الهاتف
ربما يعود الأمر إلى تركيبة الجهاز أو إلى بنية الذاكرة. الأكيد هو أن صدى جلبة المكالمات الهاتفية الأولى يختلف عنه في مكالمات اليوم. لقد كانت جلبة ليلية. لم تعلنها ربة فن، والليل الذي أتت منه كان هو الليل نفسه الذي يسبق أي ميلاد حقيقي، والصوت هو المولود الجديد الذي كان غافيا داخل أجهزة الهاتف. كان الهاتف هو أخي التوأم في كل يوم وكل ساعة. لقد شهدت كيف خلّف سنوات إذلاله الأولى وراء ظهره، إذ أنه عندما ذوت الثريات وحاجز المدفأة ونخلة الحجرة والكُنسولة ومناضد الصالة الصغيرة وإفريز النافذة البارزة، وماتت موتا مؤكدا، بعدما كانت في السابق تحتل مكانة بارزة في الصالة، أدار الجهاز ظهره للممر المظلم وكأنه بطل أسطوري كان قد تُرك للموت في أخدود جبلي، وانتقل بزهو ملكي إلى الغرف الأكثر إضاءة وإنارة والتي صار يسكنها الآن جيل جديد. ولهذا الجيل أصبح الهاتف هو السلوى في الوحدة، إذا أنه كان يبرق لليائسين الذين يريدون مغادرة العالم بآخر بصيص أمل، ويشارك المهجورين أسرتهم. الرنين الصاخب الذي كان ملائما له في المنفى، صار مع انتظار الكل للمكالمة أقل دويا.
لا يعلم كثيرون ممن يستخدمون الهاتف أي خراب سببه ظهوره في السابق في بيوت العائلات. الصوت الذي كان يرن بين الثانية والرابعة عصرا عندما يرغب أحد أصدقائي في التحدث إليّ، كان بمثابة إنذار لا يهدد قيلولة والديّ فحسب، بل ويهدد أيضا ذاك الزمن الذي اعتادا فيه على هذه القيلولة. كان الخلاف مع موظفي تحويل المكالمات هو القاعدة، ناهيك عن التهديدات واللعنات التي كان يصبها والدي على مصلحة الشكاوى. لكن قصفه وانفعاله الحقيقيين كانا من نصيب ذراع التحريك الذي كان يديره لدقائق يكاد خلالها أن ينسى نفسه. كانت يده في الأثناء درويشا يغلبه الدوار. ساعتها كان قلبي ينبض بعنف، لتأكدي في هذه الحالات أن الموظفة على الجهة الأخرى من الخط مهددة بنيل ضربة عقابا على إهمالها.
خلال تلك الفترة عُلق الهاتف مشوها ومنبوذا بين خزانة الملابس المتسخة وعداد الغاز في إحدى زوايا الممر الخلفي، حيث ضاعف ضجيج رنينه من فزع سكان البيت البرليني. وعندما كنت أسيطر بجهد جهيد على حواسي وأتمكن بعد فترة من التلمس وتحسس الطريق عبر الممر المظلم من إسكات الجلبة، وأرفع السماعتين اللتين لهما وزن ثُقالة الحديد وأحشر رأسي فيما بينهما، أصبح حينها مستسلما تماما للصوت الذي يتحدث. لم يخفف شيء من العنف الذي كان يخترقني به الصوت. كنت أعاني بلا حول ولا قوة شاعرا بفقدان إحساسي بالزمن وبمقاصدي وواجباتي. ومثل الوسيط الروحي الذي يتبع ما يمليه عليه الصوت الذي يهيمن عليه من العالم الآخر، كنت أستسلم في طاعة لأول اقتراح يأتيني عبر الهاتف.
