يبدأ الكاتب من مقدمة القول ببداهة تمهيد الديكتاتورية للاحتلال، واحتماء الناس بالمستبد التماسا للأمان، وفرارا من إرهاب له أعراض جانبية أبرزها إطالة عمر الاستبداد. ثم يتناول بيان تنظيم الإخوان (أكتوبر 2020)، محللا الاستبداد الكامن فيه، بالتوازي مع حكم يستمد أسباب بقائه من حماقة الذين لا يعلمهم التاريخ شيئا.

الأخوان .. لا أحد يراهن على جواد خاسر

سعد القرش

 

من الدروس الابتدائية في التاريخ أن الديكتاتورية تمهد للاحتلال، ومن هذه الدروس أيضا احتماء الناس بالمستبد التماسا للأمان، وفرارا من إرهاب له أعراض جانبية أبرزها إطالة عمر الاستبداد. وبيان تنظيم الإخوان، الأحد 11 أكتوبر 2020، من هذا النوع الداعم للاستبداد، ففي أقل من 500 كلمة يقول البيان إننا باقون لوقت أطول في صحبة حكم يستمد أسباب بقائه من حماقة الذين لا يعلمهم التاريخ شيئا. ولكن البيان يؤكد غفلة البعض من مثقفي بعد الظهر إذ يهوّنون من خطر الإخوان، وألا جدوى من الانشغال بجماعة قادتها في المعتقلات، وينسون أن الفكر المؤسس للإرهاب طليق، ويسري في الدماء وينتظره جيل يتوجه إليه البيان.

مثقفو بعد الظهر ليسوا إخوانا، وإنما انشغلوا بالشأن العام بعد الظهر، في أوقات الفراغ في خريف الأعمار، ويقرأون الظواهر من الشواشي، وهي خادعة. والبعض في ظل القبضة الاستبدادية يتساءل عن المفاضلة بين إرهاب باسم الدين وآخر باسم الوطن، وهذا القصور هو الوجه الآخر للسؤال السخيف: هل تفضل الدكتاتورية أم الاحتلال؟ في حين أن كليهما يؤدي إلى الآخر، سببا ونتيجة. وإذا كان تنظيم الإخوان قد انتهى، فلماذا تنفق عليه أنظمة كارهة لمصر، لمصر لا لعبدالفتاح السيسي، بهذا البذخ؟ هل يراهن على جواد خاسر إلا الحمقى؟ لا أظن من يستثمرون في الإخوان يتفقون على الحماقة، وبعضهم ملتزم أمام برلمانه بتقديم كشف حساب.

لم يعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتكلم عن علاقة الإخوان بالإرهاب. في مصر ظل كاتب علماني تجاوز التسعين يبشر في مقالاته الأسبوعية بترامب، رسول العناية الإلهية للقضاء على شرور الإخوان، وإنهاء تواطؤ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مع الجماعة. ولكن ترامب خذله، بعد صحوة مفاجئة في بدايات 2019، بالسعي لتصنيف الإخوان جماعة إرهابية، وإعلان المسؤولة الإعلامية بالبيت الأبيض سارة ساندرز أن “الرئيس تشاور مع فريقه للأمن القومي وزعماء بالمنطقة يشاركونه القلق، وهذا التصنيف يأخذ طريقه عبر الإجراءات الداخلية”. فاستدركت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مغامرة ترامب، وسارعت إلى شدّ الرحال للقاء رجل البيزنس وتوعيته بطبيعة البيزنس.

بريطانية الاستعمارية استثمرت مبكرا في الجماعة، وأسهمت في التأسيس بمنح الشاب حسن البنا ابن الثانية والعشرين 500 جنيه، دفعة أولى تلتها دفعة قيمتها 300 جنيه، ضمن خطة استخبارية تعزز صعود يمين ديني يناهض الحركة الوطنية، ويحارب الشيوعية نيابة عن الاستعمار. وفي عام 1953 استقبل الرئيس الأميركي أيزنهاور، في البيت الأبيض، سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا. ولا أتخيل أن الرعاية البريطانية الأميركية نابعة من الحرص على المسلمين، والإسهام في قضايا التنمية الاقتصادية في مصر. لم يكن سعيد رمضان نائبا عن الله، لكي يكلفه بمعرفة ما إذا كان الشعب الأميركي “مؤمنا مثل الشعوب الإسلامية، كما يذكر موقع “ويكيبيديا الإخوان المسلمون” بخصوص اللقاء.

