لم أدرك أنى كنت فراشة النار، لكنى استمرأت دفء الوهج الناضح من عينيه المسبلتين، انكفأتا على قلب مثقل من رف رموشه. للقلب أغنية لو تاهت فبالصدى يرتجع العشق الكامن من تشرب القمر لندى الفجر. ومن هذيان ارتعاش ظلمة تمطت فى ارتحال سرى الليل، لتلد معجزة لم ينطقها من قبل فجر.
كنت فراشة ولم أدرك. الليل موال ولم أدرك. وحلمي الذي كان طيفاً ولم أدرك. والطيف صوب خيال جامح حاول أن يدرك. وكنت أرقص على دفء قلبه المسبل العينين، وأنام على سطح حلمه الذي توهمت أنه بوح برودته فى وهجى. كنت حلمه فتصور أنى مس شيطانه قبل أن أصير استباق رؤى فى حنايا تبحث عن خطيئة باخلاص. لكل حلم لحن يسرنم فى الحنايا وللخطيئة أيضاً. تتنازعهما ريح لا تقدر على هوجها، وإن بقي لحن الخطيئة أو خطيئة اللحن روح تتجلى بدفع الريح. هى الرغبة فى سرى الليل ترتعش بالاستحالة وتهش للحنها.
البنت التى كانت يوما صغيرة. حلوة ومليحة ولها نبع لا ينضب فى ضحكتها، لها وقع فى خطوها يواقع نبض القلب ولا يتوقف لزمن. كانت تلعب فى باحة الكنيسة بفستان قصير، راحت تنسلخ عن جلدها الذي صار من هش ونار. هش طفولتها الراحلة ونار أنوثتها الزاحفة دون إدراك.
حين تجلت أنوثتها وأدركت ظلها المعلق فى الأفق، حاولت أن تجذبه أرضاً لم يهبط ولم يصعد بها. كان يفارق أبعد ولا يغيب عنها، وخيط الضوء يتبدى لها فى الشمس لهب، فى القمر سلويت. حين تحسست بكر أنوثتها اكتملت حولها هالة سؤال معلق. هل صرت ...؟ ولم تكن تدرك جيداً، لكن فى الطريق الأسئلة معلقة كمشانق.
البنت كانت فى السادسة عشر حيث القلب سراج لا ينطفىء. يشتعل فجأة بذاك الوهج ويستمد الضوء من غامض آت من طوايا بعيدة فى الروح تخفق دون فهم، ترغب دون روية، وتتبسم لكل تجلٍ وإن بدا وهمياً. تجتاحها رؤى من غائم ورد وحد ظلّ. ظل معلق يغيم ويتبدى. دون موهبة ذكاء، دون قصد غباء، دون تجل وإن تملح بنشوة حمق لذيذ وحارق لملمس مغامرة لا تدري كنهها.
رؤى العتبات لطفلة تحلم أن تهيم فتاة لتقتنص روح امرأة قبل أن تبلغ. انسلاخ المرأة عن جسد طفلة يأتى هكذا. المرأة تأكل طفلتها التى كانت ويطرطق داخلها حس انهيار ينبئ عن خجل ينتهي إلى زخم ثم إلى قفزة فى جحيم المجهول. كقرد مشاكس فى غابة أظلمت من فرط دغلها، وجدت نفسها تلمس أصابع الصمت وتخضع فى ورع أمام انكفاء صلاته على عالم آثر شجي اللحن وإن لمست ذؤاباته.
حين ذهبت للاعتراف على يديه، كان حلماً يراودها أن تتملى فى وسع عينيه. عينان من فرط قداستهما رغبت أن تتعهر لهما. صمت التوحد فى كيانه كان يدفعها لصراخ مكتوم. كيف لها أن تخترق العينين المسبلتين دوماً على روح منكفأة. لو أنه شاء أن يترك حدقتيه تسرحان قليلاً ولو فى الفراغ لتملأ عينيها منه. كحشرة العنبر وقد امتلكها السائل الروحانى فتجمدت فيه ولم تسأل عن روحها التى احتبست وصارت جوهرة فى الأبد. تمنت لو أنها تجمدت فى حدقتيه، لكنه لم يرفع جفناً.
