يكشف الناقد المصري المرموق هنا عن جريمة تشويه مذكرات طه حسين قبل عامين، ويتساءل عن صمت الواقع الثقافي المخزي عن فضح هذه الجريمة والتصدي لها، منذ وقوعها وحتى الآن. ويناشد الجهات الرسميّة بالعمل لوقف هذا العبث بتراث الأمة، والدفاع عن الإبداع والملكية الفكريّة لكتابنا الكبار، وعلى رأسهم العميد.

جريمة تشويه العميد

مذكرات طه حسين المُلفَّقة

ممدوح فراج النابي

 

ترك عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889 - 1973) ميراثًا فكريًّا وإبداعيًّا ثرًّا، كان له أثره الكبير في التكوين الفكريّ للأجيال المعاصرة له، وأيضًا للأجيال اللاحقة. بما حملته هذه الكتابات من رؤى مغايرة، أحدثتْ سجالاً في حياته وما زالتْ، وكذلك لما جسّدته هذه الكتابات من علامات ريادة وتأسيس في الكتابة بلا منازع، كما تجلّى في سيرته "الأيام" 1929، التي رسمت الطريق للكثيرين ممن جاؤوا بعده. أو بأسلوبه الذي استحقّ أنْ تُخصّصَ له الكتابات النقدية واللغوية لدراسته، على نحو ما فعل الدكتور البدراوي زهران في كتابه: "أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث". وقد درس فيه الظواهر اللغوية في أسلوب طه حسين، حيث انتهى إلى أنّ هذه التعبيرات اللُّغوية في أسلوبه جاءت "لديه لغرض ما، كما أن كل عنصر من عناصر أسلوبه، نجد ذاتيته وراءها"، كما أن هذه الظواهر اللغوية في أسلوبه "مظهر من مظاهر شخصيته".

الأيّام والدرس النقديّ واللّغويّ
ومن نتائج ما أظهرته دراسة الجانب الصوتي في أسلوب طه حسين، ما يتمثّل في "سرعة استجابة الأذن للنغمة الصوتيّة العامة المُنبعثة في أسلوبه، مع تنويع في التيار الصوتي، يحتفظ معه بمستوى موسيقي يتلاءم مع ما يريد التعبير عنه" (ص 25). ومن هذه الخصائص - أيضًا - "إعطاؤه صفات وخصائص صوتيّة لأحرف، وإعطاؤه صفات وعادات نطقيّة لكلمات بطريقة غير منطوقة، مما يجعل القارئ أو السامع لأسلوبه يشاركه النطق في بعض كلماته، أو على الأقل يعمل خياله اللغوي في تدبر"، على نحو ما جاء في قوله في الجزء الثالث من الأيّام: "ويمدّ ياء النيل فيسرف في مدّها، ويأخذه ذهول يردّ الطّلاب إلى ضحك متصل". وهو الأمر الذي يجعل السّامع لهذا النص كما يقول البدراوي زهران، يعيش معه فيه، وقد يشاركه النطق في مد الألف بوصفها حركة طويلة، فالخاصية الأساسيّة لها هي المدّ وتلك صفة تميزها. ومن هذه الجمل أيضًا: "اسكت يا خاسر، اسكت يا خنزير، وكان يفخم الخاء في الكلمتين إلى أقصى ما يستطيع فمه أن يبلغ من التفخيم".

وبناء على هذه الخصائص التي يختص بها أسلوب طه حسين، وهي نِتاج بحث لغوي معمّق، فإنه لا يحق لكائن أيًّا كانت صفته، أن يعبث بتراث الرجل، بالحذف، أو التبديل أو التشويه، بحجّة التخفيف، أو تقديم مختارات. فهذا تراث أمّة وليس تراث فرد. الدافع لهذا القول يعود إلى شهر نوفمبر من عام 2018، حيث احتفت المجلة العربية بعميد الأدب العربي وذكرى مرور 45 سنة على وفاته (28 أكتوبر 1973)، فأعاد القائمون على المجلة إصدار الجزء الثالث من سيرته، في كتيب مستقل مرفق بالعدد 267 نوفمبر 2018، تحت عنوان "من العمامة إلى الطربوش: فصول مختارة من مذكرات طه حسين". لكن مَن يقرأ هذه المذكرات، يهاله ما حدث فيها من تحريف بالتبديل وتشويه بالحذف، وكأن ثمة عداوة خفية للرجل، استدعت هذه الجريمة التي لا يقبلها أحد. وإنْ قوبلت بصمت مريب!

مكانة الأيّام
قبل التذكير بما لحق بهذا الجزء من سيرة طه حسين، من تشويه وتحريف، نتوقف أولاً مع قصة كتاب "الأيّام"، وأهمية الكتاب في تاريخ النثر العربي، وهل نشر طه حسين لمذكراته بعنوان مستقل "مذكرات طه حسين" يحول دون أن تكون الجزء المتمم لثلاثية الأيّام؟ وبعدها نتوقف عند جريمة المختارات التي وصفت زورًا وبهتانًا بـ: "مذكرات طه حسين" وهي منها براء، حتى وإن كان الغرض من الإصدار هو الاحتفاء بطه حسين، إلا أنه مع الأسف انقلب إلى ضده، وصار جريمة في حق طه حسين وجب الاعتذار عنها، وهو ما لم يحدث مع مرور الكثير من الوقت!

تعد الدكتورة فدوى مالطي دوجلاس كتاب الأيّام لطه حسين، عملاً بارزًا في الأدب العربي الحديث، كما أنّه الكتاب الأكثر شيوعًا في الكتب العربية في الغرب بعد ألف ليلة وليلة، وتقول من المؤكد أنه لا يوجد عمل أدبي عربي معاصر آخر أكثر شهرة منه في العالمين العربي والغربي، وقد صدر كتاب الأيّام لطه حسين ما بين 1926، و1967، ويعد معلمًا مهمًا في تطور النثر العربي الحديث. وتأكيدًا لهذه الأهمية، يقول الدكتور لويس عوض: "كل كلام عن طه حسين يجب أن يبدأ بكتابه الأشهر الأيام".

