المقهى شقٌ في جدار جامعٍ، والدكة تسع الراوي بالكاد، هو الباحث عن ذاته في علاقاتٍ مشروطةٍ. تنشغلُ هذه الرواية الفاتنة بجدل الذات والجماعة، الراوي، وعائلة من تجار مدينة دسوق، وامتدادات بميت رهينة، والإسكندرية والقاهرة، وافتتان بالسيدة زينب وأهلها، روايةٌ تحتفلُ بالفرح المسروق في مواجهة الجدب الروحي وأطلال خلَّفها الفقر.

دِكَّة خشبية تَسع اثنين بالكاد (رواية)

شحاته العـريان

 

بيت قديم.. له مشربية مضاءة ونساء يظهرن ويختفين..

ثلاثة أدوار علوية.. وأفريز خشبي.. وباكية من الحجر الملون..

سيظل ما أعرفه أكثر مما ذكرت وسيظل ما تعرفه ناقصًا

ولا سبيل.. سوى أن آخذك من يدك إلى ذلك المقهى الصغير الذي يستخدم جدار الجامع الحجري المفتت كرصيف له..

نشرب شايًا وندخن ونتكلم براحةٍ وود

 

منتصف الطريق

سأبدأ من هنا..

بعد منتصف الليل..

وقاهرة الصيف تغوص في ضوء متقطع..

عليَّ أن اخترق "الحنفي" لأنفذ من شقٍ بأحد المباني في إحدى نهاياته إلى رحابة ميدان السيدة زينب وضوئه الكثير

موسيقى قديمة تنبعث من مكان ما..

لم يكن ضريح السيدة مما يُعتد به كأثر يحمل رسائل التاريخ.. فالمبنى الحالي ينتمي- على الأكثر- لأوائل القرن العشرين.. وفي مكان كالقاهرة.. لا تُعد هذه الفترة كافية لاحترام الأبنية

ربما جذبني أكثر مبنى قسم الشرطة المتداعي..

حيث يبدأ من جواره شارع "زين العابدين".. صاعدًا تتناثر على جانبيه محلات العصير والأفران وباعة الفاكهة والمقاهي..

أحد هذه المقاهي.. مجرد شق بجدار.. ودكة خشبية تسع اثنين بالكاد.. غائرة قليلاً عن أرض الشارع داخل الرصيف.. عادة.. أكون مهددًا بتجاوز مكانه.. ثم أعود للبحث عنه..

الرجل العجوز- صاحبه - يصنع القهوة بمزاج

لا نتحادث تقريبًا.. أطلب القهوة بهمهمة.. لا يهتم بسماعها.. وأجلس رافعًا رجلي على حافة الرصيف.. مسترخيًا قدر الإمكان.

هي نقطة منتصف المسافة ولا معنى للتعجل

يصب العجوز القهوة وينصرف إلى الجانب الآخر المعتم في هذا الوقت وقد أُغلقت الدكاكين.. يؤدي الشارع المتقاطع إلى واحدٍ من مطالع قلعة الكبش بما تثيره من أخيلة (ابن طولون) وكنزه ومئذنته السحرية

ساعة أو أكثر.. بطريقة ما عرفت أنني لا أزعج العجوز.. يجلس سرحانًا.. قد أكون حجته للبقاء إلى هذا الوقت.. في بداية تعرفي على المكان كنت أقلق بعد نهاية القهوة وأنصرف رغم رغبتي في البقاء.. حتى وجدته مرة يستبقيني

"ما أنت قاعد يا أستاذ.. مآنسنا.. أنا عازمك على شاي.."

عمل شاي لي وله..واتجه إلى الناحية الأخرى..

مكانه..تحت الشجرة على ناصية الخرابة المواجهة التي تصنع فجوة للبصر يمكنه أن يمتد خلالها حتى مطلع الكبش المعتم.. يمتد البصر إلى نهايةٍ طبيعيةٍ له.. إلى ظلامٍ..

تكون قد فردت ساقيك بارتياح.. وبدأت في استقبال أولى بشائر طراوة الجو في هذا اليوم الساخن

الغرفة..

الكائنة على سطوحٍ عالٍ.. وصغير.. ومبلط.. ومنعزل.. ولا شيء يعوق الرؤية حتى الأفق من كافة الزوايا

القمر..

الذي ربما سطع هذه الليلة على قرقرة الجوزة وتوهجات "جوستين"

كل هذا سيأتي..

فقط.. في هذه اللحظة.. عليك تأمل تكعيبة العنب أمامك.. وهي تتسلق حائط الخرابة الذي ربما شهد تجول المماليك على خيولهم في قاهرة الجبرتي.

الأيام تجري مسرعة هكذا.. لا تدع لك الفراغ الكافي كي لا تصنع شيئًا آخر سوى الاستمتاع بالنسائم الطرية الآن.. داخل هذه اللحظة غير المسبوقة والتي لن تتكرر

ألا نتعلم -أبداً- من معارفنا!!

سأفتح صدري.. وأستقبل النسمات والظلام..

والشارع النائم يتوغل صاعدًا حتى أضواء ميدان (زينهم) بمقهييه.. -أحدهما سيكون قد أغلق الآن-.. (يحتفظ ذهني دائمًا بهذه التحديدات غير المهمة)..

المدبح.. بميدانه ذي الروائح وبرك الماء على الأرض والإضاءات المشعثة.. وهو على العموم مكان لا أرى فيه جيدًا حيث تشوش الرائحة بصري فأتجاوزه مسرعًا..

بعيدًا.. عند سور (مجرى العيون).. وقد انخفض صخب الروائح وتحددت الأشكال على نحو كاف لتصديقها.. سيمكنك التوقف لشراء سجائرك الاحتياطية وربما بعض الفحم والمعسل..

ويكون (إمام) الفطاطري الآن في ذروة نشاطه.. خلف طاولة العجين.. إلى جوار فرنه الذي يطلق الصهد الكثيف.. تقف ساكنًا خلف تصايح الأولاد وتجهم الرجال.. بحجم الزحام سيتحدد الوقت الذي يراك فيه.. عادةٌ تكونت بينكما عبر سنوات:

ابتسامة الترحيب.. والنظرة المستفهمة.. والنظرة التي تحدد هل هناك تغيير في الطلب.. الذي سيجهزه متجاوزًا عددًا من الواقفين قبلك.

 

الكذب

مرة..

كنتُ عائداً.. وصديق معي.. عندما رآه - إمام- تعانقا بودِ سنوات الجيش معاً..

السنوات الثلاثة.. التي كررها وأكد عليها.. في غمرة فرحه بصاحبه.. الأمر الذي أحرج صديقي واضطره لإضافة كذبة جديدة إلى أكاذيبه المتتابعة بشأن ميلاده وتعليمه ومؤهله.. حيث أنبأني أنه- في الجيش- كان ضابط احتياط.. فانفجرت في ضحكٍ.. كلفني قميصًا.. أعرته له لأثبت أنني أصدقه

أزعجتني لبعض الوقت هذه الأكاذيب.. ولم أكن أفهمها.. حتى ورطتني الحياة في عدة كذباتٍ.. افتقدت أثنائها لخبرة الكذب.. تلك الخبرة عصية المنال لمن هم على شاكلتي.. ممن لم تنبههم الحياة مبكرًا لبعض حقائقها المثيرة..

طفلٌ.. أول.. ذكر.. لأسرة تقليدية مستقرة.. واضحة الأدوار.. يحمل اسم الجد الذي تقدسه العائلة.. تلقى قدراً من التدليل والتمييز في المعاملة أدى أن تكون طريقته في الحصول على ما يريد أن يطلب.. ويصر.. وفي أسوأ الأحيان يبكي وقد يدبدب بأقدامه

وكانت طريقة ناجحة غالبًا.. وإن استبدل- مع التقدم في العمر- البكاء والدبدبة.. بالاستعداد الحقيقي لأداء أي مقابل.. عن قناعة، ويمكنك أن تقول (تسليم) بتلك الحكمة الصحيحة للأسف: (لا شيء دون مقابل).. وإن أحببنا مراتٍ أن نتوهم غير ذلك.

هؤلاء الأشخاص- الأكثر تطرفًا منهم تحديدًا- عندما تنتهي مراحلهم الدراسية وقد نجحوا في إطالتها لأقصى مدىًّ ممكن.. فقط ليحتفظوا بـ (عائل)..

شخص ما.. يمكنهم أن يطلبوا منه.. ليست النقود فقط -وربما ليست النقود إطلاقاُ- إن حاجاتهم لا تنتهي.. قد تتسع لتشمل التعاطف والتأييد والاقتناع والمحبة.. وقد تنحصر في الحصول على المقعد المميز في المكان..

أولئك.. لن يمكنهم قط إجادة الكذب

ولا الحياة

ستفوتهم متعٌ لا نظير لها..

أن تكذب صافيًا وأنت تستمتع بوجوه الآخرين..

المصدقة وربما المنفعلة..

متعة.. لتحصل عليها لابد لك من إتقان مظهر الصادقين..

وعلى الرغـم من صدقي الدائـم لم أتمكـن أبـداً مـن تحديده- مظهر الصادقين هذا- حتى يخيل إليَّ أنني أبدو كذابًا وأنا أقول الحقيقة التي لا أعرف سواها.. ألتقط نظرةً تبدو لي عدم تصديق.. غالباً تكون غامضة وخاطفة.. ألمحها وهي تتوارى.. فأبدأ بتأكيد ما أقول.. وأتورط في بداهة أن هذا التأكيد الزائد.. وفي غير محله أيضاً.. يزيد الطين بلة.. ويؤكد أن الأمور ليست كذلك..

أو .. ليست كذلك بالضبط

تكون في هذه الأثناء قد بدأت في إفراز العرق والضيق والخجل والارتباك.. وبدوت كذابًا جدًا .. سيحرمك هذا من إقامة علاقات سهلة بالبنات.. حيث تستغرق عادة وقتًا أطول مما ينبغي لتوضيح نفسك.. وعندما تكون لم تحبها جدًا بعد.. لا تستطيع أن تقول إنك تحبها جداً.. وعندما تكون قد أحببتها بالفعل.. يكون الوقت قد فات لتقول ذلك.. وحتى لو لم يفت الوقت.. ستبدو كذابًا وأنت تقول وتؤكد.. المرة تلو المرة..

مما حدا بي في النهاية إلى الوقوع في هوى الكذابات..

هن فقط اللائي يميزن صدق ما أقول.. ويعرفن وسائل مبتكرة لمواجهة العالم هذا الذي نعيش فيه

وتلك -كما لا بد تعلم- علاقاتٌ ليست سهلة

يا الله ..

كيف لا يقع الواحد في هوى الكذابات !!

 

الدخان

ـتأكل..

بينما السخان الكهربائي مشتعــل أسفــل الشــاي والفحم.. و(جوستين) تخايلك باللون الأصفر الدافئ لغلاف طبعتها الثانية بالعربية.

تستعجل فراغك لها بابتلاع البيتزا بالماء.. ورص المعسل.. وتقطيع الحشيش.. وفرك الفحم.. وصب الشاي.. وتغيير مـــاء الجوزة النحاس.. وضبط الغابة وتخشينها.. والاستفتاح بخمسة أحجار قوية متتابعة.. يفصل بين الحجر والحجر..رشفة شاي

ولن يفوتـك- بحـال- أن تأخذ (طسة) هـواء على سور السطح.. تاركًا نفسك لتهاويل الدخان والضوء.. تلك التي تمتد من أمامك مباشرة.. وحتى سفح المقطم البعيد.. حيث تصنع المدابغ -النائمة الآن- خليطاً من أوهام دفع مرة صديقاً أن يعلن دون تحفظ محبته للمكان ورغبته في الإقامة "هنا".. مجتازًا معي حائط احتقاره للغرفة.. وكان رآها ضيقة جدًا.. وغير مريحة..

وكنتُ بدأت أكرهه..

ذلك الأعمى.. كيف لا يرى!!

ولا تتوقع دائمًا أن ما تراه يمثل الحقيقة

اليوم مثلاً.. اكتشفت (قبو قرمز).. وكنت قد ظننته -خطأ-القبو الملاصق لبيت القاضي الذي يفصله عن قسم الجمالية.. غير أن السير غير المعنون قادني إلى الحارة- حارة قرمز- ومن ثم القبو.. هذا الذي كان (كمال عبد الجواد)الطفل يقطعه جريًا مخافة العفاريت.. هو فعلاً مناسب لتكاثر العفاريت.. طويل بالنسبة لقبو.. وملتو قليلاً.. ومعتم.. بما يهيئ لطفلٍ فسحة مناسبة من الخيال..

قبو بيت القاضي قصير.. ومرتفع السقف.. والمارة كثيرون!!

شغلتني لوقتٍ هذه المسألة.. وكيف (تفوت) نجيب محفوظ وهو يبني بدقة عمله الكلاسيكي الضخم..

سأريك كيف بررت الأمر:

الأحوال في بداية القرن كانت مختلفة عما هي الآن.. الناس قليلون بالفعل.. وكمال الطفل في المدرسة الأولية بالبنطلون القصير..

كانوا يرتدون كذلك وقتها!..

عندما صرت أنا طفلاً.. كان انتشار (التعليم) في مجتمعنا..

قد جعل من سيقان الأطفال العارية عورة.. فصرنا نخبُ في بنطلوناتٍ تحمل أطرافها البلل والاتساخ!! هل تصدق هذا؟.. أن قرنًا بأكمله أضاف لنا - فقط- هذه المعرفة الضارة!!..

كثير من الأحداث غمرت ثلاثة أجزاء كبيرة- بمقاييس مكتبة مصر- من طفولة محفوظ وشبابه.. وظللت أفكر في هذه النقطة كلما مررت ببيت القاضي.. إنه حصاد هائل.. أرشدني فيما بعد لملاحظة غريبة: لماذا فشل كمال عبد الجواد في علاقته العاطفية!.. وكيف برر محفوظ هذا الفشل بأنفه الكبير ورأسه الضخم! وكيف تكون تلك الصفات الواضحة سببًا لغموض وانطواء وخجل صاحبها.. مثقف الثلاثينات!!

 

النساء

غير أنني لم أتحدث بعد عن النساء

نساء أبواب البيوت.. والأسطح.. ودورات المياه المشتركة

نساء صواني الشاي اللامعة.. والأقراط المصلصلة

نساء الملابس البيتية بفتحات الصدور الواسعة.. عاريات الأذرع.. ذوات الأرداف المرتجة.. تحملها سيقانٌ معتنى بها على نحوٍ خاص.. والأثداء متاحة للرضيع وعيون العابرين..

نساء التأنق و(الحنتفة) وكيد الجارات..

النساء.. البذيئات .. السليطات اللسان..

الطيبات.. ذوات القلوب الرهيفة.. اللاتي يفزعهن – لحد الالتصاق بظهرك- رؤية فأرٍ صغير.. كان قد أطل برأسه من خشب السقف عندما استدرت تقلّب كومة المجلات على المكتب.