- لم تر حدقتاه ولا بياض عينيه من قبل وإن تمنت. علها ترى طائر يعبره أو صورة تتملكه. خافت عليه وحزنت من سطو طيفه فراحت تقبل دوائر وهمية، كأنما تسبّح لربه أن ينزله من مملكته ليرحم وجدها ويدرك حس ارتعاش أظافر تمنت لو تخمش مملكته الهائم فيها.
فى الاعتراف الأول طأطأ الرأس يستمع لها. لم يكن له رائحة ولا ظل، سحر فقط. لمسها لغز نبر صوتها المكتوم ومس وتر العصب العارى منها. من يملك للقلب حراكأ، لكن الأدهى من يملك له ردعاً. كانت ترغب أن تحتضن وجهه بكفيها ككرة الأرض وتتطلع فى عينيه، لكنها لم تجرؤ. مست أطراف ذقنه المشعر بالبياض بحائط كفها المقلوب. مست خشن الذقن المكين فانسرب إليها حس سنبلة اشرعت اطرافها فيما تحتضن الحبات خوف أن تنفرط أرضاً.
ارتفعت رأسه بعينين مغلقتين كوجه المسيح لحظة المفارقة على الصليب. حاولت أن تفتح عينيه بنسم ريح خفيفة من فمها البندقى، لكنه لم يشأ. راحت تعزف لحنها على رموشه المشرعة رغم انكفاء الجفنين العلويين. ارتعش واشاح بحس خجل ينم عن غضب قديم اختبأ فى حرقة احتبست فى الأحشاء ولم تجرؤ على بوح الملكوت. ربما لأن ذئبة عمره اختبأت وربما ماتت فى الأحشاء بفعل القداسة، أو استحالت بفعل حواس لم تطأ أرض فعلها فغلبها الغامض.
أنا الفتاة البسيطة التى طالما نزفت الدمع يوم الجمعة الحزينة، والمسيح معلق أمامى على صليب طالما صلبت رغباتى المراهقة والمرهقة عليه ولم اجرؤ على البوح بنغزها. كما لم يستطع البوح بألمه حين وضعوا اكليل الشوك على رأسه المثقل بالعذاب. معذبة أنا، ضائع هو فى عذاباته. هو الذي من فرط عذابات الروح استحل الجسد ليدفع بالروح ثمن خطيئة لم يرتكبها. لمّ يجعلنى اتوارث ذل عذابات الروح في الجسد الحي المشرع على أبواب خطيئة لم ترتكب بعد. كنت روح خطيئة، وكنت ارغبها فهي الحقيقة الأكثر نبضاً. من يدلنى على وقعى.
باحت نفسي لأفق كان قد ناوشنى كثيراً. لماذا احتمل عذابات نبي هو يملك قدره؟ كانت أوجاعي قد بلغت مداها واغلقت على روحى، لكنى حاولت ألا أبدو كفتاة فقدت عذريتها عبر همس الآخرين.
- الأفق دوماً نقطة غامضة، وإن تطلع البشر إليها فإنهم يبحثون عنها فى أعمق ذواتهم. الطفلة حين تنفصل عن طفولتها وتودع إلى امرأة حتى قبل أن تبلغ كامل حس امرأة تشعر بنوع من اليتم. يتم شبه امرأة صارت بالهيام روح معلقة. وحين تبلغ كامل امرأة فإن مس النار فى حشاها يبلغ مدى احتراق لا يدركه إلا ريم لحظة الموت.
