يواصل محرر (الكلمة) هنا ذكرياته الشخصية التي أثارتها العودة إلى طه حسين، فيكشف عن السياقات التي أفضت إلى رحلته إلى أوروبا، وكيف كان السعي إليها مرقوشا في وجدان الثقافة المصرية من قبله، وهي تواصل مسيرتها التنويرية، قبل أن يفرض حكم العسكر بنية مغايرة قادت إلى ما نحن فيه.

ذكريات شخصية (2)

فلسفة المصادفة أم دعاء طه حسين

صبري حافظ

 

دفعتني العودة إلى تلك الذكريات مع طه حسين، إلى أعادة النظر فيما اعتبرته لزمن طويل صدفة غريبة ونادرة، أو حتى في بداية الأمر – وفي تبسيط مخل للأمور – استجابة لدعوته لي بالتوفيق. تلك الصدفة التي قادتني إلى بريطانيا، وغيرت بذلك مسار رحلتي في الحياة. ذلك لأن مجيء شاب طلعة – كما وصفني معالي الباشا – إلى أوروبا كانت فرصة نادرة بحق؛ سعى وقد اقتنصها إلى العض عليها بالنواجذ، مما أدى إلى تغييرها لحياته، كما جرى مع طه حسين نفسه. والواقع أن التفكير الجدي في دلالات تلك الصدفة هو ما قادني من جديد إلى طه حسين؛ وأنا أفكر في تصاريف الزمن الماكرة. وقدرته على فرض منطقه وتغيراته علينا، حتى لو بصورة مؤقتة. وكيف تلتقي هذه التصاريف أحيانا مع رغبات الأشخاص وتتعارض معها في أحيان أخرى.

والواقع أنني حينما خرجت من منزل طه حسين في تلك الليلة من خريف عام 1972، لم يكن يدور في ذهني غير أمل العودة إليه من جديد في العام التالي. ولم يخطر ببالي أبدا أنني سأكون حينما حان هذا الموعد في بريطانيا، أتحدث عنه في واحدة من أعرق جامعاتها، إن لم تكن أعرقها على الإطلاق. وكلما فكرت فيما دار بين اللحظتين، وما يدور في الزمن، وبتأمل قوانين المصادفات الماكرة وعلاقتها بما نحن فيه. كلما ردني الأمر من جديد إلى طه حسين وإلى دوره المباشر، وغير المباشر في حياة كل متعلم من أبناء جيلي، وربما ما بعده من أجيال. وأهم من هذا كله إلى دوره في تلك الصدفة نفسها التي طالما تعاملت معها وكأنها شيء أقرب إلى المعجزة.

فما أن حان الموعد السنوي التالي – في خريف عام 1973 – لانعقاد الجلسة السنوية التي تنعقد في بيت طه حسين (رامتان) وعملت سكرتيرا لها لثلاث سنوات، حتى كنت في بريطانيا، وطلبت مني جامعة أكسفورد – التي كان لها الفضل في سفري إليها – الحديث عن طه حسين عقب وفاته في 28 أكتوبر 1973. وقد أنهيت حديث ذكرياتي عن طه حسين بآخر كلماته لي «وفقك الله يا بُني!» قائلا: ويبدو أن الله استجاب لدعوته لي، رغم استحالة السفر إلى أوروبا لأمثالي في ذلك الوقت.

ولكنني عندما أعدت تأمل ما دعوته بالمصادفة على وقع أحد التعريفات الدقيقة المتعددة لها، والتي ترد في بحث محمود أمين العالم المهم عن (فلسفة المصادفة) وهي أنها «التقاء غير متوقع بين سلسلتين مستقلتين من الظواهر يولد حادثا قد يبدو وكأنه مصادفة عشوائية»، تكشف لي أن ما طرحه عليّ طه حسين من أنهم كانوا يحرصون على إرسال النابهين من الشباب في بعثات إلى أوروبا، هي تلك السلسلة التي تحققت، بسفري العجيب إلى أوروبا. وهي أيضا التي رسخت نمطا من التوقعات السليمة، بأن من يحرص على المعرفة، ويتفوق في تحصيلها ينفتح أمامه سبيل الحصول عليها حتى أعلى الدرجات، بصرف النظر عن إمكانياته المادية – وطه حسين نفسه بسيرته ومسيرته خير دليل على ذلك – وهو المنطق الصحي السليم الذي ترتقي به الأمم وتتقدم المجتمعات. برغم أن الواقع نفسه بعد بداية حكم العسكر في مصر عام 1952 وانفرادهم بالسلطة المطلقة فيها بعد أحداث مارس 1954 التي عصفت بأي أمل في العودة إلى التبادل الديموقراطي الهش للسلطة الذي أنجزه جيل طه حسين فيها، قد رسخ لسلسة أخرى كانت هي التي سادت وقت حديثي الأخير معه.

وكانت سيادة تلك السلسلة في الواقع الذي سيطر فيه خلل المعايير، إبان حكم العسكر، هي التي دفعتني للقول بأن من المستحيل على أمثالي السفر لأوروبا. فقد كان شعار تلك السلسة المضادة، والذي صك مبرراتها النظرية المتهافتة محمد حسنين هيكل – الصحفي الذي نظّر طوال حياته للحكم العسكري – في كتابه الإشكالي الشهير، (أزمة المثقفين)[1]، هو الاعتماد على أهل الثقة بدلا من أهل الخبرة. وهو الأمر الذي نجم عنه العصف الممنهج بأهل الخبرة، وتهميشهم أو الحط من قيمتهم، وحتى التنكيل بهم وسجنهم. وقد تطورت آليات تلك السلسلة المضادة، وهي تكرس نفسها، كقاعدة فاسدة بعدما كانت استثناء، مما أدى على مد أكثر من نصف قرن إلى ما نحن فيه من تدهور وهوان. لأن أحد تعريفات الفساد المهمة هو «الانحراف عن أصول الإدارة السليمة والأداء الكفء، بما يؤدي إلى الإضرار بحقوق الإنسان – خاصة حقوق المواطنة – والحكم الصالح»[2] فعدم اختيار الشخص الكفء للمكان المناسب لا يهدر فقط طاقة الأمة ويمنعها من التقدم، ولكنه يخلق الإحباط الجمعي والمرارة بين الشباب خاصة. ويهدر قيمة العلم والمعرفة التي لا غنى علنها لتقدم أي مجتمع. وقد تحول هذا الانحراف من الاستثناء إلى القاعدة، وفتح الباب أمام الاحتواء والرشوة والمحسوبية وتوريث الوظائف وغيرها من الشرور.

فبعد مرحلة الاعتماد على العسكر في الكثير من المهام والمناصب غير المؤهلين لها، وخاصة في العقد الأول من حكم العسكر – زمن جمال عبد الناصر – كي يتم للنظام الجديد التحكم الكامل في الواقع والهيمنة على مفاصله؛ أخذ النظام الاستبدادي في تخليق أجيال متتالية من أهل الثقة. تتخذ التفاني في الولاء سبيلا للصعود حينما تعوزها الموهبة أو الكفاءة أو المعرفة. وكان من أيسر سبل اكتساب ثقة السلطة في كثير من المواقع، وخاصة في مؤسسات توليد الفكر والرأي العقلي المستقل، أي الجامعات ومن ورائها الصحف والمؤسسات الإعلامية، هي أن يصبح «المثقف» بين قوسين، عينا للأمن وكاتبا للتقارير على من ينتقدون النظام. وخصوصا على من يعتصمون بالقيم الأخلاقية والضميرية، ويتسلحون بالمعرفة والموهبة، ويحرصون على استقلال الرأي، والاعتصام بنزاهة القصد، ونقد قصور أهل الثقة في القيام بما ليسوا أهلا له.[3]

وكان وعيي منذ بدايات الستينيات، ونشاطي السياسي والأدبي فيها بمتغيرات هذا الواقع الشاذ، وما به من قهر وفساد، هو الذي جعلني أجزم بصعوبة سفر أمثالي إلى أوروبا. وهو أيضا ما دفعني لسنوات طويلة لتصور أن ما جرى معي وقادني للسفر إلى أوروبا والبقاء فيها للدراسة بها هو مصادفة من أعجب المصادفات. بل إنني لم أغير فهمي لتلك المصادفة إلا بعد قراءتي المتأخرة كثيرا لكتاب محمود أمين العالم ذاك، بالرغم من معرفتي الوثيقة بالكثير من إنجازاته، بل ورفقتي له لشهور عديدة في أكسفورد في السبعينيات. فما جرى ظل لتلك السنوات نوعا من المصادفة أو المعجزة التي تنطوي على قدر من العدالة الإلهية التي لا تسعها عقولنا. واسمحوا لي أن أروي لكم هنا قصة تلك المصادفة أو المعجزة بمعايير ما كان سائدا وقتها.

كان الوقت مطلع عام 1972، وكنت وقتها وبعد عشر سنوات من النشر المستمر في مصر وغيرها من المنابر الثقافية في الوطن العربي قد حققت قدرا من الشهرة في مجال النقد الأدبي، خاصة بعدما قربني يحيى حقي للعمل معه في مجلة (المجلة) لست سنوات، ثم مشاركتي بعدما أخرجته سهير القلماوي منها، في تحرير الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة) التي كانت تصدر عن مؤسسة (الأهرام) ويرأس تحريرها لطفي الخولي. وذات صباح في مكتبي بالأمانة العامة للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، حيث كنت أعمل موظفا فيه، طلبني تليفونيا مدير تلك الأمانة العامة وقتها، وهو القاص الشهير يوسف الشاروني قائلا: تعال إلى مكتبي فهناك شخص من أكسفورد يريد رؤيتك! فصعدت إلى مكتبه في الدور الأول، يملأني الشغف لهذا الأمر الغريب. لو قال أن كاتبا مصريا أو حتى عربيا ما يريد رؤيتي لما استغربت الأمر. فقد كان كثير من الكتاب يترددون على مكاتب تلك الأمانةـ لكن شخصا من أكسفورد أمر غريب.

