اليابان البلد القصي عند الطرف الآخر من الأرض هذا الأرخبيل الذي تعلم الإنسان فيه أن يواجه مصاعب الطبيعة؛ الأرض المتشظية أفلاذا في شكل جزر، كما يواجه الأعاصير والزلازل التي لا تحابي بشرا ولا حيوانا. هذا البلد الذي تعلم كيف يصغي إلى العالم، فيأخذ أفضل ما عنده من معارف علمية وتقنيات في بدايات القرن، دون أن يفقد خصوصياته الروحية والسياسية والثقافية والاجتماعية. فيطلع إلى العالم بمعجزة التقانة والصناعة. وقد كان الراحل يوسف إدريس يقول: أخاف من الألمان واليابانيين من عقدة التفوق عند الألمان وعقدة النقص عند اليابانيين.
تعلمنا – ومن العلم ما قتل – نحن العرب أن نخضع في أحكامنا وفي تبعيتنا للغرب الأمريكي والأوروبي وفي خضم ذلك نسينا جزء هاما من الأرض، ومن التاريخ، ومن الثقافة في الطرف الآخر من الأرض. فاليابانيون تعلموا أن لا يخضعوا للهيمنة الأوروأمريكية؛ وأن يبحثوا بأنفسهم ويترجموا بأنفسهم ،ويعرفوا العرب وثقافتهم بأنفسهم بلا وسيط أوروبي أو أمريكي. أذكر أن كاتبا عربيا التقى بباحث ياباني جاء إلى القاهرة في مهمة ترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة اليابانية، فلما استغرب الكاتب العربي ذلك، أضاف الباحث: نحن نملك ترجمات للمقدمة من اللغات الحية ولكن لا نملكها من العربية رأسا. حكومتي ترغب في نقلها من العربية، لا شك أن النقل من العربية مباشرة، غير النقل من لغة وسيطة حية. هذا المثال الحديث يبين كيف يعتمد هذا الشعب النشيط على نفسه.
من يعرف منا الثقافة اليابانية لا يتعدى ذلك معرفة أسماء كتاب، ربما لم يقرأ لهم المرء أبدا، كالقصصي الشاب المنتحر ريونوسكي أكوتاغاوا (1892/1927)، ويوكيو ميشيما (1925/1970) الروائي الكبير الذي انتحر في الخامسة والأربعين والذي لو عاش لقدر له ربما أن ينال نوبل في الآداب. وقد انتحر احتجاجا على خضوع اليابان للهيمنة الأمريكية. وتخلي اليابان عن فروسية القرون القديمة الإمبراطورية، وتراجع أخلاق الساموراي، فأنهى حياته على طريقة الساموراي – الهاراكيري - وكاواباتا (1899/1972) صاحب نوبل في الآداب والمنتحر في أرذل العمر ربما من تداعيات الوهن، والضعف والمرض. وبلا شك يتعاطف الواحد منا الواحد مع المحنة اليابانية في الحرب العالمية الثانية؛ تلك الكارثة التي دفعت لها هيروشيما وناجازاكي ثمنها باهظا. لكن اليابانيين أنفسهم نقدوا سياستهم وذواتهم بمبضع الواقعية والموضوعية، حتى هم مارسوا العدوان على جيرانهم واحتلوا أراضيهم وقرروا بناء بلد ما بعد الحرب. حيث فصلوا بين العسكري والمدني. وهنا أخفق العرب فالعسكري يتداخل مع السياسي، ويأخذ محله. وهذا هو الشق الأول في جواب سؤال لم تخلف العرب؟
وربما أجاب عن الشق الآخر في أزمة العرب الحضارية الجابري في بنية العقل العربي، وبرهان غليون في اغتيال العقل، ومحمد أركون في دراساته، وكذا أدونيس، وصادق جلال العظم، وعلي حرب، ومالك بن نبي وغيرهم، على اختلاف في التوصيف والتحليل والنتائج. لم ينس اليابانيون التاريخ لكن لم ينسوا كذلك أخطاءهم وهو ما أتاح لهم بناء علاقة جديدة مع أمريكا حقيقة بكل تقدير. ولليابان حضور طيب في الوجدان العربي، وتقبل مبدئي ذلك أن اليابان لم تحتل بلدا عربيا وليس لها ماض استعماري مع العرب، كما أنها تمثل بلدا نشيطا مبدعا منظما مطواعا محافظا على أصوله الحضارية، منفتحا على ثقافة العصر ومشاركا إيجابيا فيها عبر ما يقدمه للإنسانية من ثمرات الفكر والعلم والتقانة.
إنها باختصار مثال حي لحل واقعي لجدلية الأصالة والمعاصرة أو الخصوصية والغيرية هكذا هي الصورة اليابانية في المخيلة العربية ، ونقطة أخرى فحين قررت اليابان الانفتاح على الدنيا والخروج من عزلتها الحضارية والجغرافية بعد مغامرة أسرة الميجي 1868/1912 وأفضالها على اليابان وهي تشبه في تراثنا أفضال هارون الرشيد والمأمون في إنشاء بيت الحكمة، والانفتاح على ثقافة العالم القديم آنذاك؛ في ذلك الوقت بالذات أرسل محمد علي باشا أول بعثة عربية مصرية إلى إيطاليا وفرنسا عام 1813 و1826 للدراسة والترجمة، وكان في البعثة رفاعة رافع الطهطاوي. لكن اليابان نجحت ولحقت بالعصر، وفشلنا نحن. فرغم تواصل البعثات وأشكال الإصلاح إلا أننا بتعبير الدكتور زكي نجيب محمود نعيش عالة على الآخر ولا نقدم شيئا للعالم ناهيك عن الاستبداد والفساد حد العبثية.
