يتناول الباحث المغربي هنا ما يمكن دعوته بنحو لغة الصورة أو أجروميتها في الإعلام المرئي. باعتبارها تبادلا لدوال دون مدلولات، ووسيلة للاستثارة تعمل على تحييد العقل بتعاقب الأحداث غير الخاضعة لسياق يحكمها، دون توفير المسافة الضرورية بين التلقي والاستجابة مما لا يترك للعقل مجالا للفحص والنقد والتمحيص.

الوظيفة الإقناعية للصورة الإعلامية

بعض أوجهها في زمن «ملحمة العين»

عبد القادر ملوك

 

ملخص المقال:
بالنظر إلى الأدوار والوظائف العديدة التي باتت تنهض بها الصورة الإعلامية راهنا، فقد أمست قطبَ الرحى في التواصل الفعال الذي يختلف عن التواصل العادي بما هو تبادل متكافئ بين قطبين، في كونه يقوم على تضمين الإرسالية قوة إقناعية غير مباشرة تُسعف الإعلام، من جهة، في الظهور بمظهر الوسيط المحايد والناقل الأمين لمجريات الأحداث الذي يمكن للآلة أن تسدّ مسدّه، كما تُمَكنه، من جهة ثانية، من توجيه المتلقي بطريقة سلسة وغير مباشرة الوجهةَ التي تخدم أجندات القائمين على المؤسسات الإعلامية الذين تفطنوا إلى قيمة الصورة ومساهمتها الفعالة بدوالّها ومدلولاتها الإيحائية في استلاب الطرف أو الأطراف المتلقية وتحويلها إلى كائنات استهلاكية محضة لا طاقة لها على مجابهة رسائلها أو تبين حقيقتها، لأن الصور الإعلامية، فضلا عن تدفقها الغزير والمتسارع، فهي لا تبث حقائق بقدر ما ترسل سلسلة من المثيرات البصرية التي تتسرب إلى وجدان المتلقي فتستحوذ على انفعالاته وتسد عليه منافذ عقله.

ومرادنا من هذه الورقة المقتضبة أن نسلط الضوء على بعض ملامح الوظيفة الإقناعية للصورة الإعلامية تحديدا وعلى بعض الميكانيزمات التي تعتمدها في تحقيق الإقناع وإثارة نوازع المتلقي وتأجيج انفعالاته.

  1. توطئة:
    تعد الصورة اليوم من أنجع التقنيات التي يعتمدها الإعلام، سواء في شقه المكتوب (الصورة الثابتة) أم في شقه المرئي (الصورة المتحركة)، وأكثرها فعالية في توطئة الطريق نحو وجدان المتلقي وحمله على الاقتناع بما تعرضه على أنظاره. فالصورة وإن كانت أداة تعبيرية في المقام الأول شأنها شأن باقي أدوات التمثيل الرمزي التي يتوفر عليها الإنسان كاللغة مثلا، فإنها تختلف عنها من حيث خصائصها الدلالية، فهي "تشكل طفولة العلامة، وطابعُها الأصيل هذا يمنحها قوة تواصلية لا مثيل لها".([i]) كما يمنحها قدرة كبيرة على استحضار المجرد الذي لا تقوى العين على إدراكه، واستدعاء الماضي المنفلت وإرغامه على المثول في الزمن الحاضر، بوصفها بديلا "موضوعيا" عن الواقع وناطقا "أمينا" باسمه.

وهي ليست كما يعتقد البعض "معادلا بصريا للفظي، أي رديفا مضافا يمكن الاستغناء عنه. إنها آلية خاصة في تلمس وجود المعطى الموضوعي وطريقة في استيعابه (...) قابلة للتسنين وفق المحددات السياقية ووفق المسبقات الفكرية التي قد تجعلها أداة للبرهنة والتدليل والحجاج".([ii])

واستنادا إلى هذه المكانة التي باتت تحظى بها الصورة ضمن النسق الإعلامي المعاصر، سنحاول إبراز بعض ميكانيزمات تحقيقها للإقناع، مقتصرين في ذلك على الصورة المتحركة كما يعرضها جهاز التلفزيون.