مريم.. الصعيدية.. البيضاء.. زوجة حسان الذي تبادلت معه مرات شرب أكواب جوزة الطيب المطحونة والمغلية بالماء والسكر.. والتي "لما تشتغل.. دماغها أعلى من الحشيش"

وكانت صعدت إليك تستعير مجلة تتسلى بها.. بعد أن خرب "المهبول" أخو زوجها التليفزيون.. قبل أن "يروح ينخمد فـ الزريبة اللي متلقح فيها" ويترك رائحته في الحجرة بالدور الأرضي.. والتي لا تطاق الآن.. وهواء السطح هذا الذي "يرد الروح"..

:"ينام ما يقوم.. قال إيه المعدول قبل ما يطلع فـ حكاية طلوع ليبيا دي.. قال له ياخد باله مني.. العبيط.. قال.. وما يسبنيش غير وقت النوم.. بس .. والنبي مجلة يكون فيها صور حلوة"

وعندما استدرت.. كان الفأر قد أطل برأسه.. مما وفر عليكما وقتًا غاليًا وكلامًا كثيرًا ليست له أهمية.. طالما لن يمكنك مطلقًا أن تلمس يدها.. وستتخشب..

كعادتك في تلك المواقف

 

القصص

كنت قد أهدرت-خلال عامين-عددًا من الفرص الواضحة.. ووطنت نفسك على الاستمناء كبديل.. مستخدمًا مخيلتك بطاقتها القصوى لجعل هذه المسألة بديعة للغاية..

وتعودت أن تنسج قصصًا.. تظل تبنيها دراميًا يومًا عقب يوم.. موظفًا حواسك- كلها تقريبًا- لتلتقط مادتك.. إذ تعمل- في آن-عينيك وأذنيك وأنفك لالتقاط الأنوثة.. لن تدع فتاة تمر.. بغير أن تتيقظ تمامًا.. خاصة النوع الذي تتطلبه عقدتك الدرامية وقتها.. وبحسب قدرة الحبكة الأولية على قبولِ تفصيلاتٍ جديدة

أسبوعًا.. أسبوعين.. وحتى شهرًا بكامله أحيانًا.. وتكون القصة قد تمت.. وأنت لن تقبل استمناءات معادة.. ستملها سريعًا- إذن- وتزهد النساء ليومٍ أو يومين.. حتى تتلمس قصة أخرى .. وعموماً.. أحيا دائماً وقصة ما تتجول معي: تستطعمُ أغانٍ بعينها.. وتناسبها خلواتٍ.. وتحبُ أمكنة ..

قصص التوهج والزهو للخروج صباحًا..

وقصص الحب للظهيرة..

والقصة الاستمنائية آخر الليل..

حتى أظن أن ذلك الولع في مراهقتي كان ضمن أهم دوافعي للقراءة..

مجلات الموعد والشبكة.. وحكايات العاهرات.. تلك.. التي ألفها أو ترجمها- بتصرف فادح- (خليل حنا تادرس).. تتناثر بها الصور سيئة الطباعة.. لنساء.. يندر أن تبدو لهن وجوه

الوجوه تعنيني كثيرًا

بحثت- إذن- عن مطبوعات أفضل.. مما قادني لقراءة الروايات.. حتى لقد استعرت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية مجلد (الجحيم).. أحد أجزاء كوميديا دانتي الإلهية على اعتبارين:

أنها رواية..

وأنها مليئة بصور المعذبين عراة في جهنم (والتي هي رسومً كنسية لفناني عصر النهضة كما أتضح لاحقًا).

مما أدهش أمين المكتبة.. فصار يناديني (دانتي) حتى قرب نهاية تلك المرحلة التعليمية.. عندما ضبطت "متلبسًا"بسرقة مجلد ضخم عن تاريخ السودان و "الخروج به من باب المكتبة دون تسجيله".. كما ذكر مدرس اللغة العربية والدين.. الذي حل محل أمين المكتبة لتغيبه عدة أيام.. وكنت قد صرت رئيسًا لجماعة (أصدقاء المكتبة) للسنة الثالثة.. عندما هبد كفه على كتفي صارخًا

:"بقى مستعميني يا بن الكلب.."

وهي من اللحظات التي نبهتني مبكرًا أن (الصدق) مسألة ملتبسة

 

الصدق

كان يمكنني أن أنجو وأخبر وكيل المدرسة أن الأستاذ أمين المكتبة سمح لي أن آخذ ما أشاء من كتب وأن أعيدها بعد قراءتها.. وأن هذه المسألة قائمة على الثقة وأنها سر بيننا.. وأنها- أيضًا- توقعه في مسئولية.

تلقيتُ- إذن- عشر خيرزانات لاسعة من حضرة الوكيل في مكتب حضرة الناظر قبل أن أخرج النفس الذي كتمته على آهة اللسعة الأولى ذلك أنني لم أقدم تبريرًا لأخذ الكتاب دون تسجيله سوى:"عشان اقرآه.."

بما كان كافيًا لانفجار الوكيل صائحًا:

"تقرآه إزاي يا بن الكلب..أنا بقالي تلاتين سنه مدرس مواد اجتماعية ما يجيش ف بالي أقرآه.. دا (مرجع) يا حيوان.. انته واخده تبيعه لبتاع لب والاّ بتاع ترمس.. يا حرامي يا وسخ يا ابن الكلب.."

وبدا كارهًا جدًا لي.. وللقراءة.. ولتاريخ السودان

ولم يتح لي تصحيح ذلك..

كان العام الدراسي شارف النهاية.. وتوقف الحضور.. ولم يعد أمين المكتبة من تغيبه خلال الأيام القليلة التي تلت.. وفي نهاية الصيف وأنا استلم استمارة النجاح لتقديمها لتنسيق الجامعة سألت عنه وكان قد نُقل

والغريب.. أنني لم أتذكر اسمه.. كنت أناديه دائمًا "أستاذ".. وهي خاصة لازمتني فيما بعد:

لا أتذكر الأسماء.. ولا أنسى الوجوه..

كما أنني لم أقرأ ثانية عن تاريخ السودان.. فقد بذلت في سبيله عشر آهاتٍ مكتومةٍ.. أراحت ضميري- حتى الآن- من تلك الوجهة

 

السلطان حسن

عندما تكون مبتهجاً تبدو الحياة مبهجة حقاً.

لعشرِ سنواتٍ تالية ستكون غرفة السطح مكانك.. تعددت الشقق التي سكنتها- وبعضها كان فاتناً- وظللت لا تعرف سواها- الغرفة - لترتاح وتشعر أنك "أخيراً في بيتك"

يحدث هذا دائماً.. ربما بعد عدة سنوات.. في شقة (الجيزة).. ربما بعد عدة أشهر.. في شقة (السلطان حسن)..

قصةٌ أخرى تلك.. عبرتها وأنت في واحدةٍ من غرامياتك المستحيلة

تلك اللحظة الهاربة.. وأنا أواجه بطفولة قدرًا من أقداري..

الفتاة الجميلة.. التي تقف آخر الحضور في ندوة الشعر.. الفتاة التي خطفتني عيناها وإلقاء شعرها للوراء تاركة الفرصة للقُصة أن تتهدل وتسمح لعينييها الرائعتين بالروغان..

الفتاة التي بت ليلة أتألم من رشاقة ساقيها وحلاوة اسمها وأبصرني جوارها مبهوتًا لا يطاوعني الكلام.. هي ذاتها المرأة الجميلة التي صادقتني ببساطة- فيما بعد- دون أن تجمعنا لغة واحدة

 

وكنا: وقد أخفيت أنا اللحظة الغائرة بمهارة

ولم تذكرها- هي- أبدًا

كيف لها أن تتذكر الوجه المرتبك جوارها.. مرة.. من سنوات.. في الزحام.. يخبرها بسخرية مختبئة:أنهم (السبعينيين).. وتخبره بفخر:أنها تعرف وأنها منهم.. لينسحب غارقًا في خجل أفسد حياته دائمًا .. المرأة.. التي لم تجمعنا لغة واحدة.. وكان أبلغ كلامها:"إنني آخر بالفعل يا أخي.. ألا ترى.."

نترك بعضًا منا هنا وهناك

السلطان حسن.. سقفٌ آخر للقاهرة.. قلعة الجبل معلقة فوقك.. وجامع (محمد على) تراه كاملاً وأنت تأكل في الصالة.. و(السلطان حسن) و(الرفاعي)تطل عليهما شرفتك الواسعة المزروعة-أيضًا- بالنباتات ومفتوحة للسماء

كنتَ مع الملوك والسلاطين- إذن- في علاقة يومية

شقة.. عثرتَ فيها على "الحب في زمن الكوليرا"و"حشيش"متجاورين.. في لحظة واحدة.. وعلى غير توقع.. وكنت.. حتى ذلك الحين.. تعتقد أنك شخصٌ غير محظوظ!! وصادفك أيضًا فيها (زلزال).. وأنت في الدور الثامن تستخدم الأسانسير الذي قد تموت داخله..

ولشهرين تاليين.. سيكون ممكنًا جدًا أن تموت في أي لحظة.. والجميع كذلك..

فبدا لك العالم بهيجًا..

والناس يتعاملون بيسر..

ويتأملون..

وتغزوهم الأساطير..

ويبيتون في الحدائق..

ويتحدثون باستفاضةٍ وود..

ويستهلكون المُتع

(كي لا يموت الواحد ونفسه في شيء)

مما أنقذك تمامًا من سؤال الموت الفلسفي- هذه- الذي كاد يأكل روحك.. أو يدعها تتآكل في عدمٍ خامل

حين التقيته.. ذلك الباسم.. (ماركيز).. وهذه الكوليرا الفاتنة.. إلى جوار قلعة أدارت شئون جزء لا يستهان به من العالم قرابة الألف عام.. وسلطان مات ميتة غامضة.. وأنتَ.. الغارق في حبٍ مستحيل.. ومعرضٌ أيضًا للموت في كل وقت.. ضمن ملايين آخرين.. في واحدةٍ من نزوات الطبيعة المحتملةِ

حيث سيكون من الحمق المحض تأجيل أي شيء

أيها الأحمق..

الذي استهلكتَ حياتكَ في التأجيلات..

متى تعيش؟!

 

الكيمان

اخترت غرفة السطح -إذن- موطناً آخر لك

وكنتَ تعددت مواطنك:

(دسوق) حيث ولدتَ وأسرتك

و(إسكندرية) حيث خالتك وعدة بيوت أخرى..

و(ميت رهينة)حيث أهلك.. أهل أبيك.. ومكانك المميز بينهم

أبوك رأس العائلة.. وأنت تليه بعد عمك.. ينحني الكبار ذوو الشوارب البديعة.. واللحى البيضاء أحيانًا.. يقبلون يدك الصغيرة.. ويحتضنونك بملابسهم الصوفية ورائحة عرقهم التي تميزها.. وينادونك -جادين- بـ يا(عمى) وحتى يا(جدي) ..

يكونون قد أقبلوا بقفف (البتاو)الذي تحبه و(العجوة) و(الكِشك).. وزوجاتهم العجفاوات بملابسهن الغريبة السوداء دائمًا.. وعطورهن الحادة..

يبيتون ليلة أو اثنتين.. وتكون أمك قد رتبت لهم "الأوده اللي تحت".. يعجبك تهيب الرجال أباك وحضوره براقًا بينهم.. بوجهه الأبيض.. وكلامه الذي يقوله بهدوء.. ويُصغون باهتمام.. وقد تغيرت نبرة أصواتهم في حضوره

تسافر معه كلما ذهب.. تُصر أولاً فيأخذك.. ثم يحب ذلك.. وتذهب معه دائمًا

يحدثك بكلام قليل.. وأنتما تعبران كيمان الآثار التي تحيط البلد.. في شمس أغسطس الحارقة.. (وكان أتى يبيع البلح أيضًا.. وهذا أوانه) تصعدان التلّة التي عليها البيوت.. بتكوينها الذي استلب المخرج وهو يعمل في فيلم (البوسطجي) فراح يصورها من كل جانب.. وتُحب هيئتها ككل.. وأنت صاعد إليها.. يغوص حذاؤك في التراب الناعم.. اللاسع في هذه الحرارة التي تدهشك وتقتحم روحك..

يقول- بصوت تحبه منه - إن هذه البلد "أصل مصر"وأنها مدينة الجدار الأبيض التي بناها (مينا) موحد القطرين.. والتي هي (منف) ويكررها:"ممفيس.."

وتضحك عمتك لما تسألها عن الفراعنة وتهمس: "ميت رهينة كهينة جدها فرعون.. دا المثل اللي بيقولوه علينا"

وتسعد وتشعر بالألفة.. وقد ربطتك "علينا " هذه بكل شيء..

وتكون وقد عبرت طريقًا طويلاً من غرب الدلتا.. ومررت بطنطا وبنها.. وقطعتَ القاهرة كلها.. وأشار لك أبوك على (جنينة الحيوانات) والعمارة الفخمة أمامها.. والتي تسكنها صاحبة الجزيرة في النيل بدسوق.. المزروعة موز.. ويستأجرها أبوك.. وكنت تظنها ملككم..

ويشير أيضاً عبر الكيمان إلى نخلكم وأرضكم.. والنخيل العالي في أرض الآثار الذي زرعه جدك.. وقبره أيضًا..

وتكونا قد وصلتما البيت ذا الأعمدة والأبواب العديدة.. والمخرب في أجزاء كثيرة معتمة.. تعتقد أنك ستجد فيها آثارًا وسراديب.. وعمتك أيضًا.. التي تحذرك من السقوط في البئر

هي الوحيدة - ضمن عشر عمات- التي تقيم هنا..

ليست الكبيرة.. ولكنها كبرى بنات زوجة جدك الثانية.. والوحيدة من بناته التي تزوجت في (عزّ) أبيها و(مال بختها) فقد مات زوجها مبكرًا وقعدت في البيت تربي أولادها الخمسة

ليس أغنى البيوت.. ولا أكثرها راحة.. ولكنه البيت الذي يُفضله أبي.. نتغدى أو نتعشى هنا أو هناك.. حسب ترتيب قبوله للعزومات.. والاعتذار عن بعضها مؤكدًا تأجيله فقط لمرات قادمة

لابد أن يزور أخواته جميعًا.. حتى التي في مصر القديمة.. والتي في الحوامدية.. والتي في العزيزية.. واللاتي في البلد طبعًا..

يزورهن.. ويدخل بيوتهن.. ويفرحن به.. الأخ الرجل.. الذي جاء من الزوجة الثالثة للجد.. بعد أن كانت خلفته كلها بنات

وكن تعاقبن ثمانية قبله..