ولاشك أننا- العرب- همشنا ثقافة الشرق الأقصى في خضم تبعيتنا الدائمة للثقافة الأورو-أمريكية نكاد نخسر جزء هاما من الثقافة والتثاقف مع الآخر، ومن كسب أصدقاء ومؤيدين للقضايا العربية في الطرف الآخر من الأرض وقد كان المصور الياباني ريوشي هيروكاوا صاحب فضل علينا نحن العرب فهو الذي نقل صور مأساة مخيمي صبرا وشاتيلا إلى العالم عام 1982.
وقد كانت تلك المغامرة التي بدأت في منتصف القرن الماضي مع الجيل الأول من المستعربين الذي يمثله إيزوتسو توشيهيكو ومائجيما شينجي إلى الجيل الثاني الذي يمثله إتاغاكي يوزو إلى الثالث الذي يمثله نبو أكي نوتوهارا واليوم نخبة من الشباب الياباني المهتم بالدراسات العربية والإسلامية منها الشاب يوشياكي فوكودا، ومن مشاهير الاستعراب الياباني يوزو إيتاغاكي، وسان إيكي ناكاؤوكا، وتوسيو كورودا، وأوئيو كازوماسا، وأكهيرو تاكانو، وماسارو فوريواتي. ولعل من أشهرهم في حقل الدراسات الإسلامية توشيهيكو إيزوتسو الذي له دراسات عن الوحي فضلا عن ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة اليابانية. وإلى الجيل الثالث ينتمي المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا الذي رأى بكل أريحية وصدق أن يقدم حصيلة دراسته للثقافة العربية والحياة في العالم العربي مدنه وحواضره وأريافه وبواديه طيلة أربعين عاما في كتابه الصغير الجم الفائدة: العرب وجهة نظر يابانية. ولقد قرأته مرات ولكنني استمتعت أكثر وأنا أقرؤه مرة أخرى مطبوعا من دار الجمل في ألمانيا تلك الدار التي عودتنا على الجديد والجدي في الأدب والفكر والنقد.
يمكن القول أن هذا الكتاب هو أشبه باليوميات يوميات ياباني في بلاد العرب، ملاحظات وانطباعات عابرة ولمحات ذكية، ولكنها ذات قيمة. فالرجل ليس سائحا بل هو مثقف وعالم بالعربية آدابها وثقافتها قرأ الأشعار العربية من الجاهلية حتى أمل دنقل، والنثر العربي من نثر قس بن ساعدة حتى غسان كنفاني ويوسف إدريس، إذا يكتسي كتابه أهمية بالغة فهي انطباعات عارف وخبير لا مجرد سائح وتكتسي أهمية كذلك لأنها رؤية الآخر غير العربي (الأسيوي) للداخل العربي. وليس أفضل من الآخر ناقدا خاصة إذا كان نقده بريئا موضوعيا ويخالطه الحب والاحترام معا وهذا هو شان المستعرب الياباني.
يشير المستعرب نوتوهارا موضوع مقالنا هذا إلى أن اللغة العربية والثقافة العربية بدأت تلقى تجاوبا واستعدادا طيبا في اليابان فقسم اللغة العربية في جامعة طوكيو التحق به أكثر من مئة طالب هذا في طوكيو وحدها والواقع أن اليابانيين منذ أمد لم يعودوا يثقون في ما تنقله وسائل الإعلام الأمريكية لهم عن الثقافة العربية والعالم العربي فهم يعرفون، أو على الأقل قسم منهم، أنها أراء عدوانية متعالية خاضعة لأراء مسبقة وأحكام جاهزة. وأفضل مثال لذلك القضية الفلسطينية وقد كان نوتوهارا من أشد المدافعين عن الحق الفلسطيني، ولم يجد أفضل من تقديم الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني إلى اليابانيين منقولا مباشرة من اللغة العربية، التي يتقنها، إلى اليابانية. وهكذا تهيأ لليابانيين أن يعرفوا شيئا مهما عن الآلام الفلسطينية وعن حقوق الشعب المغصوبة من الإسرائيليين عبر الروايات التي نقلها عن غسان كنفاني مثل: "عائد إلى حيفا و"رجال في الشمس" .
يمكن القول أن الاستعراب الياباني متميز تماما عن الاستعراب الأورو-أمريكي ففي الأول محاولة للفهم وطرح الأحكام المسبقة، ومحاولة الاتسام بالموضوعية، في حين أن الثاني أو قسم كبير منه خلو منها. من منا ينسى ما قاله إدوارد سعيد عن الاستشراق "إن المستشرقين كافة عنصريون، مسيحيون ومؤسساتيون" أو ما قاله عبد الله العروي في كتابه "الإيديولوجيات العربية المعاصرة: "الاستشراق أنشأ موضوعه إنشاء وفقا لتصوراته المسبقة فشوه وعجز عن الفهم" أو ما قاله حسن حنفي: "الاستشراق مسيحي يهدف إلى القضاء على الإسلام" تلكم الأحكام المسبقة التي تبلورت لتغذية دوافع لاكتشاف الشرق منذ القرن الثامن عشر، ناهيك عن صعود البورجوازية ونمو الصناعة التي احتاجت إلى الموارد والأسواق. وقد رأى الغرب العرب مجرد قطعان بشرية يستبد بها الطغاة من السياسيين من جهة والثقافة الإسلامية المؤولة سلبا من قبل الجماهير التي كرست مبدأ القدر والتواكل، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
وبالتالي هي شعوب محكوم عليها بالتبعية لغيرها القوي الذي حق له أن ينهب ثرواتها ويساند طغاتها مادامت هذه الشعوب ميؤوس من نهضتها ومن حريتها، لكن أولئك المستشرقين وعوا بعمق مقولة فوكو المتأخرة "المستبد الحقيقي هو الذي يقمع الناس بأفكارهم هم " ومادامت الأفكار مترسبة في اللاوعي الجمعي عمرها قديم فمن المستحيل تدميرها وبناء وعي جديد لصالح الإنسان والتقدم والحرية. ولاشك في هذا الفهم المخادع كثير من الظلم للعالم العربي والإسلامي وثقافته وليس في حقيقته سوى خضوع للذاتية ولأحكام الهوى الذي يبحث عن المصلحة وعن أشكال الاسترقاق في الإنسان وفي الأرض وفي المستقبل.