صباح شتوي
الجنية التي تضمن تحقيق أمنية ما، موجودة لدى الجميع. لكن قليلين هم من يستطيعون تذكر أمنيتهم، وقليلين أيضا من يستطيعون لاحقا وخلال حياتهم إدراك أن أمنيتهم قد تحققت. أعرف أمنيتي التي تحققت ولا أريد القول إنها كانت أكثر حذقا من تلك التي يتمناها أطفال الحكايات الخيالية. لقد تشكلت داخلي مع المصباح، الذي كان مع اقترابه من سريري في الصباح الشتوي الباكر، في الساعة السادسة والنصف، يلقي بظل مربيتي على غطاء السرير. تُوقد شعلة في الفرن. وسرعان ما تتوجه هذه الشعلة التي بدت محشورة في درج صغير جدا لا تكاد تستطيع التحرك داخله من كثرة الفحم، بالنظر إلي. ومع ذلك يبدأ شيء هائل في التشكل هناك بالقرب مني، شيء أصغر مني ويتطلب من الخادمة أن تنحني له أكثر مما تنحني لي. وعندما يكتمل اشتعال الفرن، تضع الخادمة تفاحة لتحميرها داخله. وسرعان ما يعكس وميض أحمر شبكة باب الموقد على الأرض. ومن فرط تعبي كان يتراءى لي أن هذا المنظر كاف لليوم كله. هكذا كانت الحال دائما في هذه الساعة، وحده صوت المربية كان هو الشيء الذي يشوش على اتمام الأشياء التي اعتاد الصباح الشتوي أن يعهد إليّ بها في غرفتي. لم يكن مصراع النافذة قد فُتح بعد، عندئذ كنت أزيح للمرة الأولى باب الفرن جانبا لاتفحص وضع التفاحة داخله. أحيانا لا يكون تغيير يذكر قد طرأ بعد على نكهتها. أصبر حتى اشتم الرائحة الزكية الفائرة الآتية من خلية من خلايا اليوم الشتوي أكثر عمقا وسرية حتى من تلك التي ينبعث منها عبق الشجرة في ليلة عيد الميلاد. رقدت الثمرة الداكنة الدافئة داخل الفرن، هذه التفاحة التي بدت مألوفة رغم تغيرها، مثل شخص أعرفه جيدا، كان مسافرا في رحلة ثم جاء لزيارتي. كانت رحلة عبر أرض حرارة الفرن المظلمة التي اكتسبت منها التفاحة نكهة كل الأشياء التي يهيئها اليوم لي. ولهذا كان من الغريب أيضا أنه كلما أدفأتُ يدي في خدي التفاحة اللامعين، كان ثمة تردد يعتريني عندما أنوي قضمها. لقد شعرت بأن المعرفة العابرة التي كانت تحملها في رائحتها يمكن أن تتلاشى في طريقها عبر لساني. هذه المعرفة كانت أحيانا مشجعة جدا لدرجة أنها كانت تهوّن علي الطريق إلى المدرسة. عندما أصل إلى هناك، يعود التعب الذي تراءى في البداية أنه زال، مضاعفا عشر مرات. ومعه هذه الأمنية بأن أحصل على كفايتي من النوم. ربما أكون قد تمنيت ذلك ألف مرة وتحقق فعلا لاحقا. لكنني احتجت لوقت طويل حتى أدرك أنه في تحقق هذه الأمنية يتبدد في كل مرة هذا الأمل الذي يحدوني في الحصول على وظيفة ولقمة عيش آمن
الحمى
دائما ما تُعلمني بداية كل مرض كيف يحل المصاب بي بإيقاع واثق وعناية وإتقان. فإثارة الاهتمام كان أمرا بعيدا عنه كل البعد. كان يبدأ ببعض البقع على البشرة أو بإحساس بالغثيان. كان الأمر وكأن المرض قد تعود على أن يصبر حتى يتيح له الطبيب المجال للانتشار. كان يأتي ويفحصني ويؤكد على أهمية انتظاري للبقية الباقية في السرير. ويمنعني من القراءة. عموما كان لدي شيئ أهم أقوم بإنجازه. فقد بدأت في مراجعة ما سيتحتم حدوثه طالما أنه لا يزال لدي وقت ولم تختلط الأمور في رأسي كثيرا. كنت أقيس المسافة بين السرير والباب وأسأل نفسي إلى متى سيظل صوتي قادرا على جسر هذه المسافة. رأيت في خيالي الملعقة التي سكنت في حافتها توسلات أمي، وكيف كشفت فجأة عن وجهها الحقيقي بعد أن اقتربت من شفتي بعناية، ودلقت بعنف دواءها المر في حلقومي. مثل رجل مخدر يقوم بين حين وآخر بالحساب والتفكير فقط من أجل أن يتأكد أنه لا يزال قادرا على ذلك، هكذا كنت أعد الظلال الشمسية التي كانت تتراقص على سقف غرفتي وأعاود تجميع نقوش ورق الحائط في حزم جديدة.