الخمسة الكبار من الزوجة الأولى ابنة عمه التي ماتت قبله.. ثم اثنتين من (الثانية) وواحدة من (الثالثة).. وجئن بعده أيضًا اثنتين من (الثانية).. ثم عمى.. الشقيق الوحيد لأبي.. والذي ولد بعد وفاة أبيه بأيام وسموه باسم أبيه.. ولكن أمه (جدتي) وكانت ذهبت بأولادها عند أخوالهم في (فوّة).. ولم يكن الاسم مستساغًا بينهم فأخذوا ينادونه (أحمد) حتى صار اسمه..

 

حارت أمي أنا -أيضا- في مسألة اسمي هذه.. وكانت سمتني عدة أسماء قاومها أبي وأقاربي.. ثم قبلت اسمي في النهاية على مضض.. وأورثتني التردد بشأنه.. وهي البندرية التي لها صور -وهي بنت- بملابس بدون أكمام وقصيرة بعض الشيء..

البنت.. وحيدة أبيها.. المدللة.. التي تصحبه إلى كل مكان يروحه.. وشاهدت معه أيضًا العرض الأول بالإسكندرية لفيلم (غزل البنات) بحضور أبطال الفيلم.. -الأحياء طبعًا- حيث كان "الريحاني مات وغيروا النهاية".. والتي تزوجت بصالون مذهب وغرفة نوم كاملة من خشب الزان بقشرة الأرو.. وذهب.. ونحاس

نزور عماتي جميعًا- إذن- نأكل أو نشرب شيئاً في كل بيت..ولي الحق دائما أن أفعل أي شيء في أي مكان بشرط ألا يراني أبي وألا أعرض نفسي لخطر.. هناك دائمًا من يرعاني ويلبي ما أريد.. حتى طلوع النخيل والتجول في كيمان الآثار.. في شمس الظهيرة الحارقة.. ودخول مناطق الحفائر

بدايات هذا الولع -الذي لم يفارقني أبدًا- بالأماكن المبنية بالأحجار.. والتي يبين عليها نشع المياه وتحكى بالضرورة قصة ما غامضة وغريبة.. وتفوح بحزمة من الروائح تستسيغها معًا.. هكذا..

يا الله..

الأمكنة تلك.. بشموسها اللامعة.. وحرارة الهواء المكتوم.. والتراب اللاسع يملأ الأحذية فنخلعها -الأولاد الذين يصاحبونني وأنا- ونمش حفاة نتسلق نسخة أخرى من تمثال رمسيس أضخم من التي بالميدان، تنام على ظهرها داخل مبنى [البعثة الأثرية] الذي بُني فوقها ليطلع السائحون إلى شرفته الداخلية ويروا التمثال من أعلى.. وكان قد اجتذب أيضًا مخرج (البوسطجي) فصوره جيدًا في العراء قبل هذا البناء

رمسيس على ظهره دون قدمين.. وكنت رأيتهما من قبل بالخارج.. غير بعيد من هنا.. وحدهما.. في كتلة الجرانيت الضخمة..

التي لا بد أنه كان واقفا فوقها لوقتٍ طويل..

أو هكذا قال الأولاد..

سيظل هذا الموطن يسكنك دائمًا..

(ميت رهينة)هذه..التي أحببت إقامتك -فيما بعد- بحلوان البعيدة.. فقط لتوازيها على ضفة النيل الأخرى.. وتتنسم بعض مناخاتها

وكلما ورد ذكرها -منف- في كتب التاريخ القديم أو إشارات القطع الأثرية في المتاحف..

تزهو..

الزهو ذاته.. الذي كان يحدثك به أبوك وأنتما تعبران الكيمان.

 

تستأنف عاداتك

تغيب وتعود

تزيل الأتربة.. وترتب السرير.. وتصلح السخان..

تُعدُّ شايًا..وقد تعثر في ورقة منسية -عمدًا- على ما يكفي للف سيجارة أو اثنين.. لتخرج باسماً.. تمرر عينيك بحنو وشوق على أسطح البيوت ونسائها ونوافذها.. تستطلع ما بقى وما ذهب.. حتى شرفة المقطم البعيدة.. التي تكون واضحة تمامًا عقب المطر الخفيف.. لو طلعت الشمس لامعة.. كما الآن..

تتلمس بعينيك المكان.. تتذوقه ثانيةً..

تضع شريطاً منسياً في الكاسيت المترب..

وتقضي عصرًا مشمسا ومساءً بديعًا

منتشٍ ..

بحضورٍ لاذع للبهجة التي افتقدتها لوقت.. وتعرف أنها لا تدوم

تكون خارجًا لتوك من آخر الأيام في مكان آخر..

دائمًا أواخر الأيام لا تحبها.. تنجزها بتسرع ولهوجة كي لا تتألم.. تتعزى فقط بكونك عائدا إلى المكان الأكثر لصوقاً بك..

تستأنف عاداتك..

تُجالس مغاوري.. السروجي الساكن بأسرته بحجرة الدور الأرضي.. التي تسميها الحاجة (أم بحبح) -صاحبة البيت- شقة لأن لها حماما..

وكان اتخذ من زاوية صنعتها انحرافة الحارة أمام باب البيت موقعًا لعمله (ولعلها من الصدف السعيدة النادرة في حياته)

مغاوري.. الذي يفتح لك لما تتأخر -وعادة تتأخر- يكون متضايقًا لإيقاظه في هذا الوقت أحيانًا.. وصاحيا بالفعل في أحيان أخرى.. ودائمًا يفتح بعد خبطتين على نافذة غرفته.. وتسمع (عزيزة) توقظه فتلفُّ إلى الباب الخشبي المغلق بمزلاج حديدي ضخم لم تعرف أبدًا لماذا؟

جلسة واحدة.. وأنت نازل.. صباحًا.. وتعرف ما جرى..

تُحضر إحدى البنات الشاي.. و"يسلك" لك الجوزة التي لا أحد يشربها "مكتومة" هكذا.. سواه.. ويغمزك ضاحكًا عن "الجوزة النحاس اللي بتضرب نار طول الليل ع السطح يا عم.. دا صوتها منيمنيش إمبارح"..

وعندما وضعت له مرة حشيش على المعسّل كح وداخ وشرق.. وجاءت (عزيزة) جارية من الداخل بكوب ماء وضحكتها تلعلع..

:"أنت عملت إيه فـ الراجل يا اخويا"

يشرب.. ويروق صوته.. ورشفة شاي أيضًا.. ليتحدث.. بطريقته.. كأنه لا يعني ما يقول..

يقول كل شيء.. ولا تعرف رأيه أبدًا

حتى عندما رفعت الحاجة مرة إيجار حجرته.. وطلبت "عشرين جنيه ورقة واحدة فـ الأوده اللي تحت السلم دي" وأشار نحوها بحياد..

اختلط عليّ الأمر- وكان يشكو لي- وظننته يراها على حق.

سيحكي- إذن- عن الحاجة أم بحبح

دائمًا يبدأ منها..

خناقاتها مع السكان.. حيث تعرف يقينًا وتتصرف على أساس أن "الساكن عدو الواطن". وهي في معركة ممتدة مع المخبر الذي له (شقة) بالدور الثاني.. لا يقيم بها.. ولا يدفع الأجرة.. ولا يتركها.. وعامل نفسه حكومة.. ربنا فوق الكل"

ولا بد أن تأتي سيرة الأولاد.. الذين صاروا كثيرين جدا.. وعزيزة لا تتوانى عن إنجاب طفل في كل (طلعة رجب)..

والبنات والشباب في الحارة والبيت..

اللائي تزوجن.. واللائي خطبن.. واللائي مشين على حل شعرهن..

والذين راحوا الجيش.. أو ضبطوا في (الغرز).. أو وهم يبيعون (البرشام)..

منتهيًا إلى العيشة "اللي بقت مر.. حتى باكو المعسل اللي ميرصش كرسيين بخمسين قرش"

يقول.. وهو يبتسم بوداعة..

حتى تظنه مبسوطًا.. وتحسده..

وأنت تتمنى اكتساب تلك الروح.. كي لا تنفعل أمام شيء

 

صعود آمن

ويحدثك أيضًا عن (جمال)

ويكون- مغاوري- قد شد الآن حبلاً بين حائطي الزاوية.. وجعل من قماش خيمة قديم مظلة.. ورص عددًا من الأحجار الكبيرة.. مقاعد لزبائنه.. من سائقي عربات الكارو والحناطير ومن يحتاجون السروج عمومًا..

تجلس الآن على أحدها.. ساندًا ظهرك للحائط.. متفاديًا الشمس.. تنصت مندهشًا..

:"خدوه الجمعة اللي فاتت.. وقف فـ الشارع في (الشيخ مبارك) عريان ملط.. يحدّف العيال ف الملجأ بالطوب..البُكس خده.. والنباطشي مشاه بالليل.. جا على هنا.. تاني يوم جم الجماعة بتوع الخانكة خدوه"

جمال.. مبيض المحارة الفاشل.. ابن الحاجة

:"اللي لو ينشك ف قلبه ويسيبه من الصرمحة والتلطيع ع القهاوي.. انبي يا ابني صنايعي مفيش منه.. هوه اللي عامل حيطة المطبخ دي.. آهي راخره مايله زيه وبتفرط"..

وأنت تضحك فجأة.. فتتنبه أنها تقول كلامًا متناقضًا.. فتضحك هي أيضًا..

وكانت نادتك من فوق.. وعملت لك شايًا وكلمتك "تشوف شغلانه.. وظيفة يعني.. للي محيرني ف الدنيا.. عامل.. ساعي.. أهي حاجة وخلاص.. ييجي منها قرش ثابت.. عشان لما أسيبه وأموت.. أخواته ح يلضّوه ع المليم.. والنبي يا ابني اللي ملضّيني ده..كأن بطني ما جابتش غيره"

جمال..الذي لمّا تكون رائق البال.. وقد طلع السطح "يمسي" عليك مرتديًا مايوهًا..لأن؟"الدنيا صيف والناس لابسين كده ف إسكندرية.. ع البحر.. ف الطراوة.. نقوم إحنا مانلبسش كدا ف مصر في الحر.. بالذمة دي ناس عاقلة يا أستاذ؟"

يتفحص رد فعلك.. وهل يمكنه أن يبقى!..

وسيستجيب دومًا لإشاراتك التي أتقن الآن استقبالها.. فهو شخص "حسيس" كما يروى عن نفسه.. وعندها سيجهز الجوزة ويُشعل الفحم ويصنع الشاي.. ويرفض قطعيًا أن تعمل أي شيء.. وبعد الأحجار الأولى.. سيتلمس أيضًا لو كان يمكنه الكلام "براحته".. وعندها سيستأنف حكاياته التي يستحيل تصديقها من قبل أي واحد سواك..

وكنت بحثت له عن عمل فعلاً.. وها هو لم يمهلك..

ومغاوري يبتسم ويقول: "ضرب.. دماغه فكت.. آدي له في عندّ مع عيال الملجأ من ييجي شهرين.. وقاعد هناك ف شقة أمه في خرطة الشيخ مبارك في مصر العتيقة مخصوص للعيال يشتمهم ويشتموه.. وقباحة وقلة أدب.. لما الناس ضجت.. وأخرتها المشرفين ع الملجأ طلبوا له البوليس..

هوه دا بقى يا سيدي اللي ح يخلص م الحاجة القديم والجديد..

دي الجمعة اللي فاتت كانت جيهان بنتي بتمسح السلم.. أصلهم مقسمين.. يوم فيه ويوم مفيش واحدة تمسحه.. جيهان دور ومريم دور.. ومنى بنت الحاجة لما تكون هنا..

المهم.. كانت الحاجة قالت لمريم انتي يا ست هانم اللي بتوسخي السلم ده..طالعه نازله تنشري فـ غسيل).. ليه وليه بقى.. جيهان تضحك.. ومن ساعتها حاطه نِقرها من نِقر البت اللي متجيش من عيال عيالها.. وبعدين مهياش صُغيّره جيهان..دي تنخطب دلوقت..

ازاي بقى.. تدخل شوية ميه عندها من تحت عقب الباب..

وتعالي انتي.. يا حاجة.. يا كبيرة.. يا عاقلة.. حدفاها بفردة الشبشب.. وتقولها كلام.. متنقي يا عم.. أنا بقيت قاعدة أضرب كف على كف.. وأحمد ربنا اللي عزيزة مش هنا.."

وبانت جيهان من باب البيت.. وهي تضحك:"عملت اللي عليك يا آبااااا.. يا خيييبتي".. وتضرب بيدها على صدرها الناتئ الآن.. والشمس من ورائها- وقد صارت في الحارة أمام الباب-تجعل فخذيها واضحين تحت الجلباب الخفيف..

فانتبهت دفعة واحدة أنها صارت أنثى.. ما بدا جليًا في عينيك.. ودفع الدم لوجنتيها.. وساهم في تعقيد الموقف.

 

كانت تناديك إلى وقت قريب "عمو"

وكنت مستغربًا أنها غيرته إلى "أستاذ".. وغير مستسيغ ذلك

جيهان

الطفلة.. رقيقة الملامح.. قمحية اللون.. النحيفة "كأبيها" كما تؤكد عزيزة

البنت التي تحب مريم وتكون دائمًا في ذيلها

:"هيا مضيقاك ف إيه بس.. دي لما بتكون ع السطح وإحنا مع بعض ببقى متطمّنه خالص.. وبعدين دي عمرها ما تقول حاجة.. أنا عارفة"

وترسلها تشتري الشاي والسجائر..

صرت كبيرًا بعض الشيء إذن..

ولكنها -جيهان- صارت كبيرة أسرع منك..

وعبر عدة أشهر أخرى.. ستكون ساذجًا -بما لا يقاس- بالنسبة لها

قررت هي الحصول عليك.. كانت تعرف مريم أكثر منك فعلاً.. وتنتصر عليها بمتعةٍ وكراهية وشر.. لم تعرف أبدًا كيف ومتى تعلمتهما!!

كبرت هذه الفتاة أمامك..

كانت طفلة توحي بالثقة.. هادئة ورصينة وتسمع الكلام.. حتى كنتَ تراها خاملة إلى حد ما.. وكثيرًا لا تنتبه لوجودها في المكان.. وتكون دخلت منذ وقت.. وربما حادثتك وأجبتها فعلاً

كانت أيضًا طفلة مخيفة بعض الشيء.. عيناها ثابتتان وتوحيان بشخص سيكون خارج السيطرة.. في لحظة لم تحدث من قبل ولا تعرف لماذا تتوقعها..

ومبكرًا جدًا كان لها نبرة مؤكدة.. عندما أسمعها أعرف أنها ستفعل ما تقول..

وعندما عاملتها جسديًا مرات - فيما بعد - (مراعيًا مسألة العذرية هذه).. استخدمت نبرة صوتها تلك لتشجعك

وكانت مرّتك الأولى.. في تجربة كهذه

وكنتَ قرأت أيضًا (الزيني بركات).. واستوقفتك لحظة الجارية التي دسّها لكبير البصاصين، وكيف كان البصاص يتتبع تحول الفتاة لامرأة.. وشغفه بذلك

أوقفت سياقكما- إذن- لتقيم طقوسك..