نفس النقطة تظل هائمة كنجم فى السماء يبحث عن مستقر فى شسع أفق لا يحد. فيما بين مصيرين كلاهما لست أنا. كلاهما قدر وأنا اصلى فيما بين قدس الأقداس وكهف الرغبات، لم أستطع إلا الانكفاء. نفس النقطة يدركونها أو لا يدركونها لكنها تظل هائمة وحائرة دون شفى جواب، أو شقو ارتحال فى السؤال الغامض. فيما بين صبرى على السؤال واختناق الروح المحاصرة صار لى وجهان، وجه ضحك مسطح، وجه حمق. فى الغيبوبة التى كنت استفيق منها واتماهى. كانت الصور تترى كمن يشاهد حياته منذ الطفولة على شريط مصور شائه.
تمنيت لو أننى كلبة تقدر على النباح حتى لو لم يعتبرها أحد. ليخرج صوتى منى ولا يختبىء كلص برىء اتهم فى زحمة عراك. بالجبن يخاف البشر النباح. رحت اعوى، ليس عن رغبة وإن كانت ملء الجوارح تعربد فى الحنايا، ولكن برغبة الفضح. لم أفهم من أين أتتنى تلك الطاقة على انفجار الصوت دون دمدمة. دمى احتبس فى خلايا ميتة منذ زمن حتى خلت أننى جثة مازالت تقدر على حبو المشى.
علمتنى غجرية سر الصوت التقيتها دون موعد. لم ترم ودعاً ولا أطلت من غفوتها أو تطلعت إلى سماء. كانت تنبش الأرض بعود جاف. لم تدركني حين كنت أحدق فيها نصف توهة بعض شوف. همست كأنما تحدث نفسها. "الصوت ابن صدى لم يلامس مدى، يتبادلان الحركة فى قاع واحد. فى القاع ترن كل الأصوات. في الصمت إيقاع خفي يدرك نفسه ولا يدركه أحد. حين يخرج الصمت للصوت لا يدركه إلا من كانت نفسه تطلب ضجيجاً. متى انتهى يصير الصوت إلى صمت ويرن الصمت صوتاً، ثم يتلاشى ولا يلبث يستجمع الأفق فى كفه ويعود صوتاً". كيف لى الخلاص من ذلك الوقع؟
وحدها الأنثى تبحث عن دمها بحس رجل يخجل من عورة وجوده، فيسجد لعورتها ويستبيح مملكة التوهة فى كيان خاف قرصنة خلاياه. هى من تتنسم الرجل لتتحرر من سطو جسدها المرهون بالأرض، فتتسامى إلى آفاق لم تبلغها. هى التى سجدت لروحها المطاردة من جسدها، وحيدة نداء تفح عطراً لم تستطع كبح فيضه.
من ذا الذي يدرك حس أنثى فى انكفاءها على نقطة دم فى دورتها، كأنها تحوم من داخلها إلى داخلها. هل يبلغ الدم الدم؟ هل يتردد صدى القطرة فى القطرة؟ من يدرك لى نهب ذؤابات شعر يصعد لضي القمر؟ كان صوت دمى عاصفاً، هل اعتذر أنى استمعت إليه؟ استمعت ولم ابح. حاولت أن أخمد الصوت في الحنايا، لكنه انفجر.حين دوى كانت هالة فى السماء. رأيتها كتلك الدوائر حول رؤوس القديسين. نفس الهالة كانت تدعونى أن انفجر بحواسى قبل أن تفيض روحى. نفس الهالة التى كانت لهم فى القداسة احسستها تهبط على كامل جسدى وتدفء الحواس منى. كنت احاول أ ن أدرك نفسي وابحث عنها، لكنى لم اتخيلها كرسم قدسى.
- أرانى فى منتصف لجة من دمى تنبىء عن نور. لكنه دم يتفجر نزيفاً ولا يتجمد فى صورة قداسة، دم قادر على الألم ولا يرتهن لصمت روح فارقت ولم ترس على مرفأ. شىء يدمدم بين همس وصفق يراوغ اجزائى وأنا تائهة بين حقى ورغبتى فى انكفاء نظرته الخبيئة.