كما كان لهذا الكتاب الأثر الكبير في كتابات من جاء بعده، ويعترف الدكتور شوقي ضيف وهو أحد تلاميذ طه حسين بتأثير الكتاب في كتابته لسيرته "معي"، حيث نحى شوقي ضيف طريقة أستاذه في الإحالة إلى ذاته بالفتي تارة، وبالشاب تارة أخرى، إضافة إلى اقتباس أسلوبه السّردي، بالاستعانة بالضمير الغائب في السرد. وإن كان هناك مَن رأى أنه تأثّر بكتاب "معك" لسوزان طه حسين، على نحو ما ذهب ماهر محمد حسن في دراسته "معي والسيرة الذاتية" (حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، ع 11، 1988، ص7)

وعن أهمية الكتاب، ما ذكره الدكتور شكري المبخوت، بأن كتاب "الأيّام أمسى علامة زمنية في تاريخ الأدب العربي، بل هو في تاريخ فن السرد لدى العرب، لحظة تأسيسيّة لجنس السيرة الذاتية بإجماع أهل العلم بالسرد وأجناس الكلام." (سيرة الغائب.. سيرة الآتي، ص 7). كما لعب الكتاب وفق قول الدكتورة فدوى مالطي، "دورًا أساسيًّا في تطوير فن كتابة الرسائل العربية الحديثة وخاصة فن الرواية" (العمى والسيرة الذاتية، ص 12)، وهذه الأهمية لدور الأيّام في تطوّر الرواية يؤكّدها روجر آلن قائلاً": كل تعليق على الأدب العربي المعاصر تقريبًا يتضمن بعض الإشارات إلى هذا الكتاب". كما أن الأيّام تعدُّ مثالاً مهمّا للسيرة الذاتيّة في العالم الثالث، فهي بتعبير فدوى مالطي دوجلاس:"لا تُعبّر عن مفهومي الشرق والغرب فقط ولكنها، وذلك على قدر أكبر من الأهمية، تظهر الشرق وهو يعقد اتصالاً مميزًا مع الغرب".(العمى والسيرة الذاتية، ص 14).

شهرة الأيّام
الحقيقة أن كتاب "الأيّام" طغى شهرة على المذكّرات، حتى عُدَّت الأيام من أكثر الكتب شهرة في العالميْن العربيّ والغربيّ، حتى بين الكتب الكلاسيكية إن استثنينا "ألف ليلة وليلة" على حد قول فدوى مالطي دوجلاس. كما تناولتها أقلام نقدية بالدرس والتحليل العلمي. على نحو ما فعل شكري المبخوت في دراسته: "سيرة الغائب، سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب «الأيّام»". وبالمثل فدوى مالطي دوجلاس في دراستها "العمى والسيرة الذاتية: دراسة في كتاب الأيّام لطه حسين." والبدراوي زهران في "أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث". وهناك أيضًا دراسة الدكتورة أميمة صبحي خليل عن "الأيّام لطه حسين: دراسة أسلوبية"، وهي رسالة ماجستير في كلية دار العلوم – جامعة القاهرة، فرع الفيوم، وكذلك الدكتورة إيمان جاب الله "الأيّام لطه حسين دراسة نصية"، وهي دراسة علمية حصلت بها على درجة الدكتوراه في كلية الآداب – جامعة القاهرة،ـ واستطاعت أن تطبق معايير علم لغة النص السّبعة على الأيّام، وهي: "السّبك والحبك والتناص والقصدية والمقبولية والإعلاميّة". الشيء اللافت أن جميع الدراسات تعاملت مع الثلاثية كجزء واحد، وهذا تأكيد آخر على اتساق البناء بين الأجزاء الثلاثة.

نشر طه حسين الجزء الأول من "الأيّام" في بادئ الأمر على هيئة حلقات مُنجمّة في مجلة الهلال المصرية، مع عدد ديسمبر من عام 1926، وقد انتهى في الأول من سبتمبر عام 1927، ثم نشرها في كتاب عام 1929 عن دار المعارف. ثم أصدر الجزء الثاني منها عام 1939. وقد كان السبب الرئيسي من وراء التأليف هو توجيه رسالة للذين سوّلت لهم أنفسهم بإيذائه، بعد أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" 1926، أن الذي استطاع أن يواجه هذه الصعاب، حتى وصل إلى ما وصل إليه، قادرٌ على مواجهة ما هو أكثر وأفدح. وهو الأمر الذي استلمحته الباحثة التونسيّة جليلة الطريطر، حيث ذكرت "هكذا صح الرأي عندنا من خلال هذه الأحاديث أنّ الأيّام في جزأيه الأول والثاني خاصة، كان تعبيرًا عن أزمة وجودية خانقة، اهتزت لها اهتزازًا عنيفًا شخصية طه حسين، فلم يجد الرجل بدًّا ولا محيدًا من التنفيس عن كربه إلا بواسطة الكتابة عن حياته" (مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، مركز النشر الجامعي، تونس 2004، ص 349).

ومن ثمّ حرص طه حسين على أن يُقدّم في الجزء الأول (1929) من الأيّام مسيرة الفتى الذي خرج من القرية، والصعاب التي واجهته في القاهرة أثناء دراسته في الأزهر، وصولاً إلى بعثته إلى فرنسا، متناولاً بتفصيل سرد طفولته في القرية، بما تحمله هذه الفترة المبكّرة من حياته من معاناة، بسبب الجهل، ومن ثمّ يتحدث عن الجهل المطبق على الريف المصري وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت، وتأثير هذا عليه بإصابته بالعمى.

في حين أوقف الجزء الثاني من الأيّام (1939)، على فترة انتقاله إلى القاهرة طلبًا للعلم مختلفًا على مجالس الدرس في الأزهر، وكذلك واصفًا الأطوار الثلاثة التي لازمته في بداية حياته مغتربًا في القاهرة، وصولاً إلى اليقين الذي صادفه في صحن الأزهر "حيث ذلك النسيم الذي كان يتلقاه في صحن الأزهر يشيع في نفسه هذا كله ويرده إلى الراحة بعد التعب، وإلى الهدوء بعد الاضطراب، وإلى الابتسام بعد العبوس". (الأيّام، الكتاب الثاني، ص، 138) فأقبلَ على الأزهر "يريد أن يُلقي نفسه في هذا البحر، فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقًا" (الأيام، الكتاب الثاني، ص، 139)، إلى أن يهيم السكون على الفتى، ويتأفّف من دروس الأزهر، وشرح الأزهرين، الذي جعله يَنْفُرُ من الدروس، واجدًا متنفسًّا ورحابة في الدروس الليلية بعد افتتاح الجامعة المصرية، والتي كانت بمثابة الملاذ الذي كان يبحث عنه.