الضوء الذي يمكنك أن ترى وجهها.. بعض العطور وبخورٍ أيضًا.. وسيجارة لكما..

وتهيأت لتلتقط لحظة نادرة في وجودكما

كنت مولعًا وقتها بأوائل الأشياء هذه.. التي صارت تثير سخريتك فيما بعد..

يمكنك دائمًا أن تكون أول من يفعل أي شيء.. لو تحريت ذلك.. وستكون أسوأ من عمله غالبًا

أحب إذن المرات الأخرى..

أحبتني- لا شك- تلك الفتاة.. أحبت جسدي.. ربما مبكرًا جدًا وهي لم تعرفه بعد.. تكون مريم معي وهي على السطح تترقب.. وتنبهنا إذا سمعت شيئًا.. وجسدها يتحول أسرع مما يمكنها ملاحقته..

وحافظت دومًا على توهج لحظاتنا.. بالتوتر والخوف الذي استلبته بوعي من لحظات مريم.. وقد صيرتها آمنة تمامًا واعتيادية وثمة طابع (الواجب) فيها..

وكانت تركت المدرسة برغبتها بعد الإعدادية..

واشتغلت بمحل ملابس في العتبة.. وصار لها قرش.. ورأي أيضًا..

استأجرت لنفسها غرفة بالدور الأخير.. واتفقت مع الحاجة أن تبقى الأجرة سرًا..

ظل مغاوري يشكو هذا عدة جلسات

:"بت الكلب مش راضيه تقولي..أنا كله خايف الولية تكون ضحكت عليها..أنا مالي.. اللي شايل قربة تخر عليه"

صارت إذن في الدور الأخير.. تحتي مباشرة.. تتيح لمريم صعودًا آمنًا..حتى لا يكلفها ذلك كل مرة بل الهدوم النظيفة لإعادة نشرها..

تؤمّن لمريم صعودها.. وتحرسها أيضًا.. وتسرقني منها بدأب.. وعندما غبت وقتًا وعدت.. كانت غير موجودة.. ومريم أيضًا في الصعيد..

ولمّا سألت الحاجة انخفض صوتها ولمعت عيناها بخبث

:"يعني انته مش عارف.. أهي اتلمت على واحد م الجماعة العرب وراحت معاه لبنان.. وبعتت لهم من هناك جواب وفلوس.. وقالت إنها اتجوزته"

وعملت حركة بيدها

:"ومغاوري بعد ما قعد يجعر جمعتين..ويقول (ح ادبحها) ويشخط ف عزيزة عمال على بطال.. أهو زي ما شفته وأنت طالع دلوقت.. اخترع له حكاية أنه كان عارف الراجل م الأول ومكانش موافق بس كل شيء تم بعلمه..

أهو بقى .. الكلمتين اللي حفضتهمله عزيزة..

ما هي إمبارح دفعتلي أجرة الأودة بتاعة الهانم..

انبي يا ابني ما طلبتها.. بس يظهر هي قالت لهم في الجواب.. عشان عزيزة كانت عارفة الأجرة كام"

كان مغاوري هزيلاً أكثر وشاحبًا وعيناه تهربان ويكح.. وظللت وقتًا لا أجالسه.. حتى فاجأني ضاحكًا.. وأنا خارج بعدها بعدة أيام

:"تلاتين جنيه يا سيدي.. أدينا عرفنا أجرة الأوده.."

 

يمكنها أن تفعل أي شيئ

قطع موت أبيك المفاجئ هذا كله..

ذهبت لتدخل دوره.. ويجبرك ميتاً على الاهتمام بالوكالة والتجارة والسوق ومعاملة الناس.. وكان قد يئس من هذا حيًا

عامين..

تأتى ضيفًا موسرًا.. تقيم عدة أيام احتفالية..

لا تكف خلالها عن الحركة..

وعندما فرغتَ- أخيرًا- من هذه المسألة.. وسلمتَ أخاك الأوسط عباءة أبيك واثنين من الكروت الشخصية للجد بالإنجليزي والفرنسي بخط أنيق كنا وجدناهما في حافظة الأب بعد وفاته.. وكان لم يتحدث عنهما أبدًا..

هذا الأب الغامض أحيانًا.. والذي سأفرغ له مرة فيما أرجو..

وكنت أيضًا قد عرفت أخاك وصادقته وأحببته خلال هذا الوقت الصعب.. قبل أن تعود تمامًا لغرفتك

وكانت جيهان بالأردن.. ثم قطر..

ثم مقيمة مع واحدةٍ أخرى في شقة مفروشة بالمنيل..

ثم متزوجة في غرفة الدور الأخير ينظر زوجها لك شذرًا و(يبرطم) لما يراك.. غير مرتاح لوجود "عازب ف بيت كله أهالي"

وعندما طردته.. وكان صعد يقنعني "بالذوق" ويحاول تهديدي لأن كلامًا وصله عن ( حاجات قديمة ) نزل (وعور) نفسه وذهب إلى النقطة.. وحرر محضرًا لي.. وجاء بالعسكري.. ونزلت معه.. وعندما رآني ( توفيق) الذي كان قد صار رائدًا وقتها.. وكنا زملاء منذ المدرسة الابتدائية.. وكانت هزيمة 67 قد دهمتنا في السنة الأولى.. وعندما وصلنا لسنة (القبول) كنا أقمنا (جماعة لتحرير فلسطين).. وقدّرنا أن اليهود على طول القناة.. وأنه يجب أن نلتف من خلفهم.. خمسة أو ستة أولاد.. وأحضرنا بالفعل ( الأطلس) – وكنا تسلمناه- وقسنا عرض خليج السويس في نقطة رأيناها مناسبة.. وحسبنا بمقياس الرسم -المطبوع أسفل الصفحة- المسافة بحوالي عشرين كيلو مترًا.. علينا أن نعبرها سباحة بعد أن نصل لنقطة العبور على (العجل).

وتدربنا طوال الصيف التالي على القفز من بلكونة الدور الأول في منزل (ماهر).. الذي كان له (جنينة) نستخرج منها أيضًا (الطعم) لصيد السمك..

وعندما دخلنا -معظمنا- مدرسة النجاح الإعدادية.. وكانت حرب أكتوبر قد أجلت الدراسة بعض الوقت وعبر الجيش فعلاً القناة.. وانتشر أمر الجماعة -لا نعرف كيف- بين التلاميذ.. أسموها (جماعة الدب الأعور لتحرير فلسطين) وخجلنا منها

(كما سأخجل من جماعات كثيرة تالية ساهمت في تأسيسها)

قلنا هذا الكلام.. وأشياء أخرى.. والعسكري قد أمسك بزوج جيهان المجروح الوجه.. ووقف متحفزًا جواره لئلا يهرب..

باتَ ليلة -إذن- في حجز النقطة..

وجيهان في غرفتي..

وعندما أخرجته في الصباح مراعيًا الجيرة والأصول مشى ساكتًا ومبتعدًا

وطلقها بعد عدة أيام..

وأخبرتني أنه لم يقترب منها بعدها أبدًا..

وأعتقد أنها أفهمته على نحو ما أنها نامت معي تلك الليلة..

كان يمكنها دائمًا أن تفعل أي شيء

 

يوجد شكل آخر لقول هذه الأشياء

"منى".. الوحيدة في البيت.. التي أردتها ولم أنم معها..

كنا من سنٍ واحد..

رشيقة وبيضاء.. وشعرها منساب أيضًا..

وكانت لم تتزوج – بعد - عندما سكنت الغرفة..

تظل تضحك.. وتعاملني بألفة.. وشجارنا لا ينقطع..

لا أكف عن مغازلتها.. وتتبع أخباري.. وتكون أول من يعلم كل مرة.. وتبدأ (التنبير) بالكلام

نامت مرة على سريري..

كان عصرًا مشمسًا من أواخر صيف..

وكنت أحشش إلى جوارها وأقرأ..

وتحدثت قبل أن تروح في النوم.. عن هذه النافذة البحرية المواجهة للسرير.. :"قبل ما تسكن هنا.. كانت دي أودة الغسيل.. وعشان كده فيها حنفية.. وأنا لسه بنت.. مكانش يحلالي نوم العصر غير هنا.. منك لله.. حرمتنا منها"

وكانت أنفاسها قد انتظمت ونامت فعلاً.. وعندما تعرت غطيتها..

واستيقظت وهي تقول "بس يا آمه..سبيني أنام كمان حبه والنبي.."

ولما فتحت ورأتني.. رنت ضحكتها "أنا كنُتّ فكراك أمي.. وبتغطيني كمان.. أوعى تكون بتفضحنا مع النسوان يا منيل"

وعندما قلت لها مرة نكته جنسية.. طلبت أن أحكيها.. في المساء وأنا نازل.. أمام ( كريمة) أختها الكبرى.. والحاجة.. ومغاوري أيضًا.. أمام باب البيت..

وعندما خجلت.. ورفضت الكلام مسرعًا بالمشي كانت تنظر لي بغيظ..

ولما أمسكت يدها مرة بعدها.. سحبتها بعنف.. ونزلت غاضبة.. ثم صعدت ثانية وقالت إنها "بتعتبرني زي أخوها"وإن "الحاجات دة ملهاش طعم" عندها.. وأنها "مستحملة مسألة الجواز دي بالعافية.. وكويس إن (رمضان) طبعه هادي.. والحكاية دي مبتجيش ف باله كتير".. وأنها "بستغرب ع النسوان الهايجة دي"..

وظللت أيضًا الوحيد الذي يمكنه الكلام معها لترجع لزوجها بين آن وآخر.. حتى حملت منه بعد عدة سنوات.. ولم تعد "تسيب" له دار السلام "بحالها" وتقعد "هنا".. عند أمها "ف الجيارة أم الدنيا"

وكانت الوحيدة أيضًا التي تطلع أحيانًا وتسلم على أصحابي ولا تتحرج من الكلام المكشوف مع أحد

مما أوقعني مرة في مشكلة طريفة

كان (أسعد) قد تورط فيها.. حين بات ليلة معي وتركته صاحيًا ونمت.. وطلعت هي السطح.. عارية تقريبًا.. تنشر الغسيل..

وظل واقفًا مقطوع الأنفاس خلف باب الغرفة المغلق.. يتلصص عليها..

وهي التي استغربت الأمر.. وسمعت الأنفاس المتلاحقة.. وتعرف أنها حين تضغط بطريقة معينة ينفتح الباب..

وكانت مفاجأة.. حين وجدت الولد النحيف مهوش الشعر.. قد أخرج عضوه وصارت الشمس تسقط عليه كاملاً الآن

وكانت صوتت فعلاً.. واستيقظت أنا.. وصعدت الحاجة من تحت.. واختفى أسعد.. لا أعرف أين.. ولمت هي الموضوع.. وقالت لأمها إنها "اتخضت لما شافت واحد ع السطح.." وكانت "فكراني لوحدي".. ونزلت الحاجة.. وهي تلعن قلة عقل البنات العبط

وعندما قلت لأسعد –بعدما ظهر مترب الهيئة مرعوبا من باب الحمام المهجور- أنها تنام معي لإثنائه عن مشروع غرامي فاشل كان بدأ يخطط له.. ولن يأتيني من ورائه غير "وجع الدماغ" وجدتني أتكلم عنها براحة ودون خجل وصدقني تمامًا ما دفعني لاستثمار ذلك النجاح وأن أذكر لأصدقائي أن بيني وبينها علاقة جنسية..

كان لا بد لي أن أقول شيئًا أحيانًا بشأن تلك المسائل في تلك الجلسات الذكورية التي لم أحبها أبدًا..

الأحاديث المبتذلة التي يتبادلها الرجال عن مغامراتهم النسائية

تلك السباقات الهمجية في المبالغات..

يوجد شكل آخر لقول هذه الأشياء

طريقة كلام.. لن تتقنها سوى نادرًا.. ومع أناس بعينهم..

ودائمًا تستمع ساكتًا وغير مهتم.. وتنفصل عن هؤلاء الناس وتزعجك ألفاظهم.. ليس لسبب من الأخلاق.. أو الأفكار عمومًا.. وإنما فقط لأنه كلام متشابه لحد السأم.. وأن هذه الأشياء لن يمكن قياسها بحال.. وأنت أيضا لا تريد أن تصنع نتوءًا في (القعدة) فتحكي دورك دون عناية ودون أن يبدو أنك غير مهتم

وكنت قد تدربت – الآن- على بعض الكذب المفيد

 

قهوة العدل والحرية

أسعد هذا..

وكان واحد مشاء مثلك.. وشاعر أيضا بطريقة ما.. وبينكما كلام لم تكملاه.. وليس لديه مكان يبيت فيه..

مشيتما -إذن- من مقاهي وسط البلد قاطعين عابدين والحنفي وزين العابدين.. وكنتما تمران بالمدبح حين لمح اللافتة (قهوة العدل والحرية) مكتوبة بخط سيئ.. وقد (شَرّتْ البوية) من الحروف.. فبدت سوريالية وتشبه كتابة الأطفال نظر لها مندهشًا كأنها اكتشاف.. وانطلق في كلام كثير عن قيمتي العدل والحرية في حياة الناس.. بادئًا من الرفاق عمال شبرا والمحلة وكفر الزيات.. منتهيًا عبر ثرثرة كثيرة وعدة آلاف من السنين إلى الفلاح الفصيح

موضحًا لي أن العدل يعني إعادة توزيع الثروة وإلغاء الملكية الخاصة.. والحرية التي هي التمرد على الأوضاع شبه الإقطاعية.. والعبودية حتى.. التي ترزح تحتها هوامش (البروليتاريا الرثة).. مخرجًا لسانه في حرف الثاء

وكنت ساكتًا أستحثه على السير لنبتعد عن تلك الروائح الحادة.. وكنا قد صرنا على الرصيف ننتظر البيتزا من (إمام) الذي لم يفته أن ضيفًا معي فأسرع بتجهيز طلبنا.. محتملاً تزّمر الواقفين.. الذي طالنا طرف منه ونحن ننصرف وأسعد سعيد بتلك المعاملة الخاصة.. حيث هيئته وطريقته في الكلام التي تدفع الآخرين ليعاملوه على نحوٍ سيئ..

وكان مازال يشرح لي مسألة العدل والحرية.. حين التقطت فرجة بين الكلام.. شرحت فيها أن الأمر ليس كذلك.. وأن هذه القهوة صاحبها تاجر مخدرات.. اشتريتُ منه مرات..

وأنني.. وأنا عائد.. مرة.. وجدت أحبال الكهرباء وكراسي (الفراشة) ورائحة الحشيش تملأ الجو.. ولمحنى المعلم وأنا أمر.. فناداني بود.. وأصر أن "تشاركنا الليلة"..