كنت مريضا جدا وهذا هو ربما مصدر ما يراه فيّ الآخرون صبرا، وهو لا يتشابه في الحقيقة مع أي فضيلة: إنه النزوع إلى رؤية كل ما هو مهم لي وهو يقترب مني مثلما تدنو الساعات من سرير مرضي. وهكذا يحدث أن افتقد السعادة في رحلة ما، لو لم أتمكن من انتظار القطار طويلا في المحطة، ومن هنا أيضا جاء ولعي بتقديم الهدايا، فما يفاجئ الآخرين، أستطيع أنا المانح أن أتنبأ به مبكرا. نعم، إن الحاجة إلى التطلع لما سيأتي مستعينا بفترة الانتظار، مثلما يستعين المريض بالوسادات لسند ظهره، قد جعلتني لاحقا أرى النساء يبدون أجمل كلما كان علي أن انتظرهن بارتياح أكثر ولفترات أطول.
سريري الذي كان عادة مكانا للوجود الأكثر إنسحابا وسكونا، نال الآن منزلة واهتماما عاما. لوقت طويل لم يعد موطنا للعمليات السرية المسائية: كالمطالعة ولعبتي مع الشموع. الكتاب الذي كنت أضعه عادة تحت الوسادة ووفقا لطقس محرم يتكرر كل ليلة بآخر ما تبقى لي من قوى، لم يعد موجودا. واختفت خلال هذه الأسابيع تيارات اللافا والمواقد الصغيرة التي كانت تجعل الشمع الشفاف يذوب. ربما لم يسرق مني المرض بالأساس سوى هذه اللعبة الساكنة الحابسة للأنفاس، التي لم تخل أبدا من خوف غامض يداهمني. وهذا الخوف كان نذيرا لخوف لاحق رافق لعبة مشابهة على حافة الليل ذاتها. كان على المرض أن يأتي لكي يمنحني ضميرا نقيا. كان أمرا طازجا مثل هذا الموضع من ملاءة السرير الخالية من أي ثنيات، التي كانت تنتظرني كل مساء حينما يحين موعد رقادي. عادة ما تسوي أمي السرير. ومن الأريكة كنت أتابعها وهي تنفض الوسائد والأغطية. وأفكر في المساءات التي استحممت فيها وجاءني طعام العشاء إلى السرير على صينية من البورسيلين. خلف طلاء الصينية اخترقت امرأة بجهد دغلا من أغصان توت العليق مواجهةً الريح ببيرق عليه الشعار التالي: "سواء ذهبت شرقا أو غربا بيتك هو الأفضل". وكانت ذكرى هذا العشاء وذكرى أغصان توت العليق تزداد لطفا عندما يتراءى للجسم أنه قد تسامى للأبد عن حاجته لأكل شيء ما. ولهذا كان يتشهى الحكايات. التيار القوي الذي كان يملؤها، كان يسري فيه ويجرف معه الأعراض المرضية وكأنها خشب طاف. كان الألم سدا حاجزا، يقاوم الحكاية في البداية فقط، لكن لاحقا وعندما تتكاثف الحكاية، تتغلب عليه وتدفعه إلى هاوية النسيان. مهّد الربت اللطيف لهذا التيار حوضه. وكنت أحب ذلك لأنه من يديّ أمي كانت تنسال حكايات، سأسمعها منها لاحقا. ومع هذه الحكايات ظهر إلى النور القليل مما عرفته عن أسلافي. كانوا يستحضرون مسيرة حياة أحد أسلافي، والقواعد الحياتية لجدي وكأنهم يريدون أن يفهمونني أنه من العجلة أن أتخلى عن الامتيازات الكبيرة التي أمتلكها بفضل أصلي، عبر موت مبكر. أمي كانت تختبر كل يوم مرتين مدى اقترابي منه. باحتراس كانت تذهب بالترمومتر إلى النافذة أو تحت المصباح وتمسك بالأنبوب الرفيع وكأنه يضم حياتي داخله. لاحقا وعندما كبرت لم يعد من الصعب علي أن أفسر سر وجود الروح في الجسد على أنه وضع خيط الحياة في الأنبوب الصغير الذي يزوغ فيه دائما عن بصري.