ومن ثمّ يقطع "الصّلة بينه وبين الأزهر في دخيلة نفسه وأعماق ضميره"، تاركًا ذاته لهذا الشغف الداخلي؛ حيث وجد في حياته الجامعية "عيدًا متصلاً .. عيدًا تختلف فيه ألوان اللّذة والغبطة والرضا والأمل"، ثمّ يسرد عن رحلته إلى فرنسا، وصعاب التأجيل والدراسة هناك. وإن كان تطرق إلى السياسة، حيث كانت حائلاً في عدم اتمام بعثته، بعد أن نشبت الحرب أوزارها، وصولاً إلى عودته بعد أن وضعت الحرب أوزارها. (الأيام، الكتاب الثالث، ص 346).

هذا ملخص متقضب لكتاب الأيّام في جزأيه الأول والثاني. وبعد فترة من نشره هذين الجزأين، يعود طه حسين مرة ثانية إلى سيرته، وينشر الجزء الأخير تحت عنوان مستقل "مذكرات طه حسين."

المذكّرات والأيّام
صدرت "مذكرات طه حسين" بذات الاسم، أوّل مرة عن دار المعارف المصرية عام 1962، ثمّ أعادت نشرها دار الآداب البيروتيّة في شباط 1967. وقد اعتبرها الكثيرون الجزء الثالث من الأيّام، على الرغم من الفارق الزمني بين صدور الأيّام والمذكّرات، والذي يصل إلى ثلاثة عشر عامًا. وهناك من استشف أن طه حسين ردّد ما يفيد بأن المذكرات هي الجزء الثالث للأيام، وهو ما صرَّح به محمد الدسوقي في كتاب "أيام مع طه حسين" حيث أورد أثناء منح العميد قلادة رئيس الجمهورية عام 1965، والتي قلّدها له صلاح الشاهد، ناقلاً تمنيات وتحيات السيد الرئيس، عندها سأل الصحفيون الذين تابعوا التكريم، العميدَ الدكتور طه حسين عن آماله في المستقبل، فقال: "أودُّ أن أكتب الجزء الثالث من الفتنة الكبرى، وأكمل الأيام" (أيّام مع طه حسين، دار القلم، دمشق، ط1، 2002 ص 31).

في الحقيقة الباحث المتحرّي للدقة، يستشف ممّا رواه محمد الدسوقي مَعنىً مغايرًا عمّا أخذه عنه وردّده الكثيرون، وبناء على هذا الرأي أكدوا أن المذكّرات هي الجزء الثالث الذي أراد طه حسين أن يتمّه. فالمدقّق في تاريخ قول طه حسين، الذي جاء في المقابلة التي تمت في 19 من شهر ديسمبر عام 1965 وصدور المذكرات في طبعتها الأولى في عام 1962 عن دار المعارف، لتبيّن صدق من ادّعوا بفصل المذكرات عن كتاب الأيّام بجزأيه، فثمّة ثلاث سنوات بين صدور المذكّرات وقول طه حسين، ومع ذلك ما زال طه حسين يُمنِّي نفسه بأن يستكمل الأيام. إذا كان يُمنِّي نفسه بصدور جزء ثالث فإن ما صدر تحت عنوان مذكرات طه حسين - حسب هذه الأمنية - بعيد كل البعد عن الأيام، وهذا غير حقيقي بالطبع. في الحقيقة لا أميل للروايات التي تروي عن الأشخاص، ما دام الشخص نفسه لم يراجع ما ورد عنه من أقوال. لكن قولي عن تكامل الأيّام بالمذكّرات، يتأتى من خلال مقارنة المذكرات بما ورد في الأيام، على مستوى الشكل والمضمون أيضًا. الاحتكام هنا للنصوص وخصائص الكتابة.

وأوّل دليل على هذا الاتصال بين الأجزاء الثلاثة، هو الخيط الممتد بين المذكّرات والأيام، فالمذكرات بدأت من حيث انتهى الجزء الثاني من الأيّام، وهو الأمر الذي يقطع كل شكّ في محاولة الفصل بين وحدة الأجزاء الثلاثة. فالمذكّرات بدأت على مستوى الأحداث والزمن والمكان من حيث انتهى الجزء الثاني من الأيام، حيث دراسة الفتى في الأزهر، وقد أنفق في طلب العلم ثماني سنين، وفيها تعرّض لألوان مُختلفة من النظام، ثمّ التحاق الفتى بالجامعة، وأثر هذا عليه، حيث غُمّته أوشكتْ أن تنتهي بعدما ضاق صدره بالأزهر، وشيوخ الأزهر. وهذا التواصل بين الأحداث ما يقطع أي شك في استقلال المذكرات عن الأيّام بجزأيها. فالترتيب الزمني للأحداث، وأيضًا التواصل السردي للحكاية ممتدان من الجزء الثاني إلى المذكرات بنفس الإيقاع، ونفس نبرة السُّخط التي كانت مهيمنة على نهاية الجزء الثاني خاصة وهو ينتقد دروس الأزهر وشيوخه.