وظننته يطاهر ابنه.. حتى أحضر لك أحد صبيانه الشاي وعشرة أحجار (مبصوصة) ومصفاة الفحم الوالعة.. وشرح لك أن المعلم "ربنا نجاه من تأبيدة ظلم والله يا أستاذ.. منهم لله ولاد الحرام"

وكان قد "أنبسط" مني و"استجدعني" عندما أشعلت العشرة أحجار تباعًا.. وغمزته أيضًا بخمسة جنيهات في جيبه..

ولما لمحنى المعلم أتى غاضبًا ونهره.. وأسقط ورقة سوليفان في جيبي مقسمًا أن آكل أيضًا..

وكان قد ذبح عجلاً ولطخ صبيانه حوائط المكان بكفوف الدم.

وعندما انسطل تمامًا قرب الفجر.. وضع إحدى الموائد وفوقها كرسيًا وفتح علبة الدوكو.. وطلع أمامي وكتب (قهوة العدل والحرية) ونسى نقطتي ياء (الحرية) ونبهته فعاد وكتبها ضاحكًا: "يعني ح تفرق يا أستاذ".

كان (العدل) الذي نجاه من يد الحكومة

و(الحرية) التي حصل عليها لعدم كفاية الأدلة.. إذن.

والغريب.. أنه -أسعد- بعد كل ما قلته.. وكنا قد صرنا على السطح منذ وقت.. استمر يشرح فكرته مؤكدًا أن كلامي "لا يعني شيئًا"!!.. وظل يتكلم حتى طلعت الشمس من خلف تلال المقطم.. يحاول من آن لآن التلصص على غرف النوم المفتوحة نوافذها بسبب الحر.. والأسطح.. التي نام فوقها أصحابها وقد عرّاهم ضوء النهار أخيرًا..

كنت أتلصص بالفعل طبعًا.. ولكن بطريقتي.. في أوقات أعرفها.. وعلى مسائل بعينها.. وليس عشوائيًا هكذا.. كما يفعل هذا المبتدئ هذا الذي سينفضح مرة بسهولة

(ولم أكن أدري أن ذلك سيحدث سريعًا هكذا!)

وكان مازال يتحدث.. عندما أخبرته أنني أنام بالفعل.. وتركته صاحيًا.. ولمّا استيقظت -ثاني مرة- عصرًا بعد أن كنت صحوت أولاً على صوت (منى) لم أجده.. ولم أجد أيضًا عدة أشياء غير مهمة توقّعَ ألا أتنبه لها

ولكنني كنت منتبهًا تمامًا في ذلك الوقت..

وأعرف ما يدور بالغرف القريبة ومواعيد (الواجب) الإسبوعية لمعظم الجيران.. وقد صار التلصص أحد وسائلي لجمع مادة (القصص)

وقررت ألا أصطحب مثل هؤلاء الأشخاص مرة أخرى لغرفتي..

لئلا أتورط ثانية في ليلة سوداء كتلك.

 

أصدقائي

الأشخاص الذين عرفتهم يومًا في غابر الأيام وتماست أرواحنا في ظروف غريبة

أولئك

الذين أستحضرهم..

لأحصل منهم على مواقفهم الملائمة لي

ثم أردهم إلى حديقة الخلود

هل يضير أحدهم

لو أخذت منه- فقط- ما يلائمني

وتركت له الباقي يتصرف به كما يشاء؟!

 

تريدها أن تراك

التلصّص هذا قصةٌ أخرى..

وعندما كانت علاقتك تبدأ بفتاة.. وأردت أن تشركها في لحظة خاصة لك.. حكيت لها عن تلصصك على أخ وأخت ينامان ضمن إخوة أصغر.. على سرير واسع جدًا.. تراه في حجرة بدروم تضيئها لمبة 25 وات على الأكثر.. تطل عليها من نافذة المنور في شقتك بباب اللوق

كنت تعرف المقدمات.. وتترقبها بشغف..

ينامان ساكنين تمامًا تحت الأغطية حتى ينام الصغار.. ثم ينقلب الولد فجأة وتبدو الفتاة تقاومه قليلاً.. قبل أن يبدأ صراعك انت غير المتكافئ مع الأغطية التي لا يكُفَّان عن جذبها ولا تكف عن الانزلاق..

وكنت تريدها- فتاتك- أن تراك في واحدة من حقائقك.. ولتعرف أيضًا الحياة.. المليئة بما يدهش..

فقط لتكون صادقًا مع نفسك!!

أفسدتها إذن على نحو ما- تلك الفتاة- وأفسدت علاقتكما.. وأنت تجرب برعونة أن تطبق أفكارك كاملة.. وتحيا وعيك رغم أي شيء

كنت قد قطعت أشواطًا لم تقطعها هي.. غارقًا في حماقة الصدق هذه.. التي لا تحتمل حتى كدت تصيره إيمانًا جديدًا لك..دينًا..على نحو ما

ودائمًا أنت تتدين بالأفكار وتنساق بعيدًا خلفها..

بقايا التدين هذا..أو هو شيء أكثر عمقًا منه.. الذي يدفعك لقراءة (الفاتحة) كتعويذة في سرك.. وأنت مسافر.. عندما تنطلق السيارة على الطريق السريع..

وهي من العادات التي ترسّبت لديك من فترة فزعك المروع من الموت عقب وفاة والدك في حادث سيارة.. وانقطاع حياته على هذا النحو المباغت الذي أرعبك

احتملتما معًا- إذن- كل شيء.. لم تكن كاذبة تلك الفتاة.. وفقط عندما بدأت تكذب.. عرفت أنه آخر الأمر بينكما.. فقد كانت تعرف يقينًا تلك المسألة فيك.. لذا كانت الرسالة: أنها لم تعد تحتمل بالفعل.. فوصلت إلى ذات اللحظة.. ولم تعد تحتمل شيئًا أيضًا..

ووضحت لك حقيقة أخرى: أن نشأتنا عميقة جدًا داخلنا.. وأن ما نحمله من أفكار.. ننجزها نحن أو نلتقطها من الكتب وأفكار الآخرين.. لا تستجيب لها مشاعرنا بقوة عقولنا.. وتظل منطقة الشعور غارقة في تهافتها وتناقضاتها.. تحت وطأة المياه العميقة في أرواحنا.. تلك التي لم نختبرها أبدًا.. والتي تصادف أننا استقبلنا عليها الأشياء للمرة الأولى.. ونحن نحبو..

 

أليس من الظلم الفادح أن تقعَ في أسر تعقيدات كائن

صرتَ نقيضه الآن على نحوٍ جلي.

 

الفراعنة

تكون وأبوك قد غادرتما البيت.. صباحًا.. ذاهبين إلى"البرك" يقول.. و"عزبة العرايا" يقول في مراتٍ أخرى..

هي البرك التي كانت تلي كيمان الآثار.. أخذها أجدادك وردموها وزرعوها وصارت أرضهم وبيوتهم فوقها..

العرايا.. التي تذكرك بعض هياكلهم بالفراعنة.. وتحب ذلك.. وأنكم الفرع النحيف.. الأصلاب.. العصب.. الذين يتوارثون السيادة والأملاك والسطوة.. هكذا كان جدك وجد جدك.. تقول عمتك.. وتقول أيضًا "الرجال بالدرهم"

متاهة العائلة هذه.. التي انتهى ( أبو ماضي ) إلى رسمها شجرة ووضعها داخل برواز.. وقد كتب أعلاها "شجرة العرايا" بخط كوفي ظل يشير لجماله كلما جاءت السيرة

وكنت سألته عن سبب التسمية.. (العرايا) هذه- وقد صرت وقتها في الجامعة.. تأتي بمفردك للزيارة- عندما أراح قدمه تحته.. واستند بذراعه إلى جنب دكة المحراث المفروشة بالكليم التي يجلس فوقها.. وعبث بشاربه الذي صار أبيض تمامًا الآن.. ومهيبًا جدًا.. وقادك عبر سلسلة معقدة من الأجداد منتهيًا إلى الجد الذي أتته الإشارات.. وكان يستحم.. فخرج إلى الساحة الكبيرة.. وجلس يعبد الله.. عاريًا كما أمره.. صيف شتاء لا يرتدي سوى ما يستر العورة.. وكان مبروكًا يقصده الناس.. ولما مات بنوا له الضريح غرب البلد..

ولكنها حكاية قديمة " إحنا أصلاً قط ".. من عائلة القط.. التي لم يعد باقيًا منها أحد في البلد..

ولما قلت إننا بهذا نكون من سلالة كهنة الآلهة القطة (باستت) فقد كان لها هيكل أيضًا هنا في منف مدينة اللاهوت الفرعوني هذه.. نظر لي صامتًا.. وبدا غير فاهم.. وإن ذكره الكلام بالمثل فردده:"ميت رهينة كهينة جدها فرعون"

وأعجبني تفسيري هذا.. فصرت أردده أيضًا..

العرايا.. الذين تركوا (العمودية) دائمًا لآخرين.. لأن كبيرهم كبير الناحية وليس البلد فقط.. وأنه أيضًا ليس عليهم (عمد)..

وعمتك تحكى: "مرة.. وجدك عايش.. جا الغفير وكان من بيت العمدة.. لعمك عبد التواب.. كان بيفتح مسقى بالليل.. وكيفه مش رايق.. الحزين الغفير عقله على قده.. والعمدة اللي باعته بقى.. قال له (تعالى كلم حضرة العمدة يا عبد التواب).. ومكانش يحب حد يناديه باسمه كده..

قال (اللهم طولك يا روح.. امشي انته وأنا جاي وراك).. رد عليه (بيقول لازم ضروري ارجع بيك)..

عبد التواب مردش.. وبيكمل شغله.. ويدوب الغفير فتح بقه تاني.. وبيقول (يللا معايا يا جدع انته) مكملش الكلمة.. كان طاير وراه (إحنا علينا عُمد يا ابن الكلب).. والغفير يجري.. وعبد التواب وراه..ولما اتكعبل ولقي نفسه مش محصله..جا حادفه بحجر جا ف دماغه.. المنجوم طب ساكت..

مات ف ساعته.. جرينا على جدك.. قال (مفيهاش حاجة)..وقام كلم المحامى ف الجيزة.. واتصل بالمركز وسلم لهم عبد التواب.. خد فيها تلات سنين قتل خطأ.. وجدك راضى أهله.. جماعة (العبدله).. بس مين يرضى.. أدي من وقتها وفيهم اللي يقول لنا تار عند العرايا..

ييجي عشرين سنة بعدها.. وفي خناقة في السوق.. جت شومة ف رأس عبتوّاب.. وكان خلّف إبراهيم.. فضل تعبان بيها لما مات بعدها بييجي سنة..

كان بقى راجل كبير وعيان.. والضربة جآت ف عركة ومحدّش عارف من فين..وحدّ من (العبدّله) قال خدنا بتارنا.. آهو.. كانت كلمة تريحهم وخلاص..

من يوميها.. أم إبراهيم الحزينة.. تقول (تار جوزي.. تار أبوك يا إبراهيم).. ح تضيع الواد الولية الخرفانة"

كنت تعرف (إبراهيم).. وكان قد جاء دسوق مرات.. تخرجان معًا تلفان في المولد.. ويتكلم عن الشهامة والرجولة والتار.. ويهتم بساحات لعب الحديد التي لا تجتذبك..

إبراهيم الذي قتل- فيما بعد- (إلحاج محمود أبو عبد الله) كبير العبدله.. و"شال آلي" وفرض عليهم إتاوات.. وألا يرى أحدهم بعد آذان المغرب..

وأغلقوا عليهم بيوتهم.. وتخاصمت فروعهم..

واستقر رأى فريق منهم أنه لا شيء يعيد لهم كرامتهم سوى أخذ ثأر كبيرهم من أبيك..

"رأس برأس.. خدوا الرأس الكبيرة.. ناخد الرأس الكبيرة"

وأبوك.. بعيد في بحري.. وليس فيهم من يجرؤ على المحاولة..

اتفقوا سرًا مع قاتل محترف من طنطا.. ودفعوا نصف المبلغ.. والباقي لما يقيموا عزاء كبيرهم..

ونزل الرجل دسوق ودار حول بيتنا.. وسأل عن أبي وحدثه الذي سأله عن العرايا.. وكان يعرفهم.. فخاف الرجل وأتى ومعه النقود إلى بيتنا.. وكنت جالسًا.. وطلب أبي أن أترك الغرفة لما طلب الغريب-الذي لم يكن يعرفه-أن يحادثه على انفراد..

وعندما عرف الحكاية صارا يضحكان.. وتعشى الضيف.. وقال له أبي وهو يوصله للباب:

"زي ما تفقنا.. توصل البلد تقول إن كل شيء تم.. وحلال عليك بقية فلوسك يا عم"

والرجل يقول إن معرفة أبي "أهم من الفلوس.. والبركة ف رضاك عنا يا معلم عبده"..

ولم يقل أبي شيئًا لنا أو لأمي..

يومٌ واحد فقط وفجر اليوم التالي.. وقد فزعنا من نومنا- إخوتي وأنا- على البيت وقد امتلأ باللاسات والطواقي البنية..والجلاليب الصوف السوداء.. ووجوه كثيرة لا أعرف معظمها.. يحمل أصحابها الأسلحة

كان (العبدله).. وقد بلغهم خبر قتل أبي الكاذب ليلاً..أقاموا صوان العزاء لكبيرهم على عجل.. وضربوا نار.. وانتقل الخبر للعرايا ففزعوا إلى السيارات..

أكثر من عشر سيارات محملة بالناس والسلاح تنتظر أمام البيت.. وقد صعد الكبار لأبي..

وكان وجوههم قد تحول لفرحة ونصر وشماتة في الآخرين الذين صارت فضيحتهم بجلاجل:"وبميكرفون واتنين فُقها بيقروا كمان يا عم.."

كما كان يقول (أبو ماضي) وهو يضحك.

 

شاي كثير جدًا

ولكن إبراهيم هذا..

وكان أبي قد استبقاه.. وكلّمه غاضبًا عما وصله عن موضوع الإتاوات.. وأن هذه بلطجة لا تليق بنا.. وأن عليه أن يحضر أمه ويقيم هنا..

ويعمل معه في الوكالة

كان يأتي بهم تباعًا.. يساعد الواحد ليبدأ.. يستأجر لهم غرفًا لدى معارفه.. ويؤمن أماكن لهم في السوق.. يبيعون فيها- إلى جانب (العجوة) التي يأتون بها معهم- ما يعطيه لهم من وكالته.. أو يضمنهم فيه لدى الوكالات الأخرى القوة قانون السوق.. لو كنت قويًا ستحافظ على مكانك.. لو قويًا أكثر يمكنك توسعته على حساب أماكن الآخرين

المزاحمة.. قانون السوق أيضًا..

