يعدُّ محمود درويش (1941- 2008) أعظم شاعر أنجبته فلسطين، وواحداً من كبار الشعراء العرب المعاصرين. فقد عمل، على مدار سنوات عمره، على تطوير أدواته الشعرية، ما جعله يحتلُّ مكانة رفيعة في تاريخ القصيدة العربية في القرن العشرين. كما أنه استطاع، على النقيض من عدد من شعراء الحداثة العرب، أن يزاوج بين نخبويّة نصه الشعري والحضور الجماهيري الذي جعل عشرات الآلاف من محبي الشعر يتوافدون إلى قراءاته الشعرية في العواصم والمدن العربية. ولا يعود هذا الحضور الجماهيري إلى كونه فقط الناطقَ الشعري باسم فلسطين، منذ كتب سطوره الشعرية الشهيرة "سجّل أنا عربي"، فصار جمهوره يطالبه بقراءتها، حتى بعد أن باعد الزمن بين قصيدة "بطاقة هوية" وشاعرها الذي تطورت تجربته فعانق وعيُه الثقافي والشعري آفاقاً جديدة قرّبته من شعراء العالم الذين عبّروا عن القضايا الإنسانية الكبرى. إن هذا الحضور وتلك الشهرة والنجوميّة، التي تمتع بها، تعود إلى قدرته على جعل نصه الشعري يتمتع بطبقات متراكبة من المعنى، بعضُها قريبٌ من أفهام الجمهور العام، الذي يعثر على فلسطين وصورها وهي تتخايَل في قصائد درويش، في الوقت الذي يسعى فيه الشاعر الخلاق إلى جعل فلسطين مجازاً لعذابات الإنسانية ومجلىً لمآزقها الوجودية.
ولد محمود درويش في 13 آذار (مارس) من عام 1941 في قرية البروة، القريبة من مدينة عكا. وعندما اندلعت المعارك بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية بين عامي 1947 - 1948 لجأت عائلته إلى جنوب لبنان، ثم عادت متسللة إلى فلسطين عام 1949، لتجد أن الجيش الإسرائيلي أزال قرية البروة من الوجود. فلجأت عائلة درويش للعيش في قرية "الجديدة" في منطقة الجليل حيث عاملت الدولة الإسرائيلية أفراد العائلة بوصفهم (حاضرين/غائبين)، أي لاجئين في وطنهم، لأنهم لم يكونوا موجودين وقت سقوط فلسطين عام 1948، ولم يتم إحصاؤهم ضمن السكان. وهي واقعة تتكرر استعادتها في شعر درويش ونثره، إذ يصف نفسه بالمنفيّ الأبدي، ويبني من هذا المأزق الوجودي شبكة من المعاني الرمزية التي تعبّر عن حالة النفي الدائم التي يشعر بها الفلسطيني في وطنه المحتل ومنفاه القسري، محوّلا وضعه الشخصي إلى مجاز للفلسطيني أينما حل وارتحل.
عمل محمود درويش في عدد من الصحف والمجلات التي كانت تصدر بالعربية في مدينة حيفا في ستينيات القرن الماضي، واعتقلته إدارة الحكم العسكري الإسرائيلي أكثر من مرة، على خلفية كتاباته الشعرية ومقالاته السياسية ونشاطه المقاوم، ليصبح، وهو في العشرينات من العمر، واحداً من ألمع شعراء المقاومة الفلسطينية. وقد صعد نجمه الشعري بعد هزيمة حزيران 1967، وصار مع رفاقه من شعراء المقاومة، حنا أبو حنا وتوفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران، علامة على الصمود وولادة شعر مقاوم على الأرض الفلسطينية التي حاولت إسرائيل تهويدها ومحو ذاكرة البقية الباقية من أهلها الصامدين.
بخروج محمود درويش من فلسطين عام 1971، مقيماً في موسكو ثم القاهرة، فبيروت وتونس وباريس وعمان، عائداً إلى رام الله عام 1995، أصبح ابن البروة، الممحوة من الخريطة، لا شاعر فلسطين والناطق باسمها فقط، بل عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، ثم عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكاتباً لإعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988؛ ليستقيل عام 1993 من اللجنة التنفيذية محتجاً على اتفاقات أوسلو التي عدَّها مقامرةً بمصير الشعب الفلسطيني وقفزةً في الفراغ ومعانقةً للمجهول.
لعل هذه المحطات الحياتية، التي عبرها درويش في السنوات السبع والستين التي عاشها على هذه الأرض، قد أمدته بمخزن من المعاني والصور والمجازات والاستعارات والإيقاعات، التي جعلت شعره تعبيرا قويا عن التراجيديا الفلسطينية، وجعلت حياته الشخصية استعارة كبرى لتجربة الفلسطينيين على أرضهم وفي منافيهم الكثيرة المتباعدة.
إنه علامةٌ أساسية في الشعر العربي المعاصر. قبل درويش كان الشعرُ العربيُّ شيئاً وصار بعده شيئاً مختلفاً. فهو غيَّر الذائقة وأقنع قراءه وسامعيه أن الشاعر يمكن أن يكون نجماً جماهيريا دون أن يخاطب الغرائز أو يكرّر السائد والمعروف وما يحب الناس أن يسمعوه. لقد قاد قراءه إلى قمة الشعر فاتحاً الآفاق وسيعةً لخيال السامعين والقراء.
في تقاطع الشعر العالي مع الذائقة التي تعاني من تشوُّهات، في استقبال الشعر وفهمه، أثبت محمود درويش أن في الإمكان أن يكون الشعر عالياً وجماهيريّاً في الآن نفسه. لا أحد من الشعراء العرب في القرن العشرين استطاع أن يحلَّ هذه المعادلة المعقدة سوى محمود درويش. قبله كان محمد مهدي الجواهري آتياً من مخيّلة تراثية تعيد سبك الموروث الشعري العربي، الجاهلي والأموي والعباسي، بأنواع المديح والرثاء والهجاء فيه، لكنه ظل مقيماً في الماضي، ولم يتعرَّض لرياح العصر سوى في الموضوعات التي تتصل بثورات العرب في النصف الأول من القرن الماضي. وقبله اقترب نزار قباني من الجماهير الغفيرة، التي تتكوّن من المراهقين والمراهقات والنساء والحالمين بالحب؛ ثم خالَطَ شعرَه السهلَ الممتنع بشيء من السياسة وهجاء السياسيين فلمع نجمه أكثر وصار جمهوره الواسع يهبُّ إليه من كل مكان.
محمود درويش اشتغل على معادلته بطريقة مركبة أكثر؛ انطلق من الجرح الفلسطيني الذي ظلَّ ينزف منذ بدايات القرن العشرين وحتى هذه اللحظة. لكن بداياته تشكّلت في مهب رياح التغيير في الشعر العربي. سنجد في شعره الأول آثار بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، ثم أدونيس، وربما سعدي يوسف. لكن جماهيريته"1"، التي تصاعدت في تقاطع السياسي والثقافي، وتمازج تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية مع تحولات الكتابة الشعرية في العالم، لم تمنعه من تطوير أدواته ومنجزه الشعريين.
كانت غاية درويش أن يكتب شعرا يحكي عن الجرح الفلسطيني دون صخب؛ وكان حلمه أن يكتب شعراً صافياً لا ضجيج فيه ولا إيقاعات عالية"2". لكنه كان شاعرا لافتاً حتى في تلك القصائد التي كان يطالبه جمهوره بقراءتها في أمسياته جميعها؛ وكان محمود يرشو الجمهور نازلاً عند رغبات هذا الجمهور لكي يقرأ له ما يريد هو: قصائد كبيرة من مجموعات: هي أغنية هي أغنية، ورد أقل، أحد عشر كوكبا، لماذا تركت الحصان وحيدا، جدارية، كزهر اللوز أو أبعد، لا تعتذر عما فعلت، أثر الفراشة ..إلخ.
موقع درويش على خارطة الشعر العربي يتمثّل في قدرته على تزويج الإيقاع للمعاني والتجارب الوجودية العميقة، في تلقيح هذا الشعر بغبار طلع الكتابات الشعرية العالمية المميزة؛ بشعر فيدريكو غارسيا لوركا ووليم بتلر ييتس وبابلو نيرودا ويانيس ريتسوس وغيرهم من الشعراء الكبار الذين تتألق قصائدهم في ذاكرة الشعر العالمي. ولأنه عرف كيف يطعّم شعره بشعرهم، ويزوّج التراجيديا الفلسطينية لتراجيديات البشرية وعذابات الإنسان في كل زمان ومكان، فقد أصبح، قبل وبعد رحيله، واحدا من شعراء العالم الكبار.
أسْطَرَة التجربة الفلسطينية
في مجموعته الشعرية "لماذا تركت الحصان وحيدا"3" يصرّح أن (... من يكتب حكايته يرثْ/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماما!). ويمكن أن نلخّص تجربة درويش بأنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية، وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية وأسطرتها والكشف عن البعد الملحمي فيها، بالشخوص والحيوات وحشد الاستعارات والصور المركبة التي تزدحم في قصائده بدءاً من "أوراق الزيتون" (1964)"4".