كان قياس الحرارة أمرا مجهدا. بعده كنت أفضل البقاء وحيدا، لكي أنفرد بوسادتي. إذ أنني وثّقت خلال فترة ما علاقتي بتعرجات ونتوءات الوسادة. وكنت ساعتها لا أفهم كثيرا ما هو المقصود بالتلال والجبال. كنت اختبئ مع القوى التي تُنشئ هذه التضاريس تحت غطاء واحد. وهكذا كان يحدث أحيانا أن تنفتح مغارة في السد الجبلي. كنت أزحف داخلها وأسحب الغطاء فوق رأسي وأضع أذني على الأخدود المظلم وأغذي السكون بين حين وآخر بكلمات ترتد إليّ في صورة قصص. من حين لآخر كانت الأصابع تتدخل وتقوم بنفسها بفعل معين أو تبني "متجرا" مع بعضها البعض، وخلف الطاولة التي يشكلها الإصبعان الأوسطان، يومئ البنصران بحماس للزبون الذي هو أنا. لكن رغبتي كانت تخبو أكثر فأكثر كما تضعف أيضا سلطة مراقبتي للعب الأصابع. في النهاية كنت أتابع دون فضول تقريبا عبث أصابعي، التي كانت رعاعا حائرين ومتراخين يهيمون على مشارف مدينة يلتهمها الحريق. ليس من الممكن أن تأمن جانبهم، إذ أنهم حتى لو اتحدوا في براءة، لم يكن من المؤكد أبدا أن يفترقوا في صمت ويسير كل منهم طريقه كما كانت عليه الحال سابقا. أحيانا كان طريقا ممنوعا هذا الذي في نهايته استراحة حلوة تكشف المنظر الجذاب الذي يتحرك في غطاء اللهب الموجود خلف جفني العين المغلقين. فرغم كل العناية أو الحب التي تلقيتها لم يكن ممكنا وصل الغرفة التي بها سريري بشكل تام بما يجري في بيتنا. كان علي أن أنتظر حتى يحل المساء. لأنه حينما كان الباب ينفتح أمام المصباح وتتأرجح استدارة فانوسه على العتبة باتجاهي، كان الأمر يبدو وكأن كرة الحياة الذهبية التي تدير كل ساعة من ساعات اليوم، قد وجدت وهي تدخل غرفتي للمرة الأولى مهجعا نائيا. وقبل أن يأخذ الليل راحته تماما لدي، كانت تبدأ عندي حياة جديدة، أو بالأحرى تنتعش الحمى القديمة تحت ضوء المصباح من لحظة لأخرى. وقد سمحت لي هذه الوضعية أن استفيد من الضوء الذي لا يحصل عليه آخرون بسهولة. لقد استفدت من سكوني وقربي من الحائط الملاصق لسريري لتحية الضوء بخيال الظل. انعكست كل الألعاب التي أتاحتها أصابعي مجددا على ورق الحائط بوضوح أقل وببهاء وغموض كبيرين. "بدلا من الخوف من ظل الليل" هكذا ورد في كتاب ألعابي، "يستخدمه الأطفال الظرفاء، لكي يوفروا لأنفسهم جوا من المرح"، وتلي ذلك تعليمات بصور كثيرة تشرح كيفية صنع ظلال على ظهر السرير لجدي أو لرامي قنابل أو لبجعة أو أرنب.