وما أن وصلت إلى مكتبه حتى قدمني لهذا الشخص، على أنه تلميذ لمحمد مصطفى بدوي – وكنت أعرف من هو محمد مصطفى بدوي من حديث صديقه إدوار الخراط لي عنه، ومن ترجماته لعدد من كتب النقد الأساسية وفي مقدمتها (مبادئ النقد الأدبي) لريتشاردز الذي وضع فيه الأساس الفكري لمدرسة النقد الجديد الأمريكية - ويعد رسالة للدكتوراه عن الرواية المصرية في جامعة أوكسفورد. وقد أرسله أستاذه إلى مصر وطلب منه أن يبحث عني، ويشرح لي موضوعه كي أحدد له الروايات التي يجب عليه دراستها في هذا الموضوع، وأن يحصل على كل هذه الروايات من القاهرة، ويعود بها ليكمل دراسته. وقد ارسل مصطفى بدوي تلميذه ذاك إلى زميله وصديقه القديم في جامعة الإسكندرية، إدوار الخراط، وبعث به إدوار الخراط بدوره إلى «المجلس» وإلى صديقه – ورئيسي في العمل وصديقي أيضا وقتها – يوسف يوسف الشاروني به، كي يساعده في الوصول إليّ. وقد علمت منه أنه جاء ومعه نسخة من بيبليوجرافيا الرواية المصرية التي كنت قد نشرتها في مجلة (الكتاب العربي) عام 1969 واعتبرها أستاذه من الأعمال الأساسية والضرورية للبحث في الرواية العربية. ولما شرح لي طبيعة البحث الذي يريد إنجازه أرشدته إلى كل الروايات التي تصورت أن عليه قراءتها لدراسته تلك،[4] بل وصحبته أكثر من مرة إلى أماكن بيع الكتب القديمة في القاهرة وقتها،[5] للحصول على كثير من الروايات الضرورية لدراسته والتي لم يستطع الحصول عليها من المكتبات لنفاذ طبعاتها، وانتهت علاقتي به بعد حصوله على ما أراد.

وتشاء الصدف – وقد أخبرنا محمود العالم أن لها منطقها الموضوعي- أن أمر بعدها بشهر أو أكثر ذات مساء على إدوار الخراط في بيته، لمجرد أنني وجدت نفسي ذلك المساء في الزمالك قريبا منه، ولم أشأ العودة المبكرة لبيتي فعرّجت عليه. فيخبرني بأنه يكتب رسالة إلى صديقه محمد مصطفى بدوي، سيأخذها له هذا الطالب الذي ساعدته، والذي سيعود إلى بريطانيا بعد يومين: ويسألني هل تريد منه شيئا؟ فقلت له إنني لا أعرفه إلا قراءة، فكيف أريد منه شيئا!؟ كل ما أريده من بريطانيا هو أن أسافر أنا إليها. فقال إدوار: إذن سأخبره بذلك، وفعل!. وكانت تلك السطور القليلة التي كتبها إدوار الخراط في رسالته تلك لصديقه – والتي لم أقرأها حتى اليوم، ولا أعرف ماذا احتوت – هي التي قادتني إلى بريطانيا في غضون عام واحد من كتابتها.

وما جعل لهذه الواقعة دلالة موضوعية أعمق، تؤكد خلاصات (فلسفة المصادفة) بأن لها فعلها الموضوعي، هو أنها جاءت كرد على غبن فادح ألمّ بي وقتها. فقد كنت قد أكملت دبلوم الدراسات العليا الجديد في النقد والأدب المسرحي بأكاديمية الفنون «المعهد العالي للفنون المسرحية». وجاء ترتيبي الأول على الدفعة الأولى لهذا النظام الجديد. وأعلنوا عن بعثة، أو بالأحرى منحة، لدراسة الأدب المسرحي في الاتحاد السوفييتي وقتها. وتقدمت لها، وتقدم لها معي الأول على أحدث دفعة للبكالوريوس من نفس المعهد، ولكني لم أفز بتلك المنحة، ولا فاز بها الأول على دفعة البكالوريوس الأخيرة أيضا، وكان اسمه علي مصطفى أمين، رحمه الله، وإنما أُرسل فيها من كان ترتيبه الثاني على دفعة البكالوريوس، ولم يكن قد أكمل بعد دبلوم الدراسات العليا في نظام الدراسات العليا الجديد بالأكاديمية. لأنه كان من أهل الثقة بالمعنى الذي توطد لأهل الثقة الجدد، في نظام حكم العسكر الذي تعود بذور هذا الفساد فيه إلى زمن عبدالناصر، وليس فقط إلى زمن السادات الذي ساد فيه هذا الفساد وتعملق.

تصاريف الزمن الماكرة وفلسفة المصادفة:
قلت إن ما أرجعته طوال سنوات إلى المصادفة السعيدة، أو إلى استجابة الله لدعوة طه حسين لي، يدفعني بعد قراءتي المتأخرة لبحث محمود أمين العالم المهم عن (فلسفة المصادفة) [6] إلى إعادة النظر فيما أنهيت به ذكرياتي عن طه حسين. لأن التجربة الشخصية قد تكون أفضل مدخل لتناول أي قضية عامة. فقد كشف هذا البحث المهم عن فهم عميق لما تصورت أنه مجرد مصادفة تقترب من حدود المعجزة. أو أنه فعل من أفعال العدالة الإلاهية. وهو فهم لا يضيئ لي الآن الكثير مما مرّ في حياتي، ولكنه – وهذا هو دافعي الأساسي لكتابته – يكشف عن الكثير مما جرى في مصر ولها. لأن البحث ينتهي إلى البرهنة على أن للمصادفة أساس موضوعي. فما هو الأساس الموضوعي لتلك المصادفة؟ وأرجو أن يستميحني القارئ العذر حينما أفتح قوسا – قد يطول قليلا لاستعراض بحث محمود العالم المهم – كي نتعرف على موضوعية ما اعتبرته مصادفة لزمن طويل من ناحية، وعلى جانب أعمق من دور طه حسين في حياتنا، وعلى سر حزن طه حسين وأسفه – في حديثه الأخير معي – وهو يرى عصف الفساد بما أرساه هو وجيل الاستنارة الذي يمثله من قواعد تنهض على الحق والعدل والحرية.

ولأن الاستطرادات تأخذ بأعناق بعضها فدعني أبدأ بالقول إن قراءة الكتاب نفسه تكشف لنا عن جهد علمي وبحثي من طراز رفيع. يتتبع فيه الباحث موضوعه في تاريخ الفكر والفلسفة بشمول ودقة؛ ثم في تاريخ الرياضيات والعلوم الطبيعية بدأب معرفي لا مماراة فيه. وهو الأمر الذي يعد شهادة له – وهو ليس في حاجة لأي شهادة – وشهادة للجامعة التي درس فيها في الوقت نفسه – وهي أشد ما تكون حاجة لهذه الشهادة كي تدفع عن نفسها، ولو بماضيها، عار التردي البحثي والانهيار الأخلاقي معا. فهذا الكتاب الذي حصل بها العالم عام 1953 على درجة الماجستير من جامعة القاهرة وهو في الحادي والثلاثين من عمره، خير دليل على كيف كان الحال بجامعة القاهرة التي سيطر عليها فكر طه حسين حينما وفد العسكر لحكم مصر، لمن يعرف ما هو حالها الآن على جميع المستويات العلمية والبحثية. ولو كان الأمر لايزال بيد طه حسين، وأمثال طه حسين في الجامعة المصرية، لبعثوا بمحمود أمين العالم إلى أوروبا، ليواصل دراساته الجادة للفلسفة فيها، ثم يعود لينهض بدوره في رفع مستوى الجامعة المصرية أدائيا وبحثيا، بدلا من طرده من الجامعة بعد حكم العسكر – وفق قانون تطهير الجامعة المشؤوم (القانون رقم 128 لسنة 1953) – ثم الزج به وكثيرين من أضرابه في معتقلاتهم السياسية لسنوات.

فقد انطلق محمود أمين العالم في بحثه من الإيمان بعلمية الواقع، وعلمية حياتنا الإنسانية معا، ومن أن مهمة الفلسفة – في حضارتنا الحديثة – هي الدفاع عن علمية الواقع وعلمية الحياة الإنسانية. ويبدأ النهوض بتلك المهمة ببحثه هذا عن موضوع «المصادفة»، التي اتخذها البعض ذريعة لتقويض الأساس العلمي للواقع، ولحياتنا الإنسانية معا. فقد استخدمها محترفو الفلسفة لطرح مفهوم مثالي للعلم وللعالم معا، وبث روح القلق والتشكيك لدى المؤمنين بعلمية الواقع وعلمية الحياة. (ص 20)[7] لذلك يبدأ العالم بحثه بالتتبع التاريخي للتصورات الفكرية والفلسفية المثالية عادة لمفهوم المصادفة. كاشفا عن أن المفهوم الموضوعي للمصادفة لا يتحقق إلا بتبديد الدلالات الغائية والذاتية واللاهوتية والميكانيكية والصورية في النظرة للواقع ونقضها. وهو الأمر الذي يكرس له القسم الأكبر من بحثه المهم ذاك. ويخلص إلى أن «المصادفة هي أساس العلم الفيزيائي الحديث، وليست الاسم الذي نخفي به جهلنا. بل هي اقتدار عرفاني وتحقق موضوعي. اكتسبت موضوعيتها من استبعادها للعلّية الاسطورية، والجبرية اللاهوتية، والضرورة الميكانيكية.»(ص 27)

وبعد تعرفه على تاريخ تناولها في الفكر والفلسفة في القسم الأول من بحثه يخبرنا: «أن المصادفة يمكن أن تفهم على أساس ذاتي وجداني، أو ذاتي عرفاني نتيجة لموقف إسقاطي نفسي، أو منهجي ميكانيكي. ولكن هناك فهما موضوعيا لها، يتحقق باستبصار ما في الواقع من تعقد وتعدد وتغاير وتطور دائم وتفاعل لا ينقطع. فالمصادفة هي محصلة هذه العوامل جميعا، دون تثبيت متعسف عند جانب دون جانب. ولهذا فلا تعارض بينها وبين العلّية أو الضرورة. لأن المصادفة علّية والعلّية مصادفة: فالمصادفة علّية لأنها نتيجة ضرورية لهذا التعقد والتداخل والتغاير الدائم. والعلّية مصادفة لأنها لا تتحقق في صورة واحدة من الارتباط بين علّة ومعلول، وإنما هي تشابك وتداخل وتفاعل بين عوامل متعددة متغايرة أبدا، في تطور وتعقد دائم. المصادفة والعلية إذن وجهان لحقيقة واحدة هي الضرورة، لا بالمعنى الميكانيكي المقفل المحدود، وإنما بالمعنى الذي يدخل في إطاره كافة العوامل الممكنة، إمكانا لا حد له ولا نهاية، والذي يجعل من عناصره علاقات متفاعلة أبدا.» (ص 194)

و«المصادفة بهذا المعنى لا تتعارض مع العلم، بل هي تمام العلم وكماله. وهي لا تندّ عن التنبؤ، بل يتم التنبؤ بها، وإن يكن تنبؤا ذا دلالة متغيرة، فهو ليس التنبؤ الميكانيكي التقليدي، وإنما هو تنبؤ أكثر تفاعلا وامتلاءً بإمكانيات الواقع. تنبؤ تقريبي، لا عن قصور أو جهل، وإنما عن واقعية ومباشرة» (ص 195) ثم يمضي العالم بعد ذلك في القسم الثاني من كتابه بدراسة المصادفة في العلم بين الرياضة والفيزياء، متوقفا عند نظرية الاحتمالات الرياضية وتطبيقاتها في الفيزياء الحديثة. ومن أبرز ما ذكره في هذا المجال هو النظرية المنطقية للاحتمال، والتي بلورها المفكر والاقتصادي الانجليزي جون ماينارد كينز (1883-1946) وتؤكد «أن الاحتمال علاقة بين قضايا لا بين أحداث، ترتكز على الاعتقاد العقلي القائم على عدم التمييز، وليس كل احتمال قياسا عدديا، وإنما يشتمل على قياسات أخرى غير عددية.» (ص228)