يعي الإخوان أن الأم/ بريطانيا لا تضحي بابنها. استقالت تيريزا ماي في مايو 2019، وظل الإخوان المسلمون مطمئنين إلى مستقبلهم، وقال قيادي إخواني إن لبريطانيا وضعا إستراتيجيا خاصا باعتبارها “ملجأ لحركات الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين منذ قديم الزمن. إن الأجهزة الأمنية في بريطانيا هي التي تحدد طبيعة العلاقة بين الإخوان والدولة الإنجليزية وليس الحكومة البريطانية”. ويتفق التنظيم والرعاة في وقائع لا تقبل وجهتي نظر، ففي يونيو 2011 قال المرشد محمد بديع “بعد كل تنكيل بالإخوان كان الانتقام الإلهي سريعا، فعقب اعتقالات 54 كانت هزيمة 56، وبعد اعتقالات 65 كانت الهزيمة الساحقة في 67”. كأن الله يكافئ إسرائيل إكراما للإخوان.

تيريزا ماي وريثة روح بريطانية عابرة للأجيال والأحزاب. ولا يفرط مستثمر في مشروع أنفق عليه لأكثر من تسعين عاما، ولكن الأم لن تتردد في دفن جثة ابنها لو مات أو مرض وزادت تكاليف أجهزة التنفس على العائد منه، وهذه مرحلة لم يبلغها تنظيم يجد داعمين لمشروعه. والآن، بعد تجارب مريرة للإخوان وللشعوب بسبب الإخوان، يمكن لعاقل من الإخوان، أو من عموم المسلمين، أن يتساءل: ماذا قدمت جماعة الإخوان للإسلام؟ هل يوجد فقه معاصر أسهموا في تقديمه؟ وماذا كان العالم سيخسر لو لم يوجد حسن البنا؟ وإذا كانت الجماعة دعوية فلماذا لا تكتفي بسوق الدعوة في بلاد يتناسل فيها من يسمون “الدعاة”؟

البيان الذي يبدأ بنداء "أيها الإخوان المسلمون" ينكر الحقائق على الأرض، فيتحدث عن قبول استقالة المكتب العام وانتخاب مجلس شورى عام جديد، لانتهاء دورة مجلس الشورى العام داخل مصر والمنتخب في ديسمبر 2016. ويعوّل على المجلس الجديد في “إدارة الجماعة نحو الثورة وتحرير الأمة وفقا لرؤية الجماعة ومنهجها... طريقنا جد ليس باليسير، فهو درب الأنبياء والمصلحين والثائرين... نسير في طريقنا ثوارا أحرارا ندعو إلى الله ونرفع لواء دينه ونطالب بحقوق العباد، ونسعى لإقامة دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، غير متصدرين لحكم ولا طالبين لسلطة وإنما ساعين لإقامة دولة تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل عصري يتفهم متطلبات الحداثة وما بعدها”.

تعمدت أن يطول الاقتباس؛ لإثبات ارتباكات في بنية خطاب التقية المتناقض، إذ ينتهي بالحداثة ويتعامى عن حقيقة عداء الإخوان للحداثة، وإن تنعموا بفائض التحديث، وهم يتوجهون بهذا الاستغباء إلى جمهور مضمون الولاء، يسمع ويطيع. ويخلص البيان لتاريخ جماعة تعتمد مصطلحيْ “الأمة” و”العباد” بمعنى المسلمين، وتتجنب ذكر “الشعب” الذي يعني بالضرورة وجود “آخرين”، غير إخوان وغير مسلمين. أما حكاية الثورة فهي نكتة، إن لم تكن كذبة، فلم يكن الإخوان ثوارا، ويخلو رصيدهم من سجل وطني مشرّف، وينتظرون لحظة اندفاع أرواح الشعب جسرا إلى الحكم. وفي عام 2005 أعلن المرشد مهدي عاكف تأييده لحسني مبارك قائلا “لسنا أهل ثورة.. والثورة ليست من مفرداتنا”.

 

(عن "العرب" اللندنية)