن تلك قصة أخرى تستحق التوقف عندها، في المستقبل.

 

[1] . كان جمال حمدان هو الآخر من الشخصيات الرائعة التي أسعدني الحظ بمعرفتها عن قرب في زياراته المتكررة لمكتب (المجلة). وكان يحب زيارة يحيى حقي لتسليم مقاله الشهري بنفسه، والاستفاضة في الحديث والفضفضة معه. وأذكر أن جاء صديقي العزيز الراحل عبدالحكيم قاسم لمكتب (المجلة) مرة وكان حاضرا فيها جمال حمدان، فلما قدمته له تبين أنه قرأ كل ما نشره عبدالحكيم في المنابر المختلفة، وناقشه فيه، ولن انسى أبدا وصف عبدالحكيم قاسم له بعدما انصرفنا معا من مكتب (المجلة): «هذا الراجل مقرأة». فلم ترد أي إشارة لأي نص إلا ووجد لدهشته أنه قرأه، ولا أظن أنني سمعت هذه الصفة الجميلة «مقرأة» من قبل او من بعد.

[2] . كان نقاش جمال حمدان مع يحيى حقي عن أسباب استقالته الشهيرة من الجامعة هو ما عرّفني على ما جرى من اعتداء جسيم على استقلالها، وأهمية القانون رقم 96 لسنة 1935 الذي ناضل طه حسين وأحمد لطفي السيد لإصداره حفاظا على استقلال الجامعة، وظل حافظا لاستقلالها حتى إصدار القانون رقم 128 لسنة 1953 الذي نظم لجان تطهير الجامعة، وبدأ في الإجهاز على  استقلالها. وكان جمال حمدان – وهو يحكي عن أسباب استقالته من الجامعة – قد نبهني مبكرا إلى أن المناصب الرسمية – في زمن تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة الذي بدأ مع حكم العسكر – لابد وأن يحصل عليها من يتعامل مع أجهزة الأمن، ويكون عينا لهم على زملائه. وأن هذه الأجهزة بدأت تدخلها السافر في الحياة الجامعية وقيمها العلمية وفرز المكانات فيها منذ مطلع الستينيات. فقد سعى الأمن لترقية زميل صغير السن والقيمة لجمال حمدان في قسم الجغرافيا بآداب القاهرة – وهو القسم الذي كان يعمل فيه جمال حمدان – إلى درجة أستاذ بدون جدارته بها، لأن الأمن قد رشحه ليكون وزيرا للشباب، وكان من الضروري حصوله على الاستاذية كي يصبح وزيرا. وكان جمال حمدان قد تقدم للترقية لدرجة الأستاذية، فطلب الأمن أن يتضمن القرار ترقيته وترقية هذا الشاب الذي كان يريدون تعيينه وزيرا للشباب، ففعلت الجامعة وأصبح هذا الشاب وزيرا للشباب. ولازلت أذكر كلمات جمال حمدان وهو يقول أنه رفض أن يُرقى مع هذه الحشرة في قرار واحد، وقدم استقالته من الجامعة، واعتصم ببيته وكتابته حتى مات كمدا.

[3]. تبدا قصيدة أمل دنقل الطويلة والمهمة عن هذه المظاهرات: أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ/ أَشهِروا الأَسلِحهْ!/ سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ./ والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!/ المنَازلُ أضرحَةٌ،/ والزنازن أضرحَةٌ،/ والمدَى.. أضرِحهْ/ فارفَعوا الأسلِحهْ/ واتبَعُوني!/ أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ/ رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ،/ وشِعاري: الصَّباحْ!

[4]. وهي الأغنية التي تقول كلماتها ««أنا رحت القلعة وشفت ياسين/ حواليه العسكر والزنازين/ والشوم والبوم وكلاب الروم/ يا خسارة يا أزهار البساتين/ عيطي يا بهية على القوانين/ أنا شفت شباب الجامعة الزين/ أحمد وبهاء والكردي وزين» والمقصود هنا بهذه الأسماء زعماء حركة الطلبة في يناير عام 1972: أحمد عبدالله رزة، وأحمد بهاء الدين شعبان، وجلال الجميعي، وزين العابدين فؤاد، وشوقي الكردي.

[5] . كان الملك فيصل قد جاء للسادات مصطحبا معه عمر التلمساني مرشد تنظيم الإسلامجية «الاخوان المسلمون»، وقدمه له مع مئة مليون دولار مقابل أعادتهم للعمل في مصر (حسب رواية هيكل في خريف الغضب)، وقد أكد له أنهم سيساهمون في تخليصه من المعارضة الناصرية واليسارية لمشروعه المدمر، الذي مازالت مصر تعاني من عواقبه حتى اليوم. وكان تعيين محمد عثمان إسماعيل أمينا للتنظيم السياسي الوحيد وقتها، وهو الاتحاد الاشتراكي، بداية هذا المخطط الجهنمي الذي حرم خطاب العقل والاستنارة من كل أقلامه ومنابره، كما كان تمكين رأس حربة الإسلامجية، محمد متولي الشعراوي من التليفزيون المصري، أداة فرض التخلف الوهابي على الجميع.

[6] . كان منهج السادات في التعامل مع معارضي نظامه مختلفا من البداية عن منهج عبدالناصر. فقد كان عبدالناصر يعتقل المعارضين ولكنه يصرف مرتباتهم لأسرهم طوال فترة اعتقالهم، ويعيدهم إلى وظائفهم التي شغلوها قبله. أما السادات فقد انتهج نهجا مغايرا حيث كان يترك معارضيه يتمتعون بحريتهم، ولكنه يقصيه من وظائفهم ويحرمهم من أي دخل ممكن منها. وكانت له مقولة شهيرة في هذا المجال وهي: «حا أخللي ولادهم يؤدبوهم»، أي سيجوّعهم هم وأسرهم حتى يتركوا البلد أو يعودوا له.