«فالمصادفة ليست غير تأبي الواقع الفيزيائي على الارتدادية والتحديد الفردي الميكانيكي، وهي ليست غير قابلية الظاهرة لأشكال تكميلية من التحقق والتحديد، وهي ليست إلا التعدد والتداخل والتشابك واللاانفرادية. وإذا كانت هذه المظاهر هي موضوع الفيزياء الحديثة، كانت المصادفة أساس هذه الفيزياء. وإذا كنا قد انتهينا إلى موضوعية الفيزياء الحديثة، فإننا بذلك نؤكد للمصادفة موضوعيتها.» (ص 317) ويخلص في نهاية البحث إلى جدلية هيجل التي سماها وقتها بالتكميلية، من خلال الجدل بين الوعي والضرورة، «فكل قرار يمكن أن يعد – من ناحية – عملية في الذهن الواعي، ويمكن أن يعد – من ناحية أخرى – نتيجة للملابسات الموضوعية للواقع الخارجي في الحاضر والماضي.» (ص 306) فالجدلية إذن تعني قابلية الواقع للجمع والوحدة بين المتناقضات، بين ما يدور في العقل الإنساني وما يدور في الواقع الخارجي. وإتاحة الفرصة للتفاعل بينها، وضرورة الوعي بذلك لصياغة فهم موضوعي لهذا الواقع. ولكنها عنده جدلية عملية لأن المصادفة جزء من المنهج الاحتمالي للعلم نفسه؛ تتعلق بظواهره وقوانينه. بالصورة التي تجعل «المصادفة هي غير المقصود الذي يشابه المقصود». أو كما يقول في خلاصته لهذا البحث القيم: «المصادفة واقعة موضوعية تتميز بأنها قابلية للتغاير والتمايز والتشابك، وأنها محصلة لعوامل متداخلة متفاعلة. وموضوعيتها لا تتنافى مع الضرورة الموضوعية، لأن المصادفة وجه للضرورة الموضوعية. » (ص320)

وتكشف قراءة بحث محمود أمين العالم المهم عن (فلسفة المصادفة) عن أمرين بالغي الدلالة: أولهما مستوى البحث الجامعي الراقي في الإنسانيات في مصر في بداية خمسينيات القرن الماضي. لأن الكتاب كما يخبرنا مؤلفه هو رسالته التي تقدم بها للحصول على درجة الماجستير من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في يونيو عام 1953، والذي كان مدرسا بها قبل أن يفصله نظام العسكر من وظيفته الجامعية فيها. لأن أي مراجعة لقائمة الكتب والمقالات التي استخدمها البحث – والتي تجاوز عدد المراجع الانجليزية والفرنسية فيها مئة مرجع – مع متن الرسالة تكشف لنا عن أن الباحث قد قرأها باستيعاب وتمحيص، واشتبك مع ما ورد فيها بالحوار العلمي قبولا أو رفضا، ورد ما ورد فيها لأصوله في كثير من الأحيان. وأننا بإزاء باحث تقوده مراجع بحثه بعضها إلى البعض الآخر ليدخل في خضم البحث المعرفي الجاد.

وهو أمر لا يكشف عن مقدرة الباحث فحسب، ولكنه ينبئنا عن أن مستوى الجامعة المصرية العلمي وقتها، يضاهي ما لمسته في أكبر جامعات العالم بعد أن أمضيت عمرا في التدريس فيها. كما أن أي متابع مخلص لما يدور في الجامعات المصرية اليوم لا يمكنه أن يحلم بأن يجد ربع عدد هذه المراجع في رسالة للدكتوراه. لأن جل الحاصلين على درجة الدكتوراه من الجامعات المصرية، لا يقرأون بأي لغة أجنبية، وكثيرين منهم لا يحسنون كتابة لغتهم العربية، ناهيك عن القراءة بطلاقة بلغتين أجنبيتين، كما هو الحال في رسالة محمود العالم تلك.

أما الأمر الثاني فهو أن هذا الكتاب المهم يصحب قارئه في رحلة معرفية من الحيرة إلى مشارف اليقين الفكري والعلمي بالجدل الهيجلي، عاشها الكاتب نفسه للخروج من التخبط بين الظلال الميتافيزيقية في قلب الفكر الفلسفي المثالي والعلوم الفيزيائية، إلى آفاق الوضوح العلمي بتعقيدات الرياضيات والفيزياء الحديثة التي قادته إلى الجدل الهيجلي. وهو أمر يكشف لنا عن أن الجامعة المصرية في ذلك الوقت كانت تنتقي للعمل فيها أفضل ما تسفر عنه برامجها من عقول. وكانت تدرب تلك العقول على أن يصبحوا باحثين بحق، مهمومين فعلا بقضية يكرسون لها بحثهم المضني عن المعرفة. فقد كان محمود العالم يتحرك في بداية بحثه – كما يقول لنا – بإرادة نيتشه، ويتلمس طريقه بحدس بيرجسون وطفرته الحيّة أو الحيوية، ويرافقه لحن إليوت الجنائزي المفضل. كانت الفلسفة هما يسرى في عروقه مع دمه، كما هو الحال مع أي راهب حقيقي من رهبان العلم، وكانت تناوشه – وفق كلماته هو – طوال رحلته تلك ظلال ميتافيزيقية في قلب الفيزياء الحديثة، «يمتزج فيها مبدأ عدم التحديد بالحرية الإنسانية بالعناية الإلهية امتزاجا عجيبا».(ص 14) ولكن مسيرة البحث المضني عن المعرفة، والمضي قدما في شعاب الاستقراء الفلسفي، قادته إلى بلورة المدلول الموضوعي للمصادفة، لأنها «تتعلق من ناحية بالمنهج الاحتمالي للعلم نفسه، ثم تتعلق من ناحية أخرى بظواهره وقوانينه مثل مبدأ عدم التحديد، وموجة الاحتمال، والمظهر التكميلي في الفيزياء»، ويقصد هنا المنهج الجدلي. (ص 15) وهو المنهج الذي قاده إلى الماركسية، واقتنع به وأخلص له عبر مسيرته النقدية الثرية.

سلسلة طه حسين وقيمها:
بعد هذا الاستطراد الذي طال قليلا، نعود إلى حديث تلك المصادفة التي تبدو الآن على ضوء هذا الفهم العميق للمصادفة – كما يعرفها العالم «التقاء غير متوقع بين سلسلتين مستقلتين من الظواهر، يولد حادثا قد يبدو وكأنه مصادفة عشوائية» – واقعة موضوعية. تضيء لي – وأنا أكتب هذا الآن – الكثير مما جرى من مياه تحت جسر التجربة التي عشتها في مصر. فقد كان جيل طه حسين، والجيل الذي تكون في الجامعة المصرية معه أو عقب عودته من بعثته للتدريس فيها بسنوات قليلة – ولنسمه جيل توفيق الحكيم ويحيى حقي وحسين فوزي وزكي نجيب محمود ونجيب محفوظ – والجيل التالي لذلك والذي تتلمذ على يديه – جيل يوسف إدريس وفتحي غانم وإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف جوهر وغيرهم – وصولا إلى جيل الخمسينيات – جيل صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ورجاء النقاش وسليمان فياض وابوالمعاطي أبو النجا وصبري موسى وصالح مرسي وغيرهم؛ كانت هذه الأجيال جميعا قد تربت في نظام التعليم المصري الذي كانت تقع على رأسه جامعة القاهرة (1908)؛ ثم لحقت بها جامعة الإسكندرية التي أسسها وأدارها طه حسين عام 1942، ثم جامعة إبراهيم باشا (1950) عين شمس فيما بعد التي أفتتحها طه حسين حينما أصبح وزيرا للمعارف عام 1950. وحينما وفد جيلنا إلى الساحة الثقافية مع مطالع الستينيات، كانت القيم الثقافية والفكرية والضميرية التي أرستها هذه الأجيال المتتالية – قيم التحرر من الاستعمار، والاستقلال الوطني، والاستنارة والعدل والحرية – هي القيم السائدة في الواقع الاجتماعي والثقافي على السواء.

وكان شعار طه حسين عن ضرورة أن يكون حق الإنسان في التعليم كحقه في الماء والهواء، أمرا مسلما به. فقد وضعه بنفسه على سلم التنفيذ، حينما أشار على حكومة الوفد – عندما اختير مستشارا ثقافيا لها – في بداية الأربعينيات بضرورة إصدار قانون التعليم الإلزامي حتى عمر 12 سنة، ثم أصدر هو قانون مجانية التعليم الثانوي، حينما أصبح وزيرا للمعارف في حكومة الوفد الأخيرة عام 1950. وكان أبناء جيلي – وخاصة الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وما دونها من فلاحين أو عمال – من الذين استفادوا من قانون مجانية التعليم الثانوي الذي سنّه طه حسين عام 1951. حينما كان التعليم الثانوي على مستوى عال من الجودة والكفاءة العلمية، ولم يكن سرطان ما يسمى بـ«الدروس الخصوصية» قد التهم كل الخلايا السليمة في بنيته، على مدار سنوات حكم العسكر التي امتدت حتى اليوم.

وكان طبيعيا أن يتطلع الآلاف الذين أنهوا التعليم الثانوي المجاني – فقد تضاعف عدد تلاميذه مرّات بعد مجانيته – مع منتصف الخمسينيات إلى دخول الجامعة التي كانت قاصرة على أبناء الميسورين، فكان لابد من أن يحقق نظام العسكر في فترة عبدالناصر خاصة – باهتمامها بقضايا العدل الاجتماعي – مجانية التعليم الجامعي، إن أراد أن يكسبهم.[8] والواقع أن نظام التعليم المصري الحديث الذي أرست قواعده النخبة التي يمثلها جيل طه حسين هو ابن رؤية عقلية ليبرالية للعالم، تؤمن بحق الإنسان في الحرية والعدل والفرص المتكافئة. وهي الرؤية التي رادت عملية التحديث المصرية منذ الثورة العرابية 1881 وحتى ثورة 25 يناير 2011. وكان محمد عبده (1849-1905) وأحمد لطفي السيد (1872-1963) وطه حسين من بعدهما من أعمدة هذه الرؤية. خاصة وأن أحمد لطفي السيد كان أول مدير حقيقي للجامعة المصرية (1925)، ومن أعمدة سياستها التعليمية التي كان الابتعاث إلى فرنسا، ثم انجلترا من بعدها من أسس تكوين طاقمها التدريسي.