حاد الاستعراب الياباني الذي بدأ في الستينات مع الحاجة إلى النفط، ثم تعمق بعد أزمته في 1973 عن هذه الوجهة الأورو-أمريكية؛ واختط لنفسه خطا جديا باحثا عن الحقيقة بنفسه، بلا هوى ولا تعصب. طارحا تلك الأحكام المسبقة التي اتسم بها الأوروبيون والأمريكيون وهو ما يجعل لكتاباتهم كثيرا من الموضوعية على الرغم من بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وربما لهم بعض العذر في ذلك. أي نظام عربي اتخذ إدوارد سعيدا سفيرا للفكر وللحق العربي في ديار الغرب؟ وأي حاكم أنفق على كتبه فقربها من القراء العرب بدلا عن الكتب التي لا تجدي غير التي تؤخر ولا تقدم وأي جامعة جعلت إدوارد سعيد مادة دراسية وهو نموذج لمثقف كبير جدا، نافح عن القضايا العربية بفروسية وعلم وصدق معا؟ فكيف نلوم الآخر على أخطاء - بلا قصد- في فهمنا ونحن لم نفعل مع الآخر غير ما يسئ فهمه لنا؟
في الكتاب يعرض المؤلف قصة لقائه بالعربية وثقافتها في جامعة طوكيو في الستينات، ثم سفره إلى البلاد العربية باحثا ومكتشفا من مصر إلى اليمن إلى سوريا إلى المغرب، زيارات ميدانية امتدت لأربعين عاما في مدنها وقراها وباديتها وصحرائها عكس بعض المستعربين من الغرب، الذين لا يعرفون العالم العربي إلا على الورق. ويكشف عن حبه للعرب واحترامه لثقافتهم ودينهم، دون أن يخفي عدم فهمه لتصرفات أو مواقف، ونقده لكثير من الأفكار الدينية والمعيشية العربية؛ ولكن بروح الناقد لا بروح الحاقد أو المتعالي. ولقد أحب فن الرواية العربي وتخصص فيه، ونقل إلى اللغة العربية كثيرا من الروايات العربية كبعض روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصنع الله إبراهيم ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، وروايات يحي حقي، ويحي الطاهر عبد الله وهاني الراهب وحيدر حيدر.
ولا يخفي إعجابه الشديد برواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، وكيف عاش بنفسه في الريف المصري حتى يفهم أجواء الرواية. كما لم يخف إعجابه بمحمد شكري وصداقته معه، ومحمد برادة، واحترامه البالغ ليوسف إدريس وترجمته لأعماله خاصة أن يوسف إدريس احتفظ بمسافة عن السلطة، وحاول أن يكون مستقلا، واقترب من الفلاحين ورسم أجواء حياتهم، وراهن على كونهم مستقبل مصر الحقيقي.
ثم الشاعر الكبير عبد اللطيف اللعبي الذي التقاه في باريس بعد خروجه من السجن في المغرب. واللعبي يتطابق في حياته كشاعر ومثقف ومناضل مع تصور الكاتب للمثقف، فاللعبي الذي سجن أكثر من ثماني سنوات، واكتشف حريته في السجن وتفاهة حياة الإقطاع والبرجوازية التي تسلم بتبعيتها لعالم الأشياء، وعاش بالحب وللحب الإنساني، منافحا عن حرية الإنسان وكرامته في ذات الوقت خير من يمثل صورة المثقف عند الكاتب، ويبقى عمله الجليل هو تعريف الآخر المختلف الياباني بالقضية الفلسطينية. إن الذي يعرفه اليابانيون عن فلسطين هو ما يقدمه الإعلام الأمريكي أو الإسرائيلي أو الغربي لهم، وفيه تزييف وتضليل كبير كما يعترف هو. لكن بترجمته لأعمال غسان كنفاني، نقل بصدق تجربة المنفى والشتات والمخيمات إلى اليابانيين وأطلعهم على المعاناة ورمزية "المفتاح" عند ساكن المخيم، والتي تعني التشبث بالعودة.
وهو يعتبر العالم مسؤولا عن جريمة فلسطين ولو أنها مسؤولية غير مباشرة وبهذا الطرح يتخلص نوتو أهارا من الأحكام القبلية الجاهزة، والأفكار المسبقة ويؤسس موقفا بناء على معاينة شخصية بالقراءة للإنتاج الفلسطيني والرحيل إلى العالم العربي وإلى الشرق الأوسط بؤرة الصراع وحلبته ولقد عدلت ترجماته كثيرا من الرؤى عند لفيف من المثقفين في اليابان.
وفي جانب النقد لمظاهر الثقافة العربية ينحى باللائمة على المثقف العربي وعلى الكتاب النجوم الذين يتكلمون كأنهم سلطة وعلى انتهازية بعضهم ولا يخفي عدم إعجابه بموقف حنا مينا في روايته المرصد التي كتبها لإرضاء النظام فنال منصبا في وزارة الثقافة. ومع إعجابه برواية "الشراع والعاصفة" رفض ترجمتها لأن موقف الكاتب في مغازلة النظام يتعارض مع وظيفة المثقف، وهي النقد والرفض والاحتجاج على كل مظاهر النقص والظلم والتردي. فالمثقف موقف وليس مجرد ثقافة نظرية أو مهارة في الكتابة. يقول: "أنا أقدر الكتاب الذين لهم مواقف ثابتة ومبدئية ولهذا السبب اخترت من الأدب السوري المعاصر الكاتب هاني الراهب وقدرت كثيرا علي الجندي الذي يعاني وحيدر حيدر وبالمناسبة إنني معجب أيضا بعبد الرحمن منيف". وهذا يذكر القارئ بموقف الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسلو الذي رفض جائزة من حاكم عربي، ومبلغها كان كبيرا والحجة في الرفض استبداد الحاكم. في حين كان في اللجنة المانحة روائي ليبي مرموق، وناقد مصري كبير!
