علي الرغم من أن إرهاصات القصة القصيرة قد بدأت من القرن الرابع عشر، إلا ان بداياتها الحقيقية، بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر[1]، علي يد استاذى القصة القصيرة في العالم "جي دى موباسان"(1850 -1893) و "أنطون تشيكوف" (1860- 1904)[2]. وهي الفترة التي بدأت فيها محاولات القصة المصرية القصيرة مع كتابة عبد الله نديم، وفقا لرأي عباس خضر{ولكن عبد الله نديم شق بهذا الذى كتبه على هذا النسق طريقا في العربية لم يسبق إليه.. ربما كان للعالم منه أستاذ في فن القصة القصيرة.. حتي الذين قرأوا الأقاصيص النديمية لم يلقوا إليها بالا، ولم يقفوا عندها كعمل قصصى، بل كانت في نظرهم مادة صحفية فكاهية تقرأ وتمضى}.
وعلي المستوي المصري، كانت أواخر القرن التاسع عشر، وما حدث بها من نهضة ثقافية وسياسية، كانت هي الفترة الحاضنة لبزوغ فن القصة القصيرة، حيث نبغ في تلك الفترة، ممن حملوا شعلة التنوير كل من: رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م) وجمال الدين الأفغاني (1838 - 1897م) ومحمد عبده (1849 - 1905) وقاسم أمين (1863 - 1908م) ورشيد رضا (1865 - 1936م) الذي اتي من لبنان إلي الأسكندرية (1898) وانتقل منها إلي القاهرة ليلتقي بمحمد عبده، وتشهد مناقشاتهما وتعاونهما نتائجها التي دارت حول إنشاء الصحف ودورها في إخراج المجتمع من الجهل والجهالة. كما لا شك في أن الاتصال بالغرب في تلك الفترة، بداية من الحملة الفرنسية (1798- 1801)، والتي كان لها كبير الأثر علي النهضة المصرية، خاصة وأن رواد القصة القصيرة في تلك المرحلة، جميعهم، سافر للخارج، وأجاد كثير منهم إما الإنجليزية أوالفرنسية، أو كلايهما، ما كان له أثر تطوير تلك الإرهاصات، إلي القصة القصيرة. والتي حملت ، ضمن ما حملت من خصائص، الثورة علي الرومانسية، بخيلياتها وبعدها عن الواقع، تناولت أعمالهم الحياة الاجتماعية المصرية، رغبة في التغيير، والتطوير، لتقف مصر إلي مصاف تلك الدول التي زاروها. وما الحياة الاجتماعية ببعيدة عن الحياة السياسية، في أبسط معانيها، العلاقة بين الفرد والسلطة. وهو ما نحاول التعرف عليه بشكل تطبيقي، في تلك النماذج المختارة، لا لأنها هي فقط التي تحقق ذلك الغرض، وإنما هي مجرد نماذج، كجزء يقود إلى الكل.
محمد تيمور أجمع الكثير من النقاد والدارسين علي إعتبار محمد تيمور (1892- 1921) أول من خرج بالقصة من الحكاية الشعبية إلي القصة القصيرة، في أقرب معانيها، رغم أنه لم يكتب في عمره القصير- حيث مات في التاسعة والعشرين من عمره - غير مجموعة واحدة[3]، تم جمعها بمعرفة أخيه محمود تيمور في العام 1922.تضمنت هذه المجموعة قصة ملفتة، يحمل عنوانها ما قد يسرح بالقارئ إلي سنوات كثيرة بعد كتابتها، خاصة أنه يحتوي (الرتب والنياشين) (1917) التي استقرت في الذهن الجمعي في الوقت الحالي بطائفة محددة من المجتمع. غير أن العنوان الفرعي، ياتي بما يفارق توقع القارئ، ويوسع من الرؤية لتشمل عالما آخر(من رسائل مجبور أفندي).
وحيث تقف هذه القصة في بداية مرحلة جديدة في مسيرة القصة القصيرة، التي مرت بالعديد من مراحل النمو والتطور، كان لزاما أن نتجاوز عن الكثير من خائص القصة القصيرة المعروفة لنا الآن، وليكن تركيزنا علي موضوعنا الرئيس في تبيان إرتباط القصة القصيرة بمجتمعها، وفي القلب منه، السياسة، رغم أن القارئ –غير المتمرس، سوف يبادر بأن لا علاقة بين هذه القصة والسياسة، إلا انه برجوعنا إلي مفهوم الدولة، ومفهوم السياسة، سنجد أنها أقرب إلي الرؤية السياسية منها إلي النقد الاجتماعي، حيث يري أفلاطون في جمهوريته الشهيرة، أن أي دولة، مهما كان حجمها، فإنها تنقسم إلي دولتي، دولة لفقراء، ودولة الأغنياء.[4] وهما الدولتان اللتان نستطيع تمييزهما بوضوح في هذه القصة، التي تقوم علي رسالة سنوية، يرسلها الكاتب إلي شخصية، تمثل مجموعة من الشخصيات، غير محددة الأسماء، وإن تحددت السمات. بادئة بما يضع الفارق بين الدولتين، بل ربما العزلة، والفرقة، المتضمنة في جوانبها، ذلك الصراع، أو التناقض الوجودي، الصانع للخلاف، والمنشئ للثورة {اسمح لي أن أناديك بالصديق العزيز مرة واحدة في كل عام، وإن كنت لم أسعد في حياتي الماضية، ولن أسعد في حياتي المقبلة بمعرفتك، ومعرفتك أمر هام جدا. بل شرف عظيم لكل من يجد في قربك سعادة لنفسه وراحة لضميره المعذب، ولكني لا أكتمك –وإن كانت صراحتي تؤلمك – إني لا أود أن تسمح لي الظروف بمعرفتك بل برؤياك......لماذا إذن أخابك في العام مرة واحدة؟ لماذا أكتب إليك هذا الخطبوبيني وبينك مسافة ما بين الأرض والسماء، مسافة طويلة جدا، لكنها لا توجد إلا بين نفسي ونفسك} فالبعد النفسي هو ما يفصل بين الدولتين، وهو يعني الكثير والكثير من الخلاف والتنافر، وربما الحقد. يعني عدم الانسجام أو التوافق بين الدولتين، فما بال الحال أن ما يجمعهما، ليست الجيرة، ولكنها الاشتراك في المعايش، ولابد أن كلا منهما يسعي لللحياة، ويسعي للعدل، الذي لابد أنه لايوجد، علي الأقل في نفس أحدمها. فقد تخلق الصراع النفسي، الذي كان يمكن أن يسم القصة، ويخلق دراميتها، غير أن الخطاب يسير باتجاه واحد، وإن صنع الرؤية السياسية.
يضع الكاتب نفسه في دولة الفقراء، في مقابل دولة الأغنياء التي يمثلها {أنت ممن يجدون في الكبرياء والأبهة لذة لا تقدر ... أنت أيها الصديق احدد رجلين ، فإما أن تكون من أعيان القاهرة تلك الجماعة التي تسكن الفصور الشامخة والتي تركب السيارت والتي تلبس الملابس الغالية وتأكل الطعام الفاخر.....}{ أو من أعيان الريف الذين إذا أكلوا في منازلهم، اكتفوا بالعيش والفتة، وغذا زارهم المأمور ذبحوا له الخروف يتلوه الخروف. والذين ينامون في غرفة ضيقة ويلتحفون بملابسهم، ولكنهم يعدون في قصورهم لرجل الحكزمة غرفة جميلة وسريراحريريا ولا يستنكفون أن يقفوا في خدمتهم وقفة الخاضع الذليل}. فإذا كانت الدولة الثانية تضم الأثرياء، ورجال الحكومة، ومن يساعونهم بالرياء والمداهنة، وكأنهم يساعدونهم علي الظلم، وغياب العدل. فعلي الرغم من الرؤية الاجتماعية، فإن الرؤية السياسية، غير غائبة.
وإذا كان محمد تيمور لم يترك الكثير من القصة، حيث انشغل بغيرها (المسرح والمقال، وكثرة السفريات)، فقد أكمل الرسالة، اخوه
محمود تيمور الذي استفاد بالكثير من نصاحة العامة، وفي القصة خاصة. حيث التزم بما تمليه قواعد القصة –حينها- والقواعد الأخلاقية العامة، والتي ميزت القصة في النصف الأول من القرن العشرن، غذ إلتزمت بتضمين الحكمة، أو الموعظة، إلي جانب المحافظة علي القيم الأخلاقية، وتناول العلاقات الاجتماعية، بالدرجة الأولي، فإنها لا تعدم الرؤي الثورية، بمعني رفض الواقع المعيش، والسعي لتغييره، والتي بدورها تقود إلي النظام السياسي، متَضَمنا في خلفية الرؤية.