لابد – إذن- من الجماعة القوية المتماسكة..

ولا بد لها من رأس واحد كبير لتبقى

لذا.. لم يتعاطف مع إبراهيم أحد.. عندما خرج على رأى أبي.. وكان قد أذعن لبعض الوقت..

ولكنه كان قد استطاب حياة القوة والسيادة وفرض الإتاوات والقرش السهل الذي لا يكلفه سوى التجول حاملاً سلاحه.. يرهبه الآخرون ويتركون له ما يريد

وكان قد أضاف شروطًا جديدة لأحكامه العرفية التي فرضها على العبدله.. عقب فضيحة "العزاء العار" الذي أقاموه.. وصار يتتبعهم في النهار أيضًا.. ويتحرش بنسائهم.. ولم يترك لهم خيارًا سوى التربص به وقتله

وكانوا وقد تصارعت أفرعهم المختلفة معًا.. بعد أن وصل الأمر أن إبراهيم ينزل أراضيهم ويحل البهائم.. ويمشي يبيعها في السوق دون أن يتعرض له أحد.. وسمّ لهم أيضًا أربعين نخلة.. المسألة التي لم يتسامح أبي بشأنها أبدًا..

كنت في الوكالة خلف المكتب عندما التقطت أذني الكلمة بصوت أبو ماضي "دا كمان سمّ لهم النخل ف العِبّ الشرقي"

تلاها صمت مطبق.. وبدت الجملة وحيدة رنانة منبتة الصلة بما قبلها.. ونظرت لأبي أريد الاستفهام عن المعنى فلم يمكنني النطق.. كان وجهه محمرًا بالغضب وبدا أبو ماضي مبهوتًا كأنه لم يتوقع رد فعله..

لحظات.. لا يتحرك فيه عضو وربما لا يتنفس أيضًا قبل أن ينتتر واقفًا وينصرف

واستغرق أبو ماضي لحظات أخرى ليتمتم "دا اللي كنت عامل حسابه.. وكت بقولها وسط الكام عشان تعدي.. بس أنا عارفة لا يمكن يسكت على كده"

وسألته وجلاً عن معنى (سم النخل) وأخبرني أن أحدهم يصعد النخلة ويجرح قلبها بسكين ويسكب فيه السم.. بعدها تتراخى جريداتها وتموت.. وأن ذلك لا بد أن يتم نهارًا لئلا يجرح نفسه ويطاله السم.. وأنها فعلة تدل على التجبر والكفر بالنعمة.. وهو قد أتى خصيصًا بنفسه كي يتدارك غضب أبي إذا بلغه الأمر بطريق غير مناسب.. وأنه أيضًا لا يمكنه الكلام بعدها وسيسافر الآن..

قتلوه – إبراهيم- إذن.. وكان أبي غاضبًا عليه..

أشار بيده قاطعًا فانتهى الأمر.. والرجال والشباب الذين أتوا متحمسين يتكلمون عن الثأر..

ابتلعوا ألسنتهم ووجموا..

وتكلم هو بصوت واضح عن خراب البيوت وتيتم الأطفال.. وإذا ما كان أحد منهم يقبل ما كان يفعله إبراهيم بهؤلاء الناس.. وأننا لا نظلم ولا نحب أن يظلمنا أحد.. وأن الأمر هكذا منتهٍ.. فقد قتل إبراهيم كبيرهم وها هم قتلوه.. وأنه لن يسمع حرفًا واحدًا بعد الآن في هذا الموضوع..

وأقام الصوان.. ووقف يتقبل العزاء معلنًا نهاية الثأر..

بينما أتت أم إبراهيم راقصة مزغردة تعلن احتجاجها وترفض إقامة عزاء لابنها دون أخذ ثأره.. فأخذها إلى داخل البيت – بيته الذي تقيم به- وطيب خاطرها.. وتركه لها ملكًا.. وأنه كفيل بحاجاتها.. وأنها هي التي قتلت ابنها عندما ربته ليأخذ ثأرًا مشكوكًا فيه.. وها هي النتيجة..

وما تركها حتى أتت النساء لها بـ (ملس) أسود.. لبسته وأخذت تصوت وتهيل التراب عليها.

وفي الصباح.. أتى كبار العبدله إلى البيت الكبير.. وفرشت لهم عمتي الكنب في الساحة.. وجلسوا متحرجين.. وكبيرهم يتلعثم وهو يقول:"من الوقت ده أنت كبيرنا.. يا معلم عبده.. كبير العرايا والعبدله وجميلك على راسنا"..

وتذكر العجائز منهم -والشاي يدور- مجالس أبيه.. الجد الذي جاوز الحد في كل شيء.. ووصلت صلاته إلى السراي والأحزاب.. وكانت دكته في الساحة.. ومجلسه الذي يأتيه الناس من كل مكان.. وشيشته التي باعتها عمتك بعد موته في الأربعينيات بـ (اتناشر جنيه دهب).. والتي كانت من الفضة الخالصة.. ومطعمه بفصوص ملونة أصلية.. وكانت: "تساوي أكتر.. والخواجة في البدرشين ضحك عليها.."وتنظر إليها.. ولا تصدق أن أحدًا يمكنه الضحك عليها

كان-الجد- قد مات أواخر الحرب العالمية الثانية.. والطبيب في الجيزة الذي ظل يقول لأبي كلما رآه أن أباه لو انتظر وقتًا قليلاً.. وكان البنسلين قد عمم.. كان نجا.. فلم يكن عنده غير بعض السكر في الدم.. وجرح لم يمكن تداركه..

وعمتك تُكمل الحكي:"تلت تيام يا ابني.. جدك اللي كان ف عزه ووشه زي البدر.. راح أصفر م الليمونة.. وراح.. وراح كل شيء حلو.. كان وحداني يا ولدي وأبوك لسه صغار ف المدرسة.. ولاد أخواته والأغراب.. كل واحد خد جنب.. يا حسرتي.. المراكب المحمّلة بلح ودره وعسل أسود جايه من قبلي.. اللي قالوا غرق ف النيل واللي خسر ف السوق.. نهبوه يا ولدي.. أهو.. مفيش حاجة بتنفع.. قعد لعيالهم.. وفضل بيته أعلى بيت.. بأبوك وعمك وبيك يا روح عمتك.. قوللي يا وله.. انته عايز تعمل إيه لمّا تكبر؟.."

وكان أبوك جالسًا على آخر ( القياس) الحصير..

وأنت تنظر إليه وتتلعثم.. يكون كعادته سامعًا دون أن يبدو مهتمًا.. وبين يديه أجندته يدون بها أرقامه الكثيرة التي لا تعرفها.. ولما يطول سكاتك.. يضحك:"قول لعمتك يا فالح عايز تعمل إيه لما تكبر"..

وهي لا تفهم وتتداول النظر بينكما..

وتتكلم.. أنت ناظرًا في اتجاه آخر.. وقد بدا عليك العناد

:"عايز أقعد أشرب شاي.. شاي كتير.. براد شاي ع النار له حنفية افتحها وأملا الكوبايه.. ومتفضاش قدامي خالص.."

ويقاطعني متصنعًا الغضب

:"أدي يا أم عامر اللي عملاه راجل.. وقاعدة تحكى له عن جده"

ويهز رأسه.. ويكمل ما بيده

وتضحك هي:"ما هو زيك يا اخويا.. كُتّ جلد على عضم كده..ومتبطلش (شاي يا بت) ويا حزني إما دي واللا دي مترضاش تعمل.. تبيتها معيطة.. بس طول عمرك حِنين.. تروح تصالحها بأي حاجة.. فاكر الأيام دي يا عبده.. وانته بتروح المدرسة ف الجيزة..بالطربوش الأحمر والبدلة.. أيام حلوة بس ما طالتش يا ولداه.. أبوك مات وأمك.."

وتنظر موضحة لي "ستك (آمنه) الله يرحمها"

وتعود تكلمه:"ما هي فيها عرق تركي.. مفيش صبر خالص.. لما لقت اللي بيقول ليكم ومالكمش.. قالت (أهلي ف فوه).. وخدتك انته وأختك وأحمد.. شيلاه على كتفها.. وسابت الجمل بما حمل.. هوه كان فاضل حاجة يا حسرة..

أهو.. اللي عرفنا نطوله قسمناه وبعتنا نصيبكم.. واللي مقدروش الظلمة يخطفوه أهو قعد زي ما هو.. النخل شرق البلد.. وف البرك.. والبيوت.. والأرض.. أديك سايبها لولاد أخواتك يزرعوها.. هلّبت ما بتاخد منهم يا عبده؟"

:"حيدوني إيه.. أهو.. سنه باخد وسنه لأ..بس هُمّا يكرموا البنات.. وكفاية عليا البلح"

كان يسمي أخواته (البنات).. حتى الكبيرات اللاتي أراهن أكبر من جدتي لأمي..

وتعود عمتي توجه لي الكلام:"كل اللي في الحتة دي يا ولدي على مد الشوف.. كده من كل ناحية.. اللي يقول خال عبده.. واللي يقول جد عبده.. أبوك خيره عليهم"

الخير هذا الذي "يبعتره ع اللي له واللي ما لوش" كما تحدثت أمي مرات.. وكانت تريد لنا "عمارة على وش الدنيا" نسكنها ونتزوج حولها فيها.. لكل واحد شقته.. ونترك بيت أبيها المتهالك هذا الذي نسكنه..

وكان قد صار لها الآن بعد موته.. ولم تقل (بيتي) أبدًا

كانت قالت (بيتي) هذه مرة واحدة.. وأبوها مازال حيًا.. وتركه أبي وذهب عند (عم حامد) وصار يرسل طلباتنا يوميًا..

وكان أقام أسبوعًا..ولم تنم أمي خلاله ولم تأكل.. وصارت تهزل ومرضت بالفعل.. حين قال لها أبوها:"عبده عنده حق يا ستي.. أنتي اللي غلطانة.. روحي صالحيه"

لم تتكلم.. أخذتني من يدي.. وقبضت عليها جيدًا وهي تدخل بيت (عم حامد) خجلة متعثرة.. وحين رآني أبي حملني وقام.. وسلم عليهم.. وطلب إرسال حاجاته للبيت.. وسار تتبعه أمي لا يتكلم معها.. وظل متجهمًا وساكتًا حتى اشترى الأرض ليبني فوقها.. وباعت أمي – دون أن يعلم- حِللها النحاس.. وكانت ركنتها منذ وقت وتستخدم الألمنيوم.. ودخلت أيضًا عدة (جمعيات)..

ولمّا قل ما معه عن ثمن الأرض بعدة مئات.. قامت إلى الدولاب وأتت بالنقود..وذهبها أيضًا..

ووضعتهما أمامه وهي تخشى أن يغضب (غضبه هذا الذي يمكنك أن تراه في وجهه) لأنه لا يحب الجمعيات ولا أن نبيع شيئًا.. لكنه لم يغضب هذه المرة.. وتحدث معها أيضًا- للمرة الأولى منذ عاد- وصارت متوردة الوجه ولا تستطيع إخفاء فرحها..

وتغني أيضًا بصوت خافت.. وهي تعمل الشاي.

 

ليس عدلاً

لو أنك تحتمل إقامة في مكان سوى القاهرة لكانت إسكندرية لا شك

تعرفها تمامًا..

كل أجازات المدارس عند خالتك في المنشية

الجندي المجهول.. بقوس الأعمدة الرومانية البيضاء والمفتوح تجاه البحر.. يتمايل حوله النخيل

الإفرنجي الذي يتطاير سعفه محدثًا وشيشًا.. تسمعه رغم السيارات

والسماء.. حوله وعلى البحر.. بأزرقها اللامع..

تغمرها الشمس الرائقة..

والجنديان يتبادلان موقعيهما في مشية منتظمة بالسلاح

كنت لم تعرف المقاهي بعد..

وسنك – ونقودك أيضًا- لا تسمح لك بها

ليس سوى المشي لساعاتٍ بهذه الشوارع المصقولة.. بطوب أرصفتها الأبيض والبرتقالي..

وعلامات المرور واضحة على أسفلتها المغسول تقودك للسينمات ومحطة الرمل من جهة.. وللأنفوشي وقلعة قايتباي من جهة معاكسة..

ورصيف الكورنيش ممتد.. يمكنك أن تسير عليه سارحًا.. لا توقفك التقاطعات.. هائمًا في قصصك المبكرة.. التي صنعتها الأفلام وصور العرض بمداخل السينمات..

حين لا تدخل تقف تتأمل الصور.. مستنتجًا القصة

و(مُنّه)..

بالدور الثاني في بيت خالتك..

تصعد لها بالسلم الحجري.. وتدور مع (الدرابزين) الخشب الخرط.. يلف شرفته التي تمر بكل الغرف مطلة على حوش البيت الذي تفرشه الشمس.. والمزروع في مربعات بين الأحجار بلبلابة وعدة صبارات لها زهور..

أقارب خالتك هم.. ويتشاركون البيت.. خالتك – التي هي أصلاً خالة أمك- بالدور الأرضي.. وهم بالدور الثاني..

عندك ملحق (إنجليزي) وهي (إنجليزي) و(علوم)..

وأنتما في سنة النقل الثانية بالإعدادي.. ومناسبًا أن تذاكرا معًا..

ترحب بك أمها.. وتأتيكما بطبقي أرز بلبن أو برتقالتين..

وتذهب..

وضح لك بالكاد أنها ليست ولدًا.. وصدر فستانها صار مرتفعًا قليلاً.. بخوختين تنتفضان تحت أصابعك غير المدربة بعد

جربتما إذن الملامسات والقبل غير المفهومة نوعًا ومنحتك مشيًا رائعًا..

وأنت تمضي مسروعًا وتائهًا تكاد تدهمك السيارات ويصدمك الآخرون.. تغني.. كما لم يحدث- هكذا- من بعد

(مُنّه) التي لا تذكر الآن أي شيء واضح بينكما..

أكثر من مناداتك لها باسم يخصكما..

اخترعته أنت وأحبته جدًا منك..

وعندما ناديتها به.. وهي تائهة عنك لا تعرفك.. عندما ألقاك القدر – الغريب جدًا أحيانًا- أمامها بعد عدة سنوات وقد هزلت وسقط شعرها.. وكان (السرطان) ولا يقولون.. هناك في البيت الآخر.. عند عمها في (النبي دانيال)..

حيث ماتت بعد عدة أيام..

وكانت لم تعرفك فورًا..وعندما عرفتك بكت..

وبكيت.. بمرارة أمام الآخرين..

وتشبثت بيدك.. وظللت حتى الآن لا تنسى يدها المتشبثة وعجزك المطبق..

وعندما –لاحقًا- قرأت (جلال) بن زهيرة.. في الحرافيش أمام (قمر) التي تموت.. بكيت بكاءً شبيهًا بالأول.. جعلك تحب محفوظ وتثق بمعرفته بالناس

ليست خيالات – إذن- هذه القصص

(مُنّه).. السكندرية.. الرقيقة.. التي صبغت حبيباتك فيما بعد بملامحها..