والكاتب والمثقفون في اليابان عقولهم عاجزة عن فهم كيف يمدح مثقف عربي حاكما؛ فهذا غير موجود في اليابان كما يقول. ولاشك يتعجب الكاتب من المهرجانات الشعرية العربية ذات الطابع الصخبي والمأدبي والجوائز والتكريمات والأوسمة؛ وهو ما يتعارض مع وظيفة الشعر ورسالته. فالشعر كما يفهم في اليابان مثلا يقرأ على انفراد للتأمل والسياحة الروحية والفكرية. في حين يقرأ على المنابر في العالم العربي لغرض الحماسة والتصفيق، وفي النهاية التكريم والإغداق من المال العام، على حساب جوع الشعب وحالته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المزرية. إن إعجاب المؤلف بغسان كنفاني كونه كاتبا ممتازا فنيا وإنسانيا ورساليا. فهو قطع الصلة بعائلته ذات التكوين الفرنكفوني، وتعلم العربية ليقترب من روح الشعب. ولم يكن مجرد ملاحظ من فوق.
إن كثيرا من المثقفين العرب هم على شاكلة "يقولون مالا يفعلون" يتحدثون عن حقوق المرأة، في حين تعيش نساؤهم في عالم الحريم، وعن الديمقراطية في حين يمدحون المستبد، ويسعون لنيل أوسمته وجوائزه. يجد الكاتب عذرا ربما في الخوف، فالخوف هو قاسم مشترك بين الناس في العالم العربي، فقيرهم وغنيهم، مثقفهم وأميّهم، صغيرهم وكبيرهم. إن الخائف لا يفكر بصوت مسموع ولا يمارس حياته بكل صراحة إنه يتقن "التقية". وقد لا حظ الغربيون قبل نوتوهارا أن الأخلاق في العالم العربي والإسلامي، تنبني على أساس نفعي. فالمسلم يفعل الخير أو الواجب ليجمع الحسنات، وليس لأن ذلك حسن من الناحية العقلية، أو حسن في ذاته؛ عكس المتصوفة الذين يرون هذا الرأي. ولذا يعجب الغربيون عموما بأفكارهم وأشعارهم عن (الحب الإلهي) بدلا عن الخوف من العقاب.
فالإبداع بلا شك ابن الحرية والقمع عدو للإبداع ومن ثمة يلجأ المثقف إلى التقية أو تقنية القناع أو الرمز، أو استلهام التراث، أو السكوت واللامبالاة، أو ركوب موجة المصالحة مع الساسة، حفظا للبقاء أو دفاعا عن مصالح شخصية وعائلية. في حين كما يقارن الكاتب مع اليابان ليس هناك قمع في بلده. إن الممنوع في اليابان كلمات تثير حساسية بعض الشرائح الاجتماعية، ككلمة "أعمى". لأنها كانت سبة في القديم أو كلمة "أعرج"، لأنها تعيير سلبي. وما عدا ذلك فليقل المثقف ما بدا له، مصون الكرامة، محفوظ الحقوق. وقد أدى هذا إلى تكميم الأفواه ومنع المؤلفات وصار العالم العربي معروفا بالممنوعات الثلاث: "الله ،الجنس والسياسة". ولا أدل على ذلك من منع رواية "الخبز الحافي" لشكري و"الثالوث المحرم" لبو علي ياسين و"شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان. وفي كل دولة عربية قائمة بالكتب الممنوعة، وفي معارض الكتاب تمنع كتب معينة من العرض في هذه المعارض، شيء مخجل بقدر ما هو مأساوي.
وتأتي أهمية الكتاب في كونه يسلط الضوء على منطقة مغيبة في عالمنا العربي إنها منطقة غير مرغوب فيها أو مسكوت عنها، أو محتقرة من قبل الغرب، هي البادية فالبدو عند ساكن المدينة العربية مكان مفتوح بلا حضارة ولا وسائل والحياة فيها معاناة إنها منطقة خارج الزمن وخارج التاريخ وكثيرا ما يبرر الآخرون قسوتهم على البادية والبدو بنظرية ابن خلدون في العمران. لكن المؤلف يعيد هذه المنطقة إلى التاريخ كما يقول عنه هو عالم المعنى وعالم الإحساس المختلف بالأشياء وبتيار الزمن. ووجد ضالته الأدبية في روايات إبراهيم الكوني، الروائي الذي أعجب به ونقل رواياته إلى اليابانية. فضلا عن معايشته للبدو في خيامهم في منطقة بني خالد في سوريا.
ومن قبل نوتوهارا أشار المفكر الكبير مالك بن نبي إلى عالم الأشياء وعلاقة العربي به، وبين أنها علاقة غير طبيعية وغير حضارية. وهذا ناتج عن السقوط الحضاري منذ سقوط دولة الموحدين، ودخول الأمة عصر السبات. ففي البادية العلاقة مع الأشياء علاقة طبيعية فلا حاجة للملكية ولا حاجة للتكديس ولا للفائض. بل حتى في الغرب المتحضر فقدت الحياة بعضا من معناها، نتيجة لخضوع المرء لغريزة الاستهلاك حد التخمة. ومن تبعيته لعالم الأشياء، ولربما يوجه النقد القاسي إلى الكاتب على أنه رأي تخديري يمتدح عالما رتيبا خلوا من أشكال الحضارة، ويزيد من عمق المأساة في العالم العربي.