على مستوى البناء فالمتأمّل لطبيعة الأيّام والمذكّرات يكتشف أنه لا فارق بينهما على مستوى الشكل أو التقنيات الأسلوبيّة، وطرائق السرد. فطه حسين وزّع الجزء الأوّل من الأيام في عشرين وحدة سردية، وبالمثل الجزء الثاني. وعندما طُبع الجزء الثالث تحت عنوان مستقل "مذكرات طه حسين" احتوى على عشرين وحدة سردية. كما يربط بين الأجزاء الثلاثة تيمة الفتى أو الشيخ أو صاحبنا التي تتردد كقناع على شخصية طه حسين، دون تغيير حتى في الجزء المستقل المذكرات، هي حاضرة أيضًا بذات الصيغة في الأيام. ولا ننسى حضور الضمير الغائب بذات الوظائف البلاغية والسردية التي كان عليها في الجزأين الأول والثاني. والأهم أن ثمّة تطوّرًا موضوعيًّا واضحًا في الأجزاء الثلاثة معًا، فهي تكون في مجموعها بنية متكاملة، ترصد تطوّر حياة طه حسين وفكره منذ طفولته كما رصد في الجزء الأول، إلى ابتعاثه في الخارج وعودته. وهي التحولات التي سيكون لها أثرها في حياة طه حسين العلمية ومعاركه الفكرية فيما بعد.

ثمة تأكيدات كثيرة على وحدة الأجزاء الثلاثة، كما ذكرتُ سالفًا، وهو الأمر الذي دفع مركز الأهرام للترجمة والنشر، عندما أعاد طباعة الأيّام قبل سنوات عام 1991، احتفاء بمرور مئة عام على ميلاد عميد الأدب العربي، لأن يضمهما كتاب واحد، فطبعت الأجزاء الثلاثة معًا في مجلد واحد، في تأكيد على أن المذكرات هي الجزء الثالث للأيّام، حتى ولو صدرت من قبل تحت اسم مستقل هو "مذكرات طه حسين". نفس الشيء حدث مع طبعة دار المعارف، فضمت الأجزاء الثلاثة في كتاب واحد، دون فصل لما أسماه طه حسين مذكرات من قبل. الشيء الوحيد المختلف عن المذكّرات في الطبعات الكاملة، هو حذف العناوين الفرعية التي كانت تبدأ بها الوحدات السردية العشرون، على نحو ما هي مثبتة في نسختي دار المعارف، ودار الآداب اللبنانية. غير ذلك ظل ما جاء في المذكرات كما هو دون تغيير بالحذف أو بالإضافة.

المذكّرات المشوّهة
ومع كل هذه التأكيدات على وحدة الأجزاء الثلاثة - حتى ولو حمل أحدها عنوانًا مستقلاً - إلا أن الكارثة التي لم ينتبه إليها أحد، تتمثّل في أن المجلة العربية أعادت إصدار الجزء الثالث في كتيب مستقل مرفق بالمجلة العدد 267، تحت عنوان "من العمامة إلى الطربوش" وهذا العنوان في أصله، عنوان مجازي مستعار من عنوان الفصل الأول في المذكرات القديمة "على باب الأزهر".

يبُرّر صدوق نور الدين أسباب إعادة نشر المذكّرات، لعدم شهرة المذكّرات، مقارنة بالأيام، حيث يقول في المقدمة التي سبقت المذكّرات المُشوّهة: "لم يتحقّق تداول (مذكرات طه حسين) بشكل موسّع، إذ العديد من المهتمين بالشأن الأدبي، يُدرك تمام الإدراك بأنّ عميد الأدب العربي، يمتلك مذكرات نُشرت بشكل مُستقل بداية، على غرار التحقيقات الأدبية في الجنس ذاته، والمتمثلة فيما كتبه (محمد حسين هيكل)، وثروت عكاشة، إلا أنّ المفكرين الذين أَوْلوا اهتمامًا بمسار الفكر العربيّ وتحولاته، استحضروا – وبقوة – هذه المذكرات من منطلق كونها التجسيد الدقيق لشخصية المثقف العربي، وللأثر البارز الذي خلفه الغرب عليه" (من العمامة إلى الطربوش، ص 7).

لا أخفي أنّ ثمّة جانبًا صادقًا فيما قال، يتمثّل في طغيان شهرة الأيّام، على حساب المذكرات، إلا أن الشيء الذي غاب عليه أن الجميع تعامل مع الأيام كثلاثة أجزاء، ومن بينها المذكّرات القديمة، فلم يفصل أحد بين المذكرات كجزء مستقل وبين الجزأين الأول والثاني من الأيّام. فمعظم من تعامل مع سيرة طه حسين تعامل معها كوحدة متكاملةـ دون النظر للاعتبارات القديمة التي جعلت طه حسين يخرج الجزء الثالث في شكل مستقل وتحت عنوان مختلف أيضًا. أعجب ما جاء في هذه المذكرات الملفّقة. أن المجلة وضعت عنوانًا فرعيًّا يشير إلى جريمة تشويه عمدي، وهو "فصول مختارة من مذكرات طه حسين"، وإن كانت فكرة المختارات تجوز في الشعر، فإنها لا تجوز في النثر، لأسباب تتعلّق بطبيعة النثر، حيث التسلسل الزمني للأحداث، وتراتبها، فأي انتزاع لأي جزء يفقد الحكاية تسلسلها وترتيبها.

الغريب في الأمر، أن الأكاديمي والناقد المغربي صدوق نور الدين، الذي لا نُنكر إسهاماته النقدية المتميزة مثل: "حدود النص الأدبي: دراسة في التطبيق الإبداعي" عام 1984، ثم "إشكالية الخطاب الروائي العربي" (1985)، و"النص الأدبي، مظاهر وتجليات الصلة بالقديم" (1988)، و"البداية في النص الروائي" (1994)، و"سير المفكرين الذاتية" (2000)، و"السرد والحرية" (2007)، و"انغلاق الدائرة: دراسات في الرواية العربية" (2008)، وغيرها من أعمال إبداعية، شارك في هذه الجريمة دون أن يرتد إليه طرف، وقام بالاعتداء على ما نعتبره تراثًا فكريًّا باسم غير شرعي "مختارات".

والناقد المرموق شارك في هذا التشويه في أكثر من موضع، الأوّل يتأتى فى اختزال المذكّرات الأصلية إلى خمسة عشر فصلاً، بدلاً من عشرين فصلاً، كما كانت في الأصل، وثانيًا في جريمة تشويه العناوين السّابقة، واستبدالها بعناوين جديدة، لا نعرف سببًا لهذا التبديل. أما ثالثة الأثافي، فتتمثّل في الحذف الذي مارسه في النصوص الأصليّة، وكأنّ مهمته كانت أشبه بالرقيب، فحذف أشياءً كثيرة داخل الوحدات السردية، وهو ما سيأتي في موضعه بالتفصيل.