  1. بعض سبل تأدية الصورة الإعلامية لوظيفتها الإقناعية:
    لا مِراء في أن الصورة يمكنها أن تُعتمد، في بعض أشكالها، كحجة عقلية لها سلطة فكرية على المتلقي، ولا أدل على ذلك من أنه "عندما تُقَدم صورة ما كوثيقة في ساحة القضاء، فهي غالبا ما تُقدم كما لو كانت برهانا غير قابل للنقاش على أن حدثا معينا وقع بطريقة معينة في مكان معين".([iii]) كما لا مِراء في أن الصورة يمكنها أن توظف أيضا بوصفها حجة تقوم على إيتوس المؤسسة أو الشخص، كما هو الشأن في الحملات الانتخابية مثلا، حيث يتم توظيف "صور المرشحين التي يختارها خبراء متخصصون لتوحي بمصداقية وثقة المرشحين أو الأحزاب"([iv]) أو بالشكل الذي نلاحظه في الصور المروجة لبعض المؤسسات الاقتصادية أو لبعض المنابر الإعلامية وغيرها.

إلا أن من المؤكد، على الرغم من ذلك، أن الصورة تبقى على صلة كبيرة بالحجاج القائم على إثارة نوازع المتلقي وتأجيج انفعالاته، لاسيما إذا تعلق الأمر بالخطاب الإعلامي. والسبب في ذلك أن الصورة هي مصدر قوي لإثارة الانفعالات، فهي "تصنف عادة ضمن الأدوات التعبيرية المولدة للأحاسيس والانفعالات والتداعيات، إنها وسيلة للاستثارة لا إحالة على مقولات. إنها ليست عقلا، بل ما يسهم في تحييده".([v]) فمنذ اختراعها كوسيلة للتعبير، أصبحنا أمام "لغة من نوع جديد وخطاب حديث له صفة المفاجأة والمباغتة والتلقائية مع السرعة الشديدة ومع قوة المؤثرات المصاحبة وحدِّية الإرسال وقربه الشديد حتى لكأنك في الحدث المصور من دون حواجز."([vi])

لقد صرنا اليوم نعيش في زمن ثقافي وسمه دي سيرتو في تعبير جميل بزمن "ملحمة العين"، طغت فيه ثقافة الصورة بوصفها متغيرا جذريا في فعل الاستقبال والتأويل، يكشف التمعن فيه عن السرعة الكبيرة التي بات يتم بها الانتقال من مفعول الصورة كخطاب ادعاء يخلق قبولا أوليا إلى خلق رضا تراجعيK وموقف مضاد بفعل قيام الصورة النقيض. هذه المراوحة بين الصورة والصورة النقيض في تتابع هستيري للصور يربك المتلقي ويخضعه، بحسب تعبير جان بودريار (Jean Baudrillard) ، إلى نوع من التنميط الثقافي والاجتماعي، كما يجعل من الصورة الإعلامية بشكل عام الخطاب الأهم في صناعة الذوق ونمذجة الحياة([vii]).

ولقد أتاح هذا التتابع المسترسل للصور للمنبر الإعلامي إمكانية التحكم في الأبعاد الحجاجية للصور المعروضة من جوانب عدة شملت انتقاء الأوضاع (poses)، وتوظيف الإثارة والإيحاء واعتماد تنظيم فضائي يوهم بتزامنية في التلقي والإدراك، وكل ذلك من أجل التحكم في المناطق الانفعالية للمتلقي "وضبطها وشرطها وتوجيهها"([viii]) الوجهة المرغوبة، مثلما يتضح مثلا في الصورة التي بثتها وسائل الإعلام الغربية، ونقلتها عنها منابر إعلامية أخرى عديدة، لامرأة مغطاة بالرماد، بعينين جاحظتين، وفم فاغر، خلال أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، والتي تحيل المُشاهد على صور الموتى الذين يخرجون من قبورهم ليلا، بالشكل الذي ألفنا مشاهدته في أفلام الرعب.