ففي الوقت الذي يسعى المفكرون إلى التمدن والعمارة وكافة أشكال الحضارة أسوة بالغرب المتقدم يأتي الكاتب ليمتدح البداوة، ويفضلها على الحضارة. مثلا ولاشك أن الكاتب لا يقصد ذلك البتة إنه بمفهوم كلود ليفي ستروس يعتبر الحضارات مغلقة على نفسها، ولا يجوز تفضيل حضارة على أخرى. بالعكس إنها غنى بشري وتنوع. لكن لابد من الحقوق ومن كافة أشكال الحياة الكريمة: "لم أذهب إلى الصحراء أو أدب الصحراء العربية بحثا عن الغرابة بل ذهبت بحثا عن المعنى ومن البادية حاولت أن أدخل إلى ثقافة البداوة أنا أعرف كيف صور بعض المستشرقين الغربيين الحياة في البادية وأعرف أيضا الصورة السطحية العدوانية التي تقدمها السينما العالمية عن العرب ولذلك كنت حذرا من الإعلانات الدجالة التي يتداولها الناس عن الحياة العربية".
ويحتل الجانب السياسي قسما مهما في ملاحظات الكاتب ولاشك أن الأزمة السياسية العربية لا يفوتها كاتب أو سائح فالاستبداد ظاهرة عربية فالحاكم العربي يحكم مدى الحياة، في الدولة الدينية، والملكية، أو الجمهورية، أو الإمارة، أو السلطنة. ولذلك لا ينتظر الناس أي شيء لصالحهم. والحكومة تسخر من الناس ولا تعاملهم بجدية؛ ولا أدل على ذلك من كثرة استخدام كلمة الزعيم في الخطابات السياسية. بل يقدم الحاكم نفسه أبا للجميع مع ما في كلمة الأب من تجاوز. إنها تعني الإفلات من المتابعة والمحاسبة والمراقبة. لأن الأب لا يحاسب "كما أن العربي مشغول بفكرة النمط الواحد على غرار الحاكم الواحد والقيمة الواحدة والدين الواحد وهكذا".
وتنتقل الزعامة والاستبداد حتى إلى المعارضة، فهي ذاتها سلطة. والمعارضة يتأبد قادتها، ويرث أبناؤهم مناصب آبائهم في المعارضة، وزعامة أحزابهم، كما يفعل الساسة الحاكمون. إنها باختصار لعبة النور والظل. ولا يخفي الكاتب نقده لأنطون سعادة وفكرة الزعيم التاريخي يقول الكاتب: "إن المعارضة القائمة في البلدان العربية هي في حقيقتها سلطة ضد السلطة أو سلطة مضادة تطمح إلى السيطرة على الحكم دون أن تقدم مشروعا مغايرا لمشروع الحكم المسيطر ولذلك فالمعارضة في البلدان العربية آمنة لها مكاسبها ولها مشاركتها المباشرة في الحكم أحيانا. أما المعارضة الحقيقية التي لا نستطيع أن نقابل أفرادها فإنها في السجون العربية، أو في المنافي الاضطرارية".
يرى الكاتب أن عقدة "الشرف" قد أضرت بالعرب إن مفهوم الشرف والعار يحل محل مفهوم الثقة في مجالات واسعة من الحياة الاجتماعية والعربية، أو ما يسميه هو بعقدة الشرف. فهو يقول: "إن مفهوم الشرف والعار يحل محل مفهوم الثقة في مجلات واسعة من الحياة الاجتماعية العربية". مع أن للشرف حضورا قويا في الثقافة العربية منذ الجاهلية في أشعار الشعراء، ونثر الناثرين، حتى المتنبي اشتهر بيته الذي يقول فيه:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم
والشرف عند العرب ارتبط بالعرض (جسد المرأة) وبالطبقة الاجتماعية وبشجرة النسب وبالمنصب ولاشك أن في هذا كثير من الاختلال. فالعربي يحمي عرضه (جسد نسائه)، ولكنه ربما قد لا يتورع عن هتك عرض الآخرين، والافتخار ببطولاته الدونجوانية. صحيح فالثقة يجب أن تحل محل الشرف. فلربما ظن العربي أن عملا ما حقيرا لا يليق بشرفه، أو أن الزواج من عائلة يراها منحطة تدنس شرفه، مع أن القرآن الكريم صارم في ذلك: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وقد وصم المؤلف الشخصية العربية بالازدواجية. فللعربي حياتان داخل البيت وخارجه. ويجد لذلك مثالا فنيا في ثلاثية نجيب محفوظ. وهو قارئ للأعمال السردية العربية الكبرى، وخير مثال للازدواجية أو الفصامية هي شخصية السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية. فهو صارم يحرص على مركزيته في البيت، وعلى مراعاة الآداب والتقاليد، في حين أن له حياة أخرى خارج البيت، مع العوالم والسهر وليالي الغرام والمدام.
وقد استشهد الكاتب بأستاذ مصري جاء إلى طوكيو للتدريس، وصادق الكاتب ومع أن نوتواهارا يذكر حبه لهذا المدرس المصري، ويثني على نبالته وطيبته، إلا أنه لا حظ حياته المزدوجة: التدين في البيت ومراعاة المركزية، في حين لا يتورع عن الذهاب إلى البار ليشرب سرا. ولنذهب بعيدا في شرح وجهة نظر الكاتب فالفصامية هي مرض الشخصية العربية إن العربي يعيش بشخصية المذنب المدنس بالخطيئة. فهو لا يتورع عن البحث عن اللذات، وحتى الممارسات اللأخلاقية، كالرشوة (يلاحظ الكاتب أن الرشوة تبدأ من صالة الدخول في المطارات العربية) والظلم والتزوير والكذب والرياء والسرقة، ولكنه في ذات الوقت يعيش على أمل أن تبرز مستقبلا شخصية التائب المستقيم الراجي عفو الله.