اللافت أن الناقد صدوق نور الدين كتب مقدمة مهمّة صدَّر بها المختارات الجديدة، لو كانت في غير ذات الموضع تحديدًا. ناقش فيها ماهية المذكرات وموقعها في خريطة الكتابة الذاتيّة، وعلاقتها بالسيرة الذاتيّة، وخصائصها الأسلوبيّة، وهو ما ضاع هباءً وسط هذه الجريمة التي لن تغتفر.

الثورة ضد التقاليد
تتمثّل جريمة التشويه في ثلاثة أشكال؛ أولاً التحريف: حيث عمد مُعِدُّ المختارات إلى تحريف العناوين، وتبدأ سياسية التحريف من عنوان المذكرات الأصلي، فطه حسين عنونها بمذكرات طه حسين. هكذا صدرت في طبعتها الأولى عن دار المعارف، ثم عن دار الآداب البيروتية، إلّا أنّ مُعِدَّ المختارات رأى أنّ هذا غير حسن، فغيّر العنوان الأصلي إلى عنوان مجازي هكذا: "من العمامة إلى الطربوش"، في إشارة إلى إظهار تمرد طه حسين على الأزهر، وهو الأمر الذي لم يُخْفِه طه حسين نفسه، بل قدّم انتقادات كثيرة لمنهج الأزهر، منذ نهاية الجزء الثاني من الأيام، وواصل انتقاده وإظهار سلبياته في المذكرات، وفي كثير من مقالاته الأخرى.

الجدير بالذكر أن انتقاد طه حسين لمنهج الأزهر، نستلمح بواكيره من أوّل كتابات طه حسين العلمية، كما هو واضح في "ذكرى أبي العلاء" (1919)، وهو الرّسالة العلميّة التي توجّه بها طه حسين إلى كلية الآداب عام 1914، فقد تضمّن في مقدمته انتقادًا لمنهج الأزهر والأزهريين، وهو الأمر الذي عرّضه إلى أول صدام بينه وبين الأزهر وشيوخه، فتحامل الشيخ محمد المهدي أحد أعضاء اللجنة المُناقِشة للرّسالة، على الرسالة وصاحبها. وكانت قد ضمّت اللجنة في عضويتها الشيخ محمود فهمي والشيخ محمد الخضري، فأبَى الشيخ محمد المهدي؛ أن يمنحه الدرجة كاملة؛ لأنّ طه حسين عارضه في الرّسالة، وكان أَسَرّها في نفسه. في حين رأى الشيخ محمود فهمي، والخضر، أن يمنح صاحب الرسالة درجة فائق. وإزاء هذا الانقسام حاز في النهاية شهادة العالمية ولقب دكتور في الآداب بتقدير جيّد جدًّا. وقد ذكر طه حسين هذه الواقعة في الجزء الثالث من الأيام في صفحة 357. ثم عاد إليها من جديد في حديث الأربعاء وهو يرثي شيخه المهدي. (سأعود إلى هذه العلاقة في دراسة تتناول، طه حسين الناقد المعنّف"(.

بل يذهب طه حسين في صدامه المُبكّر مع شيوخ الأزهر بعيدًا، حيث يذكر أنه أثناء إقامته في مصر، ذهب إلى الجامعة، واستمع لدرس الأستاذ الشيخ محمد المهدي، ثم خرج فكتب عن هذا الدرس مقالاً في مجلة السفور في 3 ديسمبر 1915 بعنوان "في الجامعة المصرية"، وحسب اعتراف طه حسين نفسه في سيرته أنه "نقد فيه الأستاذ نقدًا مرًّا ممضَّا"، حتى أنه وصف الدرس الذي ألقاه الأستاذ الشيخ محمد المهدي بأنه "لم يكن في هذا الدرس شيء يدلّ على أنه درس في الجامع، وإنما هو نوع من الحديث يستفز سامعيه بما يعرض فيه من الغزل والوصف ومن آيات البديهة والارتجال"، وينتهي في شبه حسرة بعدما وضع درس الأستاذ في مقارنة بما رأه ودرسه في جامعات فرنسا، ساخرًا من ألا يوجه اللوم للجامعة التي "لم تألُ جهدًا في حسن اختيار الأستاذ"، أيضًا لا يلوم الأستاذ "لأنه بذل ما يملك وجاد بما يستطيع أن يجود به"، وهو ما يجعله ينحاز إلى فرنسا التي رأى أن "هزل فرنسا جدّ، وأن جدّنا لعب، وأن فرنسا حَريّة بالحب والإعجاب، وأن مصر خليقة بالرحمة والرثاء، زاد الله فرنسا رقيًّا ورفعة، ووفى لمصر حاجتها من الإصلاح".

وكانت المقالة بمثابة بداية "معركة عنيفة وابتداء حرب على المدرسة التقليدية القديمة" على نحو ما ذكر الدكتور جابر عصفور في مقالته "المعركة النقدية الأولى لطه حسين نص مجهول"، (صدرت في مجلة العربي الكويتية، عد 704، يوليو 2017، ص16)، وهو ما أثار غضبة الشيخ، الذي اشتكاه إلى الجامعة، "طالبًا إلغاء بعثته عقابًا له على هذا التمرد"، وهو الأمر الذي استجابت له إدارة الجامعة، فتمّ التحقيق مع طه حسين، وكلّفت به ثروت باشا وعلوي باشا وأحمد لطفي السيد، وعند سؤاله عن هذا المقال، لم يُنكر من مقاله شيئًا، ولم يرَ لأحدٍ أنْ يُعاقبه على نقد حرّ برئ، لم يُرد به إلّا الخير"، وانتهى الأمر بتكليف مجلس الجامعة السّيد أحمد لطفي السّيد، بأن يُصلح بين الأستاذ الغاضب والتلميذ المتمرد"، وهو ما حدث بدعوتهما معًا إلى عشاء وتمّ الصلح بينهما. وفي رواية أخرى أن علوي باشا كلّف بهجت بك أن يجمع بين طه حسين وبين الشيخ المهدي، فجمع بينهما في دار الآثار العربية، وانتهى الخصام الذي تداولته الصحف أكثر من أسبوعين.