فإذا ما أردنا تتبع المنابع التي استقي منها محمود تيمور (1894-1973م). الشقيق الأصغر لمحمد تيمور- صاحب أول قصة قصيرة مصرية - في قصتة "اللهم اخزك يا شيطان"[5]. والتي تتحدث عن أسرة مصرية يعمل الزوج "عفيفي بك"، فيها، كعالم آثار، طول الوقت، وتركزت كا اهتماماته في البحث والاطلاع حول الآثار. الأمر الذي ترك فراغا لدي الزوجة، الست "جمالات"، فوجدت متنفسها في أستاذ "إسماعيل"الذي دخل البيت، بعد خروجه للمعاش، مغضوبا عليه، لإنقاذ ابنهم "محروس" الذي تكرر رسوبه، فيتدخل الأستاذ "إسماعيل" في كل ما يخص الزوجة للمساعدة في كل أعمال البيت، من تجهيز الطعام بالمطبخ، وعصر الغسيل في الحمام {يورد الخادمات، ويجلس عن كثب من الحلة الكبيرة في المطبخ يقشر البصل ويفصص الثوم، ويتراءى كل أسبوع مرة في حجرة الغسيل يعصر الملاءات وينشرها في السطح علي الحبال، ثم هو بعد ذلك الجليس الأنيس، يناقل رب البيت الحديث في معالم الحياة علي عهد الفراعنة، وفوق هذا كله يشرف علي تعليم الفتي "محروس"، يلقنه الدروس، يوجه سلوكه التوجيه القويم}ص36.فإلي جانب الرؤية النفسية التي تبرر للأستاذ كل هذا، حيث يكون وحيدا في حجرته، لا زوجة ولا أولاد، بينما هنا يجد الأونس والمؤانسة والعائلة، فإنها أيضا تساهم في رسم البعد الرمزي الذي يري فيه النوذج العملي، والذي يساهم فيه كذلك، تلك المعايشة التي تصل حتي الخلافات (الزوجية) التي تحدث كثيرا بين الزوجين، فيغضب كل منهم، ويتطاول علي الآخر، ويُطرد الأستاذ، أو يغادر غاضبا مغضوبا عليه، بالوعود من الطرفين بعدم عودته مرة أخري، إلا ان أياما معدودة تمر، ليعود الأستاذ من جديد، وتستقبله الست "جمالات" وكأن شيئا لم يحدث. وتتكرر مشاهد الإثارة، التي تفرضها المعايشة في المواقف المختلفة، إلا ان الأستاذ إسماعيل" دائما يكرر {اللهم اخزك يا شيطان}. حتي تبدأ الست جمالات في محاولة الاستدراج، والاختبار، والدعوة النسائية المقنعة، إلا ان الأستاذ، يظل يردد علي الدوام لآاللهم اخزك يا شيطان} فلا يقربها مطلقا. وكأن الأستاذ إسماعيل، قد حل في صفة الزوج، الذي حرم زوجته حقوقها، ووقف سلبياحتي في خناقاتها معه، لتروي له {لقد طردته، ولن أسمح له أن يعود. فسنحت علي وجه الزوج بسمة هزيلة، وسرعان ما استخفي في داخل حجرته، وهو يرد الباب في سكون}.
فإذا ما عدنا إلي حياة محمود تيمور، الشخصية والاجتماعية، فسنجد أن والده أحمد تيمور باشا (1871-1930م) أحد مثقفي تلك الفترة وكان اهتمامه بالتاريخ كبيرا، وخلف مكتبة تعد من معالم ذلك العصر. فترجم محمود تيمور ذلك التاريخ في شخصية الزوج في قصته، ذلك الذي تفرغ للبحث في آثار مصر الفرعونية. وكانت عمته عائشة التيمورية (1840-1903م). صاحبة ديوان "حلية الطراز"، فكانت شاعرة في زمن شحت فيه المرأة المثقفة، فضلا عن المرأة المبدعة، فكانت رؤيته في منح المرأة حقوقها – احتياجات الزوجة "الست جمالات" الإنسانية والطبيعية. ثم كان مولده في حي "درب سعادة" بما فيه من المهن المختلفة (الصناع والتجار) والذي يعتبر معه حيا شعبيا، تلمس فيه تيمور البيئة الشعبية الفقيرة –رغم ثراء أسرته – ما أكسبه تلك المعاناة التي يعانيها هذا الحي الشعبى، وما ترجمه في أسباب عدم الرضي، بل والتحقيق مع أستاذ "إسماعيل"، بما رآه مقتنعا به، ويرفضه القانون الوضعي لا القانون الإنساني {والحق أن أستاذ "إسماعيل كان قبل إحالته إلي المعاش من عُمد التعليم في المدارس الحكومية، رجل واجب مثالي، له قلب من ذهب، ولكنه لم يحظ بما هو خليق به من مكانة، أبطأت عنه الترقيات، فخرج من الخدمة بمعاش قليل. وإذا أردت أن تعلم السبب، فدونك ملف خدمته، فيه ثغرات قد تعدها أنت من أعمال المروءة، ولكن القانون يصفها بالتدليس والتزوير: ضُبط مرة في إمتحان يملي الإجابة علي طالب، ولما سئل في ذلك كان عذره أن هذا الطالب لابد أن ينجح وينال الشهادة ليستطيع الإنفاق علي أمه وأخوته، بعد أن مات أبوه، وفقدت أسرته بموته عائلها الأوحد... ويوما عند مراجعةكشوف الدرجات في المدرسة، لوحظ أن الرجل يُغدق الأرقام جزافا علي طالب عرف بالبلادة والكسل، وكان دفاعه عن نفسه أنه قال: ما ذنب هذا المسكين، وقد خلقه الله بعقل يابس متحجر؟ إنه معذور، ويجب أن يُعان}ص23.
تلك النظرة الباحثة عن العدل الإنساني، ذلك الذي لايوفره العدل القانوني.
فإذا أضفنا إلي شخصية الأستاذ "إسماعيل" ذلك الموقف الذي تعجبت فيه الست "جمالات"، حينما سمعت هرجا في حجرة الدرس التي ليس فيها إلا الأستاذ والتلميذ (الإبن محروس) {فسارت في محاذرة وتلصص، وتطلعت من فرجة الباب إلي ما يحدث، المعلم والولد يغطي كل منهما وجهه بقناع يمثل وجوه الهنود الحمر، ويتلفع بوشاح من الورق المقوى، فاقتحمت الحجرة غضبى
-ما هذه الزيطة يا أستاذ؟ اهذا هو الدرس الذي تلقنه لتلميذك؟ فتقدم منها، محتفظا بمظهره الهندي، وقال وهو مسح عرقه: هذه طريقة بيداجوجية تربوية وأنا خبير بها.. علينا يا ست هانم أن نعطي حبة الدواء للمريض مغلفة بالشكولات. فرفعت الست "جمالات" حاجبها وخفضته، وانصرفت تتمصص شفتيها}ص24. المهم أن الإبن "محروس" الذي كان قد اعتاد الرسوب، نجح وبدرجات لم يكن يتوقعها له أحد، فكان جزاء الأستاذ "إسماعيل" قبلة علي خده من الأم "الست جمالات" قائلة له {والله غيرك يدفع فيها ألوف الجنيهات، ولا ينالها..}.
- إلي خصائصه العصرية، في مواجهة التخلف، الذي ينبني عليه التعليم. ونصبح أمام نموذجين، الزوج السلبي، العائش في التاريخ، أو العائش في الماضي، والمنقطع عن حاضره، والأستاذ العائش في الحاضر المتفاعل معه، لنصبح في مواجهة مجتمعية بين الجمود، والتحضر. وإذا كانت قراءتنا لهذه القصة الآن، في زمننا، ورغم مرور السنين علي كتابتها، سنقرأ فيها تلك النظرة إلي الجماعات السلفية، سواء كانت السلفية الدينية، أو السلفية السياسية التي يكشف عنها ذلك اللقاءن القليل الحدوث، بما يعنيه من رمزية، بين الزوج والزوجة والأستاذ الذي أصبح كواحد من أفرام الأسرة، حين انهمك الزوج مع الأستاذ في الحديث عن التاريخ القديم {مضى الأستاذ "إسماعيل" يبادل الزوج أحاديث مستفيضة في الفن الفرعوني واللغة الهيروغليفية، فقد كان الزوج ممن ضربوا في هذه الدراسة بسهم وافر، حتي اعترف له في ميدانها باستاذية أصيلة، وهو يعمل جاهدا في إعداد معجم جامع لحضارة المصريين القدامي. وتشعب الحديث بين الزوج والأستاذ، حتي ضجر به الغلام، فشرع يرفع عقيرته بالغناء، وصاحتالست "جمالات" قائلة: قلبتم دماغنا بفرعون وهامان .. مالنا وهذا الكلام الفارغ، وقال "عفيفى بك": ذلك شأنها دائما.. تضيق بالمناقشات العلمية، ولا تقدرها قدرها الحق. فصرخت "الست جمالات" تقول: حسبها منك اهتمامك وتقديرك ... تمنحها أعز شئ عندك.. صحتك ووقتك ومالك.. أما أنا فماذا تمنحني يا حسرة؟!}ص19. ففضلا عما يمنحه المشهد من واقعية إجتماعية، يري كل قارئ فيها نفسه، رجلا كان أم إمرأة، فإن ذكر فرعون و هامان، رغم أنهما لم يظهرا في حديث الزوج أو الأستاذ، فإن الأيحاء يتجه إلي أن مثل هذا الحديث تكرر في حواراتهما، بمعني وجوده في الوعى الجمعي للأسرة/المجتمع، وهو ما يعني القصدية الإشارية، من الكاتب، إلي ذلك الرمز المزدوج( فرعون وهامان) وما يمثلانه من ديكتاتورية فرعون، وتزينها له من جانب هامان، لتخرج الرؤيا من الإطار الأسري الاجتماعي، إلي الإطار المجتمعي، رؤية السلطة، بكل مستوياتها، لتضع علي كاهلها تلك الصور السابق الإشارة إليها، والتي رفضها الأستاذ "إسماعيل" في فترة عمله بالتدريس، ذلك البؤس الاجتماعي، والذي من المفترض أنه مسئولية أولي لتلك السطلة في أعلي مستوياتها. علي الرغم من الصورة الاجتماعية التي بدت علي السطح في تلك القصة. وتؤكد كمون الرؤية السياسية، التي ربما لا يعيها الكاتب ذاته، أو لم يعنها، غير أن ذلك لا ينفي وجودها، وهيمنتها في لاوعى الكاتب حين يكتب.