ويجد ذلك دلالته في حرص العربي على شعائر الحج والعمرة والمسابح وفي أشكال القرابين التي يقدمها إن كان مثريا كبناء مسجد، أو الصدقات والتبرعات، وما ذلك إلا للتكفير عن خطيئة الإثم الذي عاش عمره له. وحتى السياسي المستبد، يحرص على بناء مسجد فخم مع أن سياسته كانت فسادا وتزويرا واستبدادا.
لقد لا حظ المؤلف كثيرا من الأمراض التي تميز الشخصية العربية وتمنعها من ممارسة حياتها بشكل سوي. بل وحلل الشخصية العربية فهي فضلا عن كونها مزدوجة متوترة وعدوانية كما لا حظ في الشوارع والأماكن العامة كالتكشير والقلق والعنف اللفظي، ولكنه يجد تبريرا لذلك في إحساس العربي بغياب الثقة في مسؤوليه وغياب العدالة الاجتماعية التي هي أكبر مشكل في الأنظمة العربية. ولذا لا يتورع العربي عن تخريب الممتلكات العامة، لأنها ملكية الدولة والدولة غير عادلة وعدوانية. فالعربي يمتلك بيته، ولا يمتلك محيطه، فالبيت نظيف أنيق، ولا مانع أن يتميز الخارج بكافة أشكال القذارة وأكوام النفايات. وهذا محيط أستاذ جامعي زاره المؤلف في بيته شاهد على ذلك. فالوطن ليس ملكية المواطن، إنه ملكية النظام فلا مانع من سرقة الآثار وبيعها للخارج. وقد سجل الجبرتي أن نابليون كان يرسل العلماء للبحث عن الآثار، وكان الفلاحون المصريون يجلبون الآثار للعلماء ويأخذون مكافأة مالية، ويتعجبون من هؤلاء الخواجات الذين يدفعون أموالا في أحجار. في حين يتعجب العلماء من الفلاحين الذين يبيعون تراث بلادهم ببعض الدراهم.
ومن الملاحظات التي يسجلها الكاتب اتسام الشخصية العربية بالأنانية وعدم الشعور بالمسؤولية ويتجلى ذلك في زهد المواطنين في السجناء السياسيين والمعارضين الذين يضحون بحريتهم في سبيلهم. فسرعان ما ينساهم الناس، ولا يبالون بهم، مع أن أولئك المناضلين ضحوا من أجل الشعب، لا من أجل مصالحهم الشخصية. إن غياب الثقة وانعدام العدالة الاجتماعية، وصمت الحياة العربية ببعض الصفات القبيحة، كانتشار الرشوة، وقمع الأطفال والمرأة معا، بل والعنصرية. فالعرب يدينون العنصرية ويمارسونها في تعاملهم مع المرأة مثلا. أو من كان غنيا أو مسؤولا كبيرا أو سلالة نبيلة إلخ. إن تصرفاتهم جميعا تتسم بالاحتقار لمن هم دونهم، وبالعنصرية.
حتى هذا نجده عند كثير من الأكاديميين العرب إنهم يعيشون في أبراج عاجية من الوهم والخيلاء والكبر. وهم في اعتقادهم أحسن من الناس وأرفع شانا منهم، لأنهم يحملون شهادة عليا، في حين يعيش الناس كالغوغاء. وماذا فعل هذا الأكاديمي أمام الفساد والجهل والظلم؟ هل حرك ساكنا وأسكن متحركا؟ يشير المؤلف إلى حادثة حيث كان يركب سيارة مع أستاذة جامعية في القاهرة، فصدمت طفلا يسوق عربة كارو، فلم تنقله إلى المستشفى، بل وبخته وعاملته باحتقار، في حين كان يحتاج إلى مساعدة.
ولاشك أن علاقة العربي بالدين ستحتل حيزا في كتاب الكاتب فالعربي يفكر بالبقعة الحمراء كما يقول صادق جلال العظم: الحلال والحرام! والتدين عند العربي طقسي تكراري كما يقول أدونيس، يقول الكاتب: "بالنسبة للرأي السائد لدى معظم المسلمين فإن القرآن الكريم يحتوي على الحقائق كلها جاهزة كاملة إذ كيف يواجه الناس الوقائع الجديدة؟ لذلك فالعربي يتناول أفكاره من خارجه بينما عندنا في اليابان مثلا الناس يستنتجون أفكارهم من الوقائع الملموسة التي نحياها كل يوم ،وفي مجتمع كمجتمعنا نضيف حقائق جديدة بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد."
لا حظ نوتوهارا أن المتدين التقليدي لا يتطور، ويشير إلى علاقته بالأستاذ المصري الدكتور علي حسن السمني، والذي يكن له المؤلف محبة كبيرة وتقديرا لأخلاقه وطيبته. ولكن المؤلف ينتقد في الأستاذ رتابة حياته، وكونها تسير في دائرة مغلقة غير مفتوحة على أفق التحرر والتجريب والاكتشاف والتطور. إنها حياة الرتابة والتكرار: "الدكتور السمني لعب دور الشيخ المسلم عندنا ولكنه بقي في مكانه يقيم الفرائض الدينية حرفيا بلا مساءلة يقرأ القرآن الكريم كل شهر مرة ويحفظه عن ظهر قلب والسؤال مرة أخرى إلى أين وصل بعد كل تلك الجهود؟ أظن أن الموضوع معقد للغاية ولذلك أكتفي بهذه الإشارة السريعة".