الغريب أنّه في المذكّرات المشوّهة، قام مُعدّ المذكّرات بحذف هذا الفصل تمامًا، وهو الفصل السّادس والذي كان عنوانه "أساتذتي" في المذكرات الأصلية، وتحدث فيه طه حسين عن دور أساتذته عليه، وبدأه بحديثه عن الجامعة المصرية، وكيف كانت الحياة فيها "عيدًا متصلًا رائع الامتاع لمكانة الأساتذة الأجانب فحسب، بل كان فيها أساتذة مصريون يضيفون إلى روعتها روعة وإلى إشراقها إشراقًا" (المذكرات، ص 63 ) فيستعرض لطبائع وشمائل أساتذته، وطرائق شروحهم، ومن منهم المحبَّب ومن منهم المنفِّر، ويثني على حفني ناصف وحب الطلاب له، حتى أنهم كانوا "يأبَوْن عليه أن يختم دروسه في آخر العام دون أن يزيدهم على المقرّر درسيْن أو دروسًا" (المذكرات، ص 65)، ومن هؤلاء الأساتذة كان الشيخ محمد الخضري ، وكان يُدرّس التاريخ الإسلامي، "وقد سحر الفتى بعذوبة صوته وحسن ألقائه وصفاء لهجته"، ثم يأتي لسيرة الشيخ محمد المهدي، وكان الفتى يحبه أشد الحب، ويعبث به أشد العبث، هو وأستاذ آخر لم يُسمّه. لكن يتحدث عن مجادلته للشيخ المهدي وجرأته عليه، وهو ما كان يرهقه من أمره عسرًا، وربما أضحك منه الطلاب. وهو الأمر الذي انتهى بصدام بينهما أثناء مناقشة الفتى للدكتوراه، كما ذكرنا سابقًا. السؤال الحقيقي لماذا هذا المحو لما ذكره طه حسين من فضل أساتذته عليه، وكأنّ الأمر يبدو لي أن المُعدَّ بهذا المحو والطمس لهذه الصفحة النيرة من تاريخ طه حسين وصراعه، ينتصر لإيديولوجيا ترفض المساس بقداسة الأزهر وشيوخه، مع أن طه حسين كان ينتقد بأسباب دون تطاول أو تجريح. الأغرب أن طه حسين عاد إلى سيرة أستاذه من جديد في الجزء الثالث من حديث الأربعاء، وكتب مرثية عذبة في رثائه بعنوان "الشيخ محمد المهدي"، شغلت صفحات من 40 إلى 46.

ومن عذوبة المرثية، أنّه يتصوّر مَن يفقد أستاذه يشعر بشيء من اليتم كالذي "يجده الناس في فقد الآباء". وامتدح ما فيه من صفات العلم، وأنه لم يكن من أنصار القديم ولا الجديد، وإنما مذهبه وسطا، حتى أنه يصفه بأنه لم "يكن كاتبًا، ولم يكن شاعرًا، وإنما كان أديبًا أو قل كان أستاذًا من أساتذة الأدب" (حديث الأربعاء، ج3، ص 41)، ويذكر أيضًا أن "الأستاذ الشيخ مهدي حلو الحديث خلّابه، وكان يؤثر اللغة العربية الفصحى ويتكلفها، ويتخير منها ألفاظًا غريبة"، أما عن أخلاقه ففيها "شيء من الطفولة؛ فكان سريع الغضب جدًّا، سريع الرضا جدّا، وكان غضبه حلوًا وكان رضاه لذيذًا" (حديث الأربعاء، ج3، ص 43)، ومع اعترافه بثقل وطأته على الأستاذ، إلا أنّه كان يحبه فكما يقول: "ولست أعرف تلميذًا كان أثقل على أستاذه وأقسى مني على الأستاذ الشيخ مهدي، ولكني لا أظن أن بين تلاميذ الأستاذ مَن أحبّه حبي إياه. كنت قاسيًّا وكان قاسيًّا أيضًا" (حديث الأربعاء، ج3، ص 43).

توقفت عند هذه الأزمة والصدام بين الرجليْن، لأبيّنَ أن موقف طه حسين لم يكن موقفًا شخصيًّا، بل كان دفاعًا عن العلم وقيمته من جانب، ومن جانب ثانٍ كان غَيْرة على الجامعة التي ساءه أن يرى الدروس تُلقى فيها هكذا، وتُحْشر المعلومات في أذهان الطلاب حشرًا. بيد أنه لم يُنكر فضل الرجل عليه، ولا علمه أيضًا، ومن ثمّ جاءت هذه المرثية انتصارًا لقيمة العلم، وتأكيدًا على نبل طه وهو يرثي أستاذه.

آليات التشويه
لا تقف حدود التشويه على تغيير عنوان المذكرات، وإنما تعدته إلى جرائم متعدِّدة منها. أولاً أن مُعِدَّ المختارات، قام باختزال الفصول من عشرين فصلاً، إلى خمسة عشر فصلاً. حيث أسقط من الطبعة الجديدة الفصول التالية: السّادس بعنوان "أساتذتي"، والثامن "ثلاث تجارب"، والثّاني عشر "الصّوت العذب"، والثامن عشر "أطول الناس لسانًا". والتاسع عشر "رفضتُ أن أحضر مؤتمرًا للعميان!"، فتم الحذف دون التنويه عمّا أضره من وجود هذه الفصول على نحو ما كانت عليه، أو ما حملته من رجس يجعل إذاعتها للناس شرًّا، وكأنه تواطؤ منه على نشر الرذيلة أو حتى التحريض عليها! وهو الأمر الذي يدعو للعجب، وأي عجب!