وإذا كانت السياسة مستترة في خلفية قصة "اللهم إخزك يا شيطان" –كما فيرها كثير، فإنها تصدرت المشهد في غيرها من القصص، كما في قصة "شيخ الخفر" [6] من مجوعته >دنيا جديدة، والتي –كما في كل كتب محمود تيمور –لم تحدد سنة النشر، كما لا يوجد أي تواريخ لنشر أي من أعماله. الأمر الذي يجعلنا نعول كثيرا علي عنوان المجموعة، ومسيرة حياة الكاتب (1894-1973م) في محاولة الربط بين مضمون القصة، أو القصص، بهما.
فإذا كان العنوان "دنيا جديدة" فإنها بالضرورة - حيث فلسفة العنوان (كعتبة أولي) هي المدخل الأول في قراءة العمل- فيشير العنوان إلي تغيير ما، في حياة الأشخاص، أو في حياة المجتمعات. وإذا نظرنا إلي المرحلة التاريخية التي عاشها تيمور، والممتدة من أواخر القرنالتاسع عسر، غلي ما بعد منتصف القرن العشرين، فسنجد أنه عاصر، وبوعي ثورة 1919 ، بما كان بها من حراك ثوري ورفض للاحتلال، غلا أنها لم تُحث ذلك التغيير، ولم تؤد إلي "دنيا جديدة، لننتقل إلي الحدث الأكبر والذي بالفعل أدي إلي تغيير جذري في المجتمع المصري، وأنشأ حياة جديدة، ونعني به ما حديث في فجر الثالث والعشرين من يوليو 1952. لنربط معايشة تيمور للمرحلة الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، وكيف كان استقبال أبناء تلك المرحلة لذلك الحدث، الذي انقلبت فيه الرؤية مائة وثمانون درجة، الأمر الذي من اليسير أن نعلم أن الرفض هو ما سيطر علي رؤيتهم للحدث، وهو ما صوره تيمور بصورة أقرب للمباشرة في قصته "شيخ الخفر" والتي صدرتها بما يشير إلي تلك الرؤية التي، حيث عملية التمويه، التي يظن بها أنه يتخفي من مقص الرقيب، حيث يكتب في البداية {إنها قصة تراخي بها العهد، وقعت أحداثها في ضيعة ضئيلة الشأن. تكاد تنتهي بها تخوم العمران} وكأن الكاتب يكتب المقدمة التقليدية في كثير من الأعمال (أي ارتباط بين الشخصيات أو الحدث والواقع، ما هو إلا مصادفة، ومحض خيال).ثم تبدأ القصة بما يشير لاستقرار الحياة في تلك الضيعة، والرضي بما تسير عليه من هدوء، ورضي بالعيش{كانت الحياة في هذه الضيعة تجري علي الأساليب العتيقة في الفلاحة والإدارة، بيد أنها مع ذلك كله كانت قنوعا بما تيسر لها من وسائل العيش، فتوافر بذلك حظها من هناءة وأمان}ص15. فكانت الضيعة في تلك الفترة تعيش في ظل ناظر طاعن في السن، يسير الأمور، باللين حينا، وبالحزم حينا آخر، وكان الجميع مقتنع بما يفعله، لأنه لم يُغضب أحدا، ولم يتطاول علي أحد، فأحبه الجميع. غير انه ككل ابشر مات، ليفاجأ الجميع بشاب يأتي بملابس متفرنجة، ويحمل في يده سوطا، يفرقع به لهواء، ويعلن نفسه ناظرا علي الضيعة. يسأل عن نائب النظار، فلا يجد، يسأن عن سكرتير للناظر، فلا يجد، يسأن عن الخفر، فلا يجد. فيجمع شاباب الضيعة ويعين منهم مجموعة كخفر، ويميزهم بالزي الذي يميزهم عن اسائر خلق الله، ويتخير واحدا منهم كشيخ للخفر، يسيده علي الجميع، ويبدأ الناظر، يساعده شيخ الخفر{وما أن توسط الخفر ساحة "الدوار" حتي أهل عليهم الناظر الشاب، وفي يده سوطه يتلاعب به، وبدأ يعرض صفهم،ثم وقف متهلل الوجه تتألق عيناه، وصاح: انتباه...... وفي اثناء تلك المعمعة كان الناظر الشاب يجأر بصوته في الفضاء، فتتردد أصداؤه في الأرجاء، إذ يقول: إلي اليمن در ... إلي اليسار در...خطوة للخلف... أربعات تشكيل .. سريعا قف... تعظيم سلام}ص24، في تدريب الخفر، مؤكدا علي الخفر السمع والطاعة وعدم المناقشة، وهو ما يقودنا ببساطة إلي الحياة العسكرية، التي سادت الكثير من الدول العربية.
يعيش شيخ الخفر دوره في فرض سيطرته علي الخفر، وعلي البلدة، بالعنف، والإهانة، مستخدما مامنحه الناظر له من سلطة، فبدأت الهدايا تنهال علي بيته، واصبح محط آمال كل ذي حاجة، ويتطاول علي أحد الخفر مؤنبا ليعترض عليه هذا الخفير، فيأمر الناظر بفصله، وتجريده من الزي المميز. وبعد أن تطاولت تجاوزات شيخ الخفر، وفاحت روائح أفعاله. وبدأ الغضب يعم ويهدد الضيعة، يعقد الناظر محاكمة شيخ الخفر، لتنتهي بفصله. ويبدأ الهمس عمن سيخلف شيخ الخفر. ليفاجئ الناظر الجميع بتعيين الخفير المفصول شيخا جديدا للضيعة، وسط ذهول الجميع.ولم تكن مسيرته بأفضل من سابقه، ويزيد عليها أن يعم الضيعة بعد ذلك الكثير من السرقات، والاعتداءات التي تصل لبيت شيخ الخفر نفسه، فلا يري شيخ الخفي، ومعه الناظر، بتكليف الخفر بالتجسس علي بعضهم البعض. ولينقسم الخفر علي أنفسهم، فمن يتشيع لشيخ الخفر الجديد، ومن يتشيع لشيخ الخفر السابق، إلي ان تقوم معركة بين الخفر، فيسرع الناظر، للحيلولة بين ما يحدث، ويضع صوته بين الجميع، ثم لتطاله هراوة من الهراوات المتداولة في المعركة، فخر مثخنا بالجراح، وليصبح مشهد الضيعة {شمل الضيعة خمول وتخاذل وانهيار. ثمة أناس داخل الأكواخ وخارجها، طحنتهم المعركة وأدمت أوصالهم، فهم يلمون شعثهم، ويعالجون جراحاتهم.. وثمة أمتعة مبعثرة أمام الدور، وأنقاض ما تهدم من جدران تجوس خلالها الكلاب متشممة في خوف وحذر}ص35. وتنتهي القصة بما يمكن قراءته في ظل قراءة التاريخ، بما حدث في يونيو 1967، والتي انتهت بالانكسار، أو الموت المعنوي ، للناظر الشاب، الذي إعتمد علي { لليمين دور... للشمال در.. صفا .. انتباه.. تعظيم سلام)، أن رؤية القصة تنصب علي الحكم العسكري الذي بدأ في مصر، وسري في العديد من دول العالم. كما أن فيه الرد علي ما أشرنا إليه سابقا من السلفية السياسية، حيث أنه رغم تلك الإشارة من القصة، لازال هناك الكثير ممن ينظرون إلي تلك الفترة علي أنها الفترة الذهبية في حياة مصر السياسية.
و نظرا لأن رؤية الإنسان قد لا تتغير، في الأغلب الأعم، فإنه يمكن الربط بين فرعون وهامان في القصة الأولي "اللهم إخزك يا شيطان" بالبحث عنهما في "شيخ الخفر"، وسوف لا نعدم وجودهما فيها. ولنعلم أن السياسة لابد تكمن في العمل الإبداعي، شئتا ذلك أم لم نشأ.
محمود طاهر لاشين (1894- 1954) ولد بحي السيدة زينب، ليشترك مع محمود تيمور في سنة الميلاد وحله. كما تفرغ للكتابة قبل وفاته بعام واحد. وعلي الرغم من السعة النسبية في العيش، إلا أن وظيفته- كمهندس في مصلحة التنظيم، اضطرته للتنقل كثيرا في وسائل المواصلات – منحته فرصة الاحتكاك بالناس، والتعيش مع حيواتهم. كما ساعده نهمه للآداب الأوربية – الإنجليزية والفرنسية والروسية- في توسيع رؤاه للفن والحياة، ما انعكس علي وقوفه كأحد مؤسسي النوع الأدبي الجديد –علي مصر- وهو القصة القصيرة. الذى يقول عنه يحيى حقي في مقدمة «سخرية» بما يكشف عن خصائص المرحلة، ممثلة في قصص لاشين {كان لابد أن يتحول الأدب من النزعة الرومانسية إلى صرامة المذهب الواقعي، وأن يتخذ من رجل الشارع والفلاح أبطال قصصية، هذا هو تفسير نشأة المدرسة الحديثة، مدرسة المذهب الواقعي الذي كان محمود طاهر لاشين نجمها المتألق}
ومن مجموعاته: سخرية الناي 1926، يُحكي أن 1928، وصولا إلي مجموعته الثالثة والأخيرة "النقاب الطائر" 1940.