لو يرفع جفنيه فأرى أى رعب ينطوى عليه. ترى هل كانت سوائل دمه تسأل القطر النازف منى. فيما بينى وبينه ستار من قطرات دم لا تنطق. لم أدرك ولم يدرك أيهما كان قطرى، أيهما كان قطره. لكنى اجزم أن لون دمى الزاهى كان يتدفق عبر شلال الساتر. يتخلل دمى قطرات من دم قانى تخثر فى خلاياه، وحين دفق بحس وجودى كان كبك الدم فى حلق محتقن وإن لم يبلغ الاختناق. لكنه أرسل أنفاسه عوضاً عن وسع عينيه على رؤى الحياة.
الصمت أصعب الأقدار حين لا تقدر. ليست المشكلة أنك تكلم نفسك أو لا تجد من يكلمك. الأصعب أن الإيقاع يسقط منك دون رنين. يرجع الصوت الآتى من حر أعماقى إلى انكفاء صمته على دمه المراق فى دمى. رفع عينيه قليلاً وراح يتأملنى. تحجرت عيناه الحائرتين. دهشت وبدوت كورقة جافة لفظتها شجرة نعمت بأخضرها والريح تسقطها على مدينة لا تملك سرها. دون رائحة صرت، دون احتفال بوقع اللحظة التى تمنيت فى ارتجاف تصورته، أو رشح عَرق بارد أو دافء. وقع شوك يدقدق، وكنت أفقد دمى واسترجعه في بصيص الضوء الخارج حثيثاً من عينيه الحائرتين. كأنما يواقع صوته الغائب على إيقاع مفاجىء. كأنه يأتى من صلاة بعيدة. حسي المحلق حوله وفى التضاعيف منه أدرك كلمة (آمين). تلك التى ربما توارثها الأنبياء عن آمون فتدحرجت عبر الزمن لتصير إلى المستقر الآمن للورع الإنسانى.
ــــ أبت.
حين نطقتها أدركت كم أنا يتيمة.
ــــ أبت.
وأحست بالريح ينساب كصدى لألف عام.
ــــ أبت.
اتاها صوت عصفور كلما أطلق صوته تنتهي تمدداته في رفرفات تتواصل فى نهاياتها إلى زقزقات تسحبها من النوم إلى اليقظة.
ــــ أبت.
برغب الأبد حلمت أن ابقيك فى دمى كى لا تندثر.
يوم بلغت السادسة عشر كان صوت ديك غامض يصيح فى حناياها ويدب بظفره فى أجزائها، يغيب ويعاود. مد وجزر من صوت، صوت لا ينطفىء، يدمدم ليشعل معركة ديوك سنت مناقيرها وراحت تطرق أبوابها المغلقة. الليلة عيد الرسل، تذكر أن أمها كانت تطهى فى تلك الليلة ديوكاً بعدد أفراد الأسرة. تضع أمام كل واحد منهم ديكاً كاملاً برأسه الميت. تذكر أنها كانت تتجمد أمام مشهد الكائن المسلوق المرعب ولا تلمسه. لكنها الليلة ترغب أن تلتهم ديكاً كاملاً.
على مسرح الكنيسة فى الباحة الخارجية اقاموا حفلاً صغيراً بمناسبة العيد. فقرات عشوائية لكنها اشاعت البهجة فى نفوس اثقلتها القداسة. قدم الشباب فقرات غنائية، تراتيل، تقليد فنانين ومشاهد كوميدية. بقيت لها الفقرة الأخيرة. توسطت المسرح العارى إلا من الكواليس وخلفية بيضاء. فى المنتصف وضعت زهوراً وصبارة صحراوية. طلبت من الأب الكاهن ــ الذي ضحك كثيراً تلك الليلة ــ أن يصعد إلى خشبة المسرح.