الشّكل الثاني الذي طال المذكرات هو التحريف. حيث قام من أعدّ المذكرات بتغيير أسماء عناوين الفصول، وقد جاء التغيير ما بين تغيير العنوان كليًّا كما في عنوان الفصل الأول الذي عنونه "بين العمامة والطربوش"، في حين في المذكرات الأصلية كان بعنوان "على باب الأزهر" وهو الأمر الذي تكرّر في عناوين الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: "بين الشاعر المُعلّم والمحبّ" في حين أنه كان في المذكرات الأصليّة بعنوان "عندما خفق القلب"، والخامس وضع له عنوانًا هكذا: "محنة الكفيف" في حين جاء في المذكرات الأصلية بعنوان "أستاذي يدعو عليّ بالشقاء"، والسادس في النسخة الجديدة بعنوان "درس الفرنسية" يقابله السابع في المذكرات الأصلية بعنوان "كيف تعلّمت الفرنسية" والسابع في المختارات بعنوان "الفسلفة أم التاريخ" في حين في المذكرات الأصلية بعنوان "الفلسفة الفاسدة".

على هذا النحو يسير التحوير والتحريف، فلا يوجد عنوان في المذكّرات الأصليّة أبقاه المُعدّ لهذه المختارات كما كان، بل ضرب بمعوله كل ما صادفه من عناوين. الغريب أنه اجتزأ المذكرات، فأنهى المختارات عند الفصل الخامس عشر، وقد عنونه بـ"العودة إلى مصر" وهو ما يُقابل الفصل الثامن عشر في المذكرات الأصيلة، المعنون بـ"أطول الناس لسانًا" وإن كان حذف الكثير من بدايته حتى وصل إلى ما جعله بداية للفصل هكذا: "فلنعد إلى صاحبنا في باريس" (المذكرات،ـ ص، 109).

الشّكل الثالث الذي طال المذكرات القديمة، هو الحذف، وتعدّ هي الجريمة الأكبر، حيث قام معد المختارات بتشويه الفصول، بحذف ما لا يروق له، وسياسية الحذف هذه حتى ولو كان غرضها التخفيف، إلا أنها غير مقبولة بالمرة، فهذا أثر- بل تراث أمة - لا يحقّ لأحد – أيًّا كان، وأيًّا كان غرضه - أن يعبث به. فقبل أن أسوق ما اقترفته يداه من تشويه وتحريف لأثر خالد، أذكره بما ذكره ياقوت الحموي عن الجاحظ في بداية معجم البلدان، من مخاطر الحذف والاختصار حيث قال: "وقد حُكي عن الجاحظ أنه صنّف كتابًا وبوّبه أبوابًا، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاءً، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنّف كالمصوِّر وإني قد صوّرتُ في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعوّرتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أُذنان فصلمتهما، صلّم الله أُذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك، حتى عدّ أعضاءَ الصورة، فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله" (ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 1، دار صادر بيروت، 1977، ص 14)

ومن الأمثلة على هذا التشويه ما يلي:
يبدأ الفصل الأول من المختارات بذات البداية الأصلية في المذكرات: "كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدّها أربعين عامًا، لأنها قد طالت عليه من جميع أقطاره." (المذكرات، ص7)، ثم يقفز على كثير من الفقرات، فيحذف أكثر من نصف الفصل الأصلي الذي مجمله سبع صفحات. فيوقف الأحداث عند الصّراع الذي ساور نفس الفتى، فيتساءل: "أتقبله الجامعة أم ترده إلى الأزهر ردًّا غير جميل لأنه مكفوف." (المذكرات، ص9) ثم فجأة يقطع السرد عن رؤية الفتي للدراسة في الجامعة، بعد ذهابه مع رفيقيه. واستماعه إلى دروس الأستاذ أحمد زكي باشا عن الحضارة، وهي المقارنة التي تنسحب إلى الجامعة، وهو ما ينعكس أثرها في اليوم التالي "فلا يستيقظ الفتى في موعده ليذهب إلى الرواق في الأزهر، إلا في الضحى"، وهو مجبر جبرًا. وإن كان عقله عند دروس المساء في الجامعة. ثم يلصق هذه الجملة التي أصلها في نهاية الفصل، بعد حَيرة الفتى عن قبوله في الجامعة أم رده إلى الأزهر: هكذا "منذ افتتاح الجامعة حتى تغيرت حياته تغيرًا فجائيًا كاملاً"، ويختم بها الفصل بعدما بتر إعجاب الفتى بدروس الجامعة، وميله إلى أساتذتها، وكذلك حالة الإعجاب والتيه التي صار عليها عندما تلقى دروس الحضارة، على يد الأستاذ أحمد زكي بك.

ويستمر الحذف والتشويه في كل الفصول على وتيرة واحدة. حيث يحذف صاحب المختارات كل ما يتعلق برؤية الفتي للأزهر مقارنة بدروس الجامعة، التي انصرف ذهنه كليّا إليها، وأغرق فكره في التفكير في دروسها وأساتذتها. وحذفُ الفقرات يتكرّر في الفصل الرابع "بين الشاعر، المعلم والمحب"، حيث يحذف موقف صديقه من تذكيره بإنشاده الشعر، "فيرثى الشيخ لما أضاع من شبابه، وما أنفق من جهده في غير طائل ولا غناء"، ثم يستمر في لعبة الحذف دون أن نعرف لماذا فعل؟ وما الغرض من حذف هذه الفقرات، التي قد تأتي للإشادة بدور الذين لعبوا دورًا في حياة الشيخ كما في فقرة الشيخ جاويش؟

وقد يغير من شكل الجملة على نحو: "فقد أنشأ الشيخ عبد العزيز جاويش مدرسة ثانوية" ويكتبها هكذا: "وأنشأ الشيخ ..." ثم يحذف من ذات الفصل، ما حلّ بالشيخ جاويش، بانصرافه عنه بأحداث السياسة. إلى أنه اضطر إلى الهجرة من مصر. وهو ما حال من عدم رؤية الفتى له منذ ليلة الوداع. ويحذف أيضًا أثر الشيخ عليه حيث ساعده لأن يخرج "من بيته إلى الحياة العامة" والمعارف التي اكتسبها من العمل معه في الجريدة. ثم يقفز قفزًا بين الفقرات يهمل منها ما لا يريد، وصولاً إلى مبتغاه. فيحذف وصف الفتى لتكريم مطران في حجرة من حجرات الجامعة. ورأي الفتى في شعر حافظ، وشعوره بأن مطران أسرف في "التضاؤل أمام الأمير الذي أهدى له ذلك الوسام"، وصولاً إلى بداية علاقته بمي زيادة.