ونضع اختيارنا لنموذج كتابة لاشين، علي قصة "حديث القرية"[7] من مجموعته الثانية "يُحكي أن" والتي تقع في منتصف إنتاجه من حيث الترتيب فقط، وإنما من حيث مستوي الكتابة. حيث تعبر عن الكثير من خصائص القصة عنده، كما أنه لم تكن السياسة بغائبة عنها، وهو ما يحقق مبتغانا {ولابد من القول أن المشاكل التي عالجها طاهر لاشين في قصصه لم تكن كلها مشاكل إجتماعية، بل كانت هناك مشاكل سياسية وإنسانية ونفسية أيضا}[8]ص146.
فأولا تمتد القصة طويلا، ككل قصص لاشين خاصة، وقصص هذه الحقبة بصفة عامة. وهي تتناول زيارة قام بها السارد مع صديقي، وهناك كانت الجلسة الكاشفة عن العودة للرؤية الأفلاطونية للدولة المنقسمة إلي دولتين، أيا كان حجمها. وهما هنا، دولة المدينة الناعمة، ودولة القرية النائمة. ويسعي السارد لإيقاظ النيام، ليقع في الحسرة واليأس، حيث وجدهم من أهل الكهف، النائمين طويلا، تحت سيطرة الجهل، والجمود، بقياة واستسلام للرمز الديني، الذي كثيرا ما تستخدمه الحكومات، في قياد الشعب، وخاصة تلك التي في القري.
ولننظر إلي تلك الحالة المزرية التي عليها حال الريف، يصفها القاص في بداية قصته:
{ دعانى صديقي إلى أن أزور قريته معه لنقضي يوم الجمعة في أحضان الريف وليقضي بعض مصالحه، فذهبنا، وثم لقينا نضرة وسرورا. ولكن تلك النظرة التي تفتن ابن المدينة في لانهائية الريف، وذلك السرور الذي يغمر كيانه ووجدانه حين يرى الطبيعة تتهلل له أيان ولى وجهه، كانا مشوبين عندي بالرثاء للفلاحين أنصاف العرايا, وهم مكبون على الأرض يعملون فيها الفؤوس أو المناجل,مكدودين يتصببون عرقا في أوار القيظ، وللفلاحات القابعات في ذلة لدى الأكواخ المتحذة من الطين والبوص، وكنا إذا سرنا في الطرقات الضيقة الملتوية فأشرفنا عليهن، تداخلن بعضهن في بعض، وتحجبن عنا بخرق بوال، حملت من تراب الأرض بقدر ما تحمل الأرض، والأولاد الصغار أنصاف عرايا كآبائهم، قذرون كأمهاتهم، يرتعون مع الماعز والفراخ في تلك العراجين، وفوق أكوام التراب، أو حول البركة الآسنة المحاورة}.
وواضح أن صاحبنا السارد لم يرتح لتلك الشواهد، فلما جلس إليهم يحدثهم بنا يُفَعِل الثورة في نفوسهم، انشغل الناس عنه، ولم يفهموه، فاستدعي مأذون القرية، الذي استمع إليه طويلا، ثم عقب:{ تنزل بنا المصائب فلا نبكي. وعدم البكاء من جمود العين. وجمود العين من قسوة القلب. وقسوة القلب من كثرة الذنوب. وكثرة الذنوب من بسطة الأمل. وبسطة الأمل من حب الدنيا. وحب الدنيا مصدره الإرادة. أى أن إرادة المخلوق كل شئ، وإرادة الخالق جل وعلا. لا شئ .. وأجال بصره في سامعيه فطأطئوا رءوسهم، ومصوا أشداقهم حسرة وألما. فرنا إلي صديقي وقال بصوت منخفض: هذا رجلهم .. لقد دهمت عقولهم فلم يفهموك. أما هو فيخاطب قلوبهم. وها هم أولاء كما تري..}. ثم يضيف الشيخ، ضاربا علي الوتر الحساس، غير القابل للمناقشة، خاصة لدي أمثال هؤلاء، وتكشف عن سطوة رجل الدين، وكيف أنه يسير بالعامة وفق ما يريد {الأفندي يا جماعة هدانا إلي فكرة طيبة، اسمها الإرادة. بمعني أن الواحد إذا أراد شيئا فما عليه إلا أن يقول له: (كن) فيكون} وكأن الموروث الثقافي المتأصل في نفوس ألئك المقهورين الراضين بحياتهم، قد انتصر علي روح العقل، وروح العصر، وليتحول الوصف الخارجي الذي تميزت به الواقعية، إلي الاستبطان، وصولا إلي الدوافع والثوابت الكامنة داخل النفوس.
عيسي عبيد ( - 1923).صفحة مضببة من مسيرة القصة المصرية القصيرة، وإن كان د.صبري حافظ قد حاول إخراجها من ظلمة الأضابير، وأزاح عنها تراب الزمن، بمحاولته في تقديم وإعداد مجموعة قصصه القصيرة الكاملة في كتابه بذاكرة الكتابة بالهيئة العامة لقصور الثقافة. ورغم كتابة الكثيرين عن عيسي عبيد وشحاته عبيد إلا أن أحدا لم يستطع تحديد تاريخ محدد للميلاد، وإن تم تحديد سنة الوفاة لكل منهما. وهو ما يعكس تلك الندرة في الحصول علي كتابتهما. إلا ان كتابتهما، خاصة عيسي عبيد، الذي عاصر محمد تيمور، ومات مثله دون الثلاثين من العمر، تعكس تلك الرؤية التي أصبحت عامة، للإبداع القصصي لتلم المرحلة، وتشربهما لأفكار ورؤي التويريين فيها، وخاصة قاسم أمين، صاحب كتابي : تحرير المرأة 1899، المرأة الجديدة 1901. وهو ما يتجلي في قصة "إحسان هانم" التي تحمل عنوان أولي مجموعاته، التي لم تتجاوز اثنتين، ففضلا عن تبنيها، أو إيمانها بما نادي به قاسم أمين في كتابيه، فإنها كاشفة عن الجديد الذي قدمه هو ومجموعة التأسيس في القصة القصيرة، مستفيدين من التعرف علي الآداب الأوربية، بمساعدة اللغة التي أجادوها جميعا، حيث كان عيسي عبيد يجيد الفرنسية- أيضا- واطلع علي كتابات الفرنسي "إميل زولا" (1840- 1902) كأحد من اهتموا بالمذهب الطبيعي، أو الواقعي الذي قامت عليه مرحلة التأسيس في مصر في تلك الفترة.
- أنه ليس جديدا ولا مقحما، أن ندخل إلي قراءة عيسى عبيد بالقراءة السياسية، إذا ما عرفنا أنه أهدى هذه المجموعة "إحسان هانم" إلي زعيم الأمة، ورمز الكفاح والتحرر "سعد زغلول"، وهو ما أشرار إليه عباس خضر[9]{ونلحظ كذلك في قصص الأخوين الوطنية المصرية الصادقة التي أشعلتها ثورة سنة 1919 حتي لنجد الصور الوطنية تطغي علي فنية القصة وتخرج عن مقتضيات الأصول القصصية .. وقد أهدي عيسي عبيد مجموعته الأولي "إحسان هانم" إلي سعد زغلول قائلا في الإهداء" إن وطنيتي دفعتني أن أهدى لمعاليكم باكورة مؤلفاتي إعترافا لما أديتم من الخدم الوطنية الجليلة التي سجلتها لكم الأمة المصرية علي صفحة فؤادها الخالدة"}ص134.