والصورة تريد بذلك أن تَحمل المُشاهد على التفكير في حالة هي أشبه بحالة من عاد من الموت أو نجا منه بأعجوبة كمؤشر على فضاعة الحدث وبشاعته، علاوة على أنها تريد أن تحرك في المتلقي، من خلال عرضها لهول الاصطدام بين الطائرة وبرجي التجارة ومظاهر الدخان في كل مكان وهروب الناس في جميع الاتجاهات ... إلخ، مشاعر الإحساس بكارثة بكل المقاييس، وهي مشاعر لا يزيدها عنصر التأطير (le cadrage) الذي تقوم به الأجهزة الإعلامية على جميع الصعد (التلفيق، التركيز على زوايا بعينها، المغالاة) إلا اتقادا وتأججا.

إن الإعلام المعاصر لم يعد يهمه كثيرا أن يمسك بمعنى الحدث، مثلما كان عليه الحال في النصف الأول من القرن العشرين، بل بات ديدنه أن يراكم الوقائع في أقصر زمن ممكن؛ فالريبورتاجات ينبغي أن تكون قصيرة، والتعاليق بسيطة، تتداخل فيها حوارات قصيرة ومتنوعة، والصورة ينبغي أن تؤدي دورها على أكمل وجه، بمعنى أن تُحدث في المتلقي بَعد المشاهدة انفعالات متباينة الشدة لم تكن لديه قبل المشاهدة. ولتحقيق ذلك يعتمد النسق على مطلب السرعة ليتأتى له تحقيق السبق إلى الخبر دون الآخرين، وهو ما يحول دون فحص المعلومة وتمحيصها، بل كان الأمر سيبدو مثاليا، لو قُيض له أن يعرض الحدث في "الزمن الصفر"([ix])، بمعنى في اللحظة ذاتها التي يقع فيها، "حيث لا تكون هناك حاجة لذاكرة، ولا لمرجع، ولا لاستمرارية، كل شيء ينبغي أن يفهم في حينه، كل شيء يجب أن يتغير بسرعة".([x]) بهذه الطريقة لا تخضع تراتبية الأحداث المعروضة على شاشة التلفاز لقيمتها وأهميتها كأحداث، بل لقصر أو طول مدة عرضها على الشاشة. والنتيجة هي التحكم في انفعالات المُشاهد الذي تتعاقب عليه الأحداث غير الخاضعة لسياق يحكمها، فتتوالى عليه تباعا في شكل أمواج متدفقة لا تترك له فرصة لتحليلها أو لنقد مضمونها، الأمر الذي يجعل منه متلقيا سلبيا لا قدرة له على إعمال النظر في الأحداث التي تعرض أمام ناظريه، لأن المسافة الضرورية التي يفترض وجودها بين التلقي والاستجابة تنتفي بفعل المُباشرة التي لا تبقي له مجالا للفحص والنقد.

إن التواصل الفوري الذي أصبحت تفتخر به قنوات عديدة في زمننا هذا، والذي وفَّر لها نسب مشاهدة قياسية، ليس في حقيقة أمره، سوى تبادل لدوال دون مدلولات، ولرسائل دون محتويات، بالنظر إلى الانتقائية التي تتعامل بها هذه القنوات الإعلامية مع الأحداث، حين تعلي من شأن وقائع، وتحط من قدر أخرى، وتتحكم في اختيار الصورة، ليس فقط من خلال انتقاء ما يجب أن يكون مرئيا، بل أيضا بتحديد ما ينبغي ألاَّ يُرى،([xi]) دون أن تملك الوقت الكافي ولا الوسائل اللازمة لموضعة هذه الوقائع ضمن منظور معين. فهي تقيم خلطا دائما بين الرؤية التي تعتمد على فعل الحواس، وبين المعرفة، التي يتم بناؤها، كما لا يخفى، وفق قواعد مرتبطة بإعمال العقل، وتتطلب لذلك زمنا يفوق "الزمن الصفر" الذي ينقل فيه الحدث، ولِنَقل باختصار إنها لا تترك للبصر فرصة لأن يتحول إلى بصيرة.