أنا نفسي نادرا ما أنجزت شيئا يتجاوز فم ذئب، لكنه كان كبيرا جدا وعاويا بحيث لا يمكن أن يكون سوى لذئب الفنريس الأسطوري الذي تركته يتحرك باعتباره مدمرا للعالم في المساحة ذاتها التي تركوني فيها أتصارع مع مرض الأطفال. ذات يوم انسحب المرض. وخفف التعافي، مثل الولادة، من القيود التي كانت الحمى تفرضها بإحكام. وبدأ الخدم يترددون علي أكثر ليقوموا بما كانت تقوم به الأم. وذات صباح استسلمت مجددا بوهن وبعد فترة انقطاع طويلة لصوت نفض السجاد الذي كان يدخل عبر النافذة ويحفر في قلب الطفل حفرا أعمق مما يحفر صوت المحبوبة في قلب الرجل. نفض السجاد الذي كان تعبيرا ينتمي للطبقات الدنيا، ويخص الكبار بحق، لم يتوقف أبدا وظل دائما محافظا على معناه، أحيانا كان يسكن بعض الوقت ثم يستمر بتراخ وهدوء ثم يعود إلى ركض غير مبرر وكأنه يتعجل قبل سقوط المطر.
مثلما كان المرض غير ملحوظ في بدايته، غادر أيضا على هذا النحو. إلا أنني وعندما أصبحُ بصدد نسيانه تماما كانت تأتيني تحية أخيرة على شهادة المدرسة. عدد الساعات التي تغيبتها كان مسجلا أسفل الشهادة. لم يبد لي العدد بأي حال من الأحوال رماديا أو رتيبا مثل عدد الأيام التي كنت حاضرا فيها، بل كان مصفوفا مثل الأشرطة الملونة على صدر مصابي الحرب، وكلما طالت شارة التكريم كلما تجسدت في عيني هذه الملحوظة: غياب-مئة وثلاثة وسبعون ساعة.
القمر
الضوء الذي ينسال من القمر، لا مكان له في مسرح وجودنا النهاري. المحيط الذي يضيئه بصورة مضللة، يبدو أنه ينتمي لكوكب أرض مضاد أو مجاور. إنها ليست الأرض التي يلف القمر حولها كتابع، بل هي نفسها التي تحولت إلى تابع للقمر. صدرها الواسع، الذي كان نَفَسُه الزمن، لم يعد يتحرك. أخيرا عاد الخلق إلى موطنه ويمكنه ارتداء وشاح الأرامل الذي مزقه النهار. فهمت ذلك من شعاع الضوء الشاحب الذي كان يمرق إلي عبر ألواح الشيش. صار نومي قلِقا: مزقه القمر بمجيئه وذهابه. عندما كان يحضر في الغرفة وأصحو، أصبح طريدا، إذ بدا وكأنه لا يريد أن يؤُوي أحدا معه. حوضا الغسيل بلونهما السكري كانا أول شيء يقع عليه نظري. خلال النهار لم يخطر لي أبدا أن أتوقف عندهما. لكن في ضوء القمر كان الشريط الأزرق الذي كان يلف الجزء الأعلى من الحوض مصدرا للإزعاج. كان يعطي انطباعا خادعا بأنه من النسيج ويتخلل ذيل تنورة، وفي الواقع كانت حافة الحوضين مثنية مثل كشكشة. في وسطهما وقف إبريقان منتفخان من نوع البورسيلين ذاته، وبزخرفة الزهور نفسها. عندما كنت أقوم من سريري كانا يصلصلان وهذه الصلصلة وجدت لنفسها أرضا خصبة في اللوح الرخامي لمائدة الغسيل وآنياتها. وبقدر فرحي لسماع إشارة حياة في محيطي الليلي حتى ولو كانت صدى لي أنا نفسي، بقدر ما كانت رغم ذلك إشارة لا يعتمد عليها وكانت تنتظر لتخدعني مثل صديق مزيف. حدث هذا عندما رفعت يدي بالإبريق من أجل أن أصب كوبا من الماء. قرقرة المياه، وهذا الصوت الذي وضعت به الإبريق أولا ثم الكوب جانبا-كل هذا ارتطم بأذني كتكرار. لأن كل مواضع هذه الأرض المجاورة التي انتقلتُ إليها، بدت في حوزة الماضي. وكان علي أن أعلن رضوخي داخلها، فإن ذهبت للسرير كنت أخاف دائما أن أجد نفسي مستلقيا فيه بالفعل.