إلي جانب اهتمام عيسى عبيد بالمنطق في معالجة الظواهر، كانت ثورته، مع أبناء جيله الثورة علي الرومانسية، التي يرونها خيالية، ولا تعكس الحياة المعاشة، وهو ما ضمنه قصته المذكورة "إحسان هانم" {أتتذكرين يا عزيزتي كيف كنا في فجر شبابنا الأول نطالع معا روايات الكتاب الوجدانيين الخياليين الذين تناسوا حقائق الحياة المرة القاسية فجنحوا إلي الخيال الساذج الجميل فحلق بهم فوق هذا العالم الشقى. لقد كنا نطالع بشغف جنوني رواياتهم المملوءة بأقاصيص الحب الذي طهروه من أدران المادة وجعلوه رمزا للسعادة وعنوانا للمثل الأعلي.. فأوحت لي تلك الروايات الوجدانية أن الأسرة المشادة علي الحب تظل قوية راسخة أمام عاصفات الحياة لأن أسباب الطلاق وتعدد الزوجات وكل العيوب التي تنخر وتهدم الأسرة المصرة ترجع كلها بدون استثناء إلي عدم الثقة والحب بين الزوجين}. فقد قامت القصة علي رسالة تبعثها "إحسان هانم" إلي صديقتها "دولت" تشرح فيها أسباب طلاقها الثاني، رغم أنها لازالت في ريعان شبابها، لعدم التوافق بينها وبين من تزوجتهما. ففي الوقت الذي تسعي هي فيه إلي الوجود المعنوي، من الحب والتفاهم، إلا انها وجدت علي الجانب الآخر، حياة مادية بحتة، تنظر للمرأة علي أنها للمتعة الجسدية فقط، وأن الرجل من حقه من الزوجات أربعا، بخلاف ما يلجأ إليه البعض بحثا عن المتعة في أماكن أخري. ثم لا تلبث أن تلقي بالائمة علي المرأة أيضا، ممثلا في صورة الأم التي تري أن مجرد وجود الرجل، حتي لو كانت لها أكثر من "ضرة"، فهو فضل من ربها علي الستر و(السعادة). ولا شك أن مصر تلك السعادة المزعومة، والسكون والاستسلام، يعود في حقيقته لما يمكن أن يمثل هدم للمرأة جراء ذلك الطلاق، حيث لا تكفل الدولة لهن ما يحافظ لهن علي سبل الحياة الكريمة، مهما كان (الظلم) الواقع عليهن، من الطرف الأقوي، الرجل { وفي الحقيقة يا دودو أن تلك المرأة النكودة الحظ لا تكون زوجة ولا تعتبر نفسها كذلك لأنها اليوم مع زوجها وغدا تصبح غريبة عنه، اليوم فذى هذا المنزل وغدا تُطرد منه، فهذا التخوف الدائممن الطلاق يقضي علي كل أثر للثقة والحب ويربى في نفسها استعدادا مخجلا خطرا إذ يصبح كل همها اغتنام الفرص وإعداد العدة للمستقبل حينما تطلق فتساخ جلده بطلباتها المتتالية الجنونية} وهو عينه ما يؤدي إلي فشل الحياة الأسرية، وحيث الأسرة هي نواة المجتمع، ومجموع الأسر هو المجتمع. وهو ما يضع القصة في نوع التمرد الداعي للثورة علي الأوضاع والبحث عن الحياة الأفضل، وهو ما اعتبارناه في دراسة لرواية المرأة العربية[10]، وثيق الصلة بالحياة السياسية.
ويتفق مع تلك الرؤية، تلك الرؤية التى نجدها في قصة "الإخلاص" من المجموعة الوحيد لأخيه
شحاته عبيد "درس مؤلم" الصادرة في ذات العام الذي صدرت فيه مجموعة أخيه عيسى "ثريا" (1922). وتقول المصادر أن الأخوين في الأساس شاميين، استوطنا مصر. وهو ما يمثل شيئا من الاختلاف بينهما – معا- وبين الرواد في رؤية المجتمع والمرأة، حيث نجد صيغة أخري من العلاقة، والانفتاح بين الرجل والمرأة، الأمر الذى يكشف عن الارتباط اللصيق، والوثيق بين الكاتب، وما يكتب، وكيف أن تنشأته في بدايات العمر، تظل لصيقة بوجدانه، ولا يستطيع الهروبأو الفكاك منها. وهو ما تكشف عنه قصة (شحاته عبيد) " الإخلاص". والتي تقوم –أيضا- علي خطاب، غير أنه هاهنا، ليس من إمرأة لإمرأة، ولكنها من إمرأة "السيدة لولو"، لرجل "ألبير سعادة" وحيث يكشف اإسمان أيضا إلي إختلافهما عن الأسماء المصرية المتداولة. بل وليست من إمرأة عادية، كالنساء المصريات في ذلك الحين، ولكنها بائعة الهوي. تعاتبه فيها، أن أذاع عنها ما هو بالفعل حقيقة، ولكنها تلتمس لهذ العذر، بانه لا يعلم حقيقة ما رآه منها.، فتخبره { نعم فأنا كما زعمت... أقول ذلك بكل صراحة، وإن كان يمكننى أن أدعي أن من رأيته معي في العربة وكيل محامى الذي وكلته في القضية المرفوعة بينى وبين زوجى، وخروجي من الفندق نهارا الساعة الحادية عشر لا يدل على ريبة، بل كنت أزور عائلة من الصعيد مرت بمصر قاصدة الأسكندرية لتمضية فصل الصيف. قد كان يمكنني أن أقول ذلك لك ولسواك ليرتب من يشاء أن يرتاب و يصدق من أراد، ولكن ما فائدة الكذب؟ وممن أخاف لأكذب؟ إنما ساءني أن تذيع الأمر أنت، لأني أعهدك عالي الهمة شريف النفس تأبى عليك مروءتك منازلة امرأة، والانتقام منهابتلطيخ سمعتها}[11]. فصورة المرأة هنا مختلفة عن الصورة التقليدية لها في النماذج المصرية، التى لا تمتلك تلك الجرأة، وتلك الصراحة، التي تواصل بها الإعتراف بحبها له، وتلك العلاقة التي سعى إليها، غير أنها رفضتها، لا كرها ، فهي تعترف بحبها له، وإنما إحتراما لوالدته التي أكرمتها، رغم معرفتها بما تمتهنه من عمل. لنصبح أمام رؤية مغايرة –أيضا- للمرأة التي تلتمس العذر للآخرين، حتي لو كانت مهنتهن ليست من تلك المهن(المحترمة) في رؤية الغير. ولذلك فهي ترفض العلاقة من الإبن، لما في ذلك من خيانة، لمن أحسنت إليها { فلماذا لا أختارك أنت بدلا من غيرك؟.. وأنت متيقن من ميلي إليك وإن لم أبح لك بذلك، فنظراتي كانت تنطق بأنب "أحبك" واستسلامي لك أحيانا وقد أنساني الحب عزمى وفل من إرادتى،فأتركك تمر يدك علي جسدى وتداعبني مداعبة تثير فيك حواس الرجولة؟ لا.. لا ي ألبير لم يكن خلاعة منى وأشهد الله ... نعم إنى أحبك، واحبك من كل قلبىالثائر المضطرب، وأود أن أضمك بين ذراعى وأقبلك ر تلك القبلات الباردة المثلجة، ولكنقبلات الحب النارية، وأمتص رضابك وشفتيك وأسلمك نفسى ثملة بحبك، ولكن واأسفاه، ذلك لا يمكن أن يكون .. لأنني لا يمكن أن أخون أمك، وأدنس بيتا وطأته قدماى، نعم إني مثقلة بالعيوب والرذائل..فلتكن لي علي الأقل هذه الفضيلة، فضيلة الإخلاص لتلك المرأة المحبوبة الشريفة التى فتحت لي أبواب بيتها}. ولم تكن تلك الجرأة، جرأة متهورة من إمرأة إحترفت بيع الجسد، وإنما هي جرأة محسوبة، سعت بها لحفظ كرامة الطرف الآخر، كي يحترم قرارها، من جانب، ومن جانب آخر، كى لا يتسغل ذلك الاعتراف في المزيد من الإساءة إليها، حين تخبره، أو تطلب منه، دون مباشرة، ان يمزق تلك الرسالة، حتي لا ستغلها زوجها في قضيتهما {هذا ما دفعنى لأن أكشف لك عن ضميرى كتابة فأشفي جروح عزة نفسك من رفضي، ولتقدر مركز هذه المرأة التى تحبك ولم تُخلق لمثل هذا الحب، اكتب هذه الرسالة التي فيها إقرار صريح منى بكل ما يتهمنى به زوجى غير وجلة ولا هيابة، لأنى واثقة منك وثوقا تاما، ولا أظنك بعد قراءتها إلا مقدمها طُعمة للنار، حتى لا يطلع أحد على أسرارنا، ويكون لنامن سرنا المكتوم المندفن بين صدرينا لذة خفية لنا. ألف قبلة لا نستطيع تبادلها في الحياة}. فهذه القصة، رغم تناولها لبائعة هوى، إلا ان العلاقة السامية، الحب المعنوى (الإحساسى)، يطغى فيها علي الحب (المادي) {لم يبق من نتيجة لحبنا إلا أن أنيلك غرضك منى مرة أو اثنتين فإن زادعلى ذلك وقعنا فيما نخشاه وهذا لا مكننى أن أقبله ولا أريد أن أضع من نفسى موضع هؤلاء الرجال الذين اضطر إلي الالتجاء إليهم.. لا أريد يا ألبير أن أكون آلة لهواك وحسب، فهذا يؤلمني ويؤلمنى كثيرا}. كما لا يغيب عنها، وجود القيم المجتمعية، والتي تتمثل بصورة واضحة في مقاومة الذات، حفاظا على الإخلاص.
- يعترض البعض علي إشتمال مثل تلك القصة بالرؤية السياسية، إلا ان معاناة تلك المرأة، من جانب الزوج الذى لا يمنحها إحتياجها الإنساني، من جانب، ومعاناتها المادية (سبل المعيشة) ما يكشف عن وجود خلل بالمجتمع، وترى، من المسؤول عنه؟. أليست هذه صورة كاشفة عن مآساة تعيشها طبقة من المجتمع {إنى إن تاجرت بعرضى، فلكى أعيش ولا صناعة بيدي أسترزق منها، ولا أحسن عمل شئ سوي هذا ..وماذا ينتظر ان تفعله امرأة هجرها زوجها، وعند ألا يعيطها شيئا، وهويعلم أنها بعد أن تبيع القليل من الأثاث الذى بقي لها. غنك تعرف أننى كنت من بائعات الهوى عندما قلبنى فوزى فأحبنى وأحببته،.. ولقد كنت أظن أن هذا الحب يدوم وأنى سأصون البقية الباقية من عرضى فلا أفرط فيه، مجت نفسى حياتى الأولى، ولكن طبع زوجى الهوائ واعتياده التنقل من شجرة لشجرة، وحبسى وحيدة في منزلى، وأخيرا وقوعه أسيرا فى شراك الحب الذى نصبته له "ليونى"، أدى إلى افراقنا أبديا وأراد أن يحوجنى حتى لا أرى من وسيلة إلا رجوعى لحياتى الأولى، ليتخلص منى ةيثبت على الزنا، فلا يضطر لأن يدفع لى ما يوجبه القانون على الرجل لامرأته. فماذا تنتظر أن تفعل مرأة في مركزى؟}.