لقد تبلورت خيارات درويش الشعرية في سياق هذا الطموح، ولكنه ظلّ مشدوداً، في مراحل تطور تجربته ونضجها، إلى حالة المخاض التي مرّ بها الشعر العربي منذ نهاية الأربعينيات، وإلى الانتهاكات الشكلية التي أوصلت شعرنا المعاصر إلى ما تحقق على يدي درويش وأقرانه من الشعراء العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ولم تكن خيارات الشاعر الشكليّة، والأفقُ التعبيري الذي تروده تجربته، لتنفصل عما فجّره الشعراء الرواد في جسد القصيدة العربية. لقد كان الشاعر الفلسطيني الشاب، الذي عاش شبه معزول عن سياق تطور الشعر العربي في نهاية الخمسينيات، يلتقط ما يتناهى إليه من حركة التغيّر في الشكل وعلاقته بالمعنى في القصائد القليلة التي كانت تصل إلى يديه في تلك الفترة الزمنية الضاغطة المعقدة من حياة الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم بعد التشريد الأول عام 1948. ونحن نعثر في قصائده الأولى على صدى تلك التأثيرات، سواءٌ على صعيد الشكل أو على صعيد المنحى التعبيري والمجازات والاستعارات، والصور الشعرية بعامّة، التي درج استعمالها في تلك المرحلة من مراحل تطور الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن اللافت في قصائد الشاعر الأولى هو تلك القدرة على تطويع هذه التأثيرات للتعبير عن التراجيديا الفلسطينية التي يطمح شعر درويش إلى إعادة تركيب عناصرها ليبلغ بها مصاف التراجيديات الكبرى في التاريخ.
هكذا تطورت تجربة الشاعر من خلال احتكاكها بالتجارب الشعرية العربية في البدايات، واستطاع درويش أن يهضم التطويرات الشكلية والخيارات التعبيرية لهذه التجارب، ويعيد صياغتها بما يخدم قصيدته وطموحه للتعبير عن مأساته الوطنية والمقاومة الفلسطينية الطالعة، في تلك المرحلة التي صعد فيها نجمه كشاعر بارز من شعراء جيل المقاومة. لكن الطبيعة المباشرة، والصور الجاهزة والموتيفات المتكررة والنبرة العالية، لشعر المقاومة، لم تُسكت في شعره ذلك الطموح إلى كتابة قصيدة منفلتة من أسر الجاهز والمباشر؛ فعلى حواشي "سجل أنا عربي" كانت التجربة الدرويشية تنسج عالمها وصورها وحلولها التعبيرية بعيداً عمّا أصبح كليشيهات شعر المقاومة الفلسطينية. ويمكن العثور في "أوراق الزيتون"، و"عاشق من فلسطين" (1966)، على بذور تطور تجربة الشاعر الطامحة إلى الانفلات من أسر الشخصيّة القالبيّة لشعر المقاومة، وذلك عبر الاحتفال بالحسي وتوليد الصور المركبة والغريبة التي أصبحت من العناصر الأساسية في تجربته، عبر منعرجات تطورها.
بهذا المعنى يمكن النظر إلى مجموعات درويش الأولى بوصفها تمارين في الكتابة الشعرية التي ستأتي لاحقاً في "أحبك أو لا أحبك" (1972) و"محاولة رقم 7" (1974). لقد استطاع الشاعر في عدد من قصائد هاتين المجموعتين أن يحقق طموحه في جَدْل التعبير عن التراجيديا الفلسطينية مع التطوير الشكلي للقصيدة العربية المعاصرة، وذلك عبر ابتداع صور مركّبة يلتحم فيها الحسي بالتجريدي، وتنشأ ظلال المعنى فيها من التقاء التجربة الحارة النازفة بجسد الكلام، وبالإيقاع المتفجّر المتصاعد في قصائد تشبه الأعمال الموسيقية السيمفونية بحوار الآلات المتعددة فيها. يصدق هذا الوصف على قصائد مثل: "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" و"الخروج من ساحل المتوسط" في مجموعته "محاولة رقم 7".
في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" يكتب درويش:
يجيئون،
أبوابنا البحر، فاجأنا مطر. لا إله سوى الله. فاجأنا
مطر ورصاص. هنا الأرض سجادة، والحقائب
غربة!
يجيئون،
فلتترجل كواكب تأتي بلا موعد. والظهور التي
استندت للخناجر مضطرة للسقوط.
وماذا حدث؟
أنت لا تعرف اليوم. لا لون. لا صوت. لا طعم.
لا شكل.. يولد سرحان، يكبر سرحان،
.............
ويكتب سرحان شيئاً على كم معطفه، ثم تهرب
ذاكرة من ملف الجريمة.. تهرب.. تأخذ
منقار طائر. وتأكل حبة قمح بمرج بن عامر.
وسرحان متهم بالسكوت، وسرحان قاتل. (ديوان "أحبك أو لا أحبك")
في هذه المرحلة من شعر درويش يمكن القول إن الشاعر يوظّف مخزونه الإيقاعي- الصوريّ المتدفق للتعبير عن الشروط المعقدة للتجربة الفلسطينية في تلك المرحلة التاريخية. إنه يكتب شعراً يزاوج بين الغنائية والدراما التي تتصاعد في قصيدة مثل "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا". وهو، من ثمَّ، يفتح عالمه الشعري على الملحميّ والحواريّ مُمسرِحاً قصيدتَه التي تغادر صوتها الغنائي لتحتفل بما يدور في أعماق الشخصيات التي تحكي أو يُحكى عنها في القصائد. ففي الوقت الذي كانت فيه قصيدة درويش تصدر، في أعماله الأولى، عن صوت فردي يعيد تسمية العالم والأشياء من حوله، فإنه يتجه في مرحلة "سرحان..."، و"محاولة رقم 7"، إلى كتابة قصيدة تحتشد فيها الذوات المتكلّمة. ولا شكّ أن بذور هذا التحول موجودة في عدد من قصائد الشاعر السابقة: "جندي يحلم بالزنابق البيضاء"، و"أزهار الدم" (آخر الليل 1967)، و"العصافير تموت في الجليل"، و"ريتا أحبيني" (العصافير تموت في الجليل 1970)، و" كتابة على ضوء بندقية" (حبيبتي تنهض من نومها 1970). لكن القصائد المذكورة تتضمن صوتين، على الأغلب، أحدهما صوت الشاعر الذي يعيد تأليف كلام الآخرين ويمرر هذا الكلام عبر مصفاة صوته، فيما يعمل درويش في مرحلة "سرحان..." على حشد الأصوات في قصيدته نازعاً إلى إعطاء الأصوات بعضَ حريتها في التعبير عن رؤيتها للأشياء والعالم. وهكذا يتمازج السرد والحوار والوصف والغناء، وتتعدد الأصوات التي تروي الحكاية مما يخلّص قصيدة درويش من غنائيتها المفترضة. وعلينا أن ننتبه في هذا السياق إلى أن النقد العربي قد أخطأ عندما صنّف قصائد الشاعر بأنها غنائية خالصة، إذ أنه يُمسرح شعره ويحاول في معظم هذا الشعر صياغةَ ملاحم عامرة بالشخوص والمتكلمين، كما أن عالمَه الشعري يستمد غناه وتعدد معناه من هذه الملحمية المأمولة التي تتحقق في "أحمد الزعتر" و"قصيدة الأرض" (أعراس 1977)، و" مديح الظل العالي" (1983).
مشاغل شعرية بطموح كوني
من الضروري الإشارة لدى الحديث عن هذه المرحلة، من تطور تجربة درويش، إلى الصفاء التعبيري الذي يميّز قصائده. ففي هذه المرحلة تصبح قصائد الشاعر أكثر صفاءً، وتتخلص، إلى حد كبير، من تراكم الصور الشعرية وفائض اللغة الذي نقع عليه في القصيدة العربية المعاصرة. وهو ما يهيئ الشاعر لانعطافة حاسمة في شكل قصيدته وصوره وطبيعة بناء عمله الشعري. وتتحقق هذه الانعطافة في مجموعتيه: "هي أغنية، هي أغنية" (1986)، و"ورد أقل" (1987) حيث تصبح القصيدة أكثر كثافةً واختزالاً، وأكثرَ التفاتاً إلى ما هو كونيٌّ في التجربة. ثمة في قصائد هاتين المجموعتين اشتغال على ثيمات صغيرة كانت مهملة ومقصاة في شعر درويش السابق، ومحاولةٌ لأنسنة الهزيمة والخسارات التي يحوّلها الشاعر إلى أغاني للعاديّ والبسيط والمشترك الإنساني في لحظات الهزائم الشخصية والجماعية.
في هذا المفصل من مفاصل التجربة يتمكن الشاعر من صوغ الشخصيّ والجماعيّ بطريقة بعيدة عن الشعاريّ والبطولي الذي ميّز التجربة الشعرية الفلسطينية على مدار أكثر من ربع قرن. ولا أنتقص بهذا الكلام من شعر درويش السابق بل إنني أحاول تلمّس منحنى صعود تجربة الشاعر، والتنبيه إلى قدرته على العثور، في كل مرحلة من مراحل تطوره الشعري، على ما يُنضج شخصيته الشعرية ويدفع قصيدته إلى تجاوزِ ما استقرت عليه، صوراً ومجازات وأشكالَ تعبير، وسلوكِ مسارٍ جديد يعبّر عن تجدّد شخصيته الشعرية. إن درويش يجدل، في "هي أغنية، هي أغنية" و"ورد أقل"، التطويرَ الشكلي بمسرحة المأزق الفلسطيني بعد الخروج من بيروت عام 1982 حيث يتجلى انسداد الأفق في صور شعرية تعبّر عن الإرهاق وفقدان الأمل والإحساس بالتراجيديا الفلسطينية وقد قاربت عناصرُها على الاكتمال. وفي ذروة هذا الانسداد والتيقُّن من اليأس الشامل يفتح الشاعر قصيدته على أمل غامض يتمثّل في نهايات القصائد المفتوحة.
تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممر الأخير، فنخلع أعضاءنا ونمر
وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. ويا ليتها أمنا
لترحمنا أمنا. ليتنا صور للصخور التي سوف يحملها حلمنا
مرايا. رأينا وجوه الذين سيقتلهم في الدفاع الأخير عن الروح آخرنا
بكينا على عيد أطفالهم. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا
من نوافذ هذا الفضاء الأخير. مرايا سيصقلها نجمنا.
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء
الأخيرة أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟ سنكتب أسماءنا بالبخار
الملون بالقرمزي سنقطع كف النشيد ليكمله لحمنا
هنا سنموت. هنا في الممر الأخير. هنا أو هنا سوف يغرس زيتونه... دمنا. (ورد أقل"5")
في القصيدة السابقة يعيد درويش إنتاج التجربة الفلسطينية، يلخّص الشرط التراجيدي للوجود الفلسطيني بعد الخروج. ثمّة ممّرٌ أخير وعصافيرُ بلغت بطيرانها سقفَ السماء ونباتاتٌ تنفسّت هواءها الأخير، وحدودٌ أخيرة. لكن الدم في نهاية القصيدة يعلن عن البداية الغامضة، عن أمل لا شفاء منه في قصيدة درويش التي تذهب في معراج صعودها الفني إلى إعادة تأمُّل الأشياء الصغيرة والحكايات الناقصة لقراءة مشهد الشتات الفلسطيني في أكثر صوره رمزيةً وتعبيراً عن تراجيديا التجربة الإنسانية. في هذه المرحلة، من مراحل تطور تجربته، يجدل الشاعر ما هو وطني وقومي بما هو إنساني لتصبح التجربة الفلسطينية وجهاً آخر من وجوه عذاب البشر على هذه الأرض. وهو يسعى، بدءاً من مجموعته الشعرية "أرى ما أريد"6" (1990)، إلى تطعيم عالمه بمشاغل شعرية ذات طموح كوني. بهذا المعنى لم تعد عناصر التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر درويش، بل إن عناصر هذه التجربة أصبحت تتخايل عبر الأساطير التي ينسجها الشاعر أو يعيد موضعة عناصرها التي يقوم باستعارتها من حكايات الآخرين، ومن ثمّ يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية كذلك.
أصبح درويش في هذه المرحلة صانعَ أساطير، يولّد حكايات من حكايات ويبني عالماً أسطوريا تتمازج فيه حكايات الشعوب وأحلامها في أرض القصيدة التي تسعى إلى وضع حكاية الفلسطينيين في أفقها الكوني وتخليصها من محليّتها ومباشرتها. وقد انعكس ذلك غموضاً فاتناً على صوره وعالمه الشعري الذي ظل يحاول، لفترة زمنية طويلة، التخلّص من حمولته السياسية المباشرة لصالح إنجاز قصائد كبيرة قادرة على أن تجدل الراهن بالعابر للتاريخ والمتجدد عبر الزمن. إنه يمزج في قصائد "أرى ما أريد" بين نوعين من التخليق الأسطوري: الأول يقيم من عناصر الطبيعة والوجود مشهداً فردوسيّاً متخيّلاً؛ أما الثاني فيسعى إلى بناء أساطير كبرى من فتات حكايات ومواد أولية مستعارة من بنى أسطورية متداولة في ثقافات الشعوب. ويمكن التمثيل على النوع الأول من عملية التخليق الأسطوري بـالـ"رباعيات" (ص: 313) التي تعيد ترتيب عناصر الطبيعة استنادا إلى العين الداخلية لضمير المتكلّم.
أرى ما أريد من الحقل.. إني أرى
جدائل قمح تمشطها الريح، أغمض عينيّ:
هذا السراب يؤدي إلى النهوند
وهذا السكون يؤدي إلى اللازورد (ص: 315)
إننا نَمْثُل في حضرة فردوس مستعاد، في حضرة الطبيعة البكر التي لم تلوّثها الحروب والصراعات، ولم تتوالَ عليها الهزائم والانتصارات. وهذه رؤيةٌ أسطورية تتخذ من العودة إلى عالم الطفولة وأرضها مادة ينسج منها الشاعر حلمه بأرض يخفت فيها الصراعُ ويصخب فيها عرسُ الطبيعة.
أرى ما أريد من الروح: وجه الحجر
وقد حكّه البرق، خضراء يا أرض .. خضراء يا أرض روحي
أما كنت طفلا على حافة البئر يلعب؟
- زلت ألعب.. هذا المدى ساحتي، والحجارة ريحي (ص: 317)
لكن الصراع ينبض في جذور هذا العالم الفردوسيّ المتخيّل، والتجربةُ الفلسطينية، التي يقوم الشاعر بتذويبها في حكاية الضياع الأندلسية، تفجّر هذا الفردوس الأرضي الذي يحاول الشاعر بناءه. ثمّة بحرٌ ونوارس وحمام وغزال وعشب وجدول ماء، لكن الوحش متوارٍ في ثنايا الحكاية المشتهاة يهدد هذا العالم المرغوب.
أرى ما أريد من المسرح العبثي: الوحوش
قضاة المحاكم، قبعة الامبراطور، أقنعة العصر،
لون السماء القديمة، راقصة القصر، فوضى الجيوش
فأنسى الجميع، ولا أتذكر إلا الضحية خلف الستار.. ( ص: 321)
المستوى الآخر في عملية التخليق الأسطوري يحققه درويش في قصائد "هدنة مع المغول أمام غابة السنديان"، و"مأساة النرجس ملهاة الفضة"، و"الهدهد"، وهي تمثّل في مجموعها تأوّج تجربة درويش وبلوغها مرحلة مدهشة من النضج الشعري وخصوبة الدلالة والقدرة على جدل الحكاية الفلسطينية بحكايات التاريخ المستعادة. في هذه القصائد تتداخل الحكايات، ويصبح من الصعب على القارئ أن يفصل عناصر حكايتنا عن عناصر حكايتهم؛ وهو ما يرقى بشعر درويش، في هذه المرحلة، ليصبح شعراً إنسانيّاً قادراً على التعبير عن حكاية البشر، لا حكاية بعض البشر. وهذا ما تقوم به، خيرَ قيام، الأسطورة التي تعمل على تمثيل الأنماط الكونيّة من خلال شخوصها الرمزيين ولغتها الرمزية الشاملة.
ينتقل درويش في مجموعته "أحد عشر كوكبا"7" (1992)، التي لا يزايلها هاجسُ الأسطرة والتخليق الأسطوري، إلى رواية الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكايات الآخرين مبدّداً بذلك شبهةَ المباشرة، والعاطفية المفرطة، وموفّراً كذلك محوراً كونيّاً للتجربة الفلسطينية ببعديها الرمزي والواقعي. في هذا السياق تحضر الأندلس وحكايات الهنود الحمر وحكاية الشاعر مع ريتا وسوفوكليس والكنعانيون، ليشكّل الشاعر من هذه المادة التاريخية - الشخصية صيغة للتعبير عن حكاية الفلسطينيين الخارجين "من الأندلس". إن شعر درويش يعبّر عن الروح الفلسطينية اللائبة المعذَّبة الباحثة عن خلاص فردي- جماعي من ضغط التاريخ وانسحاب الجغرافيا. لكنه في "أحد عشر كوكبا" يقدّم أمثولات تاريخية صالحة للتعبير عن التجربة الفلسطينية، من بين تجارب أخرى. إن صورة العرب الخارجين من الأندلس في قصيدة "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي" (ص: 401)، وصورة الهنود الحمر في "خطبة "الهندي الأحمر" - ما قبل الأخيرة- أمام الرجل الأبيض" (ص: 425)، تمثّل كلٌّ منهما استعارةً بدْئية Archetype تتطابق مع صورة الفلسطيني المشرّد المُقتَلَع المرتَحِل بعيداً عن أرضه؛ ومحمود درويش يكشف عن سر استعارته حين يضع عبارة "الهندي الأحمر" بين مزدوجين مومئاً إلى هندي أحمر معاصر، هندي أحمر فلسطيني يعرض في "خطبته" مفارقة انتصار الآخر وهزيمته هو.
هكذا يعيد الشاعر قراءة تاريخ الأندلسيين الخارجين من الأندلس حيث يلعب الماضي دوره بوصفه مرآة للحاضر، وتضيء صورةُ "العرب الخارجين من الأندلس" هزيمةَ الحاضر المدويّة، وتختلط الفاجعةُ بالأمل، بذكرى الفردوس الأندلسي- الفلسطيني المفقود.
الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس
الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود ( ص: 423)
أما في "خطبة "الهندي الأحمر"- ما قبل الأخيرة - أمام الرجل الأبيض" فإن التطابق بين صورة الهندي الأحمر، في فضائها التاريخي، وصورة الفلسطيني المعاصر، يبدو حادّاً على خلفيّة وصول المشروع الوطني الفلسطيني إلى منعطف تاريخي مؤرّق. ومن ثمّ تبدو خطبة الهندي الأحمر وكأنها تسليم بأن الفضاء التاريخي- الجغرافي أصبح محتلا بالآخر، بحديده وطائراته وأيديولوجيا الجنون التي يحملها معه. إن المتكلّم في القصيدة (الهندي الأحمر) والعناصر الزمانية والمكانية، والصور الشعرية والرموز المركّبة فيها، يمكن تحويرها لتدل على الفلسطيني في شرطه التاريخي المعقد واصطدامه بجدار مشروعه التاريخي.
... أسماؤنا شجر من كلام الإله، وطير تحلق أعلى
من البندقية. لا تقطعوا شجر الاسم يا أيها القادمون
من البحر حربا، ولا تنفثوا خيلكم لهبا في السهول
لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم دينكم ولنا ديننا
فلا تدفنوا الله في كتب وعدتكم بأرض على أرضنا (ص: 432)
إن الأفق يبدو قاتماً في هذه القصيدة، كما أن حضور عناصر الطبيعة، التي تختزن أشباح المهزومين وتُذوّبهم ليصبحوا جزءاً منها، يعيد شعر درويش إلى محوره الأسطوري حين تنفتح القصيدة على فضاء الغرابة والدهشة والمرارة والإحساس الغائر بالفاجعة.
هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى
يجيئون فجرا لكي يشربوا شايهم معكم، هادئين
كما تركتهم بنادقكم، فاتركوا يا ضيوف المكان
مقاعد خالية للمضيفين.. كي يقرؤوا
عليكم شروط السلام مع الميتين! (ص: 440)
شبه سيرة ذاتية
يتحوّل درويش في مجموعتيه "لماذا تركت الحصان وحيدا" (1995) و"سرير الغريبة" (1999)، إلى كتابة سيرة شبه ذاتيّة، إلى توليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي، والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية، للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي والشخصي. لكن الانشغال هنا بحكاية السيرة، بتفتّح الوعي على هذا العالم والانغماس في الحب، لا يخفف من الشعور الملازم بالغربة والمنفى.
في "لماذا تركت الحصان وحيدا"8" يعيد الشاعر تأثيث قصيدته بالعناصر الأولى مستخدماً ذاكرةَ الطفل فيه ليطلَّ على الفضاء الزماني- المكاني الذي شهد صرخة الراوي في القصيدة. وهو يستعمل ضمير المتكلم لتدشين المشهد في هذا العمل الشعري المركّب، الذي يتشابك فيه السرد والغناء والدراما والحوار والتعليق، ليوحي بهيمنة نوع السيرة على أفق هذا العمل الشعري. فعنوان النص الافتتاحي يشدّد على عنصر الولادة منظوراً إليه بعين الذات في فضاء زماني آتٍ "أرى شبحي قادما من بعيد". ويضيء العنوان المشروع الشعري ويكشف عن استراتيجياته وغاياته المتمثلة في إعادة ترتيب سيرة الذات والجماعة، من منظور الزمان الحاضر، على ضوء التجربة التراجيدية التي سجّلها الشاعر في عمله الشعري، بدءاً من "أوراق الزيتون" وصولاً إلى "أحد عشر كوكبا" الذي يمثّل قمة تطور تجربة درويش الشعرية. وتبدو السيرة من هذا المنظور إعادةَ تركيب لكِسَر المكان في الذاكرة. إنها تمثّل شكلاً من أشكال إعادة ترتيب السياق لماضٍ تصدّع وملأته الشروخ أكثر من مرة. ويكشف لنا صوت الراوي- الشاعر عن بُعد الرغبة الذاتيّة في مشروعه، عن الإرادة التي تًعيد ترتيب المكان والزمان الغائمين من منظور الواقع الراهن وقدرته على تشكيل الماضي وإعادة ترتيب عناصره.
أطل كشرفة بيت، على ما أريدْ
أطل على أصدقائي وهم يحملون بريدَ
المساء: نبيذا وخبزا،
- الروايات والاسطواناتْ... (ص: 489)
اللافت في هذا المقطع الافتتاحي أن الشاعر يستخدم تشبيهاً يوحي بالثبات والإطلالة على المكان المحيط (كشرفة بيت). ان العالم منكشفٌ هكذا وبصورة سافرة أمام العين التي تشاهد. لكن هذا العالم المُراقَب سرعان ما يتحوّل إلى مشهد تنظره العين الداخلية للراوي- الشاعر. ان الاستعارة المكانية تعمل الآن من خلال عملية تحويل غير منظورة، وعبر اختفاء العنصر الثاني من عناصر التشبيه (شرفة البيت) من المقطع التالي (أطل على نورس، وعلى شاحنات جنود/ تغيّر أشجار هذا المكان، ص: 489)، على الانتقال بالقارئ إلى زمان ومكان ماضيين للإطلال على ما تصوره العين الداخلية وما تعيد ذاكرة الطفولة تأثيثه بالأشجار وشاحنات الجنود والنوارس والأنبياء القدامى والسلالم الحجرية والمناديل التي تخفق في الريح. لكن ما ينبغي أن نلاحظه في هذا المشهد الافتتاحي هو أن الحاضر يظلّ يخترق الماضي على الدوام. إنه يعيد تشكيله في كل لحظة وينوء بثقله عليه ويمنعه من أن يظل ماضيا. وإذا كان الشيء المألوف أن يقوم الماضي بتشكيلِ الحاضر ومنعِه من الاحتفاظ براهنيّته فإننا في هذا العمل الشعري نلمس إلى أي مدى يضغط الحاضر على الماضي ويقطع سيرورته. إن الراوي - الشاعر يفتح المشهد ليرى شبحه قادماً من بعيد في إشارة إلى رحلة الذاكرة في ماضي الذات واستعادة تفاصيل المكان والزمان الغائبين. لكن هذا المشهد الذي يطل عليه القارئ ليس ماضيا خالصا بل هو معجونٌ بعناصر الحاضر وشروطه، بجروحه وتمزّقاته. ومن هنا نشهد الحركةَ السريعة بين أشياء الماضي والتاريخ والحاضر والمستقبل. إن العين المراقبة للراوي- الشاعر تتحوّل ما بين سطر وآخر إلى عين داخلية، ثم إنها سرعان ما ترتد إلى المشهد الخارجي لتعيد التقاط التفاصيل اليومية البسيطة (أطل على كلب جاري المهاجر/ من كندا، منذ عام ونصف... ص: 490)، في محاولة للبقاء قريباً من اللحم الحيّ للواقع، من المشهد الذي تستطيع العين المراقبة التشديد على واقعيّته. لكن هذا الواقع القريب من الأصابع، الواقعَ الذي تستطيع حدقة العين أن تحيط به وتسبل الجفون عليه، يمتزج في المشهد الشعري بإلماعات تاريخية بعيدة وقريبة، إلى الفُرس والروم والسومريين، وصور شعرية مستعادة؛ حصانِ أبي الطيب المتنبي المسافر إلى مصر وعقدِ إحدى فقيرات طاغور. إن الماضي يصبح أكثر حضوراً وقرباً من الأصابع من الحاضر نفسه في تمهيد واضح لكي يغمض الراوي- الشاعر عينيه ويعيد ترتيب لحظات الماضي.
أطل كشرفة بيت، على ما أريدْ
أطل على شبحي
قادما
من
بعيد... (ص: 493)
ينقسم هذا العمل الشعري من ثمَّ إلى ست مشاهد أو حركات هي فصول السيرة الذاتية للشاعر. الحركةُ الأولى المعنونة بـ"أيقونات من بلّور المكان" وصفٌ شعريٌّ لولادة الراوي- الشاعر ورحيله عن قريته بعد اشتعال الحرب عام 1948. لكن بدلاً من أن يبدأ الراوي- الشاعر بوصف الولادة، فإنه يؤثّث المشهد بما يوحي بالاستعداد للحرب أو الرحيل أو كليهما معاً.
أسرجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في السهل (ص: 497)
إن السطور الشعرية السابقة تبدو مثل نبوءة، أو إرهاصٍ بما سيحدث بعد قليل من رحيل وعودة. لكن حدث ولادة الراوي- الشاعر يقطع النبوءة ويفتح المشهد على المكان الذي تنبئ عناصر الخصب والتفتّح فيه، ونوّارُ اللوز والخبيزة التي يولمها شهر آذار لفناء الكنيسة، بأنه يستعدّ لاستقبال طفل جديد ستندسّ صرختُه في شقوق المكان. ثمّة منظر رعويٌّ وهيمنةٌ لعناصر الخصب في لحظة الولادة، ولكن هذا المنظر مهددٌ بالصورة الافتتاحية، وهي تضفي نوعاً من الالتباس والريبة، وتُشيعُ الإحساس بالخوف وترقّب المجهول. يتواصل هذا الإحساس بالريبة والخوف من خلال وصف صرخة الطفل بأن فيها حذراً لا يلائم طيش النباتات. ومن الواضح أن درويش أراد، بخلق هذا الجو من الترقّب، أن يمهّد لحركة الرحيل التي ألمحت إليها صورةُ الخيول المسرجة التي أفضت إلى مجيء شاحناتهم من البحر ثم صعود الراوي- الشاعر وأهله إلى الشاحنات أيضا للرحيل عن المكان. في هذا الموضع من الحكاية نلاحظ كيف يجدل الشاعر ببراعة بين ماضي الذات وماضي الآخر، كيف تتعاكسُ الرحلتان، رغم أن وسيلة النقل هي نفسها (الشاحنات). ثمّة ندمٌ وتبكيتٌ للضمير واتهامٌ لجيل الآباء بارتكاب معصية الرحيل، وحوارٌ بين الأب وابنه يكشف عن الرواية الجماعيّة لجنود جيش الإنقاذ الذين حاربوا ببنادق مكسورة، والسكان الذين ابتعدوا وتركوا الحصان وحيداً يؤنس وحشة المكان.
ههنا حاضر
لا مكان له،
ربما أتدبر أمري، وأصرخ في
ليلة البوم: هل كان ذاك الشقي
أبي، كي يحمّلني عبء تاريخه؟
ربما أتغير في اسمي، وأختار
ألفاظ أمي مثلما ينبغي
- تكون............ (ص: 506)
في الحركة الثانية المعنونة بـ"فضاء هابيل" تعويضٌ عن الحاضر المكسور (شظايا يركّبها/ الآخرون مرايا لصورتهم بعدنا... ص: 508) بالغناء. عودُ إسماعيل، الذي يُرجِّع اسمه صدى اسم جد العرب إسماعيل بن إبراهيم، يعيد الزمان إلى أوّله، إلى الخطوة الأولى والتكوين الأول. ويتقاطع في سياق إعادة الخلق والتكوين حدثُ القتل الأسطوري- الرمزي الأول في الخليقة (قتل قابيل هابيل) مع حدث قتل قابيل اليهوديّ المعاصر هابيلَ الفلسطيني. إن درويش يَذوب شخصاً وشاعراً في اسماعيل المنشد وعازف الناي ليعيد تشكيل ملامح الحاضر بالغناء أو الشعر. ولهذا السبب تصعد السخرية من كلمات الأب الذي روى للابن أن القلاع الصليبية (قضمتها حشائش نيسان بعد/ رحيل الجنود... ص: 513).
......... كانت الحرب انتهت
ورماد قريتنا اختفى بسحابة سوداء لم
يولد عليها طائر الفينيق بعد، كما
توقعنا، ولم تنشف دماء الليل في
قمصان موتانا. ولم تطلع نباتات، كما
يتوقع النسيان، في خوذ الجنود (ص: 524)
تسعفنا هذه المقابلة الساخرة بين حدثين تاريخيين، هما الغزو الصليبي والاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، بتحديد المعنى الضمنيّ لفضاء هذا المشهد. إن الشاعر يسمّي هذا القسم من عمله الشعري "فضاء هابيل" ويؤثثه بعناصر حدث القتل جميعها، قابيل وهابيل والغراب، حتى إنه يضمّن الآية القرآنية التي تروي حكاية الغراب مع قابيل. ثم إنه يورد مُقابلات ضمنيّة بين الحدث الكوني- الأسطوري للقتل الأول وبين تعاقب الغزاة على جسد الأرض الفلسطينية عبر التاريخ. إن درويش لا يقدّم تأويلاً تاريخيّاً لما حدث، ولكنه يؤسطر هذا الحدث ويشكّل من مادة اليومي والملموس تصويراً مجرّداً للتراجيديا الشخصية والجماعية بحيث يصبح النشيد وسيلةً لإعادة الفردوس المفقود، والاستعاضة عن الواقع الخشن الفظّ بالحلم، بالفن والشعر.
...... يعبرون جميعهم تحت
القصيدة. يعبر الماضي المعاصر مثل تيمورلنك
يعبر تحتها. والأنبياء هناك أيضا يعبرون
وينصتون لصوت اسماعيل ينشد: يا غريب،
أنا الغريب، وأنت مثلي يا غريب الدار،
عد... يا عود بالمفقود، واذبحني عليك
من الوريد إلى الوريد
هللويا
هللويا،
كل شيء سوف يبدأ من جديد (ص: 526)
ويمكن القول إن قصيدة "القطار" تعمل بصورة تامّة على إحلال صوت الراوي- الشاعر محلَّ صوت المنشد (اسماعيل). إننا هنا بإزاء عملية إبدال للأصوات، حيث تظهر شخصية الشاعر التي كانت مختفية وذائبة في الشخصية المرويّ عنها، وهي تقومُ، بدءاً من هذه القصيدة، بتلوين العالم برؤيا الغريب المنفيّ الحالم بفضاء آخر. عند هذا المفصل من هذا العمل الشعريّ المركّب تصبح تراجيديا الذات والمجموع واليأس والإحباط من التجربة الجماعية التاريخية هي الموضوعة المهيمنة في "لماذا تركت الحصان وحيدا". مشهدُ انتظار متواصل يذكّر بشخصيات صمويل بيكيت، بفلاديمير واستراغون في مسرحية "في انتظار غودو". وما هو لافتٌ في هذه التجربة العبثية، التي يحاول الراوي- الشاعر التغلّب عليها بالغناء، أنها تعجن التجربتين الذاتية والجماعية في مشهد الانتظار والقلق.
مر القطار سريعا،
كنت أنتظر
على الرصيف قطارا مرّ،
وانصرف المسافرون إلى
أيامهم... وأنا
ما زلت أنتظر (ص: 540)
وهكذا تعود السطور الثلاثة الأخيرة من القصيدة لتُرجّع الصدى نفسه، صدى الانتظار الطويل الطويل والكمنجات الباكية عن بعد.
الحركة الثالثة في العمل "فوضى على باب القيامة" تنسج لحظاتها من مادة الانتظار. إنها تقوم بإزاحة الفواصل الزمنيّة بين العصور فتستدعي الإلهة الكنعانية أنات، وجلجامش الطامح إلى الخلود وقهر الموت، وذاتَ الشاعر الجوّال بين الأزمنة في فترة الغزو الصليبي لمصر، وذكريات الطفولة، وحواراً يديره الشاعر مع جدّه وأمه. لكن ما يتحكّم في عناصر المشهد هو (صورة.. الحاضر المكسور، ص: 548) التي تدفع الشاعر لصنع (تراجيديا مكررة ص: 562). وما يظلّ من هذه التوليفة التاريخية الأسطورية اليوميّة هو صورة العنقاء المذبوحة ومشهد الانتظار اليائس الطويل.
كان شيء يشبه العنقاء
يبكي داميا،
قبل أن يسقط في الماء،
على مقربة من خيمة الصياد...
ما نفع انتظاري وانتظارك؟ ( ص: 572)
يقود هذا التساؤل إلى حركة رابعة تثيرها ذكرى السجن الذي يتحوّل إلى "غرفة للكلام مع النفس" واتخاذ تدابير شعرية تمنع اليأس من بسط نفوذه. هنا في هذه الحركة يصرّح درويش بخطته لتحويل الهزيمة إلى نصر باستخدام القصيدة والاعتصام باللغة. ومن الواضح، استنادا إلى شعر درويش وما يكتبه من نثر وما يُدلي به من أحاديث صحفية، أن القصيدة بالنسبة له، والثقافة بالنسبة للفلسطينيين بعامة، هي حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر المدوية. من هنا يبدو الشعر وسيلةً لاستعادة الوطن (القصيدة .../ في وسعها أن تعيد،/ بصرخة غاردينيا، وطنا!)، وسبباً في انقسام النفس على ذاتها والسقوط في شرك الاغتراب عن الذات وعدم التعرّف على الهوية.
القصيدة بين يدي، وفي وسعها
أن تدير شؤون الأساطير،
بالعمل اليدوي، ولكنني
مذ وجدت القصيدة شردت نفسي
وساءلتها:
من أنا
من أنا؟ (ص: 580)
إن درويش يشدّد في هذه الحركة على اتخاذ اللغة وطناً بديلاً للمكان الغائب الذي لا يعود، وهو، انطلاقا من القدرة الأسطورية للقصيدة على إعادة وطن ضائع، يردد على الدوام أن لغته هي وطنه، في إشارة واضحة إلى سكنى الشاعر في لغته ليعيد التأكيد على روايته لتاريخ شعبه.
.....فلتنتصر
لغتي على الدهر العدو، على سلالاتي،
عليّ، على أبي، وعلى زوال لا يزول
هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى، (ص: 596)
تبدو اللغة في هذا المفصل من مفاصل الحكاية الشعرية، التي بدأت برغبة الشاعر في الإطلال على ما يريد، رحماً وملاذاً للراوي- الشاعر الذي يريد أن يكتب حكايته ليرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما. وتفضي بنا رغبة الشاعر هذه إلى الحركة الخامسة من حركات القصيدة التي يرتدي فيها الراوي- الشاعر قناع طرواديٍّ يحاور هيلين معاصرةً تنفي اشتعال حرب طروادة (فتقول له:/ حرب طروادة لم تكن/ لم تكن أبدا، ص: 606)، في إشارة بليغة إلى حرمانه حتى من تصوّر ذاته طرواديّاً معاصراً مهزوماً يمكنه أن يتكلم بلسان الطرواديين ويعيد رواية الحكاية باسمهم واسمه. ونحن نعلم أن درويش يعود في شعره إلى إنطاق المحرومين من الكلام والممنوعين من رواية حكاياتهم، عبر إعادة صياغة رواية الهنود الحمر أو رواية تاريخ الأندلسيين الخارجين من الأندلس، في محاولة لخلق تعبير مواز غير مباشر عن التجربة الفلسطينية.
من الواضح أن هذه المشاغل الشعرية التي تعود إلى أرض الحكايات التاريخية، المعجونة بملامح الأسطورة في الكثير من فصولها، نابعةٌ من أرض الراهن، والشاعرُ يقوم بعملية تصعيدٍ لهذا الراهن من خلال اللجوء إلى حكاية الطفولة والتاريخ والأساطير، ليحفظ شعره من هجوم التفاصيل اليومية التي تُفرغ القصيدة من لهبها الدائم المشتعل، ولكي يحشد الحكاية اليومية، أيضا، بأقصى جرعة ممكنة من المعنى. وتلك هي طريقة صنع الأساطير التي هي مهمةُ الشاعر الملحميّ الذي طمح محمود درويش أن يكونه في زمن تضاءلت فيه قامةُ هذا النوع الشعريّ وتوزّعت عناصرُه على الأشكال الشعرية المختلفة.
من الواضح أيضاً في "لماذا تركت الحصان وحيدا" أن درويش ينتهك البنية الملحمية، التي تتبدّى في ثنايا هذا العمل، في الحركة السادسة والأخيرة بإغلاقه المشهد على حوار الذات مع الآخر، وهو حوارٌ يخبئه السعال السريع (ص: 644)، في إشارة دالّة على غياب الحوار وانعدام شروط الوصول إلى تفاهم مشترك يحفظ لكل طرف حقَّه في رواية حكايته. ويمثّل الشاعر لغياب أرضيّة الحوار بمشهد مثول برتولت بريخت أمام محكمة عسكرية إسرائيلية يقوم فيها القاضي بتحويل الشهادة إلى محاكمة، ويتحوّل القاتل إلى ضحية ويغتصب روايةَ الضحية وأسماءَها.
مضت الحرب. وضباطك عادوا سالمين
والكروم انتشرت في لغتي، يا سيدي
القاضي ـ وهذا شأني الشخصي ـ إن
ضاقت بي الزنزانة امتدت بي الأرض،
ولكن رعاياك يجسون كلامي غاضبين
ويصيحون بآخاب وإيزابيل: قوما، ورثا
بستان نابوت الثمين!
ويقولون: لنا الله
وأرض الله
لا للآخرين!
ما الذي تطلبه، يا سيدي القاضي،
من العابر بين العابرين؟
في بلاد يطلب الجلاد فيها
من ضحاياه مديح الأوسمة!
آن لي أن أصرخ الآن
وأن أسقط قناع الكلمة:
هذه زنزانة يا سيدي، لا محكمة
وأنا الشاهد والقاضي. وأنت الهيئة المتهمَة
فاترك المقعد، واذهب: أنت حر أنت حر،
أيها القاضي السجين (ص: 631)
إن درويش يصل بإغلاقه المشهد على سكّانه ذروةَ السخرية عندما تحرّر الضحيةُ جلادَها من ذنبه تجاهها، ويتبادلُ الضحية والقاتل المواقع في نصٍّ شعريٍّ أظن أنه من أفضل النصوص الشعرية التي كُتبت عن اللحظة الملتبسة للراهن الفلسطينيّ الذي تختلط فيه التراجيديا بالكوميديا السوداء، وتضربُ المفارقةُ جذورَها في أرضه.
شاعرُ حبّ أيضاً
يربط القرّاء في العادة شعر محمود درويش بقضية فلسطين، فهو المعبّر، بصوره واستعاراته وقصائده الملحمية، عن تحولات هذه القضية وانعطافاتها. لكن درويش في مجموعته "سرير الغريبة"9" يغيّر هذه الصورة النمطية والطريقة التي يُصوَّرُ بها شعره. فهو يكتب قصائد حب، يتأمّل حالة عشق متحوّلة بين رجل وامرأة منفيين، هما على الأرجح فلسطينيان. لكن درويش يرفع حالة الحب، التي يكتب أغانيه عنها، إلى الشرط الإنساني العابر للحالات الفردية والانتماء الوطني والقومي. إنه يعيد وصف مشاعر المحبّ في ضوء ما تعلّمه من قصائد الحب وحكاياته وأساطيره: من مجنون ليلى، وجميل بثينة، وأساطير الحب السومرية، وصولا إلى كتاب الكاماسوطرا الهندي.
يتّخذ الشاعر من بعض العشاق الأسطوريين قناعاً له. إنه يختفي وراءهم ليحكي لقارئه عن طبيعة مشاعره التي يمتزج فيها إحساسه بالمنفى والغربة بالعبث والخسارة والامّحاء من الوجود. في قصيدته "قناع لمجنون ليلى" يتجسّد هذا الشعور المركَّب الذي يلقي بظله الثقيل على قصائد "سرير الغريبة" التي تجمع الإحساس بنشوة الحب إلى الشعور بانقضاء الحب والتهديد الملازم بالفقدان والخسارة وعدم الاستقرار.
أنا قيسُ ليلى
غريبٌ عن اسمي وعن زمني
لا أهُزُّ الغيابَ كجذعِ النخيل
لأدفعَ عني الخسارةَ، أو استعيدَ
الهواءَ على أرضِ نجدٍ....
.............................
.... أنا من أولئك،
ممن يموتون حين يُحِبّون. لا شيءَ
أبعدُ من فرسي عن معلقة الجاهليِّ
ولا شيءَ أبعدُ من لغتي عن أميرِ
دمشقَ. أنا أوَّلُ الخاسرين....
أنا قيسُ ليلى، أنا
وأنا... لا أحَدْ! (ص: 763)
اللافت في هذه المجموعة الشعرية هو السوناتات الست التي يوزّعها الشاعر بين قصائد كتابه الشعري حيث يكتفي بوضع كلمة "سوناتا" عنواناً لكلّ واحدة من هذه القصائد الست. كما أنه يلتزم في كتابتها الشرطَ التقليدي للسوناتا في الشعر الغربي وهو أن تكون مُكوَّنة من أربعة عشر سطراً شعريّاً، مُراوحاً في توزيعه للأسطر الشعرية بين أنواع السوناتات المعروفة لدينا والتي تُنسب إلى بترارك وسبنسر وشكسبير. في هذه السوناتات ينقل الشاعر نشوة العشق، وحالاته المتقلّبة، مازجاً هذه المشاعر النورانيّة، التي يضفيها الحب على الشعر، بشعور القلق الملازم لكل عشق، وخصوصاً إذا كان العاشقان مهددين بالغربة والمنفى وضغط الانتقال من أرض إلى أرض.
صُنَوْبَرَةٌ في يمينكِ. صَفْصافَةٌ في شِمالِكِ. هذا
هو الصيفُ: إحدى غزالاتكِ المائةِ استسلمتْ للندى
ونامت على كتِفي، قُرْبَ إحدى جهاتكِ، ماذا
لو انتبَهَ الذئبُ، واحترقتْ غابةٌ في المدى
نعاسُكِ أقوى من الخوفِ. بريّةٌ من جمالكِ
تغفو، ويصحو ليحرُسَ أشجارَها قمرٌ من ظلالك
ما اسم المكانِ الذي وَشَمَتْهُ خطاكِ على الأرضِ
أرضا سماويةً لسلامِ العصافيرِ، قرب الصدى
وأقوى من السيفِ نومُكِ بين ذراعيكِ مُنْسابتين
كنهرينِ في جنّةِ الحالمينَ بما تصنعينَ على الجانبين
بنفسِكِ محْمولَةً فوقَ نفْسِكْ. قد يحمل الذئبُ ناياً
ويبكي على ضِفّةِ النهر: ما لم يُؤَنَّثْ... سُدى
قليلٌ من الضعفِ في الاستعارةِ يكفي غدا
ليَنضُجَ توتُ السياجِ، وينكسرَ السيفُ تحت الندى (ص: 726)
في قصيدة "درس من كاماسوطرا" ثمّةَ تعبيرٌ عن حالة الانتظار في الحب، وصيّةٌ للمحب وإرشادٌ له كيف يتعامل مع الحبيب. إن درويش يبلغ في هذه القصيدة صفاءً تعبيريّاً لم يبلغه شعره من قبل حيث تكاد الكلمات تتكسّر من فرط رقتها وعذوبتها. إنها قطعة من كتاب حب يُذكِّرُ بكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي.
بكأسِ الشرابِ المرصعِ باللازورد
انتظرها،
على بركة الماء حول المساءِ وزهر الكولونيا
انتظرها،
بصبرِ الحصان المُعدِّ لمنحدرات الجبالِ
انتظرها،
بذوقِ الأميرِ الرفيعِ البديعِ
انتظرها،
بسبعِ وسائدَ محشُوَّةٍ بالسحابِ الخفيفِ
انتظرها،
...........
ولا تتعجّلْ، فإنْ أقبلتْ بعد موعدها
فانتظرها،
وإنْ أقبلتْ قبل موعدها
فانتظرها،
............
تَحَدَّث إليها كما يَتَحَدَّث نايٌ
إلى وترِ خائفٍ في الكمانِ
- (ص: 765)
شاعر يتأمّل موته
في منجزه الشعري السابق أقام محمود درويش عمارته الشعرية حول عدد من الاستعارات المركزية التي تتكوكب حولها معاني قصائده. ويستطيع القارئ، بغض النظر عن مستواه الثقافي، أن يتواصل معه ويحدس بعضاً مما يعنيه الشاعر من خلال التقاط بعض تلك الاستعارات المتكررة في شعره. وقد استطاع الشاعر أن يطوّر تجربته، ويبتعد شيئا فشيئا عن الوضوح المباشر والشعاريّة الفاقعة، دون أن يفقد تواصله مع جمهوره عبر حفاظه على تلك الاستعارات المركزيّة في شعره، وعلى رأسها استعارة الأرض التي تنسرب في ثنايا قصائده بوصفها استعارة كبرى تربط الاستعارات الأخرى التي يبتدعها الشاعر عبر رحلته الشعرية.
لكن درويش يعمل في عدد من مجموعاته الشعرية، التي أصدرها في عقد التسعينيات ("لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995، "سرير الغريبة" 1999، و"جدارية" 2000)، على أخذ قارئه في اتجاه أصقاع جديدة في تجربته الشعرية. إن الاستعارات الأساسية الدالّة على الأرض، والمكان، وبطولة الفرد الفلسطيني، والتواصل الحميم مع جسد الأرض، تشحب لتحلّ محلّها تراجيديا الفرد في صراعه مع الميتافيزيقا، مع الثوابت الكونيّة الكبرى: معنى العيش، والموت والفناء، والخلود، والحب، وعبثية التواصل الإنساني. ومع ذلك فإن انغماس درويش في استقراء تجربة الوجود البشري على الأرض، دون ربطها بصورة مباشرة بوجوده المشخص المشدود إلى الجغرافيا الفلسطينية بالمعنى المكاني والتاريخي، لم يؤثّر كثيرا على صورته كشاعر جماهيري. وما يبدو للوهلة الأولى غامضاً في قصائد درويش سرعان ما ينجلي معناه عندما يستحضر القارئ إنجازه الشعري السابق الذي يمكّننا من تأويل القصائد الجديدة استنادا إلى خلفية المادة الشعرية السابقة.
انطلاقاً من هذا الوعي بتجربة درويش، ومنعرجات تطورها وطبيعة علاقة الشاعر بقرائه ومستمعيه كذلك، يمكن النظر إلى قصيدته الطويلة "جدارية"10" بوصفها استعارة مقلوبة لمعنى العيش الذي سبرته قصائد "لماذا تركت الحصان وحيدا"، التي ركّزت على استعادة صورة المكان والزمان المُهدرين في طفولة الفلسطيني من خلال عين الذاكرة، وكذلك قصائد "سرير الغريبة" التي انتشلت ثيمة الحب من بئر الحياة المهجورة وزمان الفلسطيني المقتلع المطارد.
إن من الصعب فهم "جدارية" درويش دون وضعها في سياق شعره السابق الذي يضمّن منه مقاطع مختزلة شديدة الدلالة في هذه القصيدة التي يعلو إيقاعها ويهبط وصولاً إلى حوار مع ملاك الموت الذي يتربّص بقلبه المفتوح في تلك الليالي البيضاء التي قضاها درويش في مستشفى باريسي بين تحليق في (سماء المطلق البيضاء، ص: 10) وتذكّر طفولة غير سعيدة في عكا البعيدة، مما يفضي به إلى أن يسأل ملاك الموت لكي يتمهّل قليلاً (ريثما أنهي/ حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي، ص: 49).
قصيدة "جدارية" هي نتاجُ تجربة شخصية مع الموت"11". ليست تأملاً ميتافيزيقياً لمعنى الفناء، أو محاولةً للقبض على معنى الخلود، بالرغم من الحوار الذي يقيمه هذا النص الشعري مع ملحمة جلجامش، وحديث الشاعر عن كونه توأم إنكيدو، ومع النبي سليمان وأغانيه عن شولاميت. إنها حوارٌ مع الموت انطلاقا من تجربة الشاعر الممتدة في المكان والزمان، في صفحات تاريخه الشخصي وذكرياته البعيدة والقريبة.
يفتح الشاعر مشهد قصيدته على عالم البياض، الذي هو مرادف للغياب والتحليق وخفّة الجسد والتخفف من العيش وأثقاله. ولا يشعر القارئ لذلك بوطأة الموت في قصيدة تحاول أن ترسم جداريّة لثنائيّة الخلود- الفناء، متأمّلةً هذه الثنائيّة من خلال استدعاء عناصر الوجود الشخصي للشاعر الذاهب في غيبوبته مُمَّدداً بين الحياة والموت في مستشفاه الباريسي.
أرى السماء هناك في متناول الأيدي.
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى. ولم أحلم بأني
كنت أحلم. كل شيء واقعي. كنت
أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا...
وأطير. سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخير. وكل شيء أبيض،
البحر المعلق فوق سقف غمامة
بيضاء. واللا شيء أبيض في
سماء المطلق البيضاء. كنت، ولم
أكن. فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبدية البيضاء. جئت قبيل ميعادي
فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي:
"ماذا فعلت، هناك، في الدنيا؟"
ولم أسمع هتاف الطيبين، ولا
أنين الخاطئين، أنا وحيد في البياض،
- وحيد... (ص: 9 -10)
سوف نعثر في الصفحات التالية لهذه القصيدة على صياغات متكررة لهذا المشهد الأبيض، بمعانيه الرمزيّة المختلفة، ونقع على دورانٍ مستمر حول فكرة البياض التي تقوم عليها القصيدة محاولةً تثبيتَ معنى محدد من معاني الموت أو الإقامة على مقربة منه. ليس هذا موتاً، سوف يستنتج قارئ درويش، بل هو عبورٌ في اتجاه الموت وعودةٌ من أرضه. لكنه بالضرورة مدعاةٌ لتأمّل معنى العيش والوجود والخلود والفرد والآخرين، والإقامة في هذا العالم المضطرب الذي يعود فيه الشاعر إلى طفولته في عكا (أقدم المدن الجميلة/ أجمل المدن القديمة/ علبة/ حجرية يتحرك الأحياء والأموات/ في صلصالها كخلية النحل السجين/ ويضربون عن الزهور ويسألون/ البحر عن باب الطوارئ كلما/ اشتد الحصار.. )، ص: 98- 99.
في هذا السياق من العودة إلى مدارج طفولة الشاعر في عكا القديمة يعمل درويش على ربط حكايته الشخصية مع الموت بأرض فلسطين حيث يدور بينه وبين السجان حوار عن الحاضر المسكون بالماضي وعن السجان- السجين. إن شبح الموت لا يستطيع محو الحكاية المركزيّة، حكاية الشاعر الفلسطيني المقيم في سفره الطويل.
قلت للسجان عند الشاطئ الغربي:
- هل أنت ابن سجاني القديم؟
- نعم!
- فأين أبوك؟
قال: أبي توفي من سنين.
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة.
ثم أورثني مهمته ومهنته، وأوصاني
بأن أحمي المدينة من نشيدك...
قلت: منذ متى تراقبني وتسجن
فيَّ نفسك؟
قال: منذ كتبت أولى أغنياتك
قلت: لم تكُ قد ولدت
فقال: لي زمن ولي أزلية،
وأريد أن أحيا على إيقاع أمريكا
وحائط أورشليم (ص: 94- 95)
يصنع درويش إذن مادة "جداريّته" من الشخصيّ، والأسطوريّ، والحكايات المتداولة عن الموت، والصيغِ الثقافيّة المختلفة التي تقارب موضوعة الموت والخلود، ويصهر هذه المادّة كلّها في حكايته الشخصية وتجربته الفعلية مع الموتِ، تلك "الأبدية البيضاء" التي رآها بعين خياله ربّما، أو عين الحقيقة، لا ندري. لكن هذه التجربة الفريدة من نوعها يُعاد توليفُها لتفضي بقارئها إلى معرفة حكاية الفن والشعر مع الموت، ومن ثمَّ، إلى سياحة الشاعر نفسه بين الوجود ونقيضه، ليُسِرّ لشبح الموت الذي يجالسه أنه خسر معركته مع الفنون التي خلَّدت أصحابها:
هزمتك يا موت الفنون جميعها.
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك
الخلود...
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد (ص: 54- 55)
أو أنه يطلب من الموت أن ينتظره قليلاً ليستكمل بعض ما فاته عمله حيث يبدو الموت رفيقاً للشاعر لا عدوّاً. إن درويش يؤنسن الموت، يعيد تركيبه في سياق أرض قصيدته الخضراء (خضراء، أرض قصيدتي خضراء..، ص: 41) التي تنبض بالعيش والوجود لا بالموت والفناء. ومن هنا يأتي التشديدُ على الخضرة لا اليباس، وعلى الرغبة في امتصاص آخر قطرة من تجربة العيش.
أيها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادك، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي
قرب خيمتك، انتظرني ريثما أنهي
قراءة طرفة بن العبد، يغريني
الوجوديون باستنزاف كل هنيهة
حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة... (ص: 49)
إن درويش يستخدم خبرته الشعرية، وجماليّات قصيدته المختلفة التي تعوّدها قارئه، لكي يغري هذا القارئ بمواصلة استكشاف هذه التجربة التي تقيم على الأعراف بين الحياة والموت، بين الفناء والخلود، بين الوجود والعدم. ومن ضمن هذه الجماليّات التي يستخدمها الشاعر في "جداريته" القافية الأساسية التي تتكرر إلى منتصف القصيدة تقريبا (وحيدُ، وجودُ، أريدُ، الشريدُ، الطريدُ، الحشودُ، الوليدُ، تريدُ، إلخ). وتوفّر القافية المتكررة نوعاً من الوحدة والرباط الداخلي الذي يشدّ المادةَ المتنافرة التي تتكوّن منها القصيدة. إن الشاعر يعرف كيف يستبقي قارئه معه، وهو يستخدم إضافة إلى التقفية الخارجية نوعاً من التقفية الداخلية التي يمكن أن نمثّل عليها بالمقاطع التالية، مع ملاحظة أنني أعدت توزيع الأسطر بحيث يلاحظ القارئ المواضع التي استخدم فيها درويش التقفية الداخلية:
- في زمان السيف والمزمار
بين/ التين والصبار... (ص: 19)
- وكل نبض فيك يوجعني،
- (ص: 19)
- وأنا الغريب. تعبت من "درب الحليب"
- الحبيب... (ص: 23)
- ويرمونني بالحجارة:
- بالعبارة.. (ص: 30)
وهناك العديد من الأمثلة على استخدام التقفية الداخلية في هذه القصيدة التي تعتمد الإيقاع بصورة مدهشة وتنحو إلى توفير معظم جماليّات القصيدة الدرويشية، ومن ضمنها الإيقاع والتقفية بأنواعها والتكرارُ، لكي يظلّ القارئ مشدودا إلى مركز القصيدة وجملتها الإيقاعية والمعنوية المؤثرة (خضراء أرض قصيدتي، خضراء..).
إضافة إلى ذلك يعيد درويش قارئه إلى قصائده السابقة، رابطاً عالمَه الشعري بخيوط خفيّة، مشددّاً على كليّة عالمه الشعري وتناسلِ قصائده من بعضها. إنه يذكّر قارئه بمجموعته الشعرية "أرى ما أريد" عندما يكرر جملة (سأصير يوما ما أريد، ص: 12، 13، 14، 15)، كما يقوم بالتنويع عليها (سنكون يوما ما نريد، ص: 16). أو أنه يلفت انتباه قارئه إلى مجموعته الشعرية السابقة "أحد عشر كوكبا":
وأنا شاعر
وملك
وحكيم على حافة البئر
لا غيمة في يدي
ولا أحد عشر كوكبا
على معبدي (ص: 86)
يكتب درويش في "جدارية" جماع قصائده، يعيد توليف مادته الشعرية مستخدما ثروته الغنية بالإيقاع والمعنى، والاستعارات والمخزن الرمزي شديد الإيحاء، عميق الدلالة، كما يستخدم علاقته الوطيدة بقارئه الذي يستطيع أن يحدس ما يريد الشاعر قوله من خلال العودة إلى قصائد الشاعر السابقة استنادا إلى العقد الذي ربط الشاعر بالقارئ في علاقة حميميّة مدهشة.
في مجموعته الشعرية الأخيرة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"12"، التي نشرت بعد وفاته، يعود درويش إلى ثيمة الموت، مُكرّساً قصيدتين من قصائد المجموعة، لتأمل سيرة حياته، والتساؤل حول الشخصي والجماعي في سيرة فلسطينيّ منفيّ صار الناطقَ الشعري باسم فردوسه الوطني المفقود. في قصيدة "لاعب النرد" يسعى الشاعر إلى الوقوف في برزخ يفصل الحياة عن الموت، متسائلاً عن أهليّته أن يكون أفضلَ من غيره، فموهبتُه هي مجرد رمية نرد رابحة:
أنا لاعب النرد،
أربح حينا وأخسر حينا
أنا مثلكم
أو أقلّ قليلا... (ص: 574- 575)
وهو في موضع آخر من القصيدة يطالب الموت، كما فعل من قبل في قصيدة "جدارية"، أن يمهله قليلا لينهي بعض أشغاله الشعرية التي حلم بإتمامها قبل أن يُسلم روحَه لملاك الموت.
للحياة أقول: على مهلك، انتظريني
إلى أن تجف الثمالة في قدحي...
في الحديقة ورد مشاع، ولا يستطيع الهواء
الفكاك من الوردة/
انتظريني لئلا تفر العنادل مني
فأخطئ في اللحن/
في الساحة المنشدون يشدون أوتار آلاتهم
لنشيد الوداع.... (ص: 586)
هنا الموتُ حاضرٌ بقوة، كما في معظم شعر محمود درويش الأخير، حيث يُلوّح الشاعر مودّعاً، سائلاً الموت أن يمهله قليلاً ليكتب ما تبقى لديه من شعر. وهو يعود مرة أخرى لهذه الثيمة المحورية في شعره ليُقَلِّبَها على وجوهها في قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، مخبراً القارئ أنه يعيش أيامه الأخيرة.
يقول لها، وهما ينظران إلى وردة
تجرح الحائط: اقترب الموت مني قليلا
فقلت له: كان ليلي طويلا
فلا تحجب الشمس عني!
وأهديته وردة مثل تلك...
فأدى تحيته العسكرية للغيب،
ثم استدار وقال:
إذا ما أردتك يوما وجدتك
فاذهب! (ص: 605)
وقد كان حدس درويش صادقا، فقد وجده الموت في التاسع من آب 2008 في مستشفى ميموريال هيرمون بهيوستن في الولايات المتحدة وهو يجري عملية معقدة في شرايينه الضعيفة التي حدثنا عنها في قصيدة "لاعب النرد"، داخلاً في غيبوبة أسلم بعدها الروح، ليعود ويدفن في مدينة رام الله بعد أن منعت إسرائيل دفنه في تراب قريته "البروة" التي أزالتها الجرّافات العسكرية عام 1948 وأقامت مكانها مستوطنة زراعية صهيونية!
هوامش
- ارتبط اسم محمود درويش بوطنه فلسطين حتى ليمكن القول إن شعره أصبح اسما حركيا لفلسطين. ونحن لا نعثر في تاريخ الشعر والثقافة في العالم على هذا القدر من التلاحم بين صاحب قلم ووطنه مثلما هو الأمر في حالة درويش. ولا أظن أن هذا الوضع يعود إلى تسمية درويش شاعرَ فلسطين الأول، أو إلى معاصرته انبثاق الثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ومواكبته لانتصارات تلك الثورة وخساراتها، وصعودها وانهيارها، ومتابعته الشعرية للألم الفلسطيني المقيم المستمر، ودخول القضية الفلسطينية في نفق مظلم بعد اتفاقات أوسلو وانقسام الفلسطينيين، فقط، بل إنه يعود إلى ارتباط محمود درويش وشعره بفكرة فلسطين بالأساس.
- أدرك محمود درويش، بعد سنوات من ضغط السياق الثقافي الذي عاش ونشأ فيه، أن الالتحام بالشعرية العالمية، وعدم الاستجابة لمطالب الجمهور والصورة الأيقونية التي صُنعت له بوصفه شاعر فلسطين، سوف يجعل فلسطين أكبر من مجرد بلد ووطن وتراب. لقد حوَّل محمود فلسطين إلى رمز للوجود والعدالة المنقوصة. وأظن أن شعره سيظل يفعل ذلك، رغم أننا خسرنا برحيله حضوراً شعرياً وثقافياً وفكرياً وشخصياً كبيراً على مستوى العالم، كان يمكن أن يحقق حضوراً متواصلاً لفلسطين.
- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيدا، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014.
- للاطلاع على مجموعات درويش الأولى تُراجع الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الأول، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014.
- محمود درويش، ورد أقل، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 239.
- محمود درويش، أرى ما أريد، (1990)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 309.
- محمود درويش، أحد عشر كوكبا، (1992)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 399.
- لماذا تركت الحصان وحيداً (1995)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 485.
- محمود درويش، سرير الغريبة، (1999)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 647.
- محمود درويش، جدارية، (2000)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثالث، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 5.
- في سنواته الأخيرة كان الصديق الراحل محمود درويش وكأنه على عجلة من أمره، كأنه يريد أن ينهي مشاريعه الشعرية جميعاً، قبل أن يعاجله الموت. كان محتشداً بالكتابة، ينتهي من مجموعة شعرية ليبدأ كتاباً يمزج السيرة بالشعر، بالنثر. يقرأ بنهم كبير راغباً في إفراغ تلك الشحنة الإبداعية الفيّاضة التي جعلته غزير الإنتاج كما لم يكن من قبل. كأن محمود كان يريد تجاوز نفسه في كل لحظة. هذا مُبَرّرٌ بسبب الأزمة القلبية التي داهمته عام 1998، وكتب على أثرها قصيدته "جدارية"، التي يخاطب فيها الموت ويدعوه لكي يمهله قليلا حتى يُتِمّ مشاغله الشعرية، فيمضيَ مرتاحَ الضمير يداً بيد مع موت رحيم مُتفهّم. كانت جداريته، من فرط اقترابها من الموت، الذي عاينه محمود في تلك العملية، مدهشةً ومرعبة في الآن نفسه. وهي تذّكر بملحمة جلجامش، ورثاء مالك بن الريب نفسه، وشعر أبي العلاء المعري الذي يدعو فيه صاحبه لكي يخفف وطأه على الأرض التي تحتوي أجسادنا جميعا. لكنها في الوقت نفسه تمزج بين تأمل الموت تأملاً ميتافيزيقياً فيما هي تسرد بعضاً من سيرة محمود درويش الشخصية والشعرية.
- محمود درويش، لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، (2009)، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثالث، مؤسسة محمود درويش (رام الله)، الدار الأهلية (عمان)، دار الناشر (رام الله)، 2014، ص: 549.
**هذه مقدمة مختارات شاملة من شعر محمود درويش اختارها وقدم لها الكاتب وتصدر قريبا عن الدار الأهلية للنشر في عمان.