الحذف لا يقف عند فقرة أو صفحة، بل يتجاوز الأربع صفحات، كما في الفصل الثالث. وقد عنونه "طه حسين بدايات الكاتب"، في حين جاء في نص المذكرات بعنوان "أثر اختفاء المرأة." فالحذف يبدأ من الثلث الأخير من صفحة 29 من جملة "كانوا يقصدون إلى الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا ..." وصولاً إلى الثلث الأخير من صفحة 32. حيث يعاود وصل الفقرات من جديد. وفي الفصل الخامس "محنة الكفيف" يحذف الفقرة الأولى التي استفتح بها طه حسين فصله، على طولها. وهي التي يتحدث فيها عن عهد المصريين بالجامعة الذي كان بمثابة العيد، حتى ضاقت الجامعة بهؤلاء المختلفين إليها. ويصف إقبال الناس إليها على اختلاف مشاربهم. ويبدأ بجملة "وأقبل الفتى ذات مساء بصحبة غلامه"... وهو الموقف الذي يظهر رفض السّماح لغلامه الدخول إلى رحاب الجامعة. لا يكتفي بهذا وإنما يبتر الفصل الخامس ويقلّصه إلى ثلاث صفحات، من أصل ثماني صفحات (51 - 59).

الشيء اللافت أن معظم المحذوفات كانت تختص بمقارنات الشيخ طه بين الأزهر والجامعة، وميله إلى أساتذة الجامعة. ومنها أيضًا إشادته بفضل هؤلاء الأساتذة في تكوينه على نحو ما فعل ما الشيخ جاويش، وحفني ناصف، والشيخ الخضري، وأحمد زكي بك، وكذلك ثمة حذف يظهر شغف طه حسين بالمرأة، فحذف كثيرًا من الفصل الرابع عشر "قصة حب" خاصة الأجزاء المتعلقة ببداية علاقته بالفتاة التي كانت تساعده، فحذف الكثير من الصفحات التي تشير إلى حالة الشغف التي صار عليها الفتى بعد لقائه بهذه الفتاة التي التقاها في فرنسا، وهو الشيء الذي فعله مع إعجاب طه حسين بمي زيادة، في الفصل الخاصّ بين "الشاعر والمعلّم والمحبّ، وكان صوتها هو الوحيد الذي أرضى الفتي في ليلة تكريم مطران، فقام معدّ المختارات بحذف تأثير الصوت على الفتى وهو يصفه هكذا: "لم يرضَ الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتًا واحدًا سمعه فاضطرب له اضطرابًا شديدًا وأَرِقَ له ليلته تلك. كان الصوت نحيلاً ضئيلاً ، وكان عذبًا رائقًا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفِّة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئًا." (مذكرات طه حسين، ص 44). علاوة على حذف كل الشعر الوارد في المذكرات الأصلية. و هو ما يضع علامة استفهام كبيرة عن أسباب الحذف المبهمة!

التشويه الذي لحق مذكرات العميد، هو ما حذر منه من قبل طه حسين في الفصل الذي أثبته في كتابه "في الأدب الجاهلي" بعد أزمة الكتاب الأول "في الشعر الجاهلي" تحت عنوان "الأدب في مصر"، وهو فصل ينذر بالخطورة التي لحقت بالأدب، ويسرد أسباب هذه الأزمة، والتي يربطها بغياب مناهج الأدب في المدارس والجامعات، وأيضًا غياب المعلمين (الفنيين) حسب وصفه لهم. إلى أن يصل إلى الآفة الخطيرة التي حذر منها، متمثلة "لون من السطو على الأدب القديم والعلماء المتقدمين يسمى حينا بالاختصار، وحينًا بالاختيار، وحينا بالتهذيب، وما هو من هذا كله، في شيء، إنما هو المسخ والتشويه والبتر وما إلى هذا كله من ألوان الإفساد التي ذكرها الجاحظ فيما روى عنه ياقوت في أول كتابه "معجم البلدان" (في الأدب الجاهلي: ص 10)

وبعد...

لم يتوقف أحد من المثقفين – على حد علمي – عند هذه الجريمة، في حين ما إن قامت إحدى دور النشر الخاصّة بتبسيط كتابات توفيق الحكيم للأطفال، حتى انتفض البعض ضدّ ما حدث. لدرجة أن أحد الكتاب (أشرف عبد الشافي) وقد هاله الأمر وصف ما جرى بأنه "ختان لتوفيق الحكيم"، وزاد في الوصف بأن ما حدث لكتاب «أرنى الله» ليس سوى حلقة من حلقات التدليس والتضليل والتلاعب بمؤلفات كاتب كبير، لا يستحق هذا العبث والتجارة به وباسمه، كما لا نستحق نحن القرّاء أن يتلاعب بنا هذا الناشر أو غيره. (ختان الحكيم، الدستور، 14 فبراير 2019).

وهو الأمر الذي غاب في جريمة طه حسين دون أن نعلم هل غاب عن عمدٍ أم عن تقصير وغفلة؟ وهو حدث جديد، مقارنة بواقعة توفيق الحكيم التي تعود إلى عام 2005، لكن تمّ اكتشافها مؤخّرًا، ولا أعرف لماذا تمّ إيقاظ الفتنة الآن؟! الغريب أن أمر الختان (لو استخدمنا تعبير أشرف عبد الشافي) حدث أيضًا من قبل مع مؤلفات "نجيب محفوظ" تحت اسم التبسيط، عن ذات دار النشر، دون أن نجد أحدًا يتكلّم وقتها، ويطالب وقف هذا العبث بالتراث الإنساني لمبدعينا. فهل من جهة رسميّة تتصدّى لوقف هذا العبث بتراث الأمة، أم لا نتحرك إلّا إذا كنا ندافع عن مصالحنا الشخصيّة، أو نحارب بالوكالة لتصفية خلافات، حتى ولو تنكّرنا وحملنا شعارات برّاقة ومُلهبة للحماس، من قبيل الدفاع عن الإبداع والملكية الفكريّة؟!