- مرحة لم يألفها منه شعب الكنيسة، وبنفس العيون المنكفئة صعد. كالمأخوذ من رؤية عينيه دون مرآة فى حدقة آخر جلس على الكرسي الذي اعدته. خاطبته بنصف مواجهة والنصف الآخر للجمهور. لم يدرك أحداً محتوى فقرتها ساد صمت وترقب. هى المرة الأولى التى يرون الكاهن ينتظر أحدهم أن ينطق. كانت تستجمع صوتها الغائب من صمته المطبق، ومن غيم ترقب الجمع.
ـــــ أنت الأن على كرسى الاعتراف.
ابتسم نصف ابتسامة
ـــــ تذكر أنك الأب الكاهن ولا تملك إلا صدق القول.
هل تقلبين الآية؟
ـــــ الآية دوماً مقلوبة، نحن نلعب هل فى ذلك حرج؟
الاعتراف سر مقدس.
ــــ لكننا الآن فى العلن.
ماذا تقصدين؟
ـــــ تخل قليلاً عن كهنوتك.
وماذا يبقى لى.
ـــــ طبيعتك .. إنسانيتك.
دون التخلى ماذا بعد.
ـــــ ستعترف لى.
عن ماذا؟
ـــــ مشاعرك.
تلك مسألة خاصة.
ـــــ وأنا اريدها عامة.
لا تنسى أننى الأب الكاهن
ـــــ ألم ترغب امرأة من قبل؟
صمت لا ينبىء عن إجابة.
ياابنتى الرب رحيم بعباده.
ـــــ لكنى على الأرض وأسألك حق خضوعى لعينيك وانتظر جواباً حاراً كرغيف طازج.
لماذا تفرضين علىّ مشاعرك فى لحظة مقدسة لى؟
ـــــ لأني أحسك في خباياك. أدرك ما تحت العينين المسبلتين فى صراع القداسة بمهانة امتهان الرغبات على وقع صلاة لا تدرك إلا ارتعاش إيقاعها المبهم.
إذا كنت تدركينى فلماذا تريدين منى أن انشر خصوصياتى على الملأ.
ـــــ لماذا تجعلنا نفعل إذاً؟
أنتم تعترفون لي في السر.
ـــــ العلن واحد أو أكثر.
لكنى لا اجرؤ على اعلان سر من اعترف لى.
ـــــ كلنا اعترفنا لك، نحن عراة أمامك.
هذا الثوب يمنحنى حق اعتراف الناس لى.
ـــــ وهل يمنعك أن تعترف للناس؟
لست فى حل من الإجابة، للكهنوت رهب صمت.
ـــــ للإنسان شوق بوح، أنا احبك وارغبك.
وأنا أحبك كما أحب البشر جميعاً.
ــــ أحبك كرجل.
اتدركين؟!
ـــــ كامل الادراك، كامل الرغبات.
أى نوع من الرغبات.
ـــــ لا يسأل رجل امرأة عن نوع الرغبات، اعفيك من الدهشة، كلها.
هل تجرؤين
ـــــ المشكلة هل تجرؤ، دعك من صمت الكهنوت؟
أنا ابن سؤال الرب.
ـــــ وأنا سؤالك المفتقد.
سؤالى معلق فى السماوات.
ـــــ علق سؤالك فى رقبتى وامنحنى قبلة الرب اخضع لسؤالك.
هذا الثوب يمنعنى.
وأنا أمزق عنك هذا الثوب.
بموسى حاد وضربات واثقة راحت تمزق الثوب دون أن يلمس الموسى الجسد.
لم يستطع احتمالاً. تخبط فى خطواته على خشبة المسرح، كسكير اختلط عقب قدمه بفكرة طرأت على خياله. فى الكواليس اختفى، ومنها عبر الظلمة انسحب هارباً إلى الكنيسة. كانت بضع شمعات يطرف منها ضوء يخايل الجدران ويتماهى على الصور. أحس باجتراح لؤلؤة عينه بدمع يقطر من صلبه. اغلق باب الكنيسة بغضب يعادل غضب المسيح حين دخل الهيكل.