ولاشك أن نوتوهارا وفي التراث العربي الفكري والفسلفي وحتى الشعري يرى أن التمرد هو صنو الابتكار والتطور والإبداع؛ كما نجده عند المعري والمتنبي وابن سينا. إننا ندرك أن المجتمع العربي مجتمع متدين فالقرى العربية كما المدن مليئة بالمساجد ودور العبادة. واللغة اليومية لا يغيب عنها كلمات مثل: الله، النبي، ويحتاج العربي إلى القسم مع كل جملة لإثبات صدقه، وكلمات مثل حاج، جاه النبي؛ ولكن الممارسات اليومية للعربي بعيدة عن الأخلاق. وقد كان ثمة كاتب ليبي، هو الصادق النيهوم، يؤكد أنه يجب تدريس أن قواعد الإسلام ست لا خمس يقصد الأخلاق، فالعبادات صارت مجرد طقوس بينما الحياة موسومة بكل أشكال الفساد على المستوى الشخصي والاجتماعي.
يقول الكاتب: "عندنا في اليابان أوقفنا تدريس مادة الديانة كدين فقط في كل مراحل التعليم، وتدريس بدلا منها مادة الأخلاق". ولا يعني هذا أنه يجب علينا إيقاف تدريس الدين، ولكن علينا أن نفكر في جدية حياتنا وجدية شعائرنا التي نمارسها بلا ممارسة أخلاقية، جنبا إلى جنب معها. فالكاتب مثلا يقول أنه في الجامعة في الامتحان يقدم الأسئلة إلى طلبته، ويعود إلى مكتبه. وحين انتهاء وقت الامتحان يجمع طالب الأوراق ويحضرها إلى الأستاذ. أي امتحان بلا حراسة. فالحارس هو ضمير الطلبة فهل يجري الأمر عندنا مثل ما في اليابان؟ في الامتحانات والانتخابات والعلاقات الأسرية ؟ إن الحياة الأكاديمية عندنا ذاتها موبوءة من تزوير وسرقات علمية وشهادات مزورة وأطاريح فارغة، لا تقدم شيئا. ومسار علمي فاشل اللهم إلا من الطنين والعجيج!
وفي آخر الكتاب حوار مع نوتوهارا أجراه عبد الله التهاني المغربي، يتحدث فيه المؤلف عن جانب من الثقافة اليابانية المعاصرة. ويتحدث عن الأدب المعاصر والفن السردي وتراجعه. وعن الجوائز الأدبية في اليابان، وعن السياسة والحكومات كما يتحدث عن الفنين الشعريين التانكا والهايكو، وعن مستقبل الدراسات العربية والإسلامية في اليابان. ولا يخفي الكاتب حبه الشديد للفن الروائي العربي الحديث، وتقديره لحياة البادية، حضارة المعنى كما يسمها. واحترامه البالغ للدين الإسلامي ولثراء الثقافة العربية التي منحها أربعين عاما من عمره.
لقد نأى نوتوهارا عن الأحكام القبلية والأفكار الجاهزة التي يسوقها مستعربو الغرب عن حطة الثقافة العربية الإسلامية، وعن تخلف العقل العربي وقصوره. وهو يرى بكثير من الموضوعية ذلك الرأي الذي سوقه كلود ليفي ستروس عن البنية الثقافية والتي هي نظام لا يجوز تفضيله على نظام آخر، فلا يقال عن الثقافة العربية إنها أفضل من الزنجية، ولا الثقافة الأمريكية أفضل من العربية، ولا الثقافة الأوربية أفضل من ثقافة السكان الأصليين لأستراليا. إنما المفاضلة تكمن في الجانب العلمي أو السياسي بينما الجانب الثقافي لا يجوز لأنه لصيق بالمكان ولكل مكان خصوصيته. فالصحراء غير القطب الشمالي، والحضر غير الوبر، وهكذا تكون البنيات الثقافية أشكالا حضارية إنسانية غنية وخصبة حقيقة بالاحترام، لا الاحتقار والاستهجان.
وهذا ما اكتشفه نوتوهارا في تجربته في البادية السورية، وفي الريف المصري، حيث عاش أمدا مع فلاحي مصر وبدو سوريا مكتشفا نظامهم الثقافي بنفسه وانتهى إلى أنه نظام غني جدير بالاحترام والتقدير مناسب تماما لطبيعة المكان وخصوصيته ومشاكله الخاصة جدا. وهذا ما دفعه إلى ترجمة رواية "الحرام" ليوسف إدريس، و"الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، وقد كان معجبا بأدب يوسف إدريس مثلا، ويراه كاتبا عالميا لأنه لصيق بالهم الوطني المتمثل في الاقتراب من الأرض ومن الفلاح المصري، لأنه مستقبل مصر. وإعجابه كذلك بإبراهيم الكوني الذي قدم إلى العالم أدب الصحراء وأدب البدو، ذلك السرد الذي يقترب من أساطير وطرائق معيشة وثقافة بدو الصحراء، التي رآها نظاما له خصوصيته وهويته، وتمثله للعلاقة الجدلية بين الأرض والتاريخ والإنسان.
مما نأخذه على نوتوهارا قصوره وعدم قدرته على فهم بعض الوقائع التي حدثت له ورماها على الدين، ومن أمثلة ذلك قضية الحجاب وعدم استساغة العربي كشف محارمه لجمالهن في الطرقات وفي الفضاء العام. وقد كان أجدر حسب رأيه كشف الجمال ليلاحظه الرجال فهو مثل الورد الذي لا يجوز تغطيته بحال. ويستشهد بتلك الحادثة التي كان وزوجته ضيفين على بدوي في بني خالد في سوريا، فلما قدم المضيف الشاي إلى زوجة الكاتب أشاح بوجهه حتى لا ينظر إلى المرأة، مما أثار استغرابهما. أو حين جولته في القاهرة مع صديق مصري، ونظره الطويل إلى الفتيات، مما أثار استغراب الصديق المصري.