وكان خوفي لا يهدأ تماما إلا عندما أشعر مجددا بملامسة ظهري للمرتبة، عندها كنت أنعس، وينسحب ضوء القمر ببطء من غرفتي. وكثيرا ما كانت تغرق في الظلام عندما أصحو للمرة الثانية أو الثالثة. كانت اليد هي أول من يتشجع للغوص في خندق النوم لتحتمي به من الحلم. ولكن عندما يهدئ ضوء الليل من روعها وروعي، يتبين أنه لا يتبقى من العالم شيء سوى سؤال مستعص، وهو: لماذا يوجد شيء في العالم، لماذا العالم؟ باندهاش أدركت أن لا شيء يمكنه أن يرغمني على التفكير في العالم. إن عدم وجوده لم يكن ليتراءى لي أكثر ريبة من وجوده الذي بدا أنه يغض الطرف عن عدمه. عند بزوغ القمر، ليس للبحر وقاراته إلا ميزات قليلة أمام حوض غسيلي. لم يتبق شيئ من وجودي أنا سوى رواسب الهجران.
الدوارة
اللوح ذو الحيوانات السهلة الاستخدام يدور بالقرب من الأرض. يجعلك علوه تحلم بالطيران على أفضل وجه. تبدأ الموسيقى ويدور الطفل مبتعدا عن أمه. يخشى في البداية مفارقتها ثم يلاحظ بعد ذلك كيف أنه وفي لنفسه. يتربع كحاكم مخلص على عرش عالم يملكه. عند أطرافه تصنع الأشجار وأهل المدينة تشريفة. عندئذ تظهر الأم ثانية في شرق ما. وبعدها يخرج من الأدغال برعم، كالذي رآه الطفل قبل آلاف السنين، كالذي رآه الطفل لتوه ولأول مرة هنا فوق الدوراة. حيوانه شغوف به: وهو مثل آريون أصم يركب فوق دلفينه الصامت، ثور-زيوس خشبي يخطفه باعتباره أوروبا العفيفة. وهكذا يصبح العود الأبدي لكل الأشياء حكمة طفولية قديمة والحياة انتشاء عتيق بالسلطة مع الأرغن الآلي المدوي كدرة التاج في المنتصف. وإذا ما تباطأت الموسيقى يبدأ المكان في التلعثم وتشرع الأشجار في العودة لوعيها، وتصبح الدوارة أرضا غير مستقرة. ثم تظهر الأم-تلك الدعامة المثبتة بقوة التي يلتف حولها حبل نظرات الطفل الهابط.
شحاذون ومومسات
كنت في طفولتي أسيرا للغرب البرليني القديم والجديد، فأهلي سكنوا هذين الحيين في الماضي في موقف يخلط بين التعنت والاعتزاز، وصنعوا منهما غيتو، اعتبروه إقطاعيتهم. ظللت حبيس هذه المنطقة الموسرة دون أن أعرف غيرها. وبالنسبة للأطفال الأغنياء في مثل عمري، لم يكن ثمة فقراء إلا في هيئة شحاذين. وكان تقدما معرفيا كبيرا، عندما تجلى الفقر لي لأول مرة متجسدا في هوان العمل بأجر متدن. كان ذلك من خلال نص صغير، ربما يكون أول نص أكتبه بنفسي، وكان عن رجل يوزع منشورات دعائية، وعن الإهانات التي يتلقاها من الجمهور الذي لم يهتم بمنشوراته. وهكذا يتوصل هذا المسكين-كما خلصتُ في النهاية-إلى التخلص سرا من كل منشوراته. بالطبع لم تكن هذه أفضل تسوية مثمرة للوضع. إلا أنني لم يخطر ببالي آنذاك أي شكل آخر من أشكال التمرد سوى التخريب، وقد نبع هذا من تجربتي الذاتية جدا. وإليها كنت ألجأ عندما كنت أسعى للتملص من قبضة أمي، وخصوصا عند "شراء المؤن" وكنت أفعل ذلك بعناد جامح يدفع بأمي في كثير من الأحيان إلى حافة اليأس. وتحديدا كنت قد تعودت أن أبقى على مسافة نصف خطوة وراءها، وكأنني لا أريد بأي حال من الأحوال تشكيل