حتى وأنت ساكن جديد في الغرفة.. أحببت (منى) ابنة الحاجة لمجرد اسمها قبل أن تراها.. وعندما رأيتها على السطح تنشر الغسيل ناديتها فورًا: "مُنّه"..

والتفتت مندهشة.. وكانت تراك للمرة الأولى.

تلك الملامح الغامضة – وتكاد تكون روحًا بدرجة ما- التي تتذكرها بالكاد وعلى نحو تقريبي..

وصرت تجمِّعها وتركِّبها مرات.. من وجوه ممثلات..

ومغنيات وعارضات أزياء..ولوحات تشكيليين..

وظلّت أيضًا تؤرق علاقتك بزوجتك.. التي لم تشابهها سوى نادرًا.. وعلى نحو خاطف.. لا يمكنك أن تتملاه

ليس عدلاً هذا..

وليس ظلمًا أيضًا..

إنه نحن

 

لماذا ذهبت بعيدًا هكذا

ـ

ها أنت تذهب إلى هناك.. تجول في تلك الشوارع الرطبة.. المفعمة بالروائح القديمة التي ظلت تشيع في روحك منذ صادفت الغرفة غرفتك العالية التي تشرف على كل شيء..

تلك التي أدمتك تمامًا بجروحها وتداعيها المتواصل.. كأنما لتذكرك بتفتت الأشياء وانحلالها.. مما دفعك لمغادرتها عمدًا.. والدوران حولها من آن لآن.. كموقع مقدس يحتاجه إيمانك المزعزع هذا بذهاب الأشياء

هل تذهب هذه الأشياء حقًا!.. تصير غير موجودة بالفعل!

هل نتلقّى الهزيمة الكاملة لإرادتنا على هذا النحو من العجز..

حيث لن يمكننا عمل شيء!

الروائح الرطبة القديمة.. ورحبة جامع عمرو ينبسط خلفها الخلاء حتى أقدام الجبل..

المدينة المحروقة.. كأنما قُدّر لها أن تظل محروقة للأبد.. بقمائن الفخار والمحاجر المتناثرة

وأنا.. الذي لست سعيدًا الآن.. وبلا رغبات أيضًا..

لا أريد شيئًا.. ولست ذاهبًا إلى شيء.. فقط هذه اللحظات المفعمة بالرطوبة والروائح الخاصة والمزيد منها

هل يستحق ذلك- حقًا - كل هذا الأكل والشرب والنوم والاستيقاظ والنزول والركوب والعمل.. ألا يتصارع الناس.. يتحابون ويتباغضون.. فقط لتجاهل مأزق كهذا!!

لنسيانه

يذهبون بعيدًا جدًا..

بعيدًا.. عن لحظات وجوههم القوية حيث يبصرون ويسمعون ويميزون الروائح..

بعيدًا عن الأماكن التي تجهش عندها أرواحهم..

فيتوقف الواحد فجأة.. يتلفت حوله ويتمتم:

لماذا – حقًا - ذهبت بعيدًا هكذا؟

 

لا يمكنه تحديد ذلك

مرات كثيرة.. وأنت تقطع الطرق تلك

دائمًا تقع الدكة هذه في منتصف المسافة..

وتجتذبك

أوقات مختلفة من النهار والليل.. تقطع مشيك.. وتنسى ما أنت ذاهب لأجله.. يوجد وقت دائمًا لكوب القهوة الذي يعده العجوز بمجرد أن يراك.. تجلس مرتاحًا في مكان اثنين.. فتنصرف لنفسك كلية تحادثها بخفوت وود..

كيف قد ذهبت بعيدًا بالفعل.. صرت متزوجًا

وتعمل.. لك بيت حديث بما يكفي.. وبعيد جدًا عن هنا.

 

عندما تنضج داخلنا تلك القصص تصير سهلة جدًا ويمكن حكيها لأي واحد..

كائن هذا المكان ظل صعلوكًا دائمًا.. وكان جاوز الثلاثين دون أن تطالبه الحياة بعمل..

سوى على سبيل تغيير عاداته.. وهي في غالبها أعمال لم تعد بنفع عليه.. فتوقف مستهلكًا ميراثه..

لذا حتى ذلك الحين لم تكن الحياة قد أرغمته على شيء. كان يفعل ما يريد دائمًا.. غير أنه في أحيان كثيرة.. كان لا يمكنه تحديد ذلك.

 

الرقص

صار من النادر أن تبيت هنا وتخلصتَ أيضًا من السرير لتصير الغرفة أوسع.. تأتي لتدفع الإيجار وتقعد قليلاً على السطح.. تدخن.. وتنظر ما آلت إليه الأمور.. وكان الزلزال قد فتت الحي..

مشاهد بدت لك خالدة.. على الأقل في عمرك.. الأقصر طبعًا من المباني.. تلك التي أمّحت فجأة وصار من غير الممكن حتى تذكر بعضها..

كثير جدًا من تلك البيوت الحجرية الواطئة..

اختفت بناسها وشرفاتها.. وبدت من الفراغات على جدرانها التي لم تسقط.. دهانات الغرف الداخلة بألوانها الحادة.. وبقايا أثاث.. وقطع ملابس وملاءات ترفرف مع الهواء.. وتفقد ألوانها تدريجيًا..

بيوت حرمها الزلزال من شيخوختها البطيئة.. كم هي رحيمة بنا الشيخوخة تلك..

كان كل هذا الخراب يعصف بي ويدفعني بعيدًا عن سور السطح.. ولكن لأين!..داخل الغرفة صار خربًا أيضًا.. وخريطة الآثار الإسلامية بالقاهرة.. والتي تبين عصورها المختلفة بالألوان والشوارع والحواري يمكنك تتبعها.. وتشغل نصف حائط كامل.. وقد صار ورقها قديمًا الآن.. ومكان يديك- لما كنت تقفز جاريًا عندما يستخفك الطرب لشيء- واضحًا..

تجري..

في المكان المتاح.. والذي لا يسمح سوى بخطواتٍ ثلاث وتصدم الحائط بيديك حتى لا ينخبط وجهك.. كما حدث في مرات بالفعل..

كنت ترى في هذه المسألة جنونًا مطبقًا خاصًا لا يجوز إطلاع أحد عليه..

بدا مكان اليدين مسودًّا في بقعتين من الخريطة.. وقد تلطخت أجزاء أخرى بالأصباغ..

وعانت من التآكل أطرافها خاصة قرب المسامير التي تثبتها للحائط إلى جوار المكتب..

كنت تراها بمثابة خطة جاهزة للتجول.. بدأت في تنفيذها فعلاً.. ستمر من هذه الشوارع على التوالي تتأمل أبنيتها التي تعنيك.. واحدة واحدة..

لكل حي وقت يلائم تعقده على الخريطة .. تلك التي أصدرتها مصلحة المساحة سنة 1948.. وقد قامت ثورة غيرت أسماء الشوارع عدة مرات..

عمومًا لم تكن مشكلة.. من الذي ينظر في الخريطة ولا يعرف أن شارع الملكة نازلي هو شارع رمسيس.. وأن ثكنات قصر النيل بالإضافة إلى ميدان الخديوي إسماعيل مكانهما الآن ميدان التحرير والذي هو ميدان السادات كذلك..

لكن.. من يهتم بالمعالم الكبيرة هذه!!..

تشغلني تمامًا الحارات التي تتلوى في الخريطة كديدان رفيعة مختلفة الأطوال.. وقد بقيت هذه- بأسمائها- خارج الأزمنة.. تدون وقتها الخاص ببلاغة..

حارة (حبس الرحبة) المتفرعة من شارع (رحبة العيد).. ها أنت واقف بين وكالة (بازرعه) ومنزل ووكالة (أوده باشي) وخانقاه (سعيد السعدا) الفاطمية..

الأسماء هذه.. التي تشعلك بالاستطلاع والرغبة في التتبع ومعرفة المعنى.. لترى مع هؤلاء البشر الفانين أزمنتهم بما حفلت به من متعٍ وشهوات وأفكار ومؤامرات وأحلاف..

الحمقى..

يتصرفون دائمًا وكأنهم خالدون.. لا يرد بخاطر الواحد أنه يصير ذات وقت اسمًا غامضًا في خريطة لتدريس الآثار..

حتى اليوم الأخير من أيامهم كانوا يحتاطون للغد ويبحثون عن الأمن..

أي أمن..مجانين والله هؤلاء الناس..

أم أنك المجنون!

هل يجري شخص عاقل هكذا في مساحة مترين ونصف.. يتفادى الحائط كل مرة بصعوبة أكثر..

ولكنه الجنون الذي تحتاجه جدًا.. ولم يمكنك مطلقًا أن تحل هذه المشكلة بإزاء زوجتك.. لم تكن قد رأت الغرفة ولم يكن ممكنًا أن تذكر لها شيئًا عن هذا..

ولم يمكنك أبدًا- في حضورها- أن تقفز طربًا وتجري من حائط لحائط.. لأن جملة أعجبتك في كتاب.. أو أن أغنية مست بالضبط ما تريد غناءه..

كانت تلك المسألة- التي ظننتها هينة- جوهرية جدًا.. ولا يمكنك تفاديها سوى بتفادي الوقوع في فتنة الجمال..

ينبغي أن يكون الواحد متعقلاً في غالب الأحيان.. مادام غير نائم وليس في ممارسة جنسية..

وعمومًا أنت لن يمكنك أن تصل لذلك التصاعد في حضور أحد.. لن تصفو وتندمج تمامًا بالأشياء.. إلى جوار شخص يتفرج على التليفزيون.. أو يتحدث.. أو ينام..

هي وحدتك أيضًا التي تحبها لأجل الأشياء البسيطة تلك

لست مجنونًا على نحوٍ جلي.. لكنك شخص وحيد.. تفتت عنك الجماعات البشرية كلها..

الأقوام والقبائل والعائلات والأسر.. لم يعد يلائمك أيًا منها.. وتحب وحدتك فعلاً..

ولن تُدخل مكانك ثانية أي شخص يشاركك الإقامة.. سوى لو ضيفًا لبعض الوقت تصغى شاردًا لنصائحه وملاحظاته.. دون أن يلزمك ذلك بشيء..

مهم جدًا أن ترقص عندما يشعلكَ الطرب ومهم أيضًا ألا يكون ذلك في حضور أحد

 

لعبة الزمن

تنزل لتدفع الإيجار.. ويطالعك وجه الحاجة ( أم بحبح ) كما هو.. فقط صار نسيانها أكثر وسمعها أثقل.. وتعرفك مازالت وإن خلطت مرات بينك وبين ابنها الأصغر(طارق) سائق الميكروباص..

والذي ترك مصر القديمة و"قعد عند أهل مراته" بشارع ناهيا ببولاق الدكرور..

وكانت الحاجة قد ذهبت- قبل زواجه- إلى بولاق (أبو العلا).. تسأل هناك عن أهل زوجته.. لتطمئن وتعرف :"أصلهم وفصلهم" ولم تكن تعرف أن هناك بولاق ثانية..

و(منى) تتعجب :"بقى ما تعرفيش يا أمه أن فيه حِتة اسمها بولاق (الدكرور)!"..

:"لا والنبي يا بنتي.. ما سمعتش بيها دي ماعرفش غير بولاق وخلاص.. رحت وسألت على شارع ناهيا.. ولاد الحلال ركبوني .. الحتت دي كلها طلعت أمتى .. شوارع وعماير .. جم منين الناس دول"..

ولم تعد (منى) تطمئن على تركها وحيدة بعد احتجاز جمال في الخانكة.. وتكلمت مع كريمة أختها.. واتفقوا أن تبيت واحدة دائمًا معها :"دي بتتوه وتنسى.. ويتخاف عليها لوحدها"..

وتغالطك – أم بحبح- أيضًا في الإيجار القليل الذي تدفعه لها أحيانًا مرتين في الشهر الواحد كي لا تتعب رأسك في محاولة تذكيرها.. حيث تفقد السمع أيضًا في تلك الحالة..

كانت الشروخ قد أصابت البيت عقب الزلزال..

وكان قرار اللجنة [ تنكيس البيت وإزالة الدور العلوي].. ورفعت هي دعوى طعن على القرار.. مما أبقى [ الوضع على ما هو عليه لحين الفصل في الطعن]

والشقوق بانت في الغرفة أيضًا في عدة حوائط وقررت ترميمها.. وأن تبيّضها..

وهي لا تفهم لماذا تفعل ذلك الآن.. والحكم قد يؤيد قرار اللجنة وتزال الغرفة :"دي تاخد لها تُلتميت رُبعميت جنيه يا ابني.. انته لاقي فلوسك".

 

لم تكن تعرف أنني لا أحتملها هكذا.. وقد عانيت من تهدمها البطيء المتراكم عبر السنوات وطلاءها الجير متساقط عن الطلاء السابق له في عدة مواضع.. والتراب في كل مكان..

وكانت قالت لي مرات :"ما تبيض الأوده.. دي بقالها سنين"

ولكن الكسل وعدم الرغبة في فقد الألفة جعلاني أقاوم.. وها أنا على مشارف فقدها أقرر تجديدها.. كأنني ألاعب الزمن لعبة جديدة..

أرتد بالغرفة- بهذا الترميم- عشر سنوات..

لماذا لا يمكننا ذلك بشأن أجسادنا أيضًا.. تتهاوى هذه الأجساد لحظة بعد لحظة.. وعندما نمرض نرى ما صرناه.. وما سنصيره عما قريب..

أما من سبيل لأجساد جديدة نختارها تبعًا لمواصفاتنا.. ونحافظ عليها أفضل.. وقد راكمنا خبرة الحفاظ على الجسد هذه.. فلا نرتكب حماقات صرنا نعرف خطورتها.. أو نختار أصلاً أجسادًا تحتمل حماقاتنا..

ليست الحماقات فقط..

الأجساد الغضة تستشعر العالم على نحو أفضل.. تتلمس الهواء وتحب الشمس والرياح والمطر

يا الله.. هل تذكرون العالم وهو جديد كم كان صحيحًا جدًا.. لعبة هي إذن.. ترى هل نجحت..

وتجددت الغرفة..؟!

صارت فعلاً بطلاء جديد كيوم سكنتها.. وفارغة كذلك.. وقد سددت الشقوق وعالجت السقف وأصلحت الشباك.. وبدأت تدخل حاجياتك وكتبك التي كنت كومتها في ركن السطح المسقوف أمام الحمام المهجور وأصلحته أيضا لتستخدمه.. وقلت لـ (بحبح) – ابن الحاجة الذي قام بالعمل- أن يأخذ السرير فلم تعد بحاجة إليه.. وفرح به جدًا..