ولئن سبق لرولان بارت أن لاحظ أن الصورة الفوتوغرافية، على خلاف الرسم، تجمع بشكل لم يسبق له مثيل بين ما هو هنا الآن (الصورة) وما كان هناك (الحدث)، واعتبر أن هذا الاقتران مبني على خرافة حقيقة الصورة،([xii]) فإننا نستطيع الجزم اليوم أن الخرافة الحقيقية هي تلك التي يريد من خلالها الإعلام أن يقنعنا بأن الصورة المتحركة التي يبثها تجمع بين ما هو الآن (الصورة) وما هو كائن هناك الآن (الحدث) بناء على زعم مؤداه أن لا وجود لمسافة فاصلة بين الواقع الحقيقي وبين الواقع الممثل عبر الصورة، والحال أن "الصورة لا تستنسخ الواقع، فهي ليست معادلا أمينا لشيء يوجد خارجها(...) ليست أسيرة مرجعها"([xiii]) إلى جانب أن "ما يأتي إلى العين هو نظرة تنظر إلى الأشياء لا الأشياء ذاتها"([xiv]).

إن النسق الإعلامي الحالي (في شقه السمعي البصري) القائم على الصورة، لا شيء فيه ثابت على حال واحدة، فالصورة لا يمكنها أن تؤثث فضاء الذاكرة، لأنها ببساطة غير مرتبطة بأية ذاكرة، إنها تتجول في الفضاء دون أن ترتبط بالزمن، لا تحدث تأثيرا إلا في اللحظة التي تُرى فيها، قبل أن تدخل طي النسيان مخلفة بذلك نوعا من اللامبالاة والتجاهل. وعليه يمكننا القول أن الإعلام يستطيع بما يتوفر له من وسائل، أن يبرر أي شيء، ولا تكمن قوته هذه في قوة مراجعه، بل في كونه لا يشتغل ضمن مجال الحقيقة والخطأ([xv])، لأن معيار الحقيقة في هذا الصنف من الخطاب يترك مكانه لمعيار آخر هو معيار القابلية للتمثيل، حيث تغدو الحقيقة بأنواعها (السياسية، الفلسفية، الدينية أو غيرها) مجرد رأي من بين آراء أخرى، لا تحظى بأي امتياز، مادام الامتياز ليس قيمة ثابتة بقدر ما هو صنيعة نِسب المشاهدة، وما دام الخبر والحقيقة، وفق ما ذهب إليه أندري كونت سبونفيل (A.Comte-Sponville)، لا يلتقيان أبدا، بناء على أن الحقيقة لا متناهية، والخبر ليس بوسعه أن يحتويها في لا نهائيتها، ثم من منطلق أن الإخبار يعني: "أن ننتقي، ونؤول، ونتبنى موقفا "([xvi]) .

وتبعا لذلك فإن الصورة مهما بلغت درجة إتقانها ودقة إخراجها فإنها تظل عاجزة عن استنساخ الحدث في واقعيته وتطويق كل جوانبه، للأسباب التي سلف ذكرها ثم لأن العين حين تنظر إلى حدث معين فهي لا ترقبه باعتبارها عضوا معزولا، بل تراه في الحقيقة "عبر وسائط الثقافة والمخيال والمعتقدات، ترى ما تود أن تراه لا ما يمثل أمامها"([xvii]).