جبهة، حتى ولو كان ذلك مع أمي. وقد اكتشفت لاحقا كم أنا مدين بالعرفان لهذه المقاومة الحالمة في خروجاتنا المشتركة عبر المدينة، عندما فتحت الأخيرة متاهتها للغريزة الجنسية. لكن الغريزة لم تبحث في تلمساتها الأولى، عن الجسد بل عن النفس المنبوذة تماما، التي كانت أجنحتها تلمع في خمول في ضوء المصباح الغازي، أو تنعس مطوية تحت الفراء الذي تتشرنق فيه. وكنت أشعر بالرضا عن هذه النظرة التي لا يبدو أنها ترى ولا حتى ثلث ما تلتقطه في الحقيقة. في السابق عندما كانت أمي توبخ عنادي وتلكؤي، كنت أشعر على نحو مكتوم بإمكانية تحالفي مع هذه الشوارع التي لم أكن على الأغلب أعرف طريقي فيها، بحيث أتحرر من سلطة أمي لاحقا. لا شك بأي حال من الأحوال في أن شعورا-خادعا للأسف-برفضها ورفض طبقتها وطبقتي هو الذي أدى لوجود هذا النزوع الذي لا مثيل له لمحادثة مومس في الطريق العام. استغرق الأمر سنوات حتى تحقق ذلك. والفزع الذي شعرت به أثناء ذلك كان هو الفزع ذاته الذي سيتملكني لو كنت بصدد تشغيل آلة يكفي طرح سؤال وحيد عليها لكي تعمل. وهكذا كنت ألقي بصوتي عبر الفتحة، ويفور الدم في أذني فلا أعود قادرا على التقاط ما يخرج من الفم المصبوغ بكثافة بأحمر الشفاه. هربت لكي أكرر المحاولة الجسورة في الليلة نفسها-كما كان يحدث كثيرا. وعندما كنت أحيانا أتوقف قرب الصبح عند مدخل أحد البيوت، أكون قد وقعت بلا أمل في حبائل أربطة الشارع الإسفلتية، ولم تكن أنظف الأيادي هي التي حررتني منها.
اليقظة الجنسية
في تلك الشوارع التي جبتها لاحقا في جولات لا نهاية لها، وعندما آن أوانها، فاجأتني يقظة الغريزة الجنسية في ظروف غريبة. كان ذلك في عيد رأس السنة اليهودية. رتب والديّ من أجل إرسالي إلى احتفال ديني. ربما كان الاحتفال لدى تلك الطائفة الإصلاحية التي كانت أمي تميل لها بحكم تقاليد عائلتها. وقد عهدوا بي في هذا العيد إلى أحد أقربائنا البعيدين، وكان علي أن أذهب إليه لإحضاره. ولكن لكوني نسيت عنوانه أو أنني تهت في المنطقة-تأخر الوقت كثيرا وازداد ضياعي مع كثرة اللف والدوران. لم يكن مطروحا أن أتجرأ على الذهاب إلى الكنيس لوحدي، لأن بطاقات الدخول كانت مع الشخص المكلف برعايتي.كان السبب الرئيسي في سوء حظي هو نفوري من هذا الشخص الذي لا أكاد أعرفه والذي كنت مرتبطا به، وريبتي من هذه الاحتفالات الدينية التي لا تسبب لي سوى الارتباك. وسط هذه الحيرة غمرتني فجأة موجة خوف ساخنة-” تأخر الوقت-فاتك الكنيس" ولكن بالضبط في هذه اللحظة وقبل أن تنحسر غمرتني موجة ثانية من الانعدام التام للضمير-” فلتسر الأمور كما تسير-لا شأن لي بذلك". وكلا الموجتين ارتطمتا ببعضهما بلا هوادة في أول شعور باللذة اختلط فيه تدنيس العيد بأجواء القوادة في الشارع والتي جعلتني أدرك هنا للمرة الأولى هذه الخدمات التي من المفترض أن تقدمها للغريزة التي صحت.
* صدر كتاب فالتر بنيامين "طفولة برلينية في مطلع القرن العشرين" ضمن مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي عام 2014