ولقد حكى الكاتب الكويتي سعود السنعوسي حادثة مشابهة، إذ لما كان مقيما في الفيليبين كان يشيح بوجهه حين تخرج السيدة الفليبينية لتكنس فناء بيتها، مما أثار استغرابها، وحكمت عليه بأنه قليل أدب! لأن المرأة ينظر إليها ولا يشاح عنها! اختلاف الثقافتين هنا واختلاف القيم في التعامل مع المرأة مرده إلى تعاليم دينية ولو أنها يشوبها كثير من العادات والتقاليد القديمة، التي لا علاقة لها بالدين. وفي هذا تجن من الكاتب على روح الإسلام الذي أراد وضع منهج جديد ومفهوم للحياة وتربية خاصة للمرأة، وللرجل ليس بالضرورة أن تتطابق مع النظرة اليابانية أو الأمريكية أو الأوروبية.
وعلى الرغم من أن موقع المرأة ونظرة الرجل إليها يشوبها كثير من الظلم والإجحاف من قبل الثقافة الذكورية وهي ليست من صميم تعاليم الإسلام بل تراكمات تاريخية أملتها ظرف اقتصادية لها علاقة بالأرض، وبالإقطاع وبالملكية الزراعية، فالمرأة ليست قادرة على مواجهة الظروف المناخية الصعبة، ولا قادرة على الغزو والسلب والقتل، وما دام المجتمع محكوم بجدلية الإنتاج ووسائل الإنتاج، فسينظر إلى المرأة أنها عنصر ثانوي يجب حجبه صيانة للملكية. وسيتم قمعها عبر ترسانة من الأعراف والتقاليد ذات الصبغة الفقهية، التي تنهي علاقتها بالأرض ووسائل الإنتاج. وبقيت عبر الزمن هذه التراكمات إلى يومنا هذا مصبوغة بصباغ الدين، مع أن الجوهري في الإسلام ممارسة المرأة لحريتها مثل الرجل تماما، في الإطار العام الذي رسمته الشريعة الإسلامية وهو ما يعرف بمقاصد الشرع. والدليل على ذلك ما نراه في كثير من الدول العربية من منع البنت من الميراث حتى لا تؤول الملكية إلى أجانب. وكأن البنت هنا هي حصان طروادة الذي يدخل به الآخرون إلى الملكية الخاصة.
قضية أخرى تعثر فيها نوتوهارا وأراد من خلالها أن ينتصر ربما لأفضلية الديانة اليابانية على الإسلامية ضمنيا، تلميحا لا تصريحا. فغياب الإله الواحد في الديانة اليابانية – وفي الحقيقة ليس لليابانيين دين، بل مجموعة تعاليم روحية، ما يعرف بالشينتو – والتي هي ليست دينا، وإنما تعاليم وأقوال لحكمائهم. وتعدد تلك الآلهة أعطى للفكر الياباني مرونة واتساع،ا وكثيرا من الحرية. فانطلق العقل الياباني يمرح في حقول العلم والفكر والفلسفة والفن، في حين عرف العرب ربا واحدا وحاكما مستبدا واحدا، وحزبا سياسيا واحدا، وأجوبة جاهزة مقدسة لأسئلة محرقة: "إن الإنسان الياباني لا يمتلك دينا ولهذا السبب يعتمد في تغذية روحه على قراءاته في الفلسفة والأدب وعلى باقي ألوان الإبداع،الإنسان عندنا يبحث لتحقيق ذاته عن قيم فكرية وروحية يريد أن يؤمن بها".
فهل جاءت الحياة العربية مصبوغة بصبغة الواحدية نزولا من الإله الواحد؟ إلى الحاكم الواحد؟ إلى الحزب الواحد؟ إلى رب الأسرة الواحد؟ هل ينسى الكاتب أن الإسلام الرسالي تم الإجهاز عليه في عصر بني أمية، لصالح الإسلام المؤسساتي؟ وأن كل ما يراه من واحدية وقمع وخوف مترسب في اللاوعي، ومعاداة للحرية الشخصية والفكرية، هي أصداء لقمع سياسي حيت تكرس إسلام المؤسسة وأفل نجم إسلام الرسالة؟ وواضح تبعية إسلام المؤسسة للحاكم الذي سيسطر على العقيدة والسلوك وكل أشكال النشاط الإنساني، لصالح هيمنته. وسيخلق سياجا دغمائيا ظاهره الدين وباطنه السياسة أي الاحتفاظ بالسلطة وتوريثها. وأن عدم شرعية نظام حكم ما وفساده، ينعكسان على فساد أخلاق الناس، فشعار النظام المستبد هو الفساد والإفساد. وقد شرح الكواكبي ذلك بإسهاب في كتابه العظيم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
ولقد مشيت في مسيرات احتجاجية سياسية تطالب بالتغيير الشامل، وقد كانت مليونية مختلطة من الرجال والنساء والأطفال، فلم أر إلا النظام واللباقة والانضباط وحسن الخلق، ومراعاة كبار السن. ومن كان يضيع منه هاتف أو شيء ما يجده دون عناء، دون أن تكون تلك المسيرات مؤطرة، ولو رآها الغرب لاعترف بتفوقها عليه في المجال الأخلاقي على الأقل.
ومع ذلك فلا يسعني إلا تقدير هذا المستعرب صديق العرب بحق والذي حافظ على موضوعيته وإنسانتيه دائما على الرغم من بعض عثراته- كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه - وحري بنا نحن العرب أن نعرف هذه الثقافات البعيدة، وأن نكسب تعاطفها لصالحنا، وأن نقيم جسرا ثقافيا وعلميا واقتصاديا. فأول شروط النهضة كسر الهيمنة المركزية الأورو-أمريكية على تفكيرنا ومعاشنا. ولنا في شعوب الشرق الأقصى وشعوب أمريكا اللاتينية والجنوبية وحضاراتها عبرة وفائدة ترتجى.