كنت اجتذبتك شقة باب اللوق – بقربها من وسط البلد ودفئها في الشتاء- عن المبيت هنا .. صرت تأتي زائرًا لا تنام.. والسرير يحتل مساحة تحتاجها للجري عندما تتوهج.. وتكفيك المرتبة لو أردت النوم..

صنع لك مكتبة هدية.. كما أهديته السرير..

كان غريبًا بحبح هذا.. لا يعطي ولا يأخذ شيئًا دون مقابل.. كان اسمه هو الشيء الوحيد الذي أعطاه لأمه.. وحاولت طوال الوقت التخلص منه بلا جدوى.. صارت (أم بحبح)

:"مع أن اسمه عبد الفتاح وكنا بنقوله بحبح دي وهو صغير.. دلع يعني.. وأهو.. بدال ما أبقى الست الحاجة أم عبد الفتاح.. بقيت أم بحبح"

وتهز نفسها وهي تضحك

:"يآما جاب الغراب لامه"

وتشير لركن الغرفة

:"ما تشيل الحنفية دي بالمرة.. ملهاش لازمة..

فاكر زمان أما كنت تسيبها مفتوحة.. أيام ما كانت الميه ما بتطلعش غير بالليل.. وتروح مطرح ما تروح.. وأصحى ف نصاص الليالي.. والميه بتنقط على وشي م السقف.. وأخلي جمال يطلع ينط م الشباك يقفل الحنفية.. يلاقي الكليم اللي ع الأرض عايم على وش الميه.. وأحلف ميت يمين ما تستنى فيها.. وأول ما أشوفك.. ماتهونش عليا أزعلك.. دا أنت زي جمال وطارق.."

"منهم لله..بيدوا له جلسات كهربا بتهده يا عيني.. أديني باروحله كل يوم جمعة.. التمرجية لو مش بالقرش يقعدوه لا أكل ولا شرب.. بس برضه هوه اللي عمل كده ف نفسه.."

وتخفض صوتها:"هوه بس أنا باشوف.. عايزالها قرشين كتار شوية..ويكتبو له خروج.."

يكون (بحبح) قد انتهى من تثبيت رف الخشب الذي اسماه بالإضافة لرفين آخرين مكتبة..

ويحادث أمه وهو لا ينظر لها..

:"يعني ح يطلع يعمل إيه.. هوه كان بره مشاء الله قوى.."

وهي تنظر نحوه بضيق..

:"اتلهي على عينك.. دا أحسن منك.. أقله حِنّين.. البركة ف الهانم اللي نستك أهلك.. إن ما كانت تُكرشك باللباس يا خول.. هوه انته لك لازمة من أصله"

ويبتسم في (كلاحة) وقد تبقى له عندك ثلاثين جنيهًا.. ويريد أن تشهد أمه عليها.. وتنظر له ساخطة

:"وبتاخد أجرة أيديك على شغل في بيت أبوك يا بحبح.. والله ماتاخدهم"

وتحلف عليك ألا تعطيه شيئًا..

وتعطيهم له.. لما تقابله في الشارع بعدها بوقت.. وقد رُفض الطعن.. ونفذت الإزالة

ولم تعد الغرفة موجودة إطلاقًا..

 

 

منتصف العمر

كنت جددت الغرفة في بداية الصيف الخامس والثلاثين لك..

هي نقطة منتصف – متفائلة قليلاً- لعمرٍ تفترض أنه قد يصل السبعين .. دون أية تأكيدات طبعًا.. محض افتراض.. تفسده تمامًا حادثة سيارة أو سرطان أو حتى نوبة برد قوية..

كم نحن مضحكون لنحتمي بثقة كتلك.. بأشياء بالغة الهشاشة كأجسادنا..

نظننا قادرون على تسييرها دائمًا بإرادتنا التي نراها قوية الآن..

الخامسة والثلاثون تناسب الكثيرين لتغيير حيواتهم..

نقول لأنفسنا.. كفى..

كفانا هذه الأشياء التي لا تصنع قصة.. لم لا ننسج قصتنا نحن وننفذها بجهود واقعية..

كتجهيز شقة ملائمة.. وإعداد أثاث مناسب..

وتهيئة الذات لقبول الالتقاء بالعالم في نقطة متوسطة كأعمارنا..

ننجب أطفالاً.. ونربيهم.. ليصيروا ناسًا صالحين أكثر منا.. نخلق أشخاصًا جدد نحملهم أحلامنا وملامحنا.. ونحن مندمجون بهم على نحو (جيني) مؤكد.. وقد تكون صدف أيامهم أكثر ملائمة فينجزون..

ما الذي ينجزونه؟!

هراء كل هذا.. لن نعود نحن أطفالاً أبدًا.. لن ندخل أجسادًا جديدة تتفتح كل يوم بملايين الخلايا وهي تنمو مرحة كمسألة النمو ذاتها..

سينمون هم أيضًا غافلين كما نَمَونا.. ويصيرون في منتصف أعمارهم بلداء ويائسين يريدون تغييرها.. وقد كرروا أشياء عالمهم آلاف المرات..

و "لم تعد تصيبه ولا برمية واحدة في القلب.. تلك الغابة التي أتم اجتيازها" ذلك الشاعر.. الذي لا أتذكر اسمه.. وإنما علقت كلماته برأسي لتواجه كلمات أكثر تفاؤلاً لمحمود درويش:

"أكلّما وجدت أنثى أنوثتها.. أضاءني البرق من خصري وأحرقني"

إن الصورة التي تصنعها (أكلّما) هذه.. هي التفاؤل ذاته..

لو أمكنك فقط أن تصدق الهنود وتؤمن بالتناسخ.. لو أمكنك الإيمان بأي شيء..

المؤمنون فقط هم المتفائلون بشأن العالم..

أسطورة (العود الأبدي) هي جوهر نظرية الدين.. كما فهمت من (مرسيا إلياد).. حيث البشر كائنات منحتها الطبيعة رؤوسًا كبيرة وعقولاً متطورة معقدة.. وفي حاجة دائمة لإنتاج الأساطير لمواجهة مأزق الوجود هذا المحكوم بدورات الفناء والتجدد.. وفيما أعتقده خطأ فادح.. أنتجت الطبيعة كائنً يمكنه أن يرى قوانينها غير عادلة..

ويسعى لتغييرها..

وعلى كل.. فيما يعنيني الأمر!!

إذا كان للبشر أن يحلوا مشكلة الموت.. فيفعلون وأنا مازلت حيًا بحق الجحيم..

 

عندما كنت أفكر هكذا كنا وصلنا لمنتصف الصيف.. وبلا تروٍ.. كنت جاهزًا تمامًا لعلاقة تتطور خلال عام لزواج بمأذون وشهود وأهل ومظهر لائق ومناسبات وأعياد ميلاد وواجبات عزاء ومباركة وعزومات وزوار وعمل ثابت ودخل منتظم وبيت لائق وأصدقاء جدد ومواعيد للنوم والطعام والحضور والذهاب والكلام المناسب وغير المناسب ودرجة اللياقة الواجبة في مخاطبة الآباء والأمهات والأقارب وحدود التحرر بين جماعات الأصدقاء المختلفة والأفعال التي قد تصدر عفوًا وتحرج الآخر..

الفيلم كاملاً..

إلى آخر التعقيدات تلك التي كنت تراها بلا آخر.. وتحاول الالتقاء بها في نقطة الوسط الافتراضي التي تبتعد كل مرة أكثر.. ويصير البقاء قربها عسيرًا أكثر..

 

كيف يمكن لشارد الذهن مثلك أن يتنبه لمراعاة اللياقة.. بينما يعاني الأمرين لقمع نفسه.. كي لا يستخفه الطرب لشيء في أكثر اللحظات حرجًا فينطلق جاريًا راقصًا مهدمًا المشهد اللائق كله.. في حضور أناس لا يعرفهم تقريبًا.. ولا يبدون له سوى في وجوه افتراضية.. وقد نسوا وجوههم الأصلية تمامًا فصار التعرف إليهم عسيرًا..

 

ليلة قايتباى

ليلة قايتباى هي التي دفعت كل هذه المياه إلى العالم..

جماعة الأصدقاء الذين استقلوا الـ (السوبر جيت) من القاهرة ظهرًا.. واستقبلوا الشمس اللامعة البطيئة وهي تنزلق في مياه البحر المتوسط بطول ساعات الغروب.. يتنقلون بين مقاهي الكريستال والتجارية بكورنيش محطة الرمل.. وينصرف كل واحد وواحدة إلى محاولة للتواصل..

الاحتمالات كلها مفتوحة.. ومعظمهم غير مرتبطين.. والفتاة ملابسها بسيطة وألوانها متفائلة.. وتستمع جيدًا..

قضيتهم الليل كله إذن في الشوارع والمقاهي ثم بار الشيخ علي.. تغنون بين السكارى.. وقد وحدتكم نذالة شخص رفض استضافتكم لأنك على خلاف مع صديق له..

لتخرجوا سكارى من البار تقطعون الكورنيش في حنطور مكشوف وأضواء الشارع البرتقالية بجوار الظلمة النقية لفضاء البحر تجعل الوجود طازجًا..

ومقاهي (المرسي أبو العباس) قد جعلتها الثالثة صباحًا غير مزدحمة.. والقهوة المرة تجدد يقظتنا وتدفعنا لقلعة قايتباى وقد صارت مملوكة للناس في هذا الوقت المتأخر..

نتماسك – الأربعة أو الخمسة أصدقاء- ليمكننا السير وقد خلعنا الأحذية على إفريز صد الأمواج الحجري الذي يحيط بها.. واللزج بالطحالب التي تغطيه..

وقد صرنا في الظلام خلف القلعة في مواجهة البحر تفاجئنا الفجوات المعتمة لفتحات المدافع بفوهات مواسيرها الصدئة التي ربما لم تنطلق منذ ثورة عرابي..

وقد تحاضنا.. وتماسكت أيدينا.. دون تمييز.. البنات والأولاد.. والصوت الهادر للأمواج

- وهي تتكسر على أحجار المصدّ وتغطينا بالرزاز-

يصنع في الحياة صيرورة دائمة طازجة متجددة.. تدفعنا عندما تطلع الشمس لشوارع الأنفوشي القريبة.. نفطر على أول عربة فول.. ونستفتح أول مقهى يطلق مذياعه صوت الشيخ (محمد رفعت) في باكورة يوم صيفي لم ننم ولا لحظة لنفصله عن اليوم السابق..

أقامت هذه الليلة – وحدها تقريبًا- الجانب العاطفي لعلاقة امتدت لبضعة سنوات تالية..

ذهبت هي للقاهرة في الصباح.. وبقينا.. أربعة تاه رابعنا..

كان ايطاليًا من الجانب الآخر للبحر وخطفته المدينة.. تلفتنا فلم نجده.. وقادتنا شبكة الحارات لسوق المنشية.. وبيت خالتك على بعد خطوات.. لكنه مغلق الآن وليس معك مفتاح..

كانت – خالتك - قد ماتت منذ أكثر من سنة.. وأولادها أقاموا بيوتهم بعيدًا في سيدي بشر والعصافرة.. وكنت لم تعد تروحه كثيرًا في سنواتها الأخيرة وقد صبغه موت (مُنّة) بالأسى.. وصار المكان ثقيلاً..

هكذا تنقضي علاقتك بالأماكن..

ذهبنا – ثلاثتنا- للعجمي لمقابلة صديقة أحدنا حيث غلبنا النوم على كراسي البحر في حديقة الشاليه لنعود في المساء للقاهرة.. وقد نمنا في الأتوبيس.. متجاورين.. أنا وواحدة أخرى.. محتضنًا أياها في ود وبساطة ودون مشاعر جنسية على الإطلاق..

كأخوين.. تمامًا كما ظن عامل البوفيه..

فقط راحة متبادلة.. هكذا.. في يسر.. حتى أضواء بداية الهرم في نهاية الطريق الصحراوي.

 

ليلة زائدة

استمرت – إذن- حالتي الانفعالية لليلة تالية.. وامتدت لصلة بواحدةٍ صارت صاحبتي.. وواحدٍ صار ما بيننا أكثر ليونة وألفة..

لم أُقدر – بالطبع- وقتها أن هذه الليلة المضافة يمكنها أن تمنحني بعض الوقت الزائد لتفرغ شحنتي العاطفية تمامًا..

كنا قد قررنا الانفصال فعلاً.. وأجلته هي عدة أشهر.. ليلائم ظروفها.. كتبت خلالها عدة نصوص..

كنت فرحانًا جدًا بالكتابة.. وفي حاجة تمامًا لها.. وطاوعتني هذه المرة..

وقد ظللت متعطلاً روحيًا تمامًا داخل تعقيدات السنة الأخيرة المليئة بالنزاع والتوتر.. ومحاولات التشبث بالوسط الحسابي للأمور..

منهكًا تمامًا وغير متوازن بالمرة..

وبعدما ساعدتها في إنزال حقائبها للتاكسي..

صعدت الشقة منفردًا.. وفتحت التليفزيون دون صوت.. وأعددت شايًا.. ولففت سيجارة.. وبدا وجه(أنغام) بالشاشة فأعدت له الصوت..

كانت تغني أغنية عبد الوهاب:

مضناك جفاه مرقده وبكاه ورّحم عوّده

وكان إحساسها بالكلام مدهشًا.. ونقل لي كلام شوقي أجمل من عبد الوهاب نفسه..

ووجدتني مأخوذًا بها.. واقفًا.. أتهيأ للجري..

لم أكن جريت قبلاً في هذه الصالة بطولها الذي يجاوز التسعة أمتار.. فجريت أولاً بالعرض أربعة أمتار ملائمة أكثر..

ولما كان الصوت يرتفع ويمتد بإيقاع الموشح:

الحسن حلفت بيوســفه و(السورة) أنك مفرده

وتمنت كل مقطعة يدهـا لو تبعث تشهـــده

كنت حولت اتجاهي..

وصرت أرقص طربًا وأنا أجري بطول الصالة الآن.. والجار أسفلي بالبلكونة يضرب كفًا بكف.. ويقول لزوجته بالداخل ليسمعني.. أنه لو لم يرني بعينيه أوصل زوجتي بحقائبها للتاكسي أمام الباب لفسر الأمر على أننا نتخانق.. ولكنه لا يدري كيف يفسر هذا (الهبد) فوق وهو متأكد أنني الآن وحدي.. وكُنت قد ضغطت المسجل في بداية الأغنية.. فسجلت كلامه أيضًا.. قبل أن أتنبه وأغلق النافذة.. ولأسبوعين تاليين أستمع الأغنية وتعليقات الجار تتصاعد بين المقاطع..

كنت أكتب الآن وآكل بشهية.. وأريد الانتهاء من هذا الأمر بأيسر الطرق.. وأنا استعيد مع الجري قدرتي على الانتشاء والقراءة ومحبة الأصدقاء ونفسي والعالم.