محمود البدوي (1908- 1986) المولود في إحدي قري أسيوط وتلقي تعليمه فيها، إلي أن وصل في تعليمه إلي كلية الآداب بالقاهرة، غير أنه لم يكملها، وأراد التفرغ للكتابة.
توفيت والدته وهو في السابعة من عمره، بينما كانت هي في الثلاثين من عمرها، الأمر الذي انعكس علي رؤيته للحياة، فضلا عن انعكاسها علي كتاباته التي تأثرت أيضا بسفرياه إلي كل من الهند والصين واليابان. كما مكنه استمراره في الحياة الأدبية، -علي عكس كل من محمد تيمور وعيسي عبيد- أن يقدم الكثير من المجموعات القصصية التي أخلص لها.
وكانت {القصة القصيرة عند محمود البدوي ضرورة حياتية ملحة بالنسبة له كما كانت قضية عشق مارسها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني ودلالات ، وهو ما بدا من هذا النتاج الغزير الذي ظهر علي صفحات الدوريات الأدبية المختلفة ومن خلال مجموعاته القصصية التي منها: العربة الأخيرة 1948، حدث ذات ليلة 1953، العذراء والليل 1956، الأعرج في المينا 1958، الزلة الأولي 1959، غرفة فوق السطوح 1960، حارس البستان 1960، زوجة الصياد 1961، ليلة في الطريق 1962، الجمال الحزين 1962، العذراء والوحش 1963، مساء الخميس 1964، صقر الليل 1971، السفينة الذهبية 1971، الباب الآخر 1977، صور الجدار 1980، و السكاكين 1985}[12]، والتي نتخير منها قصة "في القرية".
ففي القصة القصيرة /الطويلة "في القرية"[13] والغير محدد لها تاريخ معين، غير أن إسلوبها، ولغتها يؤكدان إنتمائها إلي بدايات القرن العشرين، حيث بدايات القصة القصيرة في مصر. فنلحظ وجود الكاتب بشخصه، ولغته داخل القصة، كما نلحظ السير الوئيد في حركتها، والاعتماد علي الوصف المستفيض، والدقيق، الذي يرسم الأجواء، بما يسير بالقصة نحو الهدف المرجو، أو ما يسعي الكاتب إليه من رسالة ، يبعثها لمن يهمه الأمر/ متجاوزة الإطار الزمني المتعارف عليه في القصة القصيرة حاليا، بالشكل الذي يقربها من الرواية. فإذا ما قرأنا هذه الفقرة، الكاشفة والجامعة لتلك الخصائص:
{وطالت أيام مرضى.. فلم يكن هناك علاج ولا طب، فقد تركت نفسي لرحمة الأقدار.. وتطور الجرح، وأصبت بالحمي، وكنت أهذى طول الليل في غرفة حقيرة قذرة ليس فيها نور، ولا هواء، ولا تراها عين الشمس، فلم يكن فيها غير منفذ واحد، وهو بابها الصغير! وكانت الحشرات تمرح فيها في الليل، والذباب يملأ جوها في النهار، والروائح الكريهة تنبعث من كا مكان.... فأي حياة يحياها الريفي المسكين.. إنه إذا عاد من الحقل، وجخل البيت، أو ما يسمى بيتا شعر بالاختناق، ولكن حسه يبلد علي مر الأيام، وعينه تألف القذارة، كما يتعود بطنه الجوع. فإذا مرض ورجعت إليه مساعره من جديد، وذكر المدينة وما يجري فيها.. وراح يتصور القصور الشامخة، والحدائق الغناء.. والمستشفيات والأطباء في كل مكان في المدينة ..... فيول للمظلوم إذا شعر بأنه مظلوم}.
فإذا كانت القصة تعرض لحياة فلاح أجير يعمل مع تسعة آخرين في قرية غير قريتهم، وتتعرض القصة للبؤس الذي يعيشه من فقر، وغافة، في حالي الصحة ولمرض، ليس لهم في نياهم إلا العمل.. والعمل. غيير أن إحتياجه الإنساني، يتفجر عندما يري غجرية تشرد عن سرب الفلاحات يملأن الجرار من النيل، تشده إيها بنظراتها الجريئة، بينما الخوف والحذر يشلان حركتها، غير أن الغريزة تشده إليها، حتي تقدم له نفسها، وليكتشف أنها تملك من الجرأة والشبق، ما هو فوق علمه وخبرته المعدومة، ثم يصيبه المرض، الذى يشل كل رأس ماله، قوته، التي يعتمد عليها، في العمل، وفي هذه التجربة الجديدة.ولنتبين أننا–أيضا- أمام دولتين منفصلتين، داخل الدولة الواحدة، دولة الفقراء، في الريف، والتي يسعي الكاتب للتأكيد علي إنسانيتها، وما يعنيه من إحتياجها، وحقها في الحياة، فحيث يتمتع الفلاح بالصحة والقوة، ولا علاقة له بالمرأة في تلك القرية التي يعمل فيها أجيرا، يتلقي نظرات من غجرية، يتقلب الليل والنهار شوقا إليها، وأصبحت محط أحلامه في الليل وفي اليقظة، ليصرخ {أنا رجل من لحم ودم.. رغم كل شئ.. ورغم ما فيَّ من قوة الأعصاب.. وأنا إن كنت ريفيا خشنا لم يخفق قلبي خفقة الوجد، ولم أنعم في ظلال الروض بنسيم الحب وشذاه.. ولكني رجل.. رجل في ربيع عمره، من لحم ودم.. ذاق قسوة الحرمان عدة سنين}. فنحن إذن أمام رؤية سياسية أفلاطونية، عاش فيها الكاتب تجربة الريف، ولينتقل إلي عالم القاهرة في مجموعة جديدة من المجموعة المصنفة "قصص من القاهرة" لتختلف اللغة عن تلك التي كانت بالصعيد، وليعايش فيها حياة القاهرة، إلا أن الرؤية، لا تغيب، حيث تكن السياسة في الخلفية، ويقف القانون عاجزا أمام التعاطف الإنساني، وليقف القانون الصارم، بشكله، حائلا أمام روحه.
في قصة " القاضي"[14] نتعرف علي القاضي الذي سكن أحد الأحياء الشعبية، دون أن يُعلم أحدا بوظيفته، يعايش أعمال البلطجة التي تجري في السوق، حيث يقضى هو وزوجته إحتياجاتهما ببانفسهم منه، يري به ما لا يرضى عنه ،وتتعرض زوجته لما تعرضت له حيث{ بان بأن بائعا جذب من يدها كيس الفاكهة بغلظة وفظاعة وأخذ يبرطم لأنها ردته بلطف لغلوه في الثمن.. منعها زوجها من وقتها أن تتعامل مع هؤلاء لأنه لايحب أن يتدخل في أمر من اختصاص البوليس.. وإذا كان البوليس غير موجود في هذه الأمكنة، فهو لايستطيع أن يوجده}. فاعتمد هو علي نفسه في توفير تلك الاحتياجات.
إلي أن رأي واحدة قد جلست بالقرب من المنزل، تبيع الفاكهة، فبدأ الشراء منها مستحسنا تعاملها، وعلم منها أنها كانت تقيم بالسوق، ففرض البعض عليها (إتاوة) بينما هي تجري علي رزق أيتام مات أبوهم، فاستخرجت بعد جهد رخصة الإقامة في هذا المكان. ولما علمت بأنه جار لها، أبت أن يحمل هو الأغراض ،فبدأت بتوصيلها بنفسها إلي البيت، وحاولت الزوجة أن تختبر أمانتها، فقامت بوزن بعض الإحتياجات بعد إحضرها، فشهدت بأمانتها. ثم يوما جلس القاضي مع زوجته يتبادل الحديث لتخبره بأن "فتحية" جاءت اليوم لهم بكوز ممتاز. ليتذكر الأستاذ عبد العظيم أن هذا الاسم مر عليه اليوم في قضية. غير أنه أول مرة يعلم أن من تحضر لهم الفاكهة، اسمها "فتحية". لنتبين بعد ذلك أنها مبالفعل من كان ينظر قضيتها اليوم، وحكم عليها غيابيا بالحبس والغرامة، بحجة مخالفة التسعير في العنب، ولتقسم أنها لم تبع عنبا هذا العام مطلقا. ولأول مرة يخبرها المحامي الذي تعاطف معها، قائلا لنفسه {تقع هذه المسكينة في الفخ الذي نصبوه لها.. وهناك مئات من التجار الجشعين يتاجرون في قوت الشعب، ويستغلونه بكل الطرق الشيطانية، ويفلتون من قبضة القانون بوسائلهم الجهنمية .. وكم كان يعرف المآسى التحي تحدث من الحكم الغيابي والوسائل التي يلجأ إليها أصحاب العمارات في هذه الأيام لطرد السكان. فالساكن في الجيزة يعلنونه في طنطا وفي قليوب، ويوجدون له عنوانا مفتعلا}. ويذهب المحامي إلي بيتها بالبشارة، وبعد أن خرج، راحت تبكى و{لم تكن تدري أبكت لإنسانيته التي هزت مشاعرها، أم لمصيرها الذي لم تكن تعرفه}.
ولم يكن الكاتب ليقتصر في قصته علي عرض وقوف القانون عاجزا أمام الحالات الإنسانية لنصبغها بالرؤية السايسية، وإنما عمد إلي بث الكثير من التسيب، والانحراف، الذي تصبح الدولة فيه بصفة مباشرة، هي المسؤلة عنها، وأن قصورا منها ادي إلي ظهور مأساة البائعة "فتحية". فلم تكن واقعة ما حدث لزوجة القاضي وحدها، وإنما { وكان الأستاذ عبد العظيم يسمع وهو يتحرك الشتائم البذيئة تخرج من الأفواه بسبب وبغير سبب .. وكان يسمع العراك .. ويرى سباق السيارات فى الشوارع إلى درجة جعلته يكره سيارته .. إنه يسمع بأذنيه الألفاظ التى يعاقب عليها القانون .. والتى تجر إلى السجن .. ويرى بعينيه فى كل خطوة يخطوها فى الشارع المخالفة التى تجر إلى العقوبة .. ولكنه لايستطيع أن يفعل شيئا .. إنه مقيد تماما لاحول له ولا قوة }.
محمد صدقى (23 مارس 1923 - ٢١ فبراير عام ٢٠٠٤)
من تاريخ الميلاد، الذى يوضح أن مدارك محمد صدقى القرائية، والتي يمكن أن تكون قد تفتحت مع نهايات الثلاثينات، وبداية أربعينيات القرن العشرين، قد تفتحت على ما هو موجود من فن القصة القصيرة، على أيدى من سبق أن تحدثنا عنهم. والتى –فى الغالب- لم تكن قصيرة إلا من حيث المساحة الكتابية، إذا ما قيست بالرواية، والتى كانت تحمل رغبة (الحكى) والوصف، الذى تعددت معه صفحات القصة( تجاوزت قصة البداية "ابتسامة القمر" فى "شرخ فى جدار الخوف"[15] الثلاثين صفحة) إضافة إلى الكثير من التشعبات والاستطرادات، حتى وإن حافظت على الرؤية الكلية للقصة فى النهاية، فضلا عن امتداد المساحة الزمنية التي تغطيها، والتى تتجاوز السنين الكثيرة، والتى تحولت إلى (اللحظة) فيما بعد.
وإن كان محمد صدقى قد بدأ النشر منذ عام 1944، إلا أن أولى مجموعاته القصصية "الأنفار" لم تخرج للنور إلا فى العام 1055، وأتبعها ب" الأيدى الخشنة" فى عام 1957. والتى تنضح فيها –تلك العناوين- بيساريتها، والتعبير عن تلك المرحلة (الخشنة) التى عاشها فى بدايات حياته. حيث يقول د أحمد الخميسى عنه[16] { ولد محمد صدقي في 23 مارس 1923 بمدينة دمنهور في أسرة فقيرة حتى أنه طرد وهو في السادسة من المدرسة لعدم قدرة والده على دفع المصاريف . و مثل كل الصغار المطرودين من عالم النور إلي وحشية البؤس تقلب بين مهن مختلفة صبيا يتعلم الحرفة ويعلم نفسه القراءة والكتابة... واشتغل هناك في تفتيش الأمير عمر طوسون مع الفلاحين الذين يقاومون الآفات الزراعية. وعمل بعد ذلك في ورش عمالية صغيرة للخراطة والسباكة واللحام } .
وعلى الرغم من تلك اليسارية، التى كانت تتوافق مع ميول الحكم فى تلك الحقبة، إلا أنه تعرض لما تعرض له معظم أبناء ذلك الاتجاه، فى تلك الفترة. فكان الاعتقال من نصيبه - أيضا- حيث يوضح الخميسى ذلك { جرى عليه الاعتقال الذي جرى على كبار المثقفين اليساريين في مصر ما بين 1959 – 1964 فقضى تجربة التعذيب الرهيبة في الواحات والسجن الحربي ، حيث كان الضباط يجبرون د . عبد العظيم أنيس ولويس عوض والشاعر فؤاد حداد وزهدي الرسام وغيرهم على تنقية رمال الصحراء من الحصى والطوب وكنس مياه الأمطار ! عندما خرج محمد صدقي من المعتقل عام 1965 نشر " شرخ في جدار الخوف"(1964) ثم " لقاء مع رجل مجهول " عام 1966}. وهو ما يُستشف منه أن التربة التى ولدت فيها مجموعتنا اليوم "شرخ فى جدار الخوف" والتى كتبت أثناء الاعتقال (خرج 1965) هى معاناة المعتقل. الأمر الذى يدفع به الجموع لنبذه والثورة عليه، تلك الثورة (ثورة الوعى)، التى تعري الخوف الفطري الذى يتولد لدى العامة، ويستغله بعض ضعاف النفوس، وهو ما تقول به القصة الحاملة لعنوان المجموعة "شرخ فى جدار الخوف". والتى تدور حول "مروان" ذلك الفلاح البسيط، والذى ليس له فى أى شئ، لم يجد العمدة إلا تسليمه للمركز ، كسد خانة، على اعتباره قاتل لحادث قتل بالقرية، ، رغم علم العمدة بأن "سلامة" هو من فعلها، ومقابل ماذا، وتم الحكم عليه بخمسة عشر عاما، عاد بعدها مروان كشخص آخر، يحمل الغل والرغبة فى الانتقام، فمروان القديم النحيل الممصوص، أصبح {اسمر البشرة من شمس الجبل، بشوارب طويلة منفوشة وقسوة ملامح، وخشونة ألفاظ}. وبدأ الناس يتخوفونه، عندما راح يستعرض ما فعله بالمساجين، حيث صور لنفسه بعض البطولات، وبدأت رهبة الجميع بمن فيهم العمدة الجديد، ابن العمدة الذى ساقه إلى السجن {فى البداية كانت قد بدأت الحكاية بشكل مستور من جانبهم، فلما فهم هو الموضوع، استحلى خوف الناس منه، وانساق مع استعدادهم للخضوع لنصيحته، ثم الاستجابة لمطالبه، ثم بالعادة للخوف
منه .. وآه يا بلد.. تخاف ولا تختشيش.. حتى أصبح يطلب "الإتاوة" على المكشوف بلا غطاء، ولا قناع، بل لقد أصبح يهدد بقطع الطريق، بالقطط المشتعلة لغيطان القمح قبل الحصاد، وإغراق المحاصيل، وقطع المياه.. بل وتسميم المواشى أيضا}. وبدأ الناس ينسبون له كل فعل فى القرية، وهو لا ينفى، ولا يؤكد، و{كان قد أدرك بتجربته معهم منذ لقاء العمدة الجديد له، كيف أنهم جميعا فى القرية قد امتثلوا تماما للجرأة والقسوة التى توهموها فيه}. ورغم سيره ليلا فى القرية، وفى الغيطان، ببندقيته، إلا ان ذئبا، بدأ فى مهاجمة القرية، والاستيلاء على الطيور والبهائم. ومع تكرار حوادث الذئب، خشى مروان على سمعته، التى يمكن أن تضيع. سحب بندقيته، وانتظر على مشارف القرية، انتظارا للذئب، غير أن الذئب مر من أمامه، ولم يحرك ساكنا. وتكرر الفعل، وهو قابع طوال الليل، فى مدخل القرية (عند منطقة تدريب أفراد الجيش على النيشان)- رغم أن القصة كُتبت قبل نكسة 67- .
وكانت على الجانب الآخر "سعدية" بنت عم عبد الراضى، تملآ الجرار، وهو يترقبها كل يوم، ويمنى النفس، وهو لا يعلم أن "سعداوى" يحبها، وينوى العقد عليها، وكان قد وعدها أن يقدم لها مهرا كبيرا، الأمر الذى أضحكها سخرية، فمن أين يأتى بالمال؟ ليخبرها "سعفان" بأن المهر ليس مالا. ويستعير "سعفان" بندقية، ويربط للذئب، ويترصده، ليصيبه بأربع طلقات، ويجره من ذيله ليقدمه نهرا لسعدية، أمام القرية جميعها.
والقصة هنا لا تحتاج إلى تأويل. فالإشارة إلى السلطة (المنفوخة على الفاضى) هنا واضحة، ولا تتطلب مزيدا. غير أنها تظل شهادة أحد مظاليم الضباط الأحرار، الذين كانوا – حينها – يسيرون، وكل منهم يعلن أنه ليس على الأرض غيره. كانت تلك صورتهم الحقيقية التى رأها الكاتب، والتى تستدعى الرؤية الرمزية، التى تتفق وأيدولوجية الكاتب، والتى تجعلنا نرى (مصر) فى شخصية "سعدية"، والتى لم يستطع المنفوخ، أبو بندقية، أن يدفع مهرها، واستطاع "سعداوى" (الفلاح) البسيط، ما لم يستطع هو تقديمه ( وجاب الديب من ديله) وفق ما يقوله القول الشائع.
إلا ان رؤية –إنسانية، يمكن أن تحتويها القصة، دون أن تبعد عن ذلك النطاق كثيرا. وهى الرؤية المستخلصة من تجربة الاعتقال وما حدث فيه، وما يحدث منه، والتى نستخرجها من تلك الفقرة، التى تستبطن شخصية "مروان" ذلك الذى وقع عليه الظلم {الدنيا عندهم لابد أن يكون فيها القوى والضعيف، لأن الكون له نظام، ولابد من أحد يحكم مشاكله حتى تسير أمور الناس. حتى يوجد عمده يظلم واحدا مثله. ليبعد الشبهة عن السلامى القاتل الحقيقى، وعن الباشا، وليتخلص هو كعمدة من ضغط المأمور عليه حتى يجد قاتل سليم، وحتى يقضى هو الفلاح الغلبان فى الليمان أزهى سنوات الشباب فى عمره، ثم يخشاه بعد ذلك كل هؤلاء ساكنى القرية، بما فيهم العمدة القديم أيضا، وحتى يجد نفسه هو فى امتحان عسير كهذا، مفروض عليه أن يخرج بسببه للقاء ذلك الذئب الشرس}.
فعمران بهذه الرؤية يعبر عن الرؤية القدرية التى تُرجع كل شئ، للقدر والمكتوب. وأن ليس بالإمكان أبدع مما كان.
وعمران –أيضا –ذلك الشاب الذى قضى سنى الشاباب وزهرته، بين عذابات القهر الناتج عن الظلم، والعذاب الناتج عن الممارسات داخل السجن. والتى بالضرورة، أثرت عليه نفسيا، فبررت له استغلال حالة الوهم والاستسلام، التى رأي عليها القرية بما فيها العمدة نفسه.
وعمران –كذلك – الذى عانى من ظلم القرية التى لم تقف إلى جانبه، فى محنته، كيف لها أن تطلب حمايته لها الآن. فلتذهب جميعها إلى الجحيم، وليفعل الذئب ما يشاء.
وعمران _أيضا- هو الذى ذاق مرارة الذل، وإنكسار النفس في السجن، قد خارت عزيمته، وضاعت رجولته، فلم يعد قادرا على أي فعل إيجابي، فلم يقدم خطوة تجاه سعدية ، الإنسانة والرمز، وخارت قواه، وفلت عزيمته. فما يمكن أن ننظره من مثل من مر بتلك التجربة، أن يقدم لمصر؟.
فإذا كانت تلك هى نظرة محمد صقى، فى أحدث قصة بالمجموعة (تاريخيا، سبتمبر 1964)، فى مجتمع ما بعد يولية 1952، فقد كانت نظرته فى أقدم قصص المجموعة (تاريخيا – مارس 1951)، أي فيما قبل يوليو 52، والتى تقول بها قصة "حجر على سطح بحيرة". حيث البحيرة هى حياة "عزيز بيه"، وأما الحجر فهو الطفل، جامع أعقاب السجائر.
رسم الكاتب لوحة مجتمعية، من لونين، متقابلين، الأبيض والأسود. صور على الوجه الأبيض، صورة عزيز بيه، جالسا فى النادى، يعانى الملل، فراح يسترجع {أمس ..لا .. منذ أيام عثر صدفة فى قاع –بايو – حجرة النوم على – ألبوم الصور القديمة، فوجئ بشهادة ميلاده بين أوراق قديمة راح يحملق فيها.. يتأمل أرقام تاريخ قدومه للدنيا .. واسم أمه ألفت هانم .. وكلمة نوع المولود ..ذكر .. .... أنت الآن في الثامنة والثلاثين، ومع هذا .. أنت لم تفعل شيئا طوال عمرك تستطيع أن تحكيه بالرضا عن نفسك.. شيئا ذا شأن ، صوابا أو خطأ .. ما أنت إلا نسخة مكررة، صورة مهزوزة من المرحوم "عفت ناجى القبرصلى" بين قرف المدام وأوامرها الصارخة. والعزبة بفلاحيها، والنادى بما فقد طرافته فيه بالتكرار كل سنة، كل شهر. كل يوم .. لا شئ أكثر من الطين الذى ورثته عن أبيك، وحياة الفلاحين الذين لا يعرف أحد فى النادى أو فى البيت شيئا عنهم} ويمضى الكاتب كاشفا زواج عزيز بيه من "إنجى هانم" التركية، وتعليمه تعليما عاليا.
وعلى الجانب الآخر من اللوحة، جاءت الصورة الأخرى، باللون الأسود { بين العمودين.. فى إطارهما المزخرف كان عزيز بيه يتأمل باهتمام قسمات وجه الطفل} وكأنه أخيرا وجد ما ينتزع إهتمامه، صورة مخالفة تُخرجه من حالة الملل، والروتينية التى يعيشها {دون أن يشعر وجد نفسه يستند بساعده إلى جانب الكرسي الأسيوطى مطيلا نظرة المودة التى تضحك بها أساريره لوجه الطفل وعينيه العسليتين ..... أنف ذلك الطفل الصغير.. حاجباه الرفيعان المستديران والشفتان الموشاتان فى ابتسامتهما}. ويستدعى – عزيز بيه – الطفل بإشارة من إصبعه، فيتردد الطفل فى الاستجابة، وكأنه لا يصدق أن البيه يقصده هو. لكنه يستجيب أخيرا، ليسأله البيه عن اسمه {رمشت عينا الطفل، ثم مالت رأسه أكثر على راحة يده – صلاح.. قال عزيز بيه متوددا بفرحة اكتشافه لشئ هام : صلاح .. إزيك يا صلاح
-الله يسلمك
-ساكنين فين
-فى الحصافى
-فى الحصافى ... عند المدافن؟
-أيوه
-وأبوك بيشتغل إيه؟
-مابيشتغلش.. كان شيال، ودلوقت عيان.. رجليه نزلت فيها ميه .. مبيقدرش يشيل}.
وكان مع الطفل زميل له، يهمس فى أذنه : قل له هات قرش. لكن الطفل لا يستجيب {والنبى انت عبيط، جاتك خيبة}. فيجرى الطفل وراء زميله، ويختفيان عن عينى عزيز بيه، الذى كان قد جهز بعض القروش ليمنحها للطفل، حين جاء صديقه الباشمهندس عادل ليقول له { عامله إيه الكوليرا عندكو في البيت؟ سافاه .. هه ؟ .. بيقولى الجرسون إنك مابتسهرش بوكر بقالك يومين فى النادى.. حصل إيه.... مش البنت نعيمة سكر وصلت .. رجعت اسكندرية تانى.. تعال أما أحكيلك عن سهرة إمبارح وأول إمبارح واللى حصل قبل كده} . ويعود عزيز بيه إلى حياته من جديد، بعد تلك الإفاقة العبرة. أو بعد إلقاء ذلك الحجرؤ الذي حرك سكون حياة عزيز بيه.
فإذا كانت هذه رؤية المجتمع فيما قبل 52، وتلك كانت رؤيته له بعد 52، فكأنما يري الكاتب أن المجتمع المصري قد عبر عام 1952 هربا من أوضاع مرفوضة، ليدخل فى أوضاع مرفوضة، وكأنما هو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
[1] - د رشاد رشدى – فن القصة القصيرة – مكتبة الأنجلو المصرية – ط 2 يناير 1964.
[2] - عباس خضر- القصة القصيرة في مصر – الدار القومية للطباعة والنش – القاهرة 1966.
[3] - محمد تيمور – ما تراه العيون – مؤسسة هندواي للتعليم واليقافة
[4] - د. إبراهيم درويش- النظرية السياسية –دار النهضة العربية – 1973 –ص 83.
[5] - محمود تيمور – البارونة أم أحمد – دار المعارف بمصر سلسلة إقرأ العدد 289 .
[6] - محنود تيمور – مجموعة "دنيا جديدية" – المطبعة النموذجية
[7] - محمود طاهر لاشين – مجلة الكلمة (الإليكترونية) العدد رقم 1 – يناير 2007. ونُشرت لأول مرة 1929.
[8] - د. إبراهيم عوض – محمود طاهر لاشين حياته وفنه – مكتبة زهراء الشرق – القاهرة 2001.
[9] -عباس خضر- القصة القصيرة في مصر – الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة- 1966.
[10] - لكاتب هذه السطور دراسة قيد النشر بعنوان "رواية المرأة العربية وهموم الوطن"
[11] - عباس خضر – المصدر السابق.
[12] - شوقي بدر يوسف- متاهات السرد- دراسات تطبيقية في القصة القصيرة – محمود البدوي ونبض القصة
[13] - محمود البدوى – من مجموعة القصص المسماه "مختارت من "قصص من الصعيد" المُعدة بمعرفة ابنته ليلي محمود البدوي"- تحت مسمي "السكاكين - مكتبة مصر.
[14] - نشرت بصحيفة أخبار اليوم المصرية العدد 258 في 1984. بمعرفة ليلي محمود البدوى.
[15] - محمد صدقى – شرخ فى جدار الخوف" – دار الكاتب العربى للطباعة والنشر – كتبت قصص المجموعة ما بين عامى 1951 و 1964.
[16] - أحمد الخميسى- موقع ديوان العرب – 1 مارس 2004.