وكان أحمد لطفي السيد – ومن بعده طه حسين وجيله – من أصحاب التصور المصري الخالص للقضية الوطنية، ومن الرافضين لفكرة الأمة العربية – التي تكونت عقب المؤتمر العربي الأول بباريس عام 1913، ومع نخبة مشرقية أكثر منها مصرية. وقد اكتسبت هذه الرؤية زخما تاريخيا عبر التأكيد على الجذور الفرعونية لمصر، كمكون أساسي من مكونات متخيل مصر الوطني، وخاصة بعد اكتشاف كنوز «توت عنخ آمون» في 1922. ثم بلور طه حسين جل أبعاد تصور هذا الجيل لمستقبلها في التقرير الشهير الذي كتبه عقب معاهدة 1936؛ والذي أصبح فيما بعد كتابه العلامة (مستقبل الثقافة في مصر) 1938. وهو كتاب يطرح على شباب مصر في المحل الأول صورة هذا المستقبل، ويؤكد من البداية على ضرورة أن يرتبط بالانفتاح على كل ما جادت به ثقافات الضفة الأخرى للبحر المتوسط – من اليونان القديمة وحتى فرنسا المعاصرة.

ولا غرو فقد كان هو نفسه ابن الحوار الخصب بين ضفتي المتوسط – أي بين الثقافة العربية الإسلامية من ناحية، والثقافة الغربية من ناحية أخرى. وكانت سلسلة التوقعات التي بنتها مسيرة ترسيخ ثقافة هذا الحوار في المتخيل الوطني المصري هي التي جعلتني في مطالع الشباب أحلم بالسفر إلى أوروبا. بل هي التي رقشت عددا من تضاريس أوروبا وجغرافياها على خريطة معارفي الثقافية، منذ أن بدأ رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عياد الطنطاوي وأحمد فارس الشدياق كتابة تلك التضاريس في ذاكرتنا الثقافية في القرن التاسع عشر، واستمر من بعده في القرن العشرين محمد المويلحي وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس وفتحي غانم ويوسف إدريس وصولا إلى الطيب صالح وسليمان فياض وبهاء طاهر من أبناء جيلي. ولم يكن هذا الحلم حلما فرديا، وإنما جزءا أساسيا من المتخيل الثقافي السائد وقتها. فقد سبقني إلى السفر إلى أوروبا كثير من أبناء شباب الجيل السابق على جيلنا من وحيد النقاش وعبدالرشيد المحمودي وجلال أمين، وصبحي شفيق. وما أن أتيحت لي فرصة السفر، وكتبت لأصدقائي بأنني سأبقى في أوروبا لثلاث سنوات، حتى لحق بي بهاء طاهر ثم عبدالحكيم قاسم.

ولا أظن الآن أنها من الصدف أن أذكر أن نشر رواية سليمان فياض (أصوات) التي تنتمي إلى ميراث الكتابة عن علاقتنا بالغرب – ابن تلك السلسلة التي أرساها طه حسين – كان من آخر الأعمال التي قمت بها قبل مغادرتي مصر والسفر لأوروبا.[9] وأذكر أنني في زيارتي الأولى لباريس – وهي في ذلك أكثر حميمية من لندن في مخيالنا الثقافي – كنت أتتبع شوارع الحي اللاتيني، بحثا عن معالم بعينها، قد حفظتها ذاكرتي بالدرس أو القراءة، وخاصة في شارع المدارس، وتمثال مونتني أمام السوربون الذي درّست لنا مقالاته الشهيرة الدكتورة سامية أسعد، وحديقة لوكسمبورج ومقاهي جادتي سان جيرمان وسان ميشيل، ومقبرة بير لاشيز[10].

إذن كان سفري للغرب ابن تلك المسيرة التي كرستها في المتخيل الوطني والثقافي المصري أجيال الاستنارة المصرية المتتابعة، وابن سلسلة توقعاتها التي تتجذر في الوعي والمخيال معا، رغم أن مسيرة مصر السياسية في ظل حكم العسكر – الذي أمضيت فيه سنوات الصبا والشباب – كانت قد أخذت مصر في طريق آخر. وربما تكون هذه المسيرة، وخاصة في دربها اليساري والنقدي، هي التي دفعت الكثيرين من ابناء جيلي – جيل الستينيات المصري – للتحفظ مبكرا على توجهات حكم العسكر، والنضال ضد قمعه للحريات واستبداده. وما أن انتهيت من دراستي العليا في معهد الفنون المسرحية عام 1970، حتى كان السبيل الوحيد المتاح للسفر للغرب هو تلك المنح التي كان يقدمها الاتحاد السوفييتي للدولة في ذلك الوقت. لكن اختيار من يذهبون في تلك البعثات لم يكن حرا ونزيها كما كان عليه الحال أيام طه حسين وجيله. فأين نحن في مطالع السبعينات،[11] من أيام طه حسين الزاهرة، حينما بعثته الدولة المصرية إلى فرنسا للدراسة فيها، رغم عاهتي الفقر – فهو طالع من قاع صعيد مصر ومن أسرة محدودة الدخل كان عائلها موظفا صغيرا في شركة السكر ومتعددة الأفراد فيه – وفقدان البصر. كانت تلك أيام تكريس القيم الأخلاقية منها والمعرفية. وهي القيم نفسها التي خبت طوال عقود من حكم العسكر، ولكن جذوتها لم تمت، بل نُفخت فيها روح جديدة مع ثورة 25 يناير 2011.

وهي نفسها القيم التي دفعت محمد مصطفى بدوي لأن يفعل ما يقرب من المستحيل لتوفير سفرة لي لأوروبا. فقد انتهز فرصة اعتزام جامعة لندن تنظيم أول مؤتمر عن الأدب العربي الحديث، في دعوتي لحضور هذا المؤتمر كممثل للجيل الجديد من النقاد إلى جانب ناقدين كبيرين هما لويس عوض وعلي الراعي. فوفرت لي الجامعة تذكرة السفر. وقد أقنع مركز الشرق الأوسط بجامعته – جامعة أوكسفورد – بأن يستضيفني لفصل دراسي، وهو ما وفر لي غرفة للإقامة فيها، ووجبات الطعام في الكلية لثلاثة أشهر. حيث لايزال النظام في تلك الجامعة، ومعها جامعة كيمبريدج وحدهما، أقرب لنظام حياة الرهبان التقليدية في العصور الوسطى؛ أو نظام الأروقة والجراية الذي كان متبعا في الأزهر حتى وفود حكم العسكر لمصر. والذي عاشه طه حسين في بدايات رحلته المعرفية وكتب لنا عن بعض تفاصيله في كتابه (الأيام جـ 2 و 3). كما طلب من «المجلس البريطاني» في مصر – وكان على رأسه في ذلك الوقت مستعرب مرموق هو نورمان دانيلز – أن يرعى الزيارة وأن يوفر لي مبلغا للنثريات pocket money. ووفر وقتها مئتين وخمسين جنيها للمصروفات النثرية طوال الفصل الدراسي بأكمله، أي ما يقارب ثمانين جنيها في الشهر.

هكذا وفر لي محمد مصطفى بدوي، ومن ثلاث مصادر مختلفة، تلك الدعوة التي اعتبرتها فرصة نادرة لن تعوض، وربما لن تتكرر، فأخذت من عملي في مصر وقتها – وكنت أعمل في أمانة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب – إجازة للحد الأقصى الذي كان متاحا وقتها، وهي ستة أشهر – ثلاثة أشهر بأجر، وثلاثة أشهر بدون أجر – كي أمضي أكبر وقت ممكن في أوروبا. وخططت لزيارة كل من ألمانيا وفرنسا عقب انتهاء الفصل الدراسي في أكسفورد. لكن الأمور لم تسر بالسهولة التي تصور من دعوني أنها أمر طبيعي. فبدلا من عقد المؤتمر في أوائل مارس، وبالتالي كان المقدر أن أبقى بعده للفصل الدراسي الثالث الذي يبدأ في أواخر مارس، تأجل المؤتمر إلى الخريف التالي.

ولا يمكن أن انسى لقائي مع مدير «المجلس البريطاني» بشأن الحصول على تأشيرة الدخول، وكان رده: دبّر تأشيرة الخروج أولا، وسأعطيك تأشيرة الدخول في يوم واحد. ولا أدري إن كان السبب في قوله ذلك – وهو مستعرب أريب من مهامه أن يعرف بعض مجريات الأمور في مصر – أنه قد رأي حرف القاف مدونا أمام آخر تأشيرة خروج حصلت عليها للسفر للعراق[12]، فقد كان يقلب في جواز سفري بين يديه حينما قال ذلك، أم أنه كان يعرف بحكم موقعه الدبلوماسي مدى صعوبة الحصول على تأشيرات للخروج وقتها بشكل عام. والواقع أن حصولي على تأشيرة الخروج في المرات القليلة التي سافرت فيها خارج مصر كان دائما أمرا صعبا، بسبب اعتقالي مع مجموعة من كتاب جيلي لعدة شهور عام 1966/1967 كان لحسن حظي أنها لم تطل؛[13] لأن جان بول سارتر تدخل من أجل الإفراج عن هذه المجموعة من الكتاب، في لقائه التاريخي مع عبدالناصر أثناء زيارته الشهيرة لمصر. وقد عرقلت إدارة الجوازات بالفعل حصولي على تأشيرة الخروج، ولم تمنحها لي إلا بعد أن انتهى الموعد الذي كان سينعقد فيه المؤتمر، حسب خطاب الدعوة له، والذي كان بالطبع مرفقا بطلبي للتأشيرة.

والواقع أن جامعة لندن كانت قد بعثت لي بتذكرة السفر على BOAC شركة الطيران البريطانية لما وراء البحار قبل تأجيل المؤتمر، كما أن "المباحث العامة" – وهو اسم جهاز الأمن الوطني وقتها – لم تعرف شيئا عن تأجيل المؤتمر، وإن فعلت كل ما في وسعها لحرماني منه، بأن أعطتني التأشيرة بعد انتهاء موعده.[14] ولم يكن ممكنا وقتها تحديد موعد السفر إلا بعد الحصول على تأشيرتي الخروج والدخول. وما أن حصلت على تأشيرة الخروج حتى قصدت في اليوم نفسه إلى المجلس البريطاني وتركت جواز سفري به كي يدبر لي تأشيرة الدخول. واتصلوا بي في اليوم التالي فذهبت للحصول على جوازي، وتوجهت به فورا لمكتب شركة BOAC في ميدان التحرير، للحصول على التذكرة السنوية المفتوحة التي أصدرتها الشركة – بعد التأكد من التأشيرتين – وحددت فيها موعد السفر. ولم يكن ممكنا وقتها – قبل أن أنجز هذا كله، وأحصل على تذكرة سفر فعلية - أن أحول أي مبلغ إلى العملة الأجنبية. ولم يكن مسموحا لأي مواطن مصري أن يحول أكثر مما قيمته خمسون جنيها للعملة الأجنبية. وقد كان الجنية المصري وقتها أكبر من رديفه الاسترليني، بشلن واحد وكان الاسترليني وقتها عشرين شلنا،[15] وكان يعادل في الوقت نفسه دولارين ونصف. هذه كانت قيمة الجنيه المصري التي ورثها حكم العسكر حينما تولى السلطة في مصر.

بهذا المبلغ البسيط اثنين وخمسين جنيها استرلينيا ونصف تركت مصر في مارس 1973 متوجها إلى بريطانيا. ولكن أهم من المبلغ كانت روح المغامرة التي زرعتها في أعماقنا تلك السلسلة الصحية التي وطدتها ممارسات جيل طه حسين ومن جاءوا بعده في الواقع المصري. وهذا الحق في حرية السفر في العالم الذي رقشته في ثقافتنا الحديثة. ولأنني كنت قد قررت أن أبقى في أوروبا لستة أشهر فإنني عللت النفس بأنني سأبدأ بالإقامة التي وفرتها لي جامعة أكسفورد أولا، ثم أتجول في أوروبا أثناء الصيف، وأعود لحضور المؤتمر الذي دعيت من أجله، والذي كان قد تأجل إلى شهر أكتوبر من نفس العام. وأثناء الشهور الثلاثة التي قضيتها في أكسفورد ضيفا على مركز الشرق الأوسط فيها بـ«كلية سانت أنتوني»، دعتني كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن لإلقاء محاضرة عن رواية جيل الستينيات في مصر، كان لها وقع طيب على دارسي المنطقة والمهتمين بها فيها. ولما علم أحد الأساتذة – أثناء حديثنا على الغذاء بعد المحاضرة – برغبتي في الاستمرار في بريطانيا، ومواصلة الدراسة فيها، أخبرني أن هناك عددا محدودا من المنح الدراسية، تقدمها الكلية لطلاب ما وراء البحار، وهذا ينطبق عليّ، لكن موعد التقدم لهذه المنح قد انتهى من أسبوعين. فقلت ياليتني علمت قبل مجيئي بها، لكنت تقدمت لها، فقد أعددت ملفا كاملا للتقدم للدراسة للدكتوراه هنا قبل مجيئي، وكان بإمكاني أن أبعث به لكم في الموعد لو علمت.

وكنت قد أعددت بالفعل قبل مغادرتي مصر ملفا، لا يحتوي على مؤهلاتي الدراسية فحسب، ولكنه يضم أيضا عددا من خطابات التزكية التي حصلت عليها من أساتذتي الذين درست عليهم في معهد الفنون المسرحية: وفي مقدمتهم لطيفة الزيات وشكري عياد وسامية أسعد. فسألني هل عندك هذا الملف؟ فقلت نعم! فقال أعرف أن لجنة فحص الطلبات لم تبدأ عملها بعد، اجلب لي هذا الملف على الفور، وقل إنه نسخة من الملف الذي بعثت به من مصر قبل قدومك، ولم يصل. وسوف أرفق به تأكيدا مني على رداءة البريد في مصر، وضياع الكثير من الرسائل فيه، كي يدرج مع غيره من الطلبات. فقلت سأجلبه لك صباح الغد فهو عندي في أكسفورد، فعلّق على ذلك بتعبير انجليزي شهير no harm in trying لا ضرر من المحاولة، صار نبراسا لحركتي في بريطانيا فيما بعد. وعندما انصرفت من عنده كان شاغلي الأول كيف أن كل من التقيت بهم في بريطانيا لا يدخرون الجهد في مساعدتي على الدرس والتقدم، بينما كان الكثيرون في مصر يحرصون على عرقلة كل جهد من أجل التقدم.

وفعلا عدت في صباح اليوم التالي بالملف وقدمته له، وأرفقه بخطابه الذي وعد به وقدمه ليدرج ضمن الملفات المقدمة. واثناء إقامتي في أكسفورد استدعيت للقاء لجنة الاختيار، وبقيت بعدها انتظر قرارها، وبعد أسابيع قليلة جاءتني رسالة مفرحة بأنني حصلت على منحة مجلس إدارة الكلية، Governing Body Scholarship هكذا كان اسمها، للدراسة للدكتوراه لمدة ثلاث سنوات، وقيمتها تسعة وخمسون جنيها في الشهر، فضلا عن إعفائي من مصاريف الدراسة بالكلية. وبدلا من الشهور الستة التي خططت لأن تكون هي كل رحلتي إلى أوروبا، لم أعد لمصر إلا بعد أكثر من ست سنوات.

«أيام» طه حسين عود على بدء:
لم تكن تلك السلسلة التي رسخ قواعدها النزيهة طه حسين وجيله في حياتنا الثقافية هي التي أدت بي إلى بريطانيا في حلم تحول إلى حقيقية فحسب، ولكن يبدو أنه كان هناك في انتظاري كي يتلقفني في هذا المغترب الجديد. فحينما وصلت إلى بريطانيا، وقبل بداية الفصل الدراسي الأخير بأسبوعين – كان العام الدراسي يتكون من ثلاثة فصول دراسية قصيرة وقتها – واستقبلني في «كلية سانت أنتوني» بجامعة أكسفورد محمد مصطفى بدوي، أخبرني أنه أن قسم الدراسات العربية بمعهد الدراسات الشرقية Oriental Institute في الجامعة قرر بناء على طلبه أن أقرأ مع طلاب اللغة العربية المبتدئين – وعددهم ثمانية طلاب[16] – كتاب طه حسين العلامة (الأيام) الجزء الأول. وقدم لي نسخة من الكتاب كي أعد منها دروسي. وقال أنه فعل ذلك حتى يساعدني ماديا، لأن القيام بتدريس هذا الفصل مرة كل أسبوع سوف يوفر لي مبلغا – عشرة جنيهات عن كل أسبوع وهو مبلغ معقول بمعايير ذلك الوقت– قد يساهم في نفقاتي. وأن الأمر سهل للغاية، فما عليّ إلا أن أقرأ النص مع الطلاب، وأوضح لهم معاني المفردات فيه، وبعض ما تنطوي عليه من خلفيات ثقافية أو سياقات اجتماعية أو تاريخية. ولا أدري إذا ما كانت الرغبة في مساعدتي ماديا وراء دعوة مصطفى بدوي تلك، وكنت بالطبع في حاجة لتلك المساعدة كي أحقق برنامجي الطموح من الرحلة بالبقاء في أوروبا لستة أشهر، أم أنه كان يريد بشكل غير مباشر أن يجبرني على العمل الدؤوب على تحسين لغتي الانجليزية التي كانت وقتها ضعيفة إلى حد كبير، برغم كل ما بذلته من جهد في تحسينها قبل سفري. فقد كان عليّ وأنا أجهز لهذه الدروس أن أتأكد من أنني أعرف معنى كل كلمة باللغة الانجليزية بالطبع في القسم الذي سأقرأه مع الطلاب كل أسبوع، وأن أبحث عما لا أعرفه منها وأحفظه. وهو الأمر الذي أجبرني على توسيع محصولي اللغوي بشكل مطّرد. كما دفعني للتماهي مع «صاحبنا» فيها وهو يواجه الكثير من العقبات بإرادة فولاذية.

لكن المهم أن هذا الأمر ردني إلى طه حسين ومساره من حيث لم احتسب. وما أن أخذت الكتاب وبدأت أفكر في المهمة التي ألقاها على عاتقي، حتى توجهت إلى مكتبة مركز دراسات الشرق الأوسط بالكلية، وهي مكتبة ثرية في مجالها بأي معيار من المعايير، وبدأت في العودة إلى رفوف كتب طه حسين بها. وأخذت أقلب في الكتب وأفكر في كيف أقدم هذا الكتاب المهم لطلاب يخطون أولى خطواتهم في تلك اللغة؟ فقد كان هذا الفصل الذي سيقرأون فيه (أيام) طه حسين هو ثالث فصل دراسي لهم في تعلمها.[17] وكيف أقدم لهم أولا صاحب الكتاب، وأهميته في ثقافته وموقع هذا الكتاب من حياته فيها؟ خاصة وأنني كنت قد وصلت – وبعد قراءتي الأولى لهذا الكتاب المهم قبل سنوات من المجيء لبريطانيا – إلى تصوري الخاص له على أنه يشكل رد طه حسين القوي والمفحم على الذين أثاروا في وجهه العواصف والعراقيل، عندما نشر كتابه العلامة (في الشعر الجاهلي) عام 1926؛ وما جره عليه من هجوم من الكثيرين، وعلى رأسهم عضو في مجلس النواب وشيخ الجامع الأزهر وعلمائه فتقدموا ببلاغات للنيابة ضده. [18] وهو الأمر الذي أدى لمحاكمته أمام القضاء بتهم أربع: إهانة الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم واسماعيل، والطعن على النبي من حيث نسبه، والتعرض للقراءات السبع المجمع عليها، وإنكار أن للإسلام أولوية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم.

وقد تواصلت هذه الحملة الظالمة الشرسة منذ صدور الكتاب – في شهر مارس 1926 – لمدة عام كامل، وشارك فيها السياسيون من مختلف المشارب، وعلى رأسهم للأسف الشديد سعد زغلول زعيم حزب الوفد بما له من شعبية وسلطة رمزية. لذلك كان لابد لتلك الحملة أن تؤثر كثيرا على طه حسين الإنسان، وما كان لها أن تتوقف – ولا أظن أنها توقفت حتى الآن – دون تقديمه للمحاكمة. وهي المحاكمة التي انتهى النائب العام وقتها، أو رئيس نيابة مصر كما كان يدعى – محمد بك نور في مارس 1927– وبعد تحقيق طويل مع طه حسين، إلى قرار ناصع وجريء بحفظ القضية؛ وما ينطوي عليه هذا القرار – حينما كان القضاء المصري مستقلا ونزيها ومستنيرا – من تبرئة له من كل ما نسب إليه من اتهامات. فمع اعتراف رئيس نيابة مصر في ديباجة قراره بالاختلاف الشديد مع بعض ما ورد في كتاب طه حسين، فإنه يقرر أنه «لمعاقبة المؤلف يجب أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب. وإن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين. والعبارات الماسة بالدين، التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.»[19]

تناقضات بريطانية وعالم أكسفورد الرحيب:

لكن دعنا من كتاب طه حسين وتأويلي له – فلذلك حديث آخر سأواصله في مكان مغاير – كي استكمل تلك الذكريات التي أريد أن استرسل فيها قليلا. خاصة لأنني أدرك أن بريطانيا التي وفدت إليها في ذلك الزمن البعيد في ربيع 1973 غير بريطانيا التي أكتب فيها الآن تلك الذكريات، والتي تتخبط بين براثن جائحة كرونا وما عرّته من آثار الخصخصة البغيضة على مؤسسة الرعاية الصحية التي كانت من مفاخر أول حكومة للعمال فيها بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية، وإجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي وما سيترتب عليها من عواقب سياسة واقتصادية ستتحطم على صخرتها أوهام كثيرة عن ماضهيا التليد من ناحية أخرى. فقد كانت بريطانيا التي وفدت إليها مشغولة بجدل معاكس تماما – في النوع والاتجاه – لما يشغلها الآن: وهو هل من مصلحتها أن تدخل إلى أوروبا (ولم تكن سوى سوق مشتركة وقتها)، أم أن الأجدى لها الاعتصام بعقليتها الانعزالية الضيقة insular الناجمة عن كونها جزيرة مغلقة على ذاتها. وكان شارل ديجول (1890-1970) قد عارض دخولها إلى مشروعه الأوروبي الذي كان مناهضا بشكل كبير للهيمنة الأمريكية الشرسة، حتى وفاته. ويعتبر – وعن حق كما تبين فيما بعد – أنها ستكون حصان طروادة الأمريكي في قلب المشروع الأوروبي الغض وقتها.

كانت بريطانيا التي وفدت إليها – في 31 مارس 1973 – أقرب إلى تلك التي وقع في غرامها وجيه غالي (1929-1969) وصورها في روايته البديعة (جعة في نادي البلياردو Beer in The Snooker Club) التي صدرت عام 1964، وهي في الواقع أول رواية أقرأها كاملة باللغة الانجليزية عقب قدومي لبريطانيا، ضمن جهودي الباكرة والحثيثة لتحسين لغتي الانجليزية. والتي بدأت بالطبع بمنطق جامعة أكسفورد الشهير الذي فرضه عليّ محمد مصطفى بدوي حينما طالبني بتدريس (أيام) طه حسين لطلاب اللغة العربية.[20] وأعني بذلك بريطانيا القديمة التي فتن بها وجيه غالي في مدرسته الانجليزية بالقاهرة، والتي عاش جانبا من حياتها التي تبلورت في «بار جميل» وجعته الانجليزية في قلب قاهرة أربعينيات القرن الماضي، وحتى جاء حكم العسكر. فاضطر لتركها وراءه، وجاء بحثا عن تلك الحياة المفقودة، فعالجه الواقع الصادم من داء تلك النوستالجيا التي ربتها ثقافتها فيه. فقد كانت هذه الرواية الجميلة أحد نصوص كتابات ما بعد الاستعمار الباكرة. ولازلت أذكر حتى اليوم واحدة من مقولاته الشهيرة بها «ابعث أحد الواقعين في هوى الثقافة الانجليزية anglophile إلى إدارة الجوازات والهجرة Home Office، وسوف يشفى على الفور من هذا الداء.»

كانت بريطانيا التي وفدت إليها لاتزال بنت العقلية الانعزالية insularالمتشابكة مع أوهام العظمة الباقية من ماضيها الاستعماري القريب، والتي كرسها انتصارها في الحرب العالمية الثانية. صحيح أن ضربة العدوان الثلاثي/ التي تعرف بالإنجليزية بحرب السويس قد نبهتها إلى تغير جذري ومزلزل في موازين القوى، إلا أنها كانت لاتزال سادرة في عزلتها التي سعت حكومة إدوارد هيث (1970-1974) التي كانت تحكم عند وفودي إليها إلى إخراجها منها، وشدها عنوة إلى الاتحاد الأوروبي قبل شهور من قدومي إليها.[21] كانت لاتزال على نسق الحياة التي كانت تلفها ظلمات غارات الحرب العالمية الثانية التي قرأنا عنها كثيرا.

فقد كانت الحانات Pubs وهي مكان لقاء الانجليز المفضل للقاءات الاجتماعية والتعرف على الأخرين، والحوار حول ما يدور في الحياة اليومية من أحداث، تغلق أبوابها في العاشرة مساء. وكانت كل دكاكينها تغلق أبوابها في الخامسة وقبل المغرب بالطبع، ولا يبقى مفتوحا بها إلا تلك الحانات، والمطاعم التي كانت محدودة للغاية في ذلك الوقت. وكانت أصداء غضب جيل مابعد الحرب – الذي عبر عن نفسه في مسرحية أوزبورن الشهيرة (انظر وراءك في غضب) – الذي قرأت أعماله قبل قدومي لبريطانيا، لا تزال تتردد بخفوت؛ وخاصة في أروقة جامعات النخبة البريطانية مثل أكسفورد.

فقد كان همي طوال الفصل الدراسي الذي دعيت له، ليس أن أعلّم الطلاب كتاب طه حسين فحسب – مرتين في الأسبوع – وإنما أن أركز جل ما لدي من وقت وطاقة في تعلم مختلف ملكات اللغة الانجليزية – كتابة وقراءة وسماعا وحديثا – كي أدرّس بها من ناحية، وكي أستطيع بها استيعاب العالم الذي وجدت نفسي فيه، وتشوفت إلى سبر أغواره. وأن أتمكن من معرفة الثقافة بحق كما طالبني طه حسين في لقائي الأخير معه، كي أستطيع بعد معرفتي العميقة بها أن أعيد رؤية ثقافتي من منظور جديد. ثم ازداد الأمر أهمية وإلحاحا، بعد حصولي – بعد أقل من شهرين من وجودي في أكسفورد – على منحة للدراسة للدكتوراه من جامعة لندن، كما ذكرت.

ولأنني كنت قد جربت فصول التقوية في اللغة الانجليزية – من خلال ما انتظمت فيه منها في قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل المجيء لبريطانيا – فقد قررت ألا ألجأ إلى هذا الحل، وأن أنخرط في اللغة كلية بدلا من ذلك. بمنطق الجامعة التي وجدت نفسي فيها، أي القفز في الجانب العميق من حوض السباحة. فكان أول ما فعلت هو شراء راديو ترانستور ضخم ورخيص – نصحني به أحد الزملاء المصريين لأنه روسي الصنع، وبه العديد من موجات الموجة القصيرة التي تمكنه من التقاط الإذاعات العربية – كي استمع باستمرار لنشرات الأخبار، والبرامج الإخبارية والحوارية التي يتميز بها البرنامج الرابع في إذاعة BBC المحلية، أو البرامج الثقافية التي يذيعها البرنامج الثالث (الذي أنشئ على غراره البرنامج الثاني في مصر)، وليس من أجل الاستماع للإذاعات العربية، رغم ازدياد الشوق إليها كلما ازداد الإحساس بالعزلة. وكم أحسست بالعزلة في تلك الزيارة – وهو أمر سأعود له بعد قليل – وقد ثبتّ مؤشر الراديو على هذا البرنامج في غرفتي باستمرار كي تتعود أذني على إيقاع اللغة الانجليزية.

ولأنه كان عليّ أن أتناول جميع وجباتي اليومية في مطعم الكلية، وأعني بها كلية سانت أنتوني Saint Antony’s College التي استضافتني كزميل زائر فيها، فقد كنت ما أن أنتهي من الإفطار في الصباح حتى انتقل إلى ما يُعرف باسم الغرفة العامة Common Room التي تتوفر فيها كل الصحف اليومية والدوريات الأسبوعية منها أو الشهرية. وأقضي أول ساعات النهار فيها، أحاول فك ألغاز ما أقرأه من أخبار أو مقالات. واكتب ما يستعصي عليّ فهمه من كلمات أو عبارات أو تراكيب، كي أكشف عنها في القاموس. وكان مما يثير فرحي كثيرا أنني ما أن أتعلم كلمة أو اصطلاحا أو تركيبا انجليزيا جديدا من القراءة، أو من تحضير دروسي عن (الأيام)، حتى يصادفني، أو بالأحرى أتعرف عليه، وأنا أنصت للراديو أو أشاهد التليفزيون في المساء. فقد كنت واعيا بمقولة سارتر الشهيرة – إننا نكتشف الأشياء حين نسميها – أو أن اللغة هي التي تدخل الأشياء إلى عالمنا أو توجدها، مفردات كانت أو مفاهيم.

وكان ما جعل عملية الانخراط في اللغة مجديا ومثيرا بالنسبة لي، بل ومفيدا إلى حد كبير، هو أنني كنت محظوظا بدعوة كلية سانت أنتوني تلك لي. فقد دعتني كزميل زائر visiting fellow والزميل في كليات جامعتي أكسفورد وكيمبريدج، هو الوريث العصري لرهبان الأديرة، أو لشيوخ الأعمدة في نظام (الأزهر) القديم بما لهم من حقوق وجراية. وكانت تلك الوجبات الثلاث هي نصيبي من تلك الجراية. وأذكر أن أول ما لفت نظري بعد الأسابيع الأولى في أكسفورد هو غنى تلك الوجبات باللحوم، التي تجدها في الوجبات الثلاث – بما في ذلك وجبة الإفطار الانجليزي المشهورة، بما تتضمنه من قديد ونقانق – مقارنة بما كان يصفه طه حسين من خبز الجراية – الذي كان كل نصيبه من طعام أيام الطلب بالأزهر، مع العسل الأسود – وما أدراك ما العسل الأسود كما يقول. إلى الحد الذي دفعني إلى حساب أن ما تستهلكه هذه الكلية – ولم يكن مجتمعها يتجاوز المئة من طلاب وزملاء – من لحوم وأسماك ودواجن في أسبوع يعادل ما تعيش عليه قرية مصرية من لحوم ودواجن في عام كامل.

لكنا دعنا من المقارنة – وكنت دوما أقارن ما أشاهده أو أعيشه هنا بما تركته ورائي في مصر – ولنتعرف أكثر على نظام تلك الكلية التي دعتني، برغم أنها ليست كلية تقليدية من كليات جامعة أكسفورد القديمة.[22] فهي كلية لا تقبل إلا طلاب الدراسات العليا، وتتبعها مجموعة من المراكز المتخصصة لدراسات أوروبا الشرقية أو اليابان أو أمريكا اللاتينية، ومنها مركز دراسات الشرق الأوسط الذي أسسه بها ألبرت حوراني، ونهض بعبء وضعه بقوة على الخريطة الجامعية ومعه طلابه الأوائل مثل روجر أوين وديريك هوبوود، مع روبرت مابرو في الاقتصاد، ومحمد مصطفى بدوي في الأدب وغيرهم. وهو المركز الذي دعاني لهذا الفصل الدراسي.

لكن نظام جامعة أكسفورد – ومعها جامعة كيمبريدج حيث يتجاوز عمرهما سبعة قرون – ينهض على نظام الأديرة والرهبان القديم. حيث كانوا يعيشون داخل الدير، ويمارسون فيه دراساتهم وأبحاثهم اللاهوتية، ويتعهد كل منهم براهب شاب يدربه على الدرس والعبادة. وقد تحولت تلك الأديرة الآن إلى كليات – لذلك تحمل الكثير منها أسماءً دينية أو أسماء قديسين – بها كثير من أماكن الإقامة للزملاء منهم أو الطلاب، وبكل كلية مطعمها الذي يقدم للمقيمين فيها وجباتهم الثلاث، كما كان الحال أيام كانت تحظى مؤسسة الكنيسة في أوروبا بأفضل الخيرات.[23]

وعندما بدأت عملية التحديث الأوروبية – مع ما يعرف باسم النزعة المدرسية/ السكولاستيكية scholastic التي سعت إلى المزاوجة بين الفلسفة الإغريقية القديمة ودراسة اللاهوت في العصور الوسطى، كانت الكنيسة لاتزال أغنى المؤسسات. وكانت أديرتها هي مؤسسة تطوير المعارف والأفكار بالدرجة الأولى، وهي التي تقود الحياة المعرفية في أوروبا في جميع المجالات. وكان من الضروري تدريس اللغة العربية في أوروبا بدعوة من البابا سيلفيستر الثاني (946-1003) كي تتعرف أوروبا على الرياضيات وعلم الفلك وفلسفة أرسطو. وهي النزعة التي بلغت أوجها مع توما الأكويني (1225-1274) أنجب تلاميذ ابن رشد (1126-1198). ثم تأسيس كراسي لدراستها بقرار باباوي في أكبر خمس جامعات أوربية، ومنها جامعة أكسفورد.[24] ثم تواصل تطويرها من الداخل. ولذلك احتفظت الجامعة – ومعها جامعة كمبريدج التي انبثقت عنها في أحدى الروايات حينما فرّ عدد من باحثيها ورهبانها إثر خلافاتهم مع الطلاب والمدينة، وأسسوا جامعة كيمبريدج – بنظام الأديرة القديم في كلياتهما Colleges، بينما أخدت هذه الكليات تضم إليها باحثين في العلوم الحديثة من جميع المجالات، وتؤسس لهم كراسي الأستاذية Professorships فيها. ثم أسست إلى جانب تلك الكليات ما يدعى بالكليات المتخصصة Faculties أو المعاهدInstitutes في مختلف اللغات أو العلوم الحديثة من طب وهندسة وطبيعة ورياضيات وغيرها.[25]

لذلك فقد كنت طوال هذا الفصل الدراسي أعيش في كلية سانت أنتوني، بينما أذهب إلى معهد الدراسات الشرقية Oriental Institute مرتين كل أسبوع لقراءة كتاب (الأيام) مع طلاب اللغة العربية. وهو المعهد الذي يقترب في وظيفته من كلية الآداب عندنا، حيث تدرّس فيه كل اللغات الشرقية – من العربية والفارسية والتركية والعبرية وحتى اللغات الشرقية القديمة – فضلا عن ديانات تلك المناطق الشرقية القديمة منها والمعاصرة، وتاريخ بلدانها وجغرافياها وآدابها ... إلخ. وبسبب هذه البنية المزدوجة للتعليم في هاتين الجامعتين، فإن الطالب يتقدم لدراسة موضوع معين إلى الكلية المتخصصة في الموضوع – ولنقل كلية الطب أو الحقوق أو الهندسة أو الدراسات الشرقية – وبعد قبوله عليه أن يتقدم لكلية College يشترط أن يكون بها زميل متخصص في الموضوع الذي سيدرسه. وتصبح هي الكلية التي سيعيش فيها – كما هو الحال في المدارس الداخلية – حتى يحصل على الليسانس مع طلاب آخرين يدرسون في كليات متخصصة أخرى، مما يتيح له أن يزامل رفاقا له من مختلف المشارب والتخصصات. يتناول معهم وجباته الثلاث ويعيش معهم بعيدا عن الفصول التي يحضرها في كليته أو معهده، حيث يزامل فيه أقرانه في المهنة. هذا في الوقت الذي يصبح فيه الزميل المختص في مجال دراسته في الكلية – والذي يعمل عادة في المعهد المتخصص الذي يدرس به – هو المسؤول عنه أو مرشده التعليمي الخاص tutor، أو بالأحرى مدرسه الخصوصي الذي يشرف على دراسته وتعليمه، ويتابع تقدمه عن كثب، كما كان الحال مع الراهب القديم الذي كان يلتحق به عادة الراهب الجديد.

ويتيح هذا النظام التعليمي – وهو نظام مثالي في نظري لأن الطالب الجامعي يتعلم من أقرانه أكثر مما يتعلم من أساتذته – لمن يحظى بالدرس فيه الحياة الجامعية المتنوعة في الكلية College حيث يزامل رفاقا من مختلف التخصصات، يتشرب منهم جوانب من معارفهم، ويلم بكثير مما يفعلونه، ويكوّن معهم صداقات ستكون لها قيمتها في حياته في المستقبل، وهو الأمر الذي يوسع أفقه ومداركه؛ بينما يوطد علاقته بزملاء مهنته في المعهد الذي يدرس فيه. خاصة وأن سنوات الدرس الجامعي هي في العادة سنوات التكوين المعرفي المهمة، بما في ذلك تكوين الصداقات التي كثيرا ما تدوم فيما بعد. فإن احتاج في المستقبل إلى شخص في مهنة أخرى – محامٍ، أو مهندس أو طبيب – سيجده بين زملائه في الكلية، وإن احتاج إلى زميل في مهنته سيجده بين زملائه في المعهد. هذا على المستوى التعليمي، أي الشق الأول من وظيفة الجامعة، وهو نقل المعرفة من جيل إلى آخر.

أما على المستوى الأخر والمهم لأي عملية تعليمية – مستوى البحث وتنمية تلك المعرفة والإضافة إليها باستمرار – فإن هذه البنية التي تحدثت عنها بالنسبة لتعليم الطلاب تناظرها بنية مشابهة بالنسبة للزملاء في كل كلية. حيث تحرص الكليات أيضا على تنويع مجالات تخصصات الزملاء فيها، كي تستقطب أكبر عدد من الطلاب، وحتى لو كان بها أكثر من زميل في حقل معرفي واحد، فإنها تحرص على أن يكون كل منهم في تخصص مغاير. فلو كان في الكلية مثلا أكثر من متخصص في الأدب، فسيكون أحدهم متخصصا في الأدب الانجليزي، والآخر في الفرنسي، والثالث في أدب أميركا اللاتينية. وإن كان بها أكثر من متخصص في دراسات الشرق الأوسط، فسنجد أن أحدهم متخصص في التاريخ، والآخر في الإسلام، والثالث في الدراسات الإيرانية القديمة وهكذا. وهذا التعدد في التخصصات بين زملاء الكلية الواحدة، لا يعزز التلاقح الفكري والمعرفي فحسب، وييسر تبادل الخبرات والمعلومات بين مختلف العلوم والمناهج، ولكنه يساعد أيضا على التفاعل بين العقول المدربة في حقول معرفية مختلفة. خاصة وأن هؤلاء الزملاء يلتقون معا بشكل شبه يومي في قاعة الطعام أثناء الغذاء على الأقل، ويتبادلون الحديث كأنهم أبناء أسرة معرفية واحدة؛ فليس في المعاهد عادة إمكانيات لتقديم الطعام.

 

[1] لأن مؤلفه حرص على أن يمنع إعادة طبعه برغم حرصه على إعادة طبع كل مؤلفاته بانتظام شديد. لأن نشر هذا الكتاب عام 1961، أولا على شكل مقالات في (الأهرام) وقبل أن يظهر ككتاب، أثار الكثير من الجدل والنقاش؛. ليس فقط لأنه كتب موقف الدولة الناصرية من المثقفين ورغبتها في احتوائهم، وعدم ثقتها فيمن لا ينضوون تحت سلطتها منهم بطريقة فجّة إلى حد ما، ولكن أيضا لأن الشريحة الكبيرة من المثقفين الذين تناولهم الكتاب، أي مثقفي اليسار خاصة، كانوا يعانون من أشد أنواع القهر والعسف في المعتقلات الناصرية وقتها. وكانت ثمة رغبة من النظام في أن يتخلوا عن أجنداتهم الثقافية أو السياسية المستقلة، وأن ينخرطوا كلية في مشروع النظام، برغم تأييد بعضهم لجوانب كثيرة من هذا المشروع في أزهى فتراته الإصلاحية والتنموية إبان حكم عبدالناصر. ولأن الكتاب يُعدّ من ناحية سقطة أخلاقية لهذا الصحفي اللامع حيث كان يكتب عمن لا يستطيعون الرد عليه لأنهم في سجن من ينظر له، ومن ناحية أخرى وثيقة دامغة تكشف عن عداء النظام العسكري، حتى في أفضل مراحله وطنية وهي مرحلة عبدالناصر، للحرية وللمثقفين بشكل عام، فقد اصرّ محمد حسنين هيكل فيما بعد على ألا يعيد طبعه.

[2] . نادر فرجاني (عتق أمة: من الهوان إلى النهضة في الوطن العربي)، نسخة بي دي إف متاحة على الانترنت وبدون ناشر أو تاريخ، ص 162.

[3] . تحضرني بهذه المناسبة قصة رواها لي – ولمرارة المفارقة في أكسفورد أيضا – الكاتب الشهير أحمد بهاء الدين، عن صحفي وشى به لرجال الأمن، ونقل عنه لهم أشياء غير دقيقة لأنه لم يفهمها. وفي نقاشه لرجل الأمن الذي تلقى هذه الوشاية وكان يناقشه فيها، قال له أحمد بهاء الدين عن هذا الواشي: إنه ليس صحفيا جيدا بأي معيار مهني. فرد عليه رجل الأمن بسؤال استنكاري دال: وهل كان سيعمل معنا لو كان صحفيا جيدا؟

[4] . صدرت هذه الدراسة فيما بعد في كتاب بعدما أكملها صاحبها بالإنجليزية وحصل بها على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد بعنوان: Ali B. Jad, Form and Technique in the Egyptian Novel, 1912-1971 (London, Ithaca Press, 1984)

[5] . من سور الأزبكية الذي كان لايزال عامرا بها وحتى إلى ما قبل حرق دار الأوبرا المصرية الجميلة التي بناها الخديوي إسماعيل، إلى أكشاك جزيرة ميدان السيدة زينب، وامتداد شارع بورسعيد منه قبل تدميرها وتحويل موقعها لمواقف للسيارات، وحتى مكتبات منطقة عابدين قرب حارة الزعفران للكتب القديمة، وأهمها بالطبع مكتبة درب الجماميز الشهيرة لصاحبها الشيخ علي خربوش.

[6] . محمود أمين العالم، (فلسفة المصادفة: بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة، ويحدد دلالاتها في الفيزياء الحديثة)، طبعة مكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2003,

[7] . كل الأرقام التي تشير لصفحات الكتاب هي من طبعة مكتبة الأسرة التي استخدمتها من هذا الكتاب.

[8] كان الكثير مما بدأت به حركة الضباط الأحرار حينما استولت على السلطة في مصر موجودا على أجندة الحركة الوطنية المصرية: من الاستقلال السياسي وطرد الانجليز من مصر إلى الإصلاح الزراعي ومجانية التعليم وحتى تأميم قناة السويس.

[9] كنت أسكن في القاهرة، وفي حي المنيل بها في شقة مجاورة لتلك التي يسكن بها سليمان فياض وبنفس العمارة. وكنت لذلك أول من يقرأ مخطوطاته، أو يتداول معه في أمر نشرها. وقد أخذت مخطوطة (أصوات) معي في أول سفرة لي للعراق عام 1972 وقدمتها للنشر هناك في وزارة الثقافة العراقية التي صدرت عنها طبعتها الأولى، كما صدر عنها كتابي الأول (مسرح تشيخوف) في العام التالي.

[10] . كان من أحدث من دفنوا في هذه المقبرة الشهيرة مؤخرا المفكر المصري الكبير سمير أمين (1931-2018) في المقبرة التي تضم أعلام الحزب الشيوعي الفرنسي بها.

[11] كان السادات يحكم قبضته على السلطة في مصر، ويغير توجهاتها نحو التبعية الكاملة لأميركا، بصورة أهدرت استقلال مصر الذي فنت أجيال متلاحقة من خيرة شباب مصر وعقولها حياتها لتحقيقه مع مرحلة عبد الناصر. وكانت أطروحة أهل الثقة بدلا من أهل الخبرة قد تجذرت – بالفساد وكتابة التقارير الأمنية في ممارسات البيروقراطية المصرية، التي بدأت تكون نوعا جديدا وشائها من أهل الثقة، من الذين يجدون أن العمل مع النظام السائد، وتنفيذ توجهاته وتقديم التقارير له عما يدور في أماكن عملهم، أسهل من المنافسة الحرة المفتوحة في المجالات المعرفية والمهنية على السواء، مما رسخ قوانين التردي والانهيار.

[12] كان حرف القاف يعني أن صاحب هذه التأشيرة مدرج في «قوائم» الممنوعين من السفر. وكان العسكر قد حولوا مصر إلى سجن كبير لابد من الحصول على إذن بالخروج منه.

[13] كان على رأس هذه المجموعة الأصدقاء صلاح عيسى وغالب هلسا وسيد حجاب ومحمد العزبي، وعبدالرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم. وكانت زوجات بعضنا قد نجحن في كتابة خطاب لسارتر يبلغه باعتقالنا ويعدد أسماءنا كمجموعة كتاب شبان في ذلك الوقت، بعد أن أكدوا له ألا وجود لمثل هذه الاعتقالات حينما رفض زيارة مصر بعد معرفته بها، وترجمته زوجه سيد حجاب وقتها، وهي السويسرية إيفلين حجاب، إلى الفرنسية، ولم تنجح حتى في توصيله لسارتر بسبب الطوق الأمني الذي ضربوه على حركته، وإن نجحت في دسه خفية في يد سيمون دو بوفوار التي صحبته في تلك الزيارة. وحينما التقى سارتر عبد الناصر وبخه على كذب نظامه عليه، وقدم له قائمة بأسماء المعتقلين الذين تضمنهم هذا الخطاب. واعتذر له عبدالناصر ووعد بالإفراج عنهم جميعا قبل أن يغادر القاهرة، وفعل!

[14] . كان من الطبيعي أن ترسل جوازات سفر من سبق اعتقالهم روتينيا إلى إدارة المباحث العامة – وهو اسم جهاز أمن الدولة أو الأمن الوطني وقتها – للحصول على موافقتها قبل منح تأشيرة الخروج. وكان عليّ في كل مرة احتجت للسفر فيها أن أوسط الكثيرين ممن لهم نفوذ لمنحي تأشيرة الخروج. ولم أكن قد سافرت قبلها سوى مرتين إلى العراق بدعوة من حكومته لمهرجان أبي تمام 1971 ثم مهرجان المربد 1972. وقد توسط لحصولي علي تأشيرة الخروج في سفري لبريطانيا وقتها شقيق أستاذتي العزيزة الراحلة لطيفة الزيات، التي لا أنسى فضلها عليّ علميا وتشجيعها لي شخصيا على هذا السفر حتى اليوم، وكان وقتها وزيرا له وزنه، وهو محمد عبدالسلام الزيات، فكان عليهم الموافقة على إعطائي التأشيرة، حتى لو فعلوا كل ما في استطاعتهم لحرماني من السفر بتأخيرها حتى تفويت موعد المؤتمر.

[15] لم يكن ممكنا لأي مواطن أن يحصل على عملات أجنبية وقتها. وحتى حينما كنت أكتب في مجلات عربية خارج مصر، وترسل لي مكافأة بالإسترليني أو الدولار، كانت الرقابة الصارمة على البريد والتي تفتح كل الخطابات الواردة من الخارج، تأخذ الشيك، وتبعث به للبنك المركزي، وتضع بدلا منه وثيقة إيداع الشيك في البنك في الخطاب الذي كان يلصق عليه عادة شريط لاصق مطبوع عليه فتح بمعرفة الرقابة. مكتوبة لعدة مرات في سطور متتالية. وكان عليّ التوجه للبنك المركزي للحصول على مقابله بالعملة المحلية.

[16] . كانت جامعة أكسفورد لا تقبل أكثر من هذا العدد من الطلاب كل عام لدراسة اللغة العربية والدراسات الشرقية في معهدها الاستشراقي الشهير.

[17] . كانت السنة الجامعية في أكسفورد – ولازالت حتى كتابة هذه السطور – مقسمة إلى ثلاثة فصول دراسية طول كل منها ثمانية أسابيع، لها أسماؤها اللاتينية: Michaelmas, Hilary and Trinity المستقاة من تقويم الأديرة القديمة، وكان الفصل الثالث الذي سأدرّس فيه طه حسين هو فصل التثليث، وكان معنى ذلك أنني سأحصل في نهاية الفصل على ثمانين جنيها، وهو الأمر الذي سيوفر لي نفقات رحلة خططت للقيام بها لفرنسا في فصل الصيف.

[18] . وكان النائب العمومي قد تلقى عدة بلاغات تفيد كلها بأن طه حسين قد تعدى بكتابه على الدين الإسلامي، أولها بتاريخ 30 مايو 1926 من الشيخ خليل حسين الطالب بالقسم العالي بالأزهر يتهم فيه الدكتور طه حسين بأنه ألف كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور وفي الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي إلي آخر ما ذكره في بلاغه. وبتاريخ 5 يونيو 1926 أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومي خطابا يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب طه حسين الذي كذب فيه القرآن صراحة وطعن فيه على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وطلب فضيلة الشيخ تقديم طه حسين للمحاكمة، وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1926 تقدم حضرة عبد الحميد البنان أفندي عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين نشر ووزع وعرض للبيع كتابا طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي. للمزيد من التفاصيل بشأن المحاكمة وخاصة النص الكامل لقرار محمد نور بك الناصح والتفصيلي فيها، راجع خيري شلبي (محاكمة طه حسين)، طبع أولا في بيروت في المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1974؟، ثم بعد عشرين عاما في القاهرة 1993.

[19] . تكمن أهمية قرار محمد بك نور وقتها في أنه قرر حفظ القضية، ليس لاتفاقه مع ما جاء في الكتاب أو اقتناعه به، وإنما بالرغم من اختلافه معه. ومازالت حجج محمد بك نور القانونية صالحة حتى اليوم. لأنه يشير مثلا «ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين إنما جاءت في الكتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف الكتاب من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلا إلي تقديرها تقديرا صحيحا، بحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا.» وبذلك وضع محمد نور أساسا لعدم انتزاع الكلمات والعبارات من سياقاتها. وقد اختلف محمد بك نور في الكثير مع طه حسين، وقرر بالنسبة لتكذيب الأخبار عن إبراهيم واسماعيل أن طه حسين: «خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلي غرضه الذي عقد له هذا الفصل من الكتاب من أجله»، أما عن التهمة الخاصة بالقراءات السبع فقد اعتبر محمد بك نور أن ما ذكره المؤلف هو «بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه.». وبشأن التهمة الثالثة وهي الطعن في النبي (صلعم) فقد جاء في قرار رئيس النيابة «ونحن لا نرى اعتراضا على بحثه على هذا النحو، وإنما كل ما نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي بعبارة خالية من الاحترام.» وأخيرا يقرر محمد بك نور بالنسبة للتهمة الرابعة ما يلي «ونحن لا نرى اعتراضا على أن يكون مراده بما كتب هو ما ذكر، ولكننا نرى أنه كان سيء التعبير جدا في بعض عباراته.» وقرر – بعد نص ناصع باهر في بعض جوانبه – حفظ أوراق القضية إداريا في القاهرة بتاريخ 30 مارس 1927.

[20] . يقول هذا المنطق المبني على المنطق الإسبرطي القديم انتق أفضل ما يتقدم إليك من طلاب، ثم الق بهم في الجانب العميق من حمام السباحة، من سيطفو ويتعلم السباحة (والسباحة هنا قد تكون اللغة اللاتينية أو العربية أو الصينية أو غيرها من الموضوعات) هو من يستحق مواصلة الدرس فيها، ومن سيغرق اتركه هناك في القاع.

[21] . وهو الأمر الذي دعاه إلى تجميد الأسعار، بعد أخد بريطانيا عنوة للاتحاد الأوروبي، والذي ظل موضع خلاف شعبي واسع حتى جاءت حكومة العمال (هارولد ويلسون 1974-1976) وعقدت استفتاء شعبيا عام 1975 صوت فيه الناخبون على البقاء في الاتحاد الأوروبي الذي ظلت بريطانيا فيه حتى صوتت في استفتاء عام 2016 للخروج منه.

[22] . تتكون جامعة أكسفورد من أكثر من أربعين كلية College أو قاعة Hall وهو الاسم الذي يطلق على الكليات الصغيرة، ليس بينها إلا ثلاث كليات لا تقبل إلا طلاب الدراسات العليا فقط، بينما تقبل بقية الكليات الطلاب من مستوى الليسانس وحتى مستوى الدكتوراه.

[23] . يرجع تاريخ أقدم كليات جامعة أكسفورد، وهي كلية الجامعة University College إلى عام 1249، وكلية باليول Balliol College إلى 1263، وكلية إكستر Exeter College إلى 1314، وكلية الملكةQueen’s College إلى عام 1341، ولاتزال تؤسس فيها كليات جديدة حتى اليوم.

[24] . كان البابا كليمنت الخامس Clement V (1264-1314) الذي نقل الباباوية من روما إلى أفينيون في جنوب فرنسا، هو من اتخذ قرارا من المجلس الكنسي الأعلى Ecumenical Council of Veinne الذي انعقد في فيين في جنوب فرنسا عام 1311 بتأسيس كراسي أستاذية Professorships لتدريس اللغات الإغريقية والعربية والعبرية والكلدانية في أكبر خمس مراكز علمية أو جامعية وقتها وهي: البلاط البابوي، وجامعة باريس، وأكسفورد، وبولونيا في إيطاليا، وسلامانكا في إسبانيا.

[25] . وعلى سبيل المثال – حينما ذهبت إلى جامعة أكسفورد عام 1973 كان بها 40 كرسي لدراسات اللاهوت المختلفة – فما أن يتأسس كرسي في تلك الجامعات حتى يبقى للأبد – وكرسي واحد للطبيعة النووية. وهو الأمر الذي تغير الآن، وإن بقيت كراسي اللاهوت كما هي، وإن انتزعت الفلسفة عددا منها، بينما تزايدت كراسي الحقول المعرفية الأخرى.