افاق الجمع الذي من ذهوله تجمد الزمن فى عروقه. تخبط الجمع فى ضوء القمر محاولين النجاة من فزع اللحظة التى لم تفصح عن خطيئة مقيمة أو براءة لا تحتمل وقع صراحة. حين اطل الفجر كان الندى يغطى جسدها والعمر بالرغبات المفضوحة ينبض للنجم أن يرتعش فى حلماتها.
كان جسده المعلن على هيكل الرب يتندى بعرق لا يكف عن النضح من خوف الرغبات أن تتبدى. حاول أن يتئد، لكنه كان يهذي، ويحس هذيانه صدى لأنفاسها اللاهثة. كأن الصوت الخارج منه لم يكن صوته. شىء ما يتراوح فيما بينهما فى افتضاح الفجر عن نهار جديد، كما لو كان يحل فى جسدها وتحل فى جسده. فى غيبوبة راح يصلى عله يستفيق، وكان صوتهما يتردد بصلاة معاكسة.
أى أغنية سامع قلبها وارتعش فى ظلالها حين كانت تتلو (ولا تدخلنا فى تجربة). صوت هامس صار صارخاً تدافع إلى صدح فى كيانها وصدع فى كيانه. كانت تهذي بكلمات مترابطة احياناً، مفككة بعض الأحيان، تأتى بحركات من جسدها كأنها تصارع كيانات حية.هو صار حاضراً بالجسد دون طلق الروح. عيناه المنكفئتان دوما صارتا على اتساعهما دون البريق الذي كان في الجفنين المسبلين.
كغمض عين فى قبلة مبارحة لامرأة كلها شفاه شبقة، تتفجر داخل القديس رغبة عهر. لابد للإنسان أن يكفر بدمه لحظة من الزمن. لمحة منه تجعل للإنسان شوق آت ولو بالمشتهى. داخل كل عاهرة روح قداسة ولو لم تكن، هل تضيء بعابر ومضها والظلمة؟
بى رغبة عهر ليس بالانكشاف، بل بعطش جسد لا ينتهي. أو بالأحرى عطش روح لا تملك إلا جسداً ينتفض، وبروح العطش يصير الجسد رنيناً يطرق الأفق وقع ترتيل لا يملك إلا صفاء لحنه ويتمدد.
كيف لي أن أصف زهو انكشاف عهري أمام قداستى. لست أيهما، ليس أيهما، حالة ليس لها وجهي عملة. ينتابنى حس احتراق شمع صلاة قدسى ليصير كومة لا تنبىء إلا عن تشكيل شائه. كأننى نصف احتراق بعض برودة. توهة الرغبة تأخذني، لا أدري لي وجهاً. تمنيت أن اشتعل إلى حد الحريق، وبى رعب الانطفاء. وفيما بين الرغبات المتزاحمة كنت أرغب لو ألمسه فقط لأعترف له برغبة عهر نبيل إلى حد القداسة.
لكنه خاف نفس الرغبة التى لم أخف. خاف انهياره وكنت راغبة فى انهيارى. لحمى ودمى كانا يتسايلان فى رحمى. وكان يغلق عينيه وحواسه، وكنت على وشك التلاشى، وكان على وشك الخلاص من رهب صمت كالفرس لا يسلم من الصهيل.
برغبة العهر ينتحر القديس على جسده، فتصير له هالة تأتى من نفى حواسه، ويصير إلى الرب أقرب دون أن يدرك أحد عذاباته. بالقداسة تنتحر رغبة العهر على صفح جسد لا ينبىء عن نور. فى القلب رغبتين من نور ونار كلاهما ضوء، كلاهما توحد. من ذا الذي يعطني وجهي ــــ وجه الفضيحة.
كاتب من مصر