إن الصورة في الخطاب الإعلامي، السمعي البصري بالخصوص، تستعيض عن الحقيقة بالمصداقية، وعن الرسالة بشدة التأثير، وعن الوعي بمخاطبة اللاوعي خزان الصور النمطية المنفلتة من الرقابة العقلية، لذلك فإن ما ينتج في النهاية ليس الكذب، بل خطاب من نوع غير مألوف يتطابق فيه الصدق مع الكذب، بحيث لا يعود بمقدورنا تبين الرسالة الصادقة من الكاذبة. ولا يفيد ذلك اتهامنا للصورة الإعلامية بتمرير الكذب، وإنما نحن نقصد أنها تمرر خطابا من نوع مختلف يتعالى على ثنائية الصدق والكذب، أو منطقا جديدا سماه جان بودريار (J.Baudrillard) "منطق فوق-واقعي يتمفصل فيه الواقعي والافتراضي"، يعكس تفوق الافتراضي على الواقعي بتقديم نفسه كواقع أكثر واقعية من الواقع نفسه، لكونه "عالم ليس فيه مقاومة، عالم مرن، طيع، سلس، عملي ومترابط بالصدفة".([xviii]) وبمنطق الفكر الجذري يمكن القول مع بودريار أن الخبر والصورة، باعتبارهما العنصرين المشكلين للإعلام في شقه المرئي، لم يعودا خاضعين لمبدأ الحقيقة والواقع.([xix]) بالشكل المتعارف عليه حولهما.

يبدو إذن أن للصورة قدرات هائلة على التعبئة والإقناع، فهي وإن بدت في مظهرها العام "ملفوظا تقريريا" تتحدد وظيفته في وصف أحداث أو حالات أشياء، إلا أنها ترمي على المستوى البعيد إلى إحداث تغييرات عميقة في المتلقي. ولهذا بإمكاننا القول -بلغة أوستين- إن الصورة هي ملفوظ تقريري ضعيف، ولكنها بالمقابل ملفوظ إنجازي بتأثير مؤجل.([xx]) هذا التأثير سبق أن ذكرنا بأنه يستهدف تحييد العقل والمرور إلى النوازع بغرض تأجيجها وتحريكها. وهي عملية يراهن القائمون على الإعلام على إحداثها عنوة، وبشكل مقصود ومخطط له سلفا، وفق ميكانيزمات ذكرنا بعضها سابقا من مثل التأطير والمونتاج والإضاءة والموسيقى المصاحبة الخ، لكن من الباحثين من يرى على العكس من ذلك أن أبرع الصور وأقوى المَشاهد التي يتم انتقاؤها بعناية لِتُعْرَض على أنظار المشاهدين لا تتمكن من بلوغ نفوسهم واستثارة انفعالاتهم، والسبب في ذلك أن الحكم يكون قد انتُزع من المُشاهد حين عَرْضها.

"لقد ارتعش المصورون من أجلنا، وفكروا عوضا عنا، وحكموا بدلا منا، وبهذا لم يترك لنا المصور أي شيء- اللهم إلا حق القبول الفكري: فلا يربطنا بهذه الصور إلا غاية تقنية".([xxi]) فالمبالغة في تهويل الحدث وتصيُّد اللحظة الفريدة بغرض اعتقالها يبدو، في اعتقاد بارت، مجانيا،([xxii]) لأنه يتقصد تكوين لغة مزعجة يكون لها وقع صادم على انفعالات المشاهدين، فلا يحدث ما كان متوقعا، لأن ما لا يدركه مهندسو الآلة الإعلامية هو أن الصور المثيرة فعلا ليست تلك التي يراد لها أن تكون مثيرة، وإنما تلك التي "تبدو للوهلة الأولى غريبة، وهادئة تقريبا وأقل أهمية من قصتها"([xxiii]) تتيح للمتلقي تكوين حكمه الخاص حولها دون أن يزعجه حضور الصورة ذاتها، كما تُمكنه، وهذا الأهم، من الدخول في رعب الصورة نفسه وليس في مشهد الرعب ([xxiv]) المصطنع.

خاتمة:
قلنا في بداية هذه الورقة المقتضبة أن للصورة مكانة رفيعة وأهمية بالغة داخل الخطاب الإعلامي بالنظر إلى قدرتها على التأثير في المتلقي وحمله على الاقتناع بالمضامين التي يتلقاها، وتلك هي الغاية التي ينشدها خطاب كهذا. يراهن أكثر من غيره على الجمهور في ضمان تواجده واستمراره. فالصورة إذا ما أُحسن توظيفها تتجه رأسا نحو النوازع، وهذه الأخيرة تُمثل، حسب التشبيه البليغ لجيزيل كاسطالاني، "لوحة المفاتيح التي ينقر عليها صاحب الخطاب لتحقيق الاستمالة" بحكم أنها تمتلك سحرا خاصا في استمالة الآخرين، سواء من أجل إيقاظ رد فعل كامن لديهم أو إخماد رد فعل قائم، لكن هذا لا يتأتى إلا لمن يعرف مسبقا مواضع هذه المفاتيح، ويتقن النقر عليها؛ ومن هذا المنطلق أصبح يُنظر للإخبار باعتباره لا يقوى أحيانا على تحقيق مطمح الإقناع، حتى لو صيغ بصورة قوية محكمة، لأنه في أحايين كثيرة يكون للجوانب الانفعالية الدور الفعال في إحداث الفارق، لاسيما حين تمطر المنابر الإعلامية المشاهِد بوابل من الصور المتسارعة التي سرعان ما تؤثث ذاكرته، وتشل منافذ عقله، فينحسر تفكيره النقدي، ويزداد منسوب قدراته الانفعالية التي تدفعه دفعا إلى تصديق كل ما تراه عينه عملا بالقول المأثور: ليس من رأى كمن سمع.

  • وقد صرنا نعيش عهدا قطعت فيه التكنولوجيا أشواطا هائلة من التقدم، وبات ما يصطلح عليه بالإعلام الجديد في طريقه إلى أن يحلّ محلَّ الإعلام القديم أو التقليدي، فقد وقع الانتقال من تأثير الضبط إلى تأثير الاستقطاب، وبالتالي أصبح وضع الجماهير الغفيرة، المفتقدة للحس النقدي في التعامل مع الصور الإعلامية المتدفقة عليها كشلال منهمر، أكثر مدعاة للقلق، إذ "لا يكاد الشك يرتسم عندها حتى يتحول فورا إلى يقين لا يقبل نقاشا. ولا يكاد يساورها شعور أول بالنفور حتى يتحول للحال إلى كراهية ضارية."([xxv]) لا لشيء إلا لأن لديها قناعة راسخة بأن ما تراه بأعينها إنما هو أشياء واقعية وحقيقية "جاعلة من "الصورة" و"الواقع" و"الحقيقة" أمورا متساوية؛ والحال أن هذه المساواة لا يمكن إقامة الدليل عليها، لا سيما وأن الصورة لبثت دهرا طويلا تُعتبر حاجبة للواقع وصارفة عن الحقيقة"([xxvi]) وعوض معاملتها كما لو كانت الواقع في تجليه وتمظهره وجب النظر إليها بوصفها "حجابا" يخفي الواقع وراءه ويمنع من الوصول إليه، حتى لا يصير حالنا أشبه ببندول يتأرجح بين الاعتقاد ونقيضه، نصدق الصورة للحظة، فيظهر ما يثبت زيفها وبطلانها، فنغير موقفنا ونتشبت بالصورة البديل تشبث الأعمى بعصاه إلى أن يظهر ما يفندها، وهكذا ذواليك في حركة لا متناهية يختلط فيها الواقع بالوهم، والحقيقة بالكذب.

 

كاتب من المغرب

 

المراجع المعتمدة:

  • بارت رولان، أسطوريات، أسطرة الحياة اليومية، ترجمة قاسم المقداد، دار نينوى، 2012.
  • بنكَراد سعيد، الصورة الإشهارية، آليات الإقناع والدلالة، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2009.
  • بودريار جان، الفكر الجذري أطروحة موت الواقع، ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال للنشر، 2006.
  • طه عبد الرحمان، دين الحياء، من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني -2- التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال، بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الاولى، 2017.
  • الغدامي عبد الله، الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004.
  • غوتيي غي، الصورة: المكونات والتأويل، ترجمة وتقديم سعيد بنكَراد، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012.
  • فرويد سيجموند، علم نفس الجماهير وتحليل الأنا، ترجمة وتقديم جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الأولى، 2006.
  • ناصر عبد الجبار، ثقافة الصورة في وسائل الإعلام، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2011.
  • Baudrillard Jean : Selected writings 6-7 ed.By M.Poster. Stanford. University Press .California, 1988.
  • C-Sponville. A et Ferry Luc, La sagesse des Modernes, éditions Robert Laffont, 1998.
  • Alain Benoit, Le système des médias, in:

http://www.alaindebenoist.com/pdf/le_systeme_des_medias.pdf

 

([i]) سعيد بنكَراد، الصورة الإشهارية، آليات الإقناع والدلالة، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2009، ص 24.

([ii]) سعيد بنكَراد، نفس المرجع، ص 149.

([iii]) عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في وسائل الإعلام، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2011، ص 147.

([iv]) عبد الجبار ناصر، نفس المرجع، ص 25.

([v]) غي غوتيي، الصورة: المكونات والتأويل، ترجمة وتقديم سعيد بنكَراد، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012، ص 11.

([vi])عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي، الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004، ص 24.

([vii]) J.Baudrillard : Selected writings 6-7 ed.By M.Poster. Stanford. University Press .California 1988.

([viii]) سعيد بنكَراد، الصورة الإشهارية، ص 81.

([ix]) يشير غي غوتيي إلى أن "الزمن الصفر" شأنه شأن النقطة التي لا امتداد لها، ليس سوى تخييل تمت بلورته من أجل حاجات نظرية". (الصورة: المكونات والتأويل، مرجع مذكور، ص 186.)

([x]) Alain Benoit, Le système des médias, in: http://www.alaindebenoist.com/pdf/le_systeme_des_medias.pdf

شوهد بتاريخ: 25/10/2015

([xi]) غي غوتيي، الصورة: المكونات والتأويل، ص 45.

([xii]) عبد الجبار ناصر، ثقافة الصورة في وسائل الإعلام، ص 147.

([xiii]) سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية، ص 150.

([xiv]) غي غوتيي، الصورة: المكونات والتأويل، ص 8.

([xv]) Alain Benoit, Le système des médias, op, cit.

([xvi]) A.C-Sponville et Luc Ferry, La sagesse des Modernes, éditions Robert Laffont 1998, p.432

([xvii]) غي غوتيي، الصورة: المكونات والتأويل، مرجع مذكور، ص 8.

([xviii]) Alain Finkielkraut, dans: le système des médias, op, cit.

([xix]) جان بودريار، الفكر الجذري أطروحة موت الواقع، ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال للنشر، 2006، ص47.

([xx]) غي غوتيي، الصورة: المكونات والتأويل، مرجع مذكور، ص 292.

([xxi]) رولان بارت، أسطوريات، أسطرة الحياة اليومية، ترجمة قاسم المقداد، دار نينوى، 2012، ص 126.

([xxii]) نفس المرجع، ص 127.

([xxiii]) نفس المرجع، ص 128.

([xxiv]) نفس المرجع، ص 128.

([xxv]) سيجموند فرويد، علم نفس الجماهير وتحليل الأنا، ترجمة وتقديم جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الأولى، 2006، ص 34.

([xxvi]) طه عبد الرحمان، دين الحياء، من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني -2- التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال، بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الاولى